مؤلفات العلوية الشهيدة آمنة الصدر

الباحثة عن الحقيقة

ثم مرت الأيام وأنا اتلهف الى يوم اللقاء وفي الوقت المحدد كنت عنده وقد وصلت سندس بعدي بقليل ، وكان يبدو متعجلا اذ شرع بالحديث بعد دخول سندس مباشرة فقال :
نعود اليوم لنعطي مثلا جديداً عن القيم البناءة التي في الإسلام فالإسلام قد حرم الصلاة في الأرض المغصوبة ، والدار المغصوبة ولهذا التحريم جانبين ، جانب خاص ، وجانب عام ، أما الجانب الخاص فهو ان من اهم العبادات في الإسلام هي عبادة الصلاة حيث تسمو بها الروح منطلقة من عقال العالم المادي مقرة بالعبودية الخالصة لله الواحد القهار ولهذا ولكي تكون صادقة وطاهرة ونزيهة ينبغي لها ان ترتفع عن انسان صالح وصادق ونزيه ومن مكان طاهر ونزيه لم يدنسه الظلم الغاشم ولم يشوهه الاستغلال الظالم فإن


( 104 )

لصفاء الروح اثر بصفاء العطاء وروح المصلي في المكان المغصوب بين حالتين : فهي اما ساخطة على الظلم منكرة له واما راضية به مؤيدة لوجوده ، وسخطها عليه كفيل بتكدير صفحتها واعاقة صفاء انطلاقها ورضائها به كفيل ايضا بطمس معالم اثارها في نفسه ومحو اثبات وجودها عند ربه لأنه خلط طاعة الله مع معصيته وتقرب الى الله في حال بعده عنه ، هذا من الناحية الخاصة ، اما من الناحية العامة فهو ما يترتب على ذلك من استنكار للغصب ورفض لقبوله والاستكانة له ، وفي هذا حماية لحقوق الإنسان واحترام للملكية ... وسكت الاستاذ فخطر لي ان أسأل :
لماذا اختيرت سورة الفاتحة من بين سور القرآن جميعها لكي تكون الجانب الرئيسي في الصلاة ؟ قال :
لان الفاتحة قد جمعت في اياتها مجمل العقيدة الإسلامية من حمد وتسبيح ، واطاعة وتوحيد واعتقاد بالبعث والنشور ، وطلب للهداية الى اخر ما زخرت به هذه السورة المباركة من مفاهيم ... قلت :
لماذا كانت ايات الصلاة غير موجهة لله تبارك وتعالى عدى الآيات الثلاث في نهاية سورة الفاتحة ؟ قال :
لكي يفهم الإنسان المصلي ان الصلاة هي له اكثر مما


( 105 )

هي لله تبارك وتعالى وانه هو الذي سوف يستفيد من عطاءاتها الروحية والعقائدية والتربوية ، قلت :
بالمناسبة لقد جاء في آية كريمة ان الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر مع اننا نجد الكثير ممن يؤدون الصلاة لا يتناهون عن المنكر ؟ قال :
ان الصلاة يا ولدي تنهى عن الفحشاء والمنكر ولا تمنع عنه ، فهي لا تكبل الإنسان تجاه الفحشاء والمنكر بأغلال من حديد ولكنها تتكفل باعطاء القيم التي تحول بينه وبين الفحشاء والمنكر وجانب العطاء فيها ثابت ولكن جانب القبول في نفس المصلي غير ثابت فهناك من يتقبل هذا العطاء بقبول واع يردعه عن التردي بمزالق الفحشاء والمنكر وهناك من لا يتقبلها أو لا يعي ما تقبل منها فتراه لا يتجنب عن منكر ولا يتوفى من فحشاء كما جاء في الحديث الشريف « ليس لك من صلاتك الا ما وعيت » قلت :
وهل ان جميع أشكال العبادة هي للعبد اكثر مما هي لله ؟ قال :
نعم ولو قرأت كتاب نظرة عامة في العبادات بدقة لعرفت الجواب مفصلاً ، كما أنه من مميزات الشريعة الإسلامية هو بروز الصفة الإنسانية في قوانينها وتنظيم قواعدها ، فلا اقليمية ولا عنصرية ، ولا طبقية او شعور بالانانية وهذا هوالشيء الذي يبدو واضحاً وجليا في نظمها


( 106 )

وتشريعاتها روحاً وموضوعاً كما جاء في القرآن في خطاب الأية المباركة للرسول ( وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين ) وكذلك فإن في الإمثلة التي تدل على تكفل التشريع الإسلامي بتقديم القيم التي تكون الإنسان الصالح كفرد وبالتالي لتكوين المجتمع كمجموع هو توزيع المسؤولية على الأفراد « كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته » وفي هذا اعطاء فرصة لكل فرد لأن يبني نفسه ويبني من حوله وما حوله ، وشتان بين مجتمع تغذي روحياته بروح الانفرادية ، والاتكالية ، واللامبالاة ، وبين مجتمع تقوم قواعده على اسس من الشعور بالمسؤولية الفردية والجماعية ، ان تشريعاً يقلد المسؤولية لكل فرد من أفراد المجتمع بشكل يحسسه فيه بأنه هو بنفسه صاحب قضية وحامل رسالة ، تشريع كهذا جدير ببناء المجتمع الفاضل المتماسك الجوانب وايضا ان مما يميز التشريع الإسلامي هو دمج الاخلاقية ضمن قوانينه والتأكيد على احترام الاخلاق والاهتمام بالحفاظ عليها وجعلها قاعدة من قواعد تثبيت الشريعة حتى قال نبي الإسلام « انما بعثت لا تمم مكارم الأخلاق » وقال ايضا « اكملكم ايمانا احسنكم اخلاقاً » ويمكنكما أخذ فكرة عن ذلك بمراجعة كتاب ـ الاخلاق ودورها في الحياة ـ للسيد حسين الصدر .
الى هنا سكت الاستاذ ونظر الى ساعته فعرفنا ان وقتنا معه قد انتهى فاستاذنا للخروج وطلبنا وموعداً جديدا فكان بعد اسبوع ايضاً فودعناه وخرجنا ... وامام باب البيت لفت


( 107 )

نظري ان سندس لم ترفع الغطاء عن رأسها في هذه المرة كما كانت تفعل سابقا واردت ان اتكلم وان احدثها عن مبيت فدوى عندي ولكنها عاجلتني ان سلمتني مظروف ازرق مغلق ثم انصرفت مسرعة في خطوات مرتبكة قلقلة ، فاردت أن أفتح الرسالة ولكن وجدتني في حاجة لأن أقرأها وحدي لأنني لم أخمن ردود فعلها عليّ ولهذا فقد أسرعت للبيت وقبل أن أخلع ملابسي جلست على حافة السرير وفتحتها بيد مرتجفة فقرأت فيها ما يلي :

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليك يا فؤاد ورحمة الله وبركاته .
كثيراً ما ترددت قبل ان اكتب اليك هذه السطور ولكن وجدت ان الموقف اصبح حرجا اكثر مما يطاق وان هذا الوضع القلق أخذ يؤثر عليّ ويلون شتى جوانب نفسي ، فأنا كنت اخمن كل شيء واتوقع كل شيء عدى ما حدث فلماذا حدث هذا يا ترى ؟ لماذا تناسيت في لحظات جميع ما عقدنا من عهود وما ابرمنا مواثيق ؟ لماذا ضعفت يا فؤاد فاستهنت بكل هذه الكنوز من الحب وتجاهلت عيون العواطف الدفاقة التي طالما تدفقت في قلوبنا من قبل ؟ لماذا هدمت يا فؤاد تلك الصروع الشامخة من الامال والاحلام لماذا ؟ نعم لماذا ؟ لعلك عرفت الأن ماذا أعني وماذا اقصد وستجد مع هذه الرسالة الأدلة التي وصلتني على ذلك


( 108 )

بالاضافة الى ما حمله سمعي اليّ من دليل فأنا لا أريد أن احتفظ بدلائل خيانتك ولك بعد هذا ان تعلم كم تعذبت وكم اتعذب لولا ما يربط على قلبي من النور الذي بدأ يلون حياتي بشكل جديد ، واعلم بأنني حينما أعرض عنك لا يعني هذا بأنني سوف أتوجه الى سواك فإن هذا ما لا يكون ابدا لأنك انت ...

سندس

وفتحت المظروف الثاني فإذا به صورتي الصغيرة التي أفتقدتها وصورة لسندس كانت قد اهدتها اليّ والابيات الشعرية التي افتقدتها ثم الشيء الذي هو أدهى وأمر صورتي وانا أقف أمام باب بيتي وامامي فدوى وانا اشير اليها ادعوها للدخول ، عند ذلك عرفت كل شيء وتكشفت أمامي خيوط المؤامرة التي حبكوها ضدي وانا سادر في غيي وغفلتي حتى كدت أن اخسر سندس بعد ان خدعت بشكل فظيع فلم تكن حادثة فدوى سوى قصة مفتعلة صمم أدوارها باسم الذي التقط لنا صورة في حال دعوتي لها للدخول وتذكرت الضوء الذي لمح أمامي حين ذاك ثم يبدو انها لما قضت ليلتها في غرفتي فتشت في كل مكان حتى حصلت على صورتي وعلى صورة سندس التي اهدتها لي وعلى الابيات الشعرية التي كنت قد كتبتها من اجل سندس وفهمت في تلك اللحظة ايضاً معنى سؤالها لي ان ماذا رأيت في يومك وفي أمسك ؟ إذ كان


( 109 )

هذا هو مطلع الأبيات التي حسبت انني قدمتها لغيرها ، وخمنت انهم اتصلوا بها وطلبوا منها ان تتصل بغرفتي في الصباح الباكر ولا شك ان فدوى هي التي ردت عليها والله اعلم بما قالت وهكذا تكشفت امامي الحقائق المرة دفعة واحدة ، ولم احاول ان استسلم للالم وانهار أمام المفاجأة ، فنهضت مسرعا وخرجت متوجها نحو سندس لكي أشرح امامها كل شيء ولكن وفي منتصف الطريق فطنت الى حقيقة كنت قد غفلت عنها وهي الطريقة التي اتمكن ان اثبت بها براءتي امامها مع هذه الأدلة الحسية التي تدينني امامها ، وشعرت بالتردد ثم احسست بالانهيار وخطر لي ان أعود الى غرفتي أفكر في الموقف الذي عليّ ان اتخذه معها فعدت وأنا في أشد حالات الحيرة والالم وجلست في غرفتي أفكر ، وشعرت بحاجة شديدة الى من يهديني لما ينبغي لي أن اصنع وفجأة امتدت يدي الى القرآن الكريم الذي كان موضوعا على احد رفوف المكتبة وهو في داخل علبة مذهبة وكان قد وضع هناك الى ذلك الحين للزينة فقط اما خلال أزمتي الروحية تلك فقد شعرت انه منقذي الوحيد ، وفتحته في لهفة فإذا بالسورة التي تطالعني فيه هي سورة محمّد فرحت أقرأ وقد كان لمعاني السورة وايقاعها الساحر اثر عظيم في نفسي فشعرت بشيء من الراحة وبعد ان اكملت السورة نهضت لاضع القرآن الكريم في مكانه فإذا بعيني تقع على مجموعة من شرائط التسجيل فتذكرت انني حينما كنت احاور


( 110 )

فدوى وراء الباب كان جهاز التسجيل يعمل بيدي ولا شك انه سجل الحديث كله ، وفعلا فقد اخذت اجرب الشرائط ابحث عن ذلك الشريط حتى وجدته ووجدت فيه تسجيلا كاملا لما وقع منذ ان فتحت الباب لفدوى الى أن ودعتها وذهبت لأنام في الصالون فحمدت الله على ذلك وشعرت بامتنان عظيم لخالقي الذي دبرني دون ان اشعر ، وكان الوقت قد تأخر بشكل لا اتمكن فيه من زيارة سندس فأحلت الموضوع الى الصباح ونمت مطمئن البال وفي الصباح بكرت في الذهاب الى الجامعة وانا ارسم في فكري صورا عديدة لما سوف أقوله لسندس عند اللقاء ، تصورت نفسي أركع امامها مقدما لها شريط البراءة كما قدمت لها قلبي من قبل وكانت جميع خلجات جسمي ونبضات قلبي قد استمالت الى كلمات حب وهناك عرفت انها لم تداوم في ذلك الصباح فاتصلت بالقسم الداخلي اسأل عنها فقيل لي انها مسافرة الى اهلها فاستغربت ذلك منها وعدت خائباً الى البيت .


( 111 )

ومرت الايام وانا أسأل عنها في كل يوم فيكون الجواب انها ما زالت مسافرة وفي اليوم المحدد ذهبت الى الاستاذ واخذت معي الشريط والرسالة شرحت لها فيها كل شيء وكنت امل ان اجدها هناك وفعلا فقد وجدتها قد سبقتني بدقائق ولكنني فوجئت ان رأيتها تلبس ملابس الحداد وقد غطت رأسها بغطاء أسود زادها فتنة وجمالا وتمنيت في تلك اللحظة ان لا تقع عليها عين رجل سواي وعجبت لنفسي ولأمثالي كيف كنت لا اشعر بهذا الشعور من قبل ؟ وسلمت عليها فاجابتني بشيء من التحفظ فقلت لها وانا اشير الى ملابس الحداد متسائلاً :
خيراً ؟ ماذا ارى ؟ فاطرقت قليلا ثم رفعت وجهها وقد اغرورقت عيناها بالدموع وهي تقول :
أبي قد توفي ! فهزني حزنها واثر عليّ صوتها الكئيب وشعرت ان دموعها قد انتقلت الى عيني وخرج صوتي متهدجا وانا اقول :


( 112 )

انا لله وانا أليه راجعون ، وسكت لا اعرف بماذا أزيد ومرت فترة صمت قصيرة كان لا بد لأحد ان يقطعها وكان العالم الديني ساكتا احتراما لحزنها وانا كنت ساكتا افكر بحالها وبموقفي منها اما هي فقد بادرت الى قطع حبل الصمت حيث وجهت الحديث الى الاستاذ قائلة :
أرجو ان تبدأ حديثك يا أستاذ فقد خلفت ورائي العديد من الاسباب التي تدعوني للبقاء واتيت من أجل الاستفادة منك وليس من أجل الجامعة كما انني تمكنت ان أقرأ الكتب التي ذكرتها لنا ولم تصرفني عنها الالام والاحزان لانني اصبحت اجد ان متابعة هذا الأمر هو أهم شيء في حياتي ولهذا فأنا ارجو ان تمارس حديثك كالعادة ، قال الاستاذ :
بارك الله فيك يا بنتاه وارجو من الله عز وجل ان يلهمك الصبر والأجر وانني ابارك فيك هذا الشعور الصالح البناء والحقيقة انني قد اطلت عليكما مع انكما كنتما تتعجلان الأمر ولولا مساعدتكما لي بالمطالعة لاحتجنا الى مدة اطول ، قالت سندس :
الحقيقة انني لولا رغبتي لأن اسمع منك اكثر واكثر لتمكنت ان اقول بانني قد حصلت على القناعة الكافية ولكنني لا اريد ان اخسر بذلك قسما من الحديث ونحن ما زلنا ننتظر حديثك عن الإسلام وتمكنه من تقديم قدوة صالحة او مثل اعلى او وسيلة ايضاح ، قال الاستاذ :


( 113 )

لقد سبق ان مررنا في حديثنا بمراحل :
أولها : توضيح ان الدين ضرورة حتمية في حياة الانسان .
وثانيهما : تناول وصف للدين الصالح وكيف انه ينبغي ان يكون ملائماً للعقل ومنسجما مع الفطرة ومتمكنا من تقديم القيم التي تبني الإنسان والمجتمع وان يكون قادراً على تقديم قدوة ومثل أعلى .
وقد تحدثنا يإيجاز عن كل مرحلة من هذه المراحل وعرفنا ان الاسلام هو الدين الوحيد الذي يتكفل بذلك وبقي علينا ان نذكر ما قدمه الإسلام من قدوة أو وسيلة ايضاح ، لأن الفكرة التشريعية واي فكرة كانت لا يمكن ان يكتب لها النجاح ما لم تقدم مثالا معبرا عن طبيعة ما تدعو اليه وموضحا ابعاد الخطوات التي وضعها ، فإن عدم تقديم القدوة او وسيلة الإيضاح يعني عدم واقعية هذا التشريع واستحالة تطبيقه على الوجه الصحيح ، ولكن الحقيقة ان الحديث عن القدوة طويل وطويل جداً فإن أول قدوة وهو نبي الاسلام محمّد بن عبدالله ( ص ) كما جاء في الآية المباركة ( ولكم في رسول الله أسوة حسنة ) والحديث عن الرسول ( ص ) وحده يحتاج الى ساعات وساعات بالاضافة الى القدوة الثانية ابن عمه وخليفته علي بن أبي طالب ( ع ) والأئمة الاحد عشر من ولده ( ع ) ويمكنكما مطالعة كتاب ـ عبقرية محمد ـ للعقاد ـ


( 114 )

وكتاب ـ حياة الإمام أمير المؤمنين ـ للسيد محمد صادق الصدر وكتاب ـ الإمام علي ـ لعبد الفتاح عبد المقصود وسلسلة ـ في رحاب اهل البيت ـ لبحر العلوم ، ثم هناك أيضا شخصيات اسلامية اخرى يستحق كل منها ان يكون قدوة صالحة على مدى التاريخ امثال عمار بن ياسر وابا ذر الغفاري ومصعب بن عمير وميثم التمار ويمكنكما لدارسة شخصية هؤلاء العظام مطالعة كتاب ـ بين يدي الرسول ـ و ـ من مدرسة الإمام علي ـ لبحر العلوم ولهذا فنحن نؤجل اللقاء القادم الى بعد مطالعتكما لهذه الكتب عند ذلك يمكنكما ان تتصلا وتحددا موعداً أرجو ان يكون هو الموعد الأخير ان شاء الله ...
عند هذا شكرنا الاستاذ واستأذنا للخروج وفي الخارج وقفت امام سندس وانا اريد ان اقول لها شيئاً ، ولكن وقفتها المحتشمة الوقور وابرادها السوداء التي تلف جسمها وتغطي رأسها اضاعت عليّ الكلمات فلم اعد اعرف ماذا اقول ؟ ورحت افتش عن عبارة أبدأ بها ولكنني عجزت عن الحصول على شيء فبدأت الحديث قائلة :
مع السلامة يا فؤاد ثم استدارت لتذهب وهنا خرج صوتي مبحوحاً وهو يقول :
كلا لا تذهبي يا سندس فإن لدي ما اقوله لك ، فوقفت هنيئة ثم قالت :


( 115 )

ماذا لديك يا فؤاد ؟ قلت :
انني اريد ان اثبت لك برائتي اريد ان تعرفي انني لك انت وحدك يا سندس وانني لم اخنك غمضة عين ، فشحب وجهها قليلاً ثم قالت :
آه وكيف تثبت ذلك يافؤاد ؟ قلت :
انني اريد ان احدثك بكل شيء ولكن ليس هنا وعلى قارعة الطريق ، قالت :
إذن اين ؟ قلت :
في اي مكان تقترحين ، قالت :
لا اعرف مكانا مناسبا اقترحه ، قلت :
ما رأيك ان تأتي معي للبيت ؟ قالت بصوت يفصح عن التأثر :
أنا اتي معك الى البيت كما جاءت فدوى ؟! كلا انني لن اتي ، قلت :
لو اتيتي لعرفتي عن فدوى كل شيء ، قالت باصرار :
ولكنني لن آتي يا فؤاد قلت :
وذهابي معك الى القسم غير ممكن بطبيعة الحال وجلوسنا في مكان عام غير ممكن أيضا لأن لدينا احاديثا خاصة فماذا نصنع إذن ؟ فالتفتت سندس الى بيت العالم الديني وكأنها


( 116 )

تريد ان تقول شيئاً وبقيت ساكتة ، فخمنت ماذا تريد أن تقول فسألتها :
ماذا خطر لك ؟ قالت :
لماذا لا نعود الى بيت الاستاذ ؟ قلت :
ونطلب منه خلوة نتحدث بها ؟ قالت :
خلوة ؟ كلا بل نتحدث أمامه أو ليس هو أبونا الروحي وباعث النور في حياتنا اذن فلماذا لا نجعله شاهدا على ما نقول ؟ والحقيقة انني ارتحت لهذه الفكرة ولكنني شعرت بالحرج لتنفيذها ، قلت :
ولكن كيف سوف نعود اليه وما انصرفنا عنه الا الأن ؟ قالت :
إذن فليس لدينا وسيلة ثانية وليذهب كل منا الى مكانه ، فشعرت بقلبي وهو يهوي خشية ان تتركني قبل ان تعرف براءتي ولهذا قلت لها بتوسل :
انتظري دقائق فقد يفتح الله علينا يا سندس ، فابتسمت بمرارة وقالت :
وهل ترى ان الوقوف على قارعة الطريق مما يستساغ يا فؤاد ؟ قلت :
صحيح انه امر بعيد عن اللياقة ولكنني سوف أطرق


( 117 )

باب الاستاذ فهو انسان نبيل ولن يحرجنا على أي حال من الاحوال قلت هذا وتقدمت نحو الباب بضع خطوات واذا بالباب يفتح ويخرج منه العالم الديني ، وما ان رأنا حتى استغرب وقوفنا هناك طيلة هذه المدة فسألنا باهتمام قائلا :
ماذا ؟ هل كنتما تنتظران سيارة ؟ وجرأني سؤاله وما بدا عليه من اهتمام بامرنا لأن اقول له بشيء من الارتباك :
الحقيقة بأننا في حيرة يا سيدي فإن لدينا مشكلة خاصة لا نعرف المكان المناسب لعرضها ثم خطر لنا اخيرا ان نختار بيتك فهل تأذن لنا ؟ فمد يده يفتح الباب وهو يقول :
تفضلا وادخلا الى نفس الغرفة التي كنا فيها قبل قليل ولن يضايقكما أحد ، قلت ولكننا أردنا ان نعرض مشكلتنا امامك لتبارك لنا حلها ، قال :
أما الأن فإن لدي موعدا ولكنني سوف أوعود اليكما بعد ساعة ارجو ان تكونا خلالها قد توصلتما الى الحل الصحيح .

***


( 118 )


( 119 )

واستقر بنا المقام في الغرفة وهنا كدت ان انكر نفسي فقد وجدتني وفي حال كوني فانيا في حب سندس لا أجرؤ حتى ان امس يدها ووجدت هذا الحب الذي يملأ وجودي كله قد غلف بقدسية كان يفتقدها من قبل ، فأن الأن اغار عليها حتى من نفسي ، وانا الأن اهاب حتى النظر إلى عينيها ، ولا اجرأ حتى على لمس اطراف اناملها ، وقد ضاعفت هذه المشاعر من رغبتي فيها وحرصي عليها ، فقد اصبحت احس انها بالنسبة لي امل كبير وكبير جدا علي ان اسعى لتحقيقه واجتهد لنيله وقد كان هذا الاحساس كفيل باعطاء حبي شكلا جديدا يزيده روعة وحرصا واصرارا ، وتمنيت ان ابقى صامتا مندمجا مع مشاعر الحب الطاهرة التي نورت جنبات روحي بنورها المشرق ولكن كانت امامي مهمة اثبات براءتي وغسل الشوائب عن قلب سندس وفعلا فقد بدأت اتحدث بحديث تلك الليلة وكانت تستمع اليّ بهدوء حتى انتهيت وكأن الصدق الذي كان يبدو على كلماتي وعلى تعابير وجهي قد اغناها عن طلب الدليل ولهذا فقد بدا عليها الاقتناع بعد ان انتهيت من الحديث ، وانتظرت ان تطلب مني الدليل ولكنها لم تطلب وقالت بصوت يعبر عن الراحة والفرحة :
الحمد لله ، نعم الحمد لله الذي لم يخيب املي فيك واعادك اليّ وانت احسن مما كنت ، قلت :


( 120 )

اراك لم تطالبيني بالدليل على ما ذكرت ؟ قالت :
لقد اقتنعت بدون دليل لأنك مسلم والمسلم لا يكذب ، قلت :
ولكنني اريد ان اقدم الدليل لكي ارتاح انا يا سندس ثم قدمت لها الشريط قائلاً :
هذا هو الشريط الذي يحكي عن موقفي في تلك الليلة والذي كان يعمل داخل المسجلة التي كنت احملها بيدي ، قالت :
كلا انني لا اريد ان اسمعه لكي تعلم بانني ما زلت اثق فيك ، قلت :
إذن دعي الشريط لديك يا سندس ، فاخذته وهي تقول :
استجابة لرغبتك يا فؤاد ، وبعد هذا بدأنا نتحدث فترة عاد خلالها الاستاذ فشرحنا له امرنا يايجاز فبارك لنا صلاح حالنا وودعناه وانصرفنا وكلانا يشعر براحة كان قد افتقدها منذ زمان .

***


( 121 )

مرت الايام ونحن دائبان على مطالعة الكتب التي ذكرها لنا العالم الديني وكنت عند الفراغ من مطالعة كل كتاب ازداد حبا بديني وايمانا به واعجب لنفسي لماذا وكيف كنت ادعي الإسلام دون ان اعرف عنه شيئاً ، اما سندس فكانت قد التزمت بالحجاب بعد ان التزمنا معا بالصلاة ، وبعد ان انتهينا من مطالعة الكتب اتصلنا بالاستاذ نطلب منه موعدا فحدده لنا في اقرب فرصة ، فذهبنا اليه وعندما استقر بنا الجلوس قال :
هل قرأتما الكتب التي ذكرناها ؟ قلنا بصوت واحد :
نعم لقد قرأناها ، قال :
وهل تعرفتما على المثل التي قدمها الاسلام ؟ فأجبنا قائلين :
نعم لقد تعرفنا عليها وتمنينا ان نسير على خطاهم .. فالتفت العالم الديني نحو سندس وهو يقول .


( 122 )

والآن فإذا حصلت لديك القناعة الكافية بحق الإسلام فتفضلي واسلمي يا بنتاه ، وهنا بادرت أنا قائلاً :
ارجوك يا مولاي ان تلتفت اليّ اولا فالتفت نحوي قائلا باستغراب :
انت ؟ قلت :
نعم انا فإن عليّ ان اسلم اولا فلم اكن اعرف عن اسلامي ما عرفت ولم اكن مسلما الا بالأسم فقط ، فابتسم الاستاذ ونظر اليّ نظرة عميقة ثم قال :
ولكنك لا تحتاج الى ان تردد الشهادتين يا ولدي ويكفيك ان تكون مؤمناً ايماناً صادقاً بالإسلام وبما جاء فيه ، قلت :
انني مؤمن به كلا الايمان ياسيدي قال :
وهل انت مستعد لأن تضحي من اجل الاسلام ؟ قلت مؤكدا :
نعم وبكل شيء ، قال :
اعطني مثلا عن ذلك ، قلت :
انني الأن لو علمت ان سندس غير مؤمنة بهذا الدين لروضت نفسي على تركها مع انها أحب اليّ من نفسي ومن الوجود وما فيه ، فعاد يلتفت الى سندس وهو يقول :


( 123 )

وانت يا ابنتي ؟ قالت :
انني اشعر تجاه الإسلام بنفس الشعور فأنا لم أعد ارضى بفؤاد لو لم يكن مسلماً واقعياً مع انه اعز انسان عندي واغلى ما في الوجود لديّ ، قال :
إذن فبارك الله فيكما ووفقكما لمراضيه وجعلكما نواة صالحة لجيل صالح خير وبعد هذا شهدت سندس شهادة الاسلام وقدم لها الاستاذ مصحفاً كريماً مذهب الحروف كما انه قدم لي علبة من الحلوى النادرة فشكرناه من صميم قلوبنا وودعناه وخرجنا بعد أن ولدنا على يده من جديد ، وبعد فترة تم عقد قراننا وعشنا في اسعد حال . وعندما رزقنا الله ولدا اسميناه باسم العالم الديني تيمنا به ولكي لا ننسى فضله علينا .

***

( او من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون ) .
صدق الله العلي العظيم .
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين .
والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين .

السيرة الذاتية  || المؤلفات  || الصور  || ما كتب حولها