مؤلفات العلوية الشهيدة آمنة الصدر

ذكريات على تلال مكة

ذكريات على تلال مكة


( 315 )

بسم الله الرحمن الرحيم

وأخيراً ...
بدت خيوط الفجر المضيئة لتنذر بميلاد يوم جديد ، واليوم يختلف تأثيره في حياة الانسان مع اختلاف ما يضم بين ساعاته من عطاء وما يحمل لمن يمد بهم أو يمد عليهم من فائدة ورواء ، ولهذا .. فقد يطول اليوم ويطول اليوم ويطول تبعاً لامتداد آثاره التي يتركها في حياة الانسان وقد يكون قصيرا جدا ينتهي مع انتهاء ساعاته المعدودة .
ويومنا ذاك .. كان حريا ان يكون طويلا بآثاره خالدا بعطاءاته.
ثم .. انطلقت بشائر الصبح لتعلن النهاية لساعات الليل التي كانت طويلة بدقائقها اذا قيست بما ضمت من افكار وما حملت من آمال وآلام ، وقصيرة بالنسبة لساعات النوم التي تقلص عددها خلالها الى النزر القليل .. وكان الصباح نديا بقطرات المطر مظللا بقطع السحاب الشيء الذي جعله غير


( 316 )

مشرق في مظهره الخارجي وان كان في واقعه يحمل معاني اشراقة الرحمة وهو ينفتح عن فترة زمنية تنطلق بها ارواح المؤمنين في مسيرتها نحو الله ملبية في ترجيعها ذلك النداء الخالد الذي أمر الله عز وجل به نبي الله ابراهيم اذ قال عز من قائل :
( وإذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ... ) .
وكان علينا ان نغادر البيت متوجهين نحو المطار ، فوقفت لالقي نظرة اخيرة على ما اعددته من متاع للسفرة الطويلة البعيدة الاغوار خشية ان يكون هناك ما أهمل أو أغفل ولم تكن مجموع الامتعة لتتعدى .. حقيبة واحدة فماذا عسى ان يصحب معه ذلك الانسان الراحل الى بيت الله ؟ أو ليس هو منطلق للحج نحو بيت كان خلال نشأته الاولى بواد غير ذي زرع ؟ نعم أو ليس وهو منطلق نحو تلك الرحاب يعيش مفهوم دعاء نبي الله ابراهيم حينما يقول :
( رب اني اسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة ).
وهكذا كان ...
فقد بقي هذا البيت كعبة للمسلمين في مشارق الارض ومغاربها تندثر الحضارات وتتلاشى مع كل ما تحمل معها من جلال وشموخ ويبقى هو خالداً مع خلود الدهر شامخا مع


( 317 )

شموخ الحق ، اذن .. فماذا عسى ان يحمل معه هذا الذي طمح باماله الى المثول في تلك الرحاب ؟ بعض متطلبات الحياة الضرورية مع قرآن كريم . وكتاب دعاء ، ومنسك لاعمال الحج . ومصباح صغير لجمع الحصى من المشعر . ثم دفتر للخواطر وقلم للكتابة . وجواز سفر اخضر وجواز صحي اصفر !!!
ووقفت اتاكد من وجود هذه الاشياء وأضع الجواز في مكان قريب لأنه هو الذي يفتح امامي مغاليق الحدود ومن تلك الوقفة انطلقت بافكاري الى .. ما أعددته من متاع لسفري الطويل فسفرتي هذه كان من المفروض لها ان لا تتجاوز السبعة عشر يوماً ، أما تلك السفرة فهي طويلة وطويلة جدا عميقة وعميقة الى حد بعيد .. انها بدون عودة . وبدون خط رجعة أنها نقلة من هذه الحياة الفانية الى حياة أبدية باقية ، فما احوجها الى متاع وما احوجني خلالها الى زاد ؟.. لنفرض مثلا انني نسيت حاجة او اهملتها فإن من السهل اليسير عليّ ان أعوض عنها بما أجده هناك ولكن خلال سفرتي تلك حيث لاعودة بعدها ولا رجعة فماذا عساي ان اصنع ان وجدت نفسي قد اهملت حمل الزاد او تجاهلت اهمية المتاع ؟؟..
عندما اعلن لنا ( متعهد القافلة ) ان علينا ان نصحب معنا غطاء بادرنا الى حمل ذلك بدون ابطاء فلماذا ؟ لأنه خبير


( 318 )

بطبيعة الجو .. ولأنه هو الذي سوف يقوم باحضار حوائجنا فيعلم ما سوف يهيؤه لنا وما علينا ان نعده لانفسنا ولكن .. عندما نسمع الى الرسول الاعظم وهو يتلو علينا آي الكتاب قائلاً « وتزدوا فإن خير الزاد التقوى » نسمع بدون استماع .. ونقرأ بدون اقتناع .. ونطمع بالمغفرة بدون زاد .. عجيب !! فهل ترانا كنا نأمل بالدفء في سفرتنا تلك بدون غطاء ؟ هل كان من الممكن ان نقول ان المتعهد رجل كريم فلنذهب معه بدون غطاء وهو لا شك سوف يهيىء لنا ما يدفع عنا غوائل البرد ؟! أبدا ان هذا غير معقول لأنه غير مسؤول عن ذلك ما دام قد أنذرنا واعلمنا بما لنا وما علينا ..
أما ما أمرنا الله به من زاد وما أوصانا بحمله من متاع فنحن نتجاهله ونتناساه ثم نعيش على امل ان يغفر لنا الله برحمته ويشملنا برضاه !!!

***

وارتفعت بنا الطائرة .. بعد ان عقدنا نية الاحرام ونحن لانزال على ارض مطار بغداد ورددنا كلمات التلبية قائلات « لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، ان الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك » ..
ورأينا الشمس تشرق علينا صافية نقية تهبنا الدفء وتغمرنا بالضياء فاستغربنا ذلك وقد كانت تظللنا قبل


( 319 )

دقائق وترشنا بقطرات متلاحقة من المطر ! فهل ان في الامكان ان يتغير الجو في مثل هذه السرعة ؟ وما أبعد البون بين هذه الشمس الدافئة التي تشرق تحت سماء نقية صافية .. وبين ذلك الضباب الذي كان يشمل جوانب انظارنا قبل قليل ؟ حقا انه لأمر عجيب ! هذا التحول الطارىء على صفحات السماء وهذا التبدل الحادث في أعالي الافق ! أولم نكن نتطلع الى السماء نبحث فيها وبين طبقات السحب التي تحجبها عن اثر الشمس ؟ أولم تختلط قطرات المطر مع دموع المودعين ويتجاوب انين الريح مع زفرات المفارقين ؟ فكيف حدث هذا يا ترى ؟ أهو استجابة لدعاء داع ابتهل الى الله قائلا : يا محول الاحوال حول حالنا الى أحسن حال .. أم ماذا ؟؟ واخيرا اكتشفنا الحقيقة فعرفنا ان الطائرة قد ارتفعت بنا فوق السحاب اذن فنحن الذين ارتفعنا عن السحاب وأمطاره وليس السحاب هو ذلك الذي انكشفت عنا بتحول سريع ، فما أحلى ذلك وما أروع ان نكون ملحقين باجسامنا في فضاء نقي وتحت شمس صافية الضياء تاركين وراءنا متاعب المطر ومصاعبه وقد كشف لنا ذلك الموقف حقيقة ما اكثر من يجهلها منا .. وهي .. ان الانسان يتمكن من الارتفاع بروحه وفكره عن سحب الريب وغيوم الجهل والانحراف ، نعم يرتفع بروحه عنها ليستنقذها نقية طاهرة دون ان تعلق بها شائبة او يلوثها درن من الادران .. فهو يستطيع ذلك لو اراد حتى ولو عاش في أجواء مظللة بالغيوم ثم توصلنا الى حقيقة


( 320 )

ثانية ايضا .. وهي .. ان على الانسان ان يسعى نحو مطلع النور بأي ثمن وان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم ولا يحول الانسان من الظلمات الى النور الا اذا شاء هو ذلك وعمل من أجل ان يكون مؤهلا لذلك التحويل ، فما أحلى ان نحلق بانفسنا في سماء نقية كما حلقنا بأجسامنا خلال رحلتنا بأجسامنا خلال رحلتنا تلك ، وما أروع ان نلتفت فنجد ذاتنا وقد تنزهت عن الرذائل وحلقت في سماء الكمال تاركة وراءها ويلات الانحراف وآفات السقوط كما تركنا وراءنا ونحن في الطائرة الارض المغطاة بالوحول والآفاق الملبدة بالغيوم .
وبعد مضي مائة دقيقة أعلن لنا عن قرب هبوطنا الى مطار جدة ، وذلك يعني اننا سوف نكون بعد يوم أو يومين في مكة .. فما أعظم هذه الحقيقة وأضخم ما تعنيه وترددت في ذهني وعلى فمي هذه الابيات ..

قالوا غدا نأتي ديار الحمى * وينـزل الركب بمغنـاهـم
فكل من كان مطيعــاً لهم * اصبح مســروراً بلقياهـم
قلت فلي ذنب فما حيلتـي * بأي وجــه أتـلـقـاهـم
قالـوا أليس العفو من شأنهم * لا سيمــا عمن ترجـاهم


( 321 )

فجئتهم أسعى الى بابهـم * أرجوهم طوراً واخشاهــم

***

واستقرت بنا الطائرة على ارض مطار جدة بعد ان دارت فوق مدارجه دورات طويلة ، فحمدنا الله على سلامة الوصول وحسن التوفيق .. ثم تطلعت انظارنا نحو الباب تترقب الاذن بالنزول . ومضت دقائق طوال لأنها كانت مشوبة بالانتظار .. ومن خصائص الانتظار مهما كانت انواعه وبواعثه واسبابه من خصائصه ان يضفي على الوقت مطاطية هائلة فيضاعف ادراكنا بأهمية الى اضعاف كثيرة ومضت فترة ثم طلب منا ان نبرز جوازاتنا الصحية ! فأمسك كل منا بجوازه ( الاصفر ) بين أنامله وكأني انسان خرج لتوه من احدى المصحات وبقينا نتطلع نحو الباب في مزيج من اللهفة والضجر وبنظرات تنطلق بالاحتجاج .. واخيراً انفتح باب الطائرة عن رجلين صعدا ليطمئنا على سلامة القادمين من الامراض ( الوبائية ) فتفحصا معظم الجوازات ومن العجيب اننا كنا ممن لم تصل اليهم عملية التفتيش ، وكأن سلامتنا بدت واضحة جلية دون معاينة ومزيد تدقيق .. فكيف حصل هذا ؟ ولماذا ألسنا مثل باقي المسافرين ؟ انه عدم الاخلاص في العمل والاهمال لا اكثر ولا اقل ! والجواز الصحي عن أي شيء كان يحكي يا ترى ؟ انه كان يحمل شهادة التطعيم ضد


( 322 )

الهيضة وضد الجدري ، ولم يكن هناك اي احتمال ان احد المسافرين مصاب فعلا بمرض الجدري او مرض الهيضة ، لا .. ولكن المطلوب التطعيم الوقائي وهو التأكد من أن هذا المسافر الوافد قد حصن نفسه عن التعرض لهذه الأمراض أخذ المسافرون بالهبوط .. وبقيت نزولي في مقتري الأخير والجواز فبدأت أفكر .. تذكرت جالسة انتظر خلو السلم من الزحام الصحي الذي أسأل عنه من منكر ونكير وأهمية كل تطعيم وقائي يشير اليه ذلك الجواز ، انهم يطالبونني بشهادة التلقيح ضد أمراض عديدة ، هذه الامراض التي يعاني المجتمع من ويلاتها الشيء الكثير نعم هذه الامراض التي لا تتولد لدى الانسان نتيجة ضعف جسم او قرب من المصابين وانما هي وليدة ضعف الايمان وتحلل الشخصية ، انها وليدة الذوبان في شخصيات الآخرين مهما كان هؤلاء الآخرين منحرفين او مبتذلين او متذبذبين .. انه مصل وقائي يهب للانسان حصانة تقية ويلات السقوط .. نعم . ان الانسان ليسأل في مقره الاخير عن روحه لماذا اطلقها وراء رغباتها بغير رقيب وعن فكره لماذا جعله يتجه حيث شاء دون تهذيب ؟ وعن قلبه كيف أهمله فجعل آماله وأمانيه تنمو أوراقها وتمتد فروعها كالشجرة التي تفتقر الى التشذيب ؟ انه ليطالب بجواز صحي ومن أين له ذلك الجواز ؟ الا اذا كان خلال حياته قد عمل على الوقاية وباشر عملية التطعيم ان الموظف السعودي قد يهمل او يغفل كما اهملنا او غفل عنا .. أما هناك .. حيث يتلقانا ملائكة


( 323 )

الله الموكلين بفحص ( جوازتنا الصحية ) فليس فيهم من يغفل عن صغيرة كانت او كبيرة لأنهم « ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون » ..

***

وهبطنا الى مطار جدة ..
فكان هناك مجموعة من المسافرين قد اصطفوا على شكل نصف دئرة منفتحة استعدادا لالتقاط صور تلفزيونية فانتحينا عنهم جانباً .. فقال لنا قائل : هلا تفضلتم بالاشتراك ؟ انه فلم تلفزيوني يعرض على الشاشة كأثر مرئي لهذه الرحلات !! ووددت لو أرد عليه قائلة : نحن أيضا في حالة التقاط صور .. ولكن اتراه كان يفهم ما الذي اعنيه وبهذه العجالة ؟ فاكتفيت ان اقول له كلا ووقفت جانبا أشاهد الجماعة التي كانت تستعد للتصوير كان البعض منهم يصلح من مظهره والبعض الاخر يحاول ان يتقدم ليحتل مكانا احسن وهذا امر طبيعي بالنسبة لانسان يشعر انه في معرض تصوير فهو ولا شك يحاول ان يتجنب كل ما يشين من مظهره الخارجي او يؤثر عليه لكي يبدوعلى شاشة العرض بهيا متكاملا في وقفته تلك وارتسمت في فكري صورة للعرض الاكبر خلال يوم القيامة « يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية » فها هي اجهزة الالتقاط تتوجه نحونا كما كانت تتوجه منذ اصبحنا مشمولين بالتكليف الالهي في مسؤولية حمل الامانة التي عرضت على


( 324 )

السماوات والارض فأبين ان يحملنها وحملها الانسان ، نعم ولكنها أجهزة التقاط تختلف عن هذه الاجهزة المادية المصطنعة .. ان هذه لا تتمكن ان تسجل سوى الغشاء الخارجي لجسم الانسان ، وحتى هذا فهي لا يسعها ان تصوره اذا حال بينها وبينه شيء ولو كان غطاء رقيقاً ، أما تلك فهي تسجل حتى نظرات العيون وخواطر القلوب ..
يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور .. ( ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك احدا ) اذن .. فلو عاش الانسان هذه الحقيقة ولو احس بها خلال حركاته وسكناته ولمحاته ونظراته لحرص دائما وبدا ان يبرز بالشكل المرضي وان يحتل مكانا احسن يوم يعرض فلم حياته امام البشرية بدون غطاء . ثم .. عرض علينا ان نتحدث امام شريط للتسجيل لنبشر اهلنا بسلامة الوصول .. عجيب ! ولكن أترانا كنا قد وصلنا ؟ ان المسافر لا يسجل لنفسه الوصول الا اذا وصل الى النقطة التي انطلق نحوها منذ البداية ـ ونحن كنا في انطلاقتنا تلك متوجهين نحو هدف معين لم يحققه لنا الوصول الى مطار جده .. الم نكن سائرين في ركاب هذه الآية الكريمة « ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا » .. اذن فأين نحن من الحج وأين نحن من السلامة ؟ سلامة الجسد لاتعني شيئا في حساب الراحل الى الله ..


( 325 )

ولكن هي سلامة العمل وصحة الاداء ، فما اكثر سلامة الاجساد وما أقل سلامة الاعمال ..
وصعدنا الى مدينة الحاج
وهي عمارة كبيرة تتألف من طوابق عديدة تحيطها عمارات وغرف واسعة وتشرف من احدى جوانبها على ساحة المطار ومن خصائصها انها ومع جميع ما قد تسبب الاقامة فيها من مضايقات .. انها تبعث في نفس الانسان نوعا من الانشراح والانطلاق ، وكأنها مرحلة انتقال شيقة ثم انها المنزل الاخير الذي ننطلق منه نحو بيت الله الحرام ، وكانت الغرفة التي توجهنا نحوها جانبية تطل على بعض شوارع مدينة جدة ومدخل مدينة الحاج ، واجتمعنا لاول مرة نحن النساء المسافرات ضمن القافلة في غرفة واحدة ، وبدأنا نتصفح الوجوه في تطلع لهفان ووددنا لو وجدنا اثرا لطابع مميز يشمل الجميع طابع الشعور بالوحدة المنطلقة من وحدة الغاية واتحاد الهدف في الحج .. ولكن ..
وقمنا ببعض المحاولات للتعرف على رفيقات السفر فكان فيهن من تستجيب بتحفظ وفيهن من تلوي جيدها في شيء من اللامبالاة ( عدى من كانت معرفتنا بهن تسبق حدود هذه السفرة طبعا ) وقد كان الشعور الغالب على بعضهن هو التطلع الى ما في أسواق جدة من جديد !! وبما اننا كنا قد


( 326 )

أحرمنا من مطار بغداد فقد عرضنا ذلك لبعض الاسئلة عن الاسباب التي دعتنا الى تقديم الاحرام فأخذنا نشرح طبيعة الحكم الشرعي في ذلك وكيف ان الاحرام يجب ان يكون من احد المواقيت الخمسة : الجحفة . يلملم . قرن المنازل . مسجد الشجرة . وادي العقيق . ولا يصح الاحرام من غيرها الا بنذر شرعي ، والنذر الشرعي لا ينعقد الا اذا كان المكان الذي ينذر الاحرام منه أبعد عن مكة من الميقات او بمحاذاته ومن أجل نفس هذا الحكم كنا نشاهد في مدينة الحاج مجاميع من الحجاج وهم في طريقهم الى الجحفة من اجل عقد نية الاحرام ، والجحفة تبعد عن جدة بمقدار ( 180 ) كيلو متر تقريبا ، وبتنا ليلتنا في مدينة الحاج وكنا نحرص بعد أداء كل فريضة ان نراجع أحكام الحج في المنسك الذي صحبناه معنا فنعيد قراءة ما عرفناه ونتأكد من معرفة ما جهلناه ونتبادل نحن الستة شرح اعمال الحج ونؤكد على أعمال العمرة لأنها أول فريضة تنتظرنا في مكة ولم يكن هذا من أجل اهمال في التحضير من قبل او غفلة عن سير احكام الحج واعماله ، ولكنه كان على سبيل التأكيد والتجديد ثم انه من اجل فتح المجال امام الاخريات للسؤال اذا كن في ريب من عمل او شك في حكم من الاحكام وكانت اهم نقطتين واجهتنا في اصلاح احرام المحرمات من حولنا هي اولا : انهن كن يتجردن عن الجوارب فور عقدهن لنية الاحرام ويستعضن عنها بلبس السروال الطويل وذلك في اعتبارهن لسببين : احدهما وجوب


( 327 )

اظهار ظهر القدم حال الاحرام وثانيهما جواز ابداء القدم امام الرجال ظنا منهن ان جواز كشف ظهر القدم حال الاحرام ليس الا احتياط استغنى عنه التشريع لعدم تأكده . هذا مع تأكد حرمة كشف القدمين امام الرجال الاجانب وعدم وجود مجال لمقايستها مع الكفين ، فالاسلام حينما شرع الستر للمرأة كصيانة لكيانها ووقاية لوجودها الخاص ووجودها العام ضمن المجتمع وتجنيب لها وللمجتمع مغبة تكشفها امام الرجال حينما شرع ذلك لم يرد من وراء ذلك التشريع عزل المرأة عن الحياة او حبسها عن مجالات التعايش السليم الطاهر مع المجتمع . ولهذا فقد اجاز لها كشف الوجه والكفين لانهما كل ما يحتاجه الانسان ، وأي انسان رجل كان أو امرأة حينما يتفاعل مع الحياة في مختلف المجالات ان اي عمل او علم لا يحتاج الى ابراز الكتفين او ابراز جدائل الشعر مثلا ولكنه قد يكون في حاجة الى كشف الوجه والكفين وهذان هما ما أجاز التشريع للمرأة أظهارهما عند الحاجة ، اما القدمان فما هو الشيء الذي يتوقف على كشفهما يا ترى ؟ وما هو الاثر غير المرضي الذي يتركه سترهما في مجالات الحياة ؟ لا شيء ابدا ولهذا وجب علينا ستر القدمين وابيح لنا كشف الكفين هذه هي النقطة الاولى .. اما النقطة الثانية .. فهي عدم اتقان مقدار ما ينبغي كشفه من الوجه حال الاحرام !! فنحن اذ نعرف ان احرام المرأة بوجهها ينبغي ان تلتزم بكشف الوجه من قصاص الشعر وحتى الذقن لا أكثر ولا اقل ، ولعل هذا


( 328 )

يفتقر الى شيء من الدقة ولكن أهمية فريضة الحج عميقة وكبيرة جداً أفلا تستحق قليلا من الدقة والالتزام ؟؟!
وركبنا السيارة في طريقنا الى مكة .. وهي سيارة كبيرة حمراء غير مكشوفة كتب عليها بالخط الابيض العريض كلمة ( التوفيق ) وكان هناك سيارة حمراء اخرى تساير سيارتنا وقد ركبها رجال القافلة ولم تكن تلك لتختلف عن هذه الا بكونها مكشوفة السقف تمشيا مع الحكم الشرعي الذي لا يجيز للرجل المحرم الاستظلال بالظل المتنقل ، وما ان تحركت بنا السيارة حتى وجدت نفسي غارقة في دوامة من الانفعالات المختلفة التي هي مزيج بين الرضا والخوف والرهبة والرغبة والفرحة والحسرة .. وانطلقت أردد على لساني كلمات التلبية « لبيك اللهم لبيك » انها استجابة للنداء الخالد الذي امر الله نبيه ابراهيم (ع) ان يطلقه في آذان البشرية ولكن اتراها استجابة كاملة ؟ ان التلبية تكون مخلصة صادقة اذا نطق بها اللسان واوحاها الفكر وصدقها القلب وأكدها العمل . ان حركة اللسان وحدها لا تكفي باعطاء مفهوم التلبية الا اذا تظافرت معها جميع الجوارح لدى الانسان ، « لبيك لا شريك لك لبيك » انه اقرار بالوحدانية وتأكيد على العبودية المطلقة « ان الحمد والنعمة لك والملك » نعم ان الحمد لله وحده لانه وحده صاحب كل نعمة ومصدر كل رحمة فهو المحمود الاول في كل ما يحمد عليه ، وهنا تذكرت كلمة للامام : ان شكري اياك يحتاج الى شكر ، ان يكون الانسان مقرا بالحمد والشكر


( 329 )

لله لهي السعادة ما فوقها سعادة لما يتضمن ذلك الاقرار من مصادر رحمة وينابيع رضوان ، ـ ان الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك » ومرة ثانية يتكرر في كلمات التلبية الاقراربالوحدانية ، هذه الوحدانية التي تنطلق عنها وحدة الهدف ووحدة الغاية لكي يكون القصد في العبادة متوجها بمجموعه نحو الله نزيها عن الرياء بعيدا عن الخيلاء نقيا من شوائب الغرور وحب البروز أو الظهور خاليا مما يوجب الشرك المنافي لخلوص الاعمال لله ومن اجل طاعة الله .. واندمجنا مع كلمات التلبية حتى شارفنا ( الحديبية ) وهي أول حدود الحرم للقادم من جدة ، وهناك وجدنا السيارة الحمراء المكشوفة ( سيارة الرجال ) تنتظر ! واعلن لنا عن ضرورة تجديد نية الاحرام لمن احرم من جدة !!! واستغربت الامر ! لأن الحديبية ليست ميقاتا للقادمين من العراق ! وعلى كل حال فقد وقع الكثير من الهرج والمرج بين المحرمات المسكينات فتارة يطلب منهن النزول واخرى يطلب منهن العودة الى مقاعدهن ، ثم تتلى عليهن نية الاحرام من خارج السيارة وعن طريق مكبر للصوت فتأتي الكلمات ضعيفة غير واضحة فتتصاعد كلمات احتجاجهن « لم نسمع لم نعرف ماذا قال ، ومضت فترة صخب بين قيل وقال ثم انتهت بسلام والحمد لله . وكنا نحن المحرمات من بغداد نحمد الله ما وفقنا اليه من صحة الاحرام وعدم احتياجه الى تجديد او اتمام ثم سارت بنا السيارة من جديد وكنا نشعر ان


( 330 )

كل ميل تطويه عجلاتها ( الكليلة ) تقربنا نحو الهدف فتخفق لذلك قلوبنا وكأنها تحاول ان تبعث من طاقاتها الحرارية قليلا من الحرارة في السائق الذي كان يبدو وهو لا يريد ان يكلف نفسه عناء الضغط على البنزين كانت أرواحنا تهتز مع طي الطريق في نشوة روحية خالصة فتود لو سابقت هذه العجلات الثقيلة التي لا تكاد تستجيب للمحرك بسهولة وهي لا تعلم ولا تشعر بما تحمل من شحنات آمال تتمنى لو سابقت الريح في الوصول الى رحاب الله واخيرا وبعد مضي ما يقرب من ساعتين بدت لنا من بعيد معالم مكة .. فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله ..

***

ووصلنا الى مكة ..
وكانت الساعات الاولى من الليل قد انقضت ونحن في الطريق وتوجهنا نحو البيت الذي خصص لنزولنا وهو غير بعيد عن الحرم والحمد لله فألقينا أمتعتنا وجددنا الطهارة ثم تهيأنا للذهاب الى الكعبة ، من أجل الاتيان بطواف العمرة ، وهناك طلب منا ان ننتظر لكي نتناول العشاء وبعد ذلك نذهب مع مجموع الحاجات وبحراسة من بعض مساعدي المتعهد ، ولكن أترانا نتمكن من الانتظار ؟ وكل جارحة من جوارحنا قد استحالت الى لهفة وجميع مشاعرنا أخذت تنطق بالحنين فلقد كنا على موعد مع جبار السماء لنطوف حول


( 331 )

الكعبة طالبين الغفران ولنسعى بين الصفا والمروة مبتغين الرضوان ، عندما يعيش الانسان في إنتظار لقاء محبب اليه لا يعود يهنأ بشيء قبل أن يتحقق له ذلك اللقاء فهو يستحيل بجميع وجوده الى لهفة وانتظار وهل هناك ما هو أحب الى الانسان من ساعة رحمة واونة غفران ؟ ولهذا فقد عز علينا الانتظار ، ولماذا ننتظر يا ترى أمن أجل غذاء ؟!.
ولكن ما أهمية الغذاء المادي بالنسبة للغذاء الروحي الذي ينتظرنا هناك ، أم من أجل الحصول على حراسة الحارسين ؟ أو لم يقل امامنا جعفر الصادق (ع) في وصيته لمن يريد الحج الى بيت الله الحرام : ( ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك وقوتك وشبابك ومالك مخافة ان يصير ذلك عدوا ووبالا فإن من ادعى رضا الله واعتمد على شيء سواه صيره عليه عدوا ووبالا ليعلم انه ليس له قوة ولا حيلة ولا لاحد الا بعصمة الله تعالى وتوفيقه ) اذن فليس هناك ما يدعونا الى الانتظار ..
وانطلقنا نحن بمجموعتنا الصغيرة نحو بيت الله الحرام وكان الطريق الذي يفصل بيننا وبينه عبارة عن سوق يسمى بسوق الليل وهو ملىء بزخارف الحياة التي عرضت للابصار بشكل يساعد على الاغراء .. ولكن .. أترانا كنا نبصر من هذه الزخارف شيئا ؟ أم ترانا كنا نتحسس آثار وجودها ونحن مندفعات نحو بيت الله الحرام تسبقنا الآمال بالغفران وتحدو بنا الاماني لنيل الرضوان ؟...


( 332 )

انها رحلة .. تلك الخطوات .. رحلة الانسان الذي هرب الى الله عز وجل من ذنوبه تائبا وعلى اخطائه نادما رحلة الانسان الذي يستشفع الى الله قائلا ( الى من يذهب العبد الا الى مولاه والى من يلتجىء المخلوق الا الى خالقه ) وقاربنا البيت المبارك وكنا نهبط في طريقنا اليه لانه في واد بين الجبال والمرتفعات . ولكنه هبوط جسمي يبعث الى الارتفاع الروحي ويبلغ اسماعنا دوي السعادة وهم في مسيرتهم المباركة بين الصفا والمروة وكان لذلك الدوي المبهم الكلمات اعظم الاثر في الترهيب والترغيب فهل حقا اننا على بضع خطوات من بيت الله الحرام ؟ وهل حقا ان هذه النوافذ الحديدية المرتفعة تطل على اقدس بقعة خلقها الله وتشرف على أول بيت وضع للناس ؟ وهل حقا ان هذا الوجود الضعيف قد انطلق بآثامه واخطائه هاربا من الله الى الله وها هو قد اوشك ان يحظى بالمثول امام كعبة المسلمين في مشارق الارض ومغاربها ؟ انها نعمة لا يكاد يصدقها الانسان لنفسه ، وهذا الدوي الذي كلما دنونا نحوه اكثر تكشف عن كلمات تقول ( الله اكبر لا اله الا الله . الحمد لله . لا اله الا الله وحده وحده . انجز وعده ونصر عبده . وغلب الاحزاب وحده ) هذه الكلمات هي التعبير الواضح عن كل ما يشتمل عليه الحج من شعارات ومفاهيم ، الوحدانية لله والخضوع لعبوديته والتوكل عليه ، والثقة بنصره لعباده الصالحين .

***


( 333 )


ووقفنا امام الكعبة وكانت وقفتنا من الجهة المقابلة للحجر الاسود حيث يجب ان يبدأ الطواف من هناك وكان المطاف محتشدا جدا لا تبدو منه سوى رؤوس رفعت وجوهها نحو السماء ترتجي الرحمة من العلي الاعلى وتهتف في قنوط المساكين قائلة ( اللهم اني اليك فقير ، واني خائف مستجير ، فلا تغير جسمي ولا تبدل اسمي ) .. ولاحظت صعوبة الطواف وهو في قمة ازدحامه وتلفت حولي اتطلع الى الوجوه التي تقف الى جانبي وادرس مدى تمكنهن من خوض هذا البحر البشري الزاخر ، فاسعدني واراحني ان أجد اللهفة لديهن قد طغت على كل شيء فأمدتهن بطاقات من الارادة والتحمل والثبات والاصرار على بلوغ الهدف باي ثمن فسمينا بسم الله الرحمن الرحيم وتراجعنا قليلا عن مواجهة الحجر الاسود لنطمئن من مرور جميع جسمنا امامه ثم .. اندمجنا مع مجموع الطائفين ..
وبدأنا نفقد الاحساس بصعوبة السير وسط الحشد الهائل ولم نعد نبالي بما نتعرض اليه من ضيق بعد أن اندمجت جميع مشاعرنا في ترديد هذه الكلمات ( اللهم ادخلني الجنة برحمتك ، واجرني برحمتك ، يا ذا المن والطول والجود والكرم ، ان عملي ضعيف فضاعفه لي ، وتقبله مني ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار ، اللهم البيت بيتك والعبد عبدك وهذا مكان العائذ بك من النار ) .. وكنا كلما اكملنا دورة واحدة عددناها مع بعضنا بصوت مسموع لكي نتجنب الشك والنسيان فليس بغريب ان يندمج الانسان


( 334 )

الطائف مع أهدافه وعطاءاته فينسى العدد والحساب ويبقى يدور ويدور وكأنه لا يريد الله يترك دورته حتى يستوثق من الغفران ، ولهذا كنا نهتم بحفظ العدد واتقانه فإن الطواف هو رمز لدوران الانسان حول غاية يؤمن بها أو هدف يسعى اليه ، فهو يلف حولها لكي يبدأ من حيث ينتهي ، وهو يشعر الانسان انه انطلق من الله وسوف يعود الى الله وانه دار ضمن حدود وابعاد رسمها الله عز وجل فليس له ان يتعداها فينقص منها او يزيد ، ان دورته حول هذا الرمز الإلهي ترسم له حدود تحركاته في الحياة فهو اذ يتحتم عليه هنا ان يدور بأقدام ثابته ينقلها من فوق الارض باختياره يتحتم عليه ايضا خلال دورته الكبرى في دوامة الحياة ان لا تزل به قدم أو يندفع وراء غاية دون رؤية أو استبصار وهو في دورته المقدسة هذه اذا اندفع الى الامام بدون خطوات ثابته عليه ان يعود من النقطة التي ارتفعت فيها قدماه عن الارض ، يعود ليبدأ سيره من جديد وكذلك الحال في مسيرة الحياة فإنه متى ما تعدى حدودها باندفاع او انحراف له ان يعود ليباشر سيره من جديد وفقا للحدود التي حددها له الله عز وجل ـ وذلك ما يسمى بالتوبة » انه رمز يطبع بطابعه جميع تحركات الانسان في حياته القادمة خلال جميع مجالاتها وابعادها ، واكملنا دوراتنا السبع وقد كانت النهاية من حيث البداية وهي مواجهة الحجر الاسود وكما احتطنا فتأخرنا عن الحجر في البداية فقد احتطنا وتعدينا موضعه المبارك قليلا في النهاية .. ثم انسحبنا من بين


( 335 )

الجموع ونحن نحاول ان يكون انسحابنا هادئا لا يعيق طواف الطائفين وخرجنا وكل جارحة من جوارحنا تنطق بالحمد لله رب العالمين .

***

وتوجهنا الى مقام ابراهيم لنصلي الى جواره او خلفه صلاة الطواف ، وهي ركعتان كصلاة الصبح لا تختلف عنها الا بالنية فقط ، وكانت تلك البقعة المباركة مليئة بالمصلين ولولا شمولنا بعين عناية الله ورحمته لتعذر علينا ان نجد لنا مصلى هناك وبدأنا نصلي على التعاقب لكي تحرس كل أربع منا المصلية الواحدة مخافة ان تتعرض لما يفسد صلاتها من آثار الزحام ... ومن هنا تبرز حقيقة جديدة لعميق اهمية الصلاة في حياة الانسان ، فهي تواكب حياته في اليوم خمس مرات وهي ترافقه حتى في عبادة الحج لكي لا يبتعد عن هذه الصلة الوثيقة التي تشده بالخالق دائما وابدا ، انها ركعتان لا غير ولهذا فهي صغيرة اذا قيست مع حجم عبادة الحج الكبير وضخامة أعماله وواجباته ، ولكنها مع ركعاتها القليلة كانت ركنا من أهم أر كان الحج يجب الاتيان بها مع اتقان الكلمات والتأكد من الحركات وخلوص النية في الاداء ، « واذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى .. » انها سلاح هذه الصلاة سلاح يجند الانسان المصلي ليقف في خط الدفاع يدافع بها عن روحه ليحتفظ بها قوية عزيزة لا تعرف

السيرة الذاتية  || المؤلفات  || الصور  || ما كتب حولها