مؤلفات العلوية الشهيدة آمنة الصدر

كلمة ودعوة


كلمة ودعوة


( 126 )


( 127 )

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى المجد يا فتـيات الهــدى * لنحـيي مآثــرنا الخـالـدات
ونمضـي سويـاً إلى غايــة * لأجـل لقاهــا تهـون الحـياة
ونكتب تاريخنا ... ناصـعـاً * مضيئاً بإعمــالنا الزاهــرات
فـأمـا مقـام العـلى نرتقيه * وأمــا قبوراً تضــم الرفـاة


النجف الإشرفبنت الهدى


( 128 )


( 129 )

الاهداء


إلى : فتاة الاسلام المفدى ...
إلى : من استحالت برسالة السماء إلى سيدة وقائدة ـ بعدما كانت مسودة وموؤودة ! إلى حفيدة حاضنات الاسلام خديجة والزهراء وبنت سكينة والحوراء . إلى المتطلعة لحياة سعيدة خيرة تنشد به سعادة الدنيا والآخرة .
إلى أختي المؤمنة في كل مكان أهدي هذه البضاعة المزجاة والمجموعة الاسلامية ، كمذكرة أخوية تزداد بها مناعة ووقاية من السموم الأجنبية الفاتكة ، وهي بالوقت نفسه بلسم لجراحها وشفاء لصدرها وقوة جبارة لبعض نقاط ضعفها بعون الله تعالى .

النجف الإشرفبنت الهدى


( 130 )


( 131 )

تمهيد


من أنت

كتبت إليّ اخت مسلمة وسألتني قائلة : لماذا بالله عليك لا تصرحين عن اسمك الصحيح لنعرف من انت ومن تكونين ؟
فإليك يا اختاه جوابي لعلك تعرفين منه من أكون أنا ؟ .
فإنا اولاً وبالذات اختك المخلصة الدائبة على تتبع آثارك وتعقب خطواتك بدافع الحب والعطف ، وانا أيضا متطوعة مختارة لأجل قضية الاسلام وحمل مشعله الوهاج ما وسعني حمله وعلى قدر طاقتي وامكانياتي في الجهاد ، وانا ايضاً من اريد ان اجعل من نفسي مثلاً ونموذجاً أجري عليه تجارب أدب الاسلام التي قد يظن البعض الجاهل او المتجاهل أنها تجارب فاشلة ، فأنا أريد أن أثبت بنفسي ما يحدثنا به التاريخ الاسلامي عن امهات واخوات لنا في صدر الاسلام ناهضن بثقافتهن أعاظم الرجال مع تمسكهن بالاسلام وتعاليمه .
ولا يخفى عليك يا اخية اني لم اكن لأقول هذا وشبهه لو أنك كنت تعرفين اسمي الصغير التافه ، وهذا أحد الدواعي


( 132 )

لعدم ذكري لذلك الاسم الذي أكاد انساه انا نفسي فلماذا لا تنسينه أنت ايضاً يا عزيزتي ؟.
فأنا في أكثر أوقاتي أصبحت مندمجة معكن ومنصرفة عن نفسي إليكن ولهذا فأنا في اكثر اوقاتي أكون بين الهدى تاركة ورائي تلك الحروف التي لا دخل لها بما أنا في سبيله .
نعم حروف لا تتعدى الأربعة فما خطرها إذن ؟ وما شأنها بالنسبة للغاية التي أبتغيها ؟ فلك ان تتصوريني كما تشائين .
تصوريني سيدة عجوزاً قد اكتمل عمرها وتقدمت بها السنون فهي تضع النظارات على عينيها وتدني النور اليها ، أو تدنو هي من النور ، ثم تمسك القلم وتقرب نحوها الدواة وتباشر الكتابة اليك ، وهي بين حين وآخر تعيد ترتيب أوراقها ثم تضع القلم جانبا برهة لتريح يدها ورأسها ، ثم تعود مرة أخرى لتكتب وتستأنف ما قطع عليها التعب . واخيرا ... عندما تنتهي من الكتابة تستلقي على ظهرها لتستريح وهي تشعر بدوار واعياء .
ولك ايضاً ان تتصوريني امرأة قد تخطت الشباب أو كادت قليلة الكلام كثيرة الفكر ، لا تكتب إلا بعد طول ترو وتأمل اذا كتبت اقتضبت ، واذا تحدثت اختصرت ، ومن رأيها الخاص ان الكتابة لا يمكن أن تجتمع مع أي شيء آخر ، فهي إذا كتبت تركت كل شيء ، واذا كان لديها أي شيء تركت الكتابة ، وإذا أرادت أن تكتب تنفرد بنفسها في غرفتها


( 133 )

الخاصة فتجمع فوق منضدتها شتى الكتب لتختار من بينها الموضوع الملائم . فهي حريصة جداً على ان لا تكتب إلا في مكانها الخاص ، وفي جو ملائم هادئ وهي حريصة أيضا أن يدل مظهرها على شخصيتها وان يرسم في خطوط جبينها وحركاتها خطوط افكارها وميولها .
ولك ايضا ان تتصوريني فتاة شابة في ريعان الشباب ضاحكة الثغر ، طلقة المحيا تندمج في كل موضوع ولا يفوتها شيء مما حولها ترضي كل جليس ، إذا كتبت تكتب بسرعة وبدون اي مقدمة ، واذا تكلمت تتكلم بهدوء وتحسب لكل كلمة حسابها ليس عندها اي مكان خاص بها تستنزل فيه الالهام ، أينما خطرت لها خاطرة او عنت لها فكرة سجلتها على ورقة او اي شيء آخر حتى ولو كان علبة سيجارة ، وهي حريصة على ان لا يتاثر مظهرها بأفكارها وميولها وان لا تكتب افكارها على قسماتها وحركاتها ولهذا فهي بين ذلك كله فتاة كباقي الفتيات لا تتميز عنهن بشيء إلا بقوة الارادة وسمو الروح ، وهي تستطيع ان تتحمل كل شيء ، وان تجاري كل أحد سوى جهل الجاهلات باحكام الاسلام ولكنها مع هذا لا تكاد تعرف أنها هي تلك الغيورة الصارمة في تعاليم دينها ، فان لها طريقتها الخاصة باتباع هذه التعاليم لا يتأثر منها مظهرها تصوري هكذا إذا شئت .
وتصوريني : إذ أكتب اليك أفترش الارض والحصير


( 134 )

واجعل من رجلي منضدة أريح فوقها أوراقي المبعثرة لأملي عليها أفكاري ! نعم تصوريني هكذا واذا شئت فتصوريني شابة تشعر بشعورك وتمر بالمرحلة التي تمرين بها وتنظر إلى كل ما تنظرين إليه ولكن من وراء منظار الواقع والحقيقة ، لا تغشها المظاهر الخلابة ولا تغريها كل أساليب الاغراء تصوريني هكذا إذا شئت بل تصوري أية صورة من هذه الصور حيث تجديها اقرب الى فكرك فاختاري منها إحداها ، أو اختاري غيرها ، وكوني مثلي فأنا لا أنظر الى الانسان تحت إطار اسمه او مظهره أو ملبسه ، وإنما أنظر إلى روحه وقلبه وأفكاره ، وتذكري دائماً وقبل كل شيء أني أخت لك متواضعة وقريبة منك كثيراً واكثر مما تتصورين ، لأن القرب قرب للروح والفكر والرأي :

قد يجمع الرأي أشخاصا وإن بعدوا * وقد يفرق خلف الرأي إخواناً

وأخيراً فرجائي اليك ان تنسي تلك الحروف القليلة ، واذكريني أنا بشخصي الروحي لأكون فخورة بذلك وثقي أن ليس لاسمي اي دخل فيما اكتب وفيما تقرئين ، ودومي للمخلصة لك إلى الأبد .

النجف الإشرفبنت الهدى


( 135 )

مقدمة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله فاتحة كل خير ، وتمام كل نعمة ، والسلام على مصدر الهدى والحكمة ، « سيدنا ونبينا محمد نبي الرحمة » .
وعلى آله ومن والاه من الأصحاب والأمة ... ربي اغفر لي ولأخواتي اللاتي سبقنني بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ، وثبتنا عى دينك .
رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي .
أختاه ...
ها أنا ذي ألتقي بك في هذه المذكرات لأحدثك حديث الأخت المحبة ولأناجيك مناجاة الصديقة الناصحة ، ولأناديك نداء الصاحبة المشفقة فاجهدي بالله عليك يا أخية ان يداعب أذنيك الرقيقتين صدى كلماتي ، وأن يصل إلى قلبك الفتي المتفتح للحياة الحرة الشريفة لحن انغامي .
وكلي أمل وكلي رجاء ان تهبيني شيئاً من ذات نفسك


( 136 )

وفكرك فتقبلي على مطالعة هذه الصفحات شاعرة باحساسك المرهف بأن هذه الكلمات ليست إلا هتافاً أخوياً من أُخت مؤمنة ناصحة مشاركة لك في مشاعرك ملتقية معك في عواطفك ، فهي تحس ما تحسين به ، وتدرك ما تدركينه وتفكر في كل ما تفكرين لأجله من شعب الحياة وألوانها ، وقد جاءت لتلتقي معك بروحها وبأفكارها على صفحة قرطاس ، وكلها حب لك واخلاص ولا تحمل لذاتك إلا تقديراً واحتراماً .
فاسمعيني إذاً يا أختاه ... وأنا أناجيك بلسان الاسلام ديننا المفدى الجيب ، ومبدئنا العادل الخالد .. انصتي لي يا أخية ، وانا اناجيك بلسان القرآن العظيم الذي ارتفع بالمسلمين عامة وبنا نحن النساء خاصة إلى درجة عالية وعالية جداً .
فاسمعيني ما اقول : وغلفي سمعك العزيز عن الكلمات الفارغة الجوفاء ، التي ربما تسمعينها من قوم مغرضين متهمين هم اقسى من يكون عليك وأبعد الناس عن رعاية حقوقك وعقباك ، أو جهلاء بعداء عن مفاهيم الاسلام وآدابه « فان العلم يدعو للايمان » ـ وهو فريضة على كل مسلم ومسلمة .
فهيا معي إلى درس هذه المفاهيم السماوية الخالدة ، وهلمي بنا للتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها لنرتفع إلى حيث شاء الله تعالى لنا من العزة والكرامة والحشمة .


( 137 )

حقوق المرأة في الاسلام


أختاه ...
مرحبا بك وانت تلتقين معي على هذه الصفحة لنراجع السير ونتابع السور ، ولنرجع بذاكرتنا معاً إلى أزهر عهود البشرية : عهد الاسلام في فجره المشرق السعيد ، لنستقرئ دور المرأة المسلمة في ذلك العصر الذهبي ولنتطلع إلى موقعها في الاسلام ونظامه والاجتماعي .
هذا الاسلام الذي ركز للمرأة كيانها في ذلك العصر الرهيب الذي كانت الفتاة به موؤودة ! تسود وجوههم إذا بشروا بها .
نعم في تلك الفترة المتبقية ، وبين معترك تلك الأفكار الهوجاء وافانا الله تعالى بدين الاسلام ، فأشاد بالمرأة في القرآن ، وجعلها في صف واحد مع الرجل ، لها ما له وعليه ما عليها ، كما جاء في الآية الكريمة : 595 آل عمران ـ ( أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وانثى بعضكم من بعض ) .


( 138 )

وهكذا خلق الاسلام من المرأة المسلمة خلقاً اجتماعياً جديداً ، وركز لها مكانتها في الأوساط الاسلامية ، وارتفع بمعنوياتها حتى شهدت الحروب ونزلت الى سوح الجهاد ، وكتبت لها انصع صفحة في تاريخ الأمة الاسلامية منذ عهد خديجة أم المؤمنين أول حاضنة للرسالة المحمدية ، واستمر التاريخ يحدثنا عن امهاتنا اللاتي استنرن بنور الاسلام السماوي فقدمن الضحايا والشهداء من إخوانهن وأفلاذ أكبادهن ، ولم يكن المصاب ليزيدهن إلا غيرة وحماساً وتفانياً في سبيل تركيز راية إسلامهن الخالد !
فما أجدرنا اليوم إذ تمتحن رسالتنا الحبيبة بشتى المحن أن ترفع مشعل الدعوة الاسلامية ، ونستثمر علومنا وتعلمنا في سبيل الدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة ، وأن نذكر دائماً وأبداً أن نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم كان قد اوصانا بطلب العلم وجعله فريضة على كل مسلم ومسلمة لكي يكون للمرأة المسلمة نصيبها من الدعوة إلى مبدئها ونظامها الخالد ، ولكي تكون قادرة على صد هجمات المغرضين ، ورد دعايات المرجفين . لا لتتلاعب مع الريح مصفرة او محمرة شرقية كانت أو غربية ولكن لكي تسير على الطريق المهيع السوي وتتمسك بالاسلام ديناً ومبدأ ونظاماً ولكي تتفهمه لترى فيه كل ما تطمح إليه من تقدم ورقي وازدهار فلا تعود تتطفل على المبادئ الدخيلة والأفكار المستوردة الضحلة .


( 139 )

ومن ثم أردها أن تتعلم لتعرف جوهر الاسلام على حقيقة الرائعة لا لتتعرف على انحلال الغربيات وتحجر الشرقيات . أرادها ان تكون شعلة من نور سماوي ويحاول المجتمع الفاسد ان يحيلها الى لفحة من نار أرادها أن تكون ريحانة عطرة ويريدها المفهوم الحيواني ان تغدو كورقة صفراء ذابلة تتلاعب بها الريح خلقها لتكون ربان سفينة فجعلتها الحضارة الكاذبة لعبة ساعة من الزمان خلقها لتصبح مدرسة أجيال ! ولكن قوى الشر تجهد لتحويلها إلى آلة صماء ...
فإلى الأسلام يا فتيات الاسلام وإلى الدعوة إليه يا حفيدات خديجة والزهراء وبنات سكينة والحوراء فان فيه الأمن والأمان وهو أعذب معين ننهل منه واصفى غدير نرد فيه ولن ينخذل أو يرتد ( فاشلاً ) من يدعو إليه ـ وإليه فقط ـ أبداً فقد مرت على اسلامنا الحبيب أهوال وأهوال على مر العصور ، ومنذ أشرق نوره في مكة ( أم القرى ) ولكنه خرج منها جميعاً أوسع دعوة وأقوى حجة وأصلب عوداً !
فالله قد وعدنا النصر ، والله لا يخلف الميعاد .
والسلام على من اتبع الهدى .


( 140 )

تقصير المسلمات


جمعتني الظروف مرة مع بعض فتيات من بنات الاسلام وهن لا يحملن من الاسلام إلا اسمه ، ولا يعرفن منه شيئاً اللهم إلا اسم نبيهن صلى الله عليه وآله لا أكثر ولا أقل ! ولذلك فلم يسترعين انتباهي من قريب او بعيد فما علي منهن ، وكيف لمثلي أن تتسلل إلى حيث قد تسلل قبلها الشيطان ولكن بعض كلماتهن استرعت انتباهي بصورة خاصة جعلتني أحس بمرارة ما فوقها مرارة فقد كن يذكرن في حديثهن الراهبات المسيحيات ، ويشدن بتمسكهن بتقاليد الدينية عندهن ، ويذكرن لباسهن ومسوحهي بكل إكبار واجلال واعجاب في الوقت الذي ينظرن فيه إلى المتمسكات بالاسلام على انهن شبح رجعي مخيف ! فلماذا ؟ وهل هذا يرجع لشيء سوى لتقصيرنا نحن المسلمات ولتقاعسنا عن التبشير لانطوائنا على أنفسنا كل يعمل على شاكلته ؟ ناسين ان من ورائنا نشء يجب ان نغذيه بمعتقداتنا ، ونفهمه معالم ديننا الواضح المستقيم ، ولكن الراهبات المسيحيات لا يفتأن يبشرن


( 141 )

ويدعون ومن ورائهن قوى تبشيرية هائلة تجند لدعوتها القوة ، والمال ، والجاه وكل شيء ! والراهبة لها نظام خاص ولها مسؤولية معينة تعرف منها مواهبها ، وتدل على واقع شخصيتها ! على العكس تماماً مما نحن فيه ! فنحن اما خائفات جبانات ، وإما جاهلات عاجزات ، واما مسالمات خجولات ، وأما مقيدات محكومات هذا عدى من خالفت الطريق وانحرفت عن ركب الدعوة . فنحن لو لم نكن على هذا الحال من الفرقة ، والتشتت والغفلة ، والجهالة واختلاف الآراء والأهواء ، وتضارب الأفكار والميول ، لو لم نكن هكذا لاستطعنا أن نحفظ مكاننا وكياننا كمثل أعلى للمرأة المسلمة المتمسكة بالاسلام ، ولتمكنا من فرض شخصيتنا على بنات جنسنا جميعهن ولما تركنا بنات الأسلام ينجذبن إلى قوة شخصية الراهبات ويعجبن بصمودهن وثباتهن فنحن فينا من تستطيع ان تقهر العالم بصمودها ! وفينا من تتمكن ان تقف امام كل تيار رافعة الرأس راسخة القدمين ، واثقة من الفوز الاخير ، ولكن من اين لأمثال أولاء الفتيات ان يتعرفن على هذه وأشباهها ؟ وهن كثيرات والحمد لله ! نعم من أين لهن ان يعرفن ونحن على ما عليه من فرقة وعدم تنظيم ولهذا فلن نتمكن ان نصل من دعوتنا المستوى الذي نريده لها وتستحقه وكيف لنا ان نرفع صوتنا عالياً على كل صوت إسلامي وغير اسلامي ما دمن بنات الاسلام جاهلات بنا غافلات عنا ؟! فإلى متى نظل على ما نحن عليه من غفلة وسبات ، أما آن لنا ان نفيق ؟!


( 142 )

ضحية المجتمع


أختاه ..
دعيني احدثك اليوم عن واحدة من أخواتنا المسلمات ، وهي صديقة حميمة لي كانت تجمعني وإياها صلة وثيقة تتعدى القرابة والصداقة ! ولهذا فقد عرفتها عن قرب وعن قرب جداً فرأيتها مثال الفتاة الطيبة الطاهرة فضميرها ناق كالبلور ، وفؤادها خال من كل عوامل الحقد والخداع ، وفكرها صاف كصفاء صفحة السماء ، وروحها عذبة رقراقة كالزهرة المتفتحة في الأكمام ! لم تكن تظن بأحد السوء ولم تكن تضمر سوء تجاه احد . وأكاد اتمكن ان اقول أنها لم تكن تعرف الحقد والبغضاء بمعناها الصحيح ! كانت تخدعها البسمة وتسحرها الكلمة العذبة . وتتملكها عبارة واحدة محببة كانت تثق بكل رفيقاتها ثقتها من نفسها تماماً ! هي وفية مخلصة تبذل يد المعونة لكل محتاجة من اخواتها المسلمات . كانت تنتهز الفرصة للمشاركة بأعمال الخير في نطاقها الخاص وعلى القدر الذي تستطيعه . كانت متواضعة في سلوكها


( 143 )

وتصرفاتها وان تكن في الواقع جديرة بكل تكبر واستعلاء إذا كان التكبر والاستعلاء دليلا على سمو المكانة . أو أصالة المنبت . فإن لها من أصالة المنبت ما تتمكن أن تباهي به النجم في السماء ! كانت تعطي من نفسها اكثر مما تأخذ بكثير ، فهي وبدافع من غريزتها الطاهرة كانت تشعر أن الحب شيء مقدس لا يساوم عليه ولا يقابل بمثيل . كانت تحسن حباً بالاحسان واشباعاً لرغبتها في مساعدة الغير وثقة منها أنها بهذا ستكون الرابحة في الدارين ... وعلى كل حال فقد كانت فتاة مثالية قل ان رأيت لها مثيلاً في بنات حواء ! . ثم حدث أن ابتعدت عنها مدة من الزمان لم أتمكن ابانها من مطالعتها ومراجعتها . ثم عدت ولقيتها مرة ثانية وكانت قد بلغت في شبابها قمة القدوة وريعانها شباب ناضج وعقل مكتمل ورأي مستقيم نعم رأيتها غير التي عرفت من قبل ! وقد طالعني منها أول ما طالعني منظارها القاتم الذي أصبحت لا ترى الدنيا إلا من ورائه . ثم عرفت منها أنها وفي هذه المرحلة الدقيقة الحساسة من العمر قد اكتشفت في مجتمعها نواح كانت تجهلها منه . وأطلعت على مفاهيم خاطئة لم تكن تخطر لها على بال . وقد تعرفت إلى كل هذا عن طريق غير مباشر فهي ما سمحت لنفسها يوماً ان تنزل عن أفقها العالي ولكن وعلى أي حال عرفت كيف يقابل الوفاء بالخيانة والحب بالحقد والنصح بالخديعة واكتشفت كيف أن المفاهيم الخيرة تنعكس في نظر المجتمع إلى مفاهيم عدائية ! وكيف


( 144 )

تنعكس المثل وتقابل بالنقيض ! فهي لم تستشعر في يوم من الأيام أن هناك فيمن حولها من يفرق بين المحسن والمسيء في كل ظرف وحين خلافاً لما جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام ( لا تجعل المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء فان في ذلك تزهدا لأهل الاحسان بالاحسان وتحريضاً لأهل الاساءة على الأساءة ) وهكذا ولهذه النواحي وأشباهها اخذت تتبرم بالحياة وتسعى إلى العزلة والانفراد وترأب بعواطفها وألطافها على أن تضع الأشياء في غير موضعها اللائق بها . وقد تبدل لهذا سلوكها وتغيرت طباعها وفقدت تلك الراحة النفسية التي كانت تتمتع بها من قبل ! وعلى هذا الوضع رأيتها كما قدمت فما رأيك بالله عليك يا أختاه ؟ أليست هذه المسكينة ضحية من ضحايانا نحن بنات حواء ؟ نحن اللواتي لا نفتأ نشيع في المجتمع روح النفرة والبغضاء . والحسد والصدأ لا يطيب لنا السمر إلا بأكل لحوم أخواتنا بالغيبة . ولا نسمع كلمة عن أحداهن إلا وحسبنا لها سبعين حساباً كل واحد أسوأ من الثاني ! فإلى متى وحتى متى نبقى سائرات في هذا الطريق الشائك المعوج ؟ أما آن لنا أن نستفيق من سباتنا فنعقم نفوسنا ونطهر سريرتنا ؟ أما آن لنا ان نثبت بأن المرأة المسلمة يمكن ان تكون قدوة لغيرها من النساء وانها متبوعة لا تابعة . أما آن لنا ان نميز الخبيث من الطيب والعمل الصالح من العمل الفاسد حتى لا نخسر أرواح فتياتنا الطاهرة ونحافظ على سريرتهن النقية . وأخيراً فلا يخفى أني أنا أيضاً واحدة


( 145 )

من بنات حواء مثلي كمثلهن وعلى هذا فلا مؤاخذة من اخواتي ولا عتاب . ثم سألت صاحبتي هذه قائلة : هل ندمت يا عزيزتي على ما قدمت يداك من احسان وما وهبه قلبك من حب ؟ وهنا شعرت أن صراعاً عنيفاً قام بين عقلها وعاطفتها وكنت آمل ان يتغلب العقل فترد عليّ ( لا ) . ولكنها وكأني بها لم تتمكن من مقاومة أي من الدافعين فسكتت ولم ترد عليّ فأجبت أنا بدلاً عنها فقلت : قولي لا يا عزيزتي فان عمل الخير في نفسه شيء جميل ، وصفاء النفس بذاته شعور مريح ، فلا تأسفي على شيء منهما ويكفيك سعادة أنك تطالعين صفحات ماضيك فترينها بيضاء ناصعة خالصة من كل شوب فقولي : أني لست نادمة يحفظ الله لك أجر ما فعلت فتربحي بذلك الربح الكثير ، لا تندمي يا صاحبتي ولا تيأسي فما زالت الدنيا في خير ، ولا يزال هناك من يحفظ الجميل ويقدر الفضل ، ولهذا فأني أرجوك بل ألح عليك أن لا تدفعك الخيبة من المجتمع إلى الحقد عليه. يجرنك الفشل في عمل الخير إلى الزهد فيه ، بل اسمتري على السير في طريقك الواضح ، وحاولي ان ترفعي عن عنينك هذه الغشاوة القاتمة لتعودي كعهدي بك فتاة طيبة رقيقة مرهفة ، حلقي في سماء الكمال ولا تهبطي إلى حضيض النقص ، فان اهم ما ينقص من المرأة ويحط من مكانتها هو الحقد والظن السوء ، فلا تحقدي وتظني بأحد السوء احملي اختك على سبعين محمل خير ، وسوف ترين راحتك النفسية ، وقد عادت إليك كأروع


( 146 )

ما تكون !! وهكذا رأيت أن أحدثها أشباه هذه الأحاديث ولم أفارقها إلا وأنا على ثقة أنها سوف تكون في مستقبلها كماضيها ، ولكن ما يدريني ولعل لبنات حواء الاخريات تأثيراً معاكساً يعود بها القهقرى مرة أخرى عصمها الله وحرسها منهن . ولا بد ان أراجعها مرة ثالثة إن آجلاً او عاجلاً إن شاء الله .


( 147 )

يا فتاة القرآن


اختاه ،
ما أسعدني وأجدرني بالفخر وانا أراك معي في حقلنا هذا بروحك الفياضة وقلبك الفتي يا بنت الاسلام العظيم . ويا فتاة القرآن الخالد ويا نبعة المجد ، وزهرة العز الشامخ ، وسليلة الجهابذة من الآباء والأجداد ، نعم معي في هذا الحقل لنمضي في سيرنا نحو الامام ، لا يعيقنا كسل ولا وهن ، ولا يقعدن بنا ملل أو سأم فنحن مع الله ، ونور الله لا يطفأ ونحن في سبيل الحق ، حتى نصل المرفأ الأمين وليس الدرب ببعيد بل أنه سهل يسير لا يتطلب إلا صموداً كصمود الأولين ، ودعوة حسنة إلى ديننا الحبيب ، فاسلامنا ـ والحمد لله ـ بخير ، وفيه من الطاقات ما يصمد بها أبد الدهر .
ولكننا نحن ، نحن الذين جرفتنا الحضارات المختلفة ، واندفعنا في تقليدنا الأعمى لكل ما هو أجنبي غريب ، فنسينا ان لنا من مبدئنا السامي ما يرتفع بنا عن وهدة التطفل ، وأن فيه من الامكانيات الاصلاحية ما يصوننا عن التذبذب بين


( 148 )

الأفكار المستوردة والاصلاحات المعكوسة التي يوحيها الينا الاستعمار بشتى أنواعه وأشكاله والتي لا يراد منها إلا تفسيخ مجتمعنا الاسلامي ، ليسهل النفوذ اليه من ثغراته المفتوحة ، ومن جوانبه المفككة .
فالمجتمع ـ اي مجتمع كان ـ لا يمكن ان يتركز إلا على روحيات افراده ومعنوياتهم ، فإذا سمت الروحيات سما المجتمع ، وإذا ارتفعت المعنويات ارتفع واعتصم من الادارن ، وهذا ما يرده الاسلام للمجتمع الاسلامي ، حياة حرة نظيفة كلها صدق واخلاص وتعاون ووفاق لا تشوبها البغضاء ، ولا يعكر صفاءها الحقد والخداع ، حياة طيبة طاهرة يكون المسلمون فيها إخواناً والمسلمات أخوات تسودهم المحبة وتظلهم راية القرآن قلوبهم واحدة ، وأيديهم واحدة ، واتجاههم واحد .
نعم هذا الذي يريده الاسلام للمسلمين ، وهذا ما لا يريده إعداؤه والحاقدون ، بل وهذا ما يرغب الاستعمار والطامعون لأنهم يريدون أن يسيطروا علينا تحت ستار من التضليل والخداع ملون بألوان حضاراتهم البراقة ـ لننجرف وراءهم بدافع التجديد والتبديل ! .
وفعلاً فقد انجرفنا بقصد أو بدون قصد ، مع كل الأسف . فالواحدة منا نحن المسلمات تدخل معاهد العلم لتتعلم وهذا ما يرحب به الاسلام بل ويدعو إليه ... ولكن


( 149 )

في نطاق من الحشمة والفضيلة طبعاً ، فلا بد للمرأة ان تتعلم لكي تسمو بالنشء الذي تعده للغد . ولكي تكون جديرة بتحمل أخطر مسؤولية في المجتمع ، لكونها المدرسة الأولى في الحياة إذن فلتتعلم المرأة المسلمة ولتجتهد في طلب العلم أيضاً ، فقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قوله : ( أطلب العلم ولو في الصين ) فالعلم أينما كان هو العلم لا يتحول ولا يتبدل ولا تتغير نتائجه ومعانيه ، ولذلك فنحن نرى ان كثيراً من علماء العالم قد توصلوا إلى غايات واحدة في اكتشافاتهم العلمية ، ولكل منهم فكرته في الحياة ، إذن فقد يجمع العلم اشتاتاً متباينة وقد تتفق عليه أفكار متضاربة ... ولكن الثقافة ، هذه الثقافة الأجنبية التي غزت بلادنا ظلماً وجوراً ، والتي لا يمكن لمتبعيها إلا الابتعاد عن روح الاسلام ومعانيه ! هي نقطة الداء في حياتنا الاجتماعية والفكرية ، فالعلم شيء والثقافة شيء آخر ، وفي عدد قادم سوف أوافيك يا أختاه ، بشرح واسع للفرق بين المفهومين وموقف الاسلام من كل منهما إن شاء الله وإلى اللقاء .

السيرة الذاتية  || المؤلفات  || الصور  || ما كتب حولها