الشهيد الصدر الثاني و منهجه في
التعامل مع أقرانه من العلماء في الحوزة
لقد اشتهر أئمتنا(صلوات الله عليهم أجمعين) بكنى وألقاب وعُرِفَ كل إمام
منهم (ع) بصفةٍ معينةٍ كالسجاد لكثرة سجوده أو الباقر لبقره العلم بقراً أو
الصادق لصدق حديثه والكاظم لكظمه الغيظ وقد يتبادر إلى الذهن أن السجاد(ع)
أكثر من الباقر(ع)سجوداً أو الصادق(ع) أقل كظماً للغيظ من الكاظم(ع)ولكنني
أجيب بمستويين :
المستوى الأول / أن هذه الكنى والألقاب كان قد أطلقها رسول الله(ص) عليهم
قبل وجودهم في الدنيا واستلامهم زمام الإمامة وذلك بروايات أسانيدها معتبرة
ومن كلا الفريقين ففي مسند احمد بن حنبل ج5ص92 روى بسنده عن جابر بن سمره
قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (أو قال) قال رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) )) يكون من بعدي إثنا عشر خليفة كلهم من قريش ))
،الحديث .
(أقول) ورواه أبو نعيم أيضاً في حليته(ج4ص333) والمتقي أيضاً في كنز
العمال(ج6ص60) وقال: أخرجه الطبراني وأبو نعيم في المعرفة عن ابن عمرو(وفي
ص201)وقال :أخرجه الطبراني عن ابن مسعود(فضائل الخمسة من الصحاح
الستة/ج2ص32).
المستوى الثاني / إن الناس عرفت من خلال تماسّهُم بالأئمة والحوادث التي
يتصدون لعلاجها ومن خلال كل سيرتهم المباركة أن الأئمة المعصومين عليهم
السلام كانوا مصداقاً واقعياً لتلك الكنى والألقاب ، وبالتالي فإن اشتهار
أحد الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين بصفة من الصفات لا يعني أن لديه ضعف أو
تهافت في بقية الصفات التي اشتهر بها غيره من الأئمة، ولكن هذه الكنى
والألقاب وضعت للتمييز والتصنيف والتعيين ، ومن كل هذا أردت أن أُبيّن أن
الصفات التي اشتهر بها سماحة الفيض المقدس السيد الشهيد محمد محمد صادق
الصدر(قدس الله خَفِيُّه) كالمرجع الثائر والخطيب الجسور والقائد الميداني
الذي قاد الجماهير وتحدى أعتى طغاة العصر فقد غيبت هذه الصفات وغطت على
الصفات الأخرى التي إتسم بها الشهيد الصدر الثاني(قدس الله خَفِيُّه)
كمحقّق بارع وفقيه عظيم وأصولي عملاق وسياسي محنك وعارفٌ رباني وقائد حنون
على رعيته وصاحب قلب كبير ينبض بالحب والحنان والعطف والتسامح حتى مع من
خالفه أو تخلى عنه فقد توجَّه بدعوة الإصلاح لكافة شرائح المجتمع أرقاها
وأدناها إلى أن وصل بخطابه إلى الغجر ودعاهم إلى التوبة والصلاح ،
وسأعرض ومضات رائعة من دستوره المنير الذي ألقاه من على منبر الكوفة المعظم
لأداء شعيرة الجمعة المقدسة وسأقتبس ثلاث مستويات من الجمعة الثانية
والثلاثين من الخطبة الثانية بما يتناسب ومقام البحث إذ يعرض سلام الله
عليه في المستوى الأول رؤيته لمقام الحوزة العلمية المقدسة ووحدتها وأخوة
أعضائها والمشاركين فيها من العلماء ،
ويعرض في المستوى الثاني لوحدة المؤمنين في المذهب الواحد على مختلف
مستوياتهم وطبقاتهم الاجتماعية والعلمية،أما في المستوى الثالث فيتعرض
لأهمية الأخوة والوحدة في الإسلام عموماً على مختلف مذاهب المسلمين مهما
تعددت مشاربهم ومناهجهم الفكرية وبالتالي يتضح مدى الأفق الواسع لدى سماحة
السيد الشهيد الصدر الثاني رضوان الله تعالى عليه وبما يكشف عن العاطفة
الأبوية التي يحملها للأمة جمعاء مما أهله في أن يكون مصداقاً واقعياً
لمفهوم ولي أمر المسلمين جميعاً إذ يقول(قدس الله خَفِيُّه): (( إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا
اللَّهَ))(الحجرات: من الآية10)وقال تعالى((وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ))(التوبة/ من
الآية71)والإسلام هو دين الوحدة والأخوّة والتماسك والرحمة والإنسانية
واللطف والتعاطف على مختلف المستويات التي يمكن أن نعرض المهم منها فيما
يلي :
المستوى الأول / وحدة الحوزة العلمية،وأخوّة أعضائها والمشاركين فيها ،في
الهدف المشترك،وتجاه العدو المشترك،وفي الفكر المشترك،مهما تباعدت بعض
المصالح،والأهواء،والأساليب ،وهذا واقع لا مناص منه ومطبق فعلاً،فإننا
جميعاً في الحوزة ،يد واحدة،وروح واحدة،كلنا يعمل لمصلحة الدين،وكلنا
يقول،وكلنا يتصرف في حدود استطاعته وفهمه،باتجاه الهدف المشترك، وهو عز
الدين،وعز الإسلام،وارتفاع وعظمة كلمة التوحيد،في كل زمان ومكان،وتكثير
طاعات الله سبحانه وتعالى في البشرية،وتقليل معاصيه بين البشر، وكلنا يد
واحدة ضد من ناوانا،وعادانا لأن من عادى الحوزة فقد عادى الدين،ومن كاد
للحوزة فقد كاد للدين،ومن اعتدى على الحوزة فقد اعتدى على الدين،وليس على
هؤلاء الناس بأشخاصهم بطبيعة الحال،والحوزة واحدة في كل مكان وزمان،لأنها
تتوحد بوحدة العاطفة،والعلم،والعمل،والهدف،وكله واحد بحسب توفيق الله
تعالى،فليس هناك حوزات متباينة أو مختلفة فيما بينها في النجف،وفي قم،وفي
سوريا،وفي لبنان،وفي خراسان،وفي البحرين،وفي القطيف،وفي الأحساء وفي
باكستان،وفي الهند،وفي غيرها من بلاد الله،بل كلهم رجل واحد،وقلب واحد،ويدٍ
واحدة،وعلم واحد لمصلحة الدين،وشريعة سيد المرسلين،وضد للعدو المشترك
الموجود ضدنا في كل جيل وفي كل مكان وزمان .
المستوى الثاني/ وحدة المؤمنين في المذهب الواحد مهما تَكَثَّرْت أعمالهم
وطبقاتهم ومستوياتهم وعواطفهم فإنهم ما داموا يشعرون بأهمية الدين وأهمية
ولاية أمير المؤمنين(عليه أفضل الصلاة والسلام)وعصمة القادة الأئمة
المعصومين(سلام الله عليهم)فهذا يكفي تماماً لأن يكون الفرد مندفعاً نحو
طاعة الله متحمساً نحو الهدف المشترك،واقفاً ضد العدو المشترك،منجزاً
مصلحته العادلة الشخصية والاجتماعية،مبتعداً عن الذنوب والعيوب
والموبقات،ومن لم يكن كذلك فنتمنى أن يكون كذلك في أقرب وقت وبحسن توفيق
الله وتسديده .
المستوى الثالث / الأخوّة في الإسلام وهي الأهم والأتم لأنها تشكل حجر
الزاوية في المبعث النبوي الشريف لأن المبعث مبعث الإسلام،فالأخوّة في
الإسلام هي الرئيسية لأن القرآن واحد والنبي واحد والقبلة واحدة،والدين
واحد،والهدف واحد،وإن أغلب الاختلافات بين علماء الإسلام طبيعي وموجود بين
أي تفكيرين أو أي مفكرين وليس ذلك بعيب ولا يشكل نقصاً حقيقياً،ولا ينبغي
أن يكون سبباً للعداء والمكر والتضارب والتحارب والعياذ بالله وإنما الهدف
مشترك والعمل مشترك،والعدو مشترك،وخاصةً ونحن نعيش في أغلب العصور بل كلها
مسيس الحاجة إلى ذلك،لتكالب الأعداء ضد الإسلام ومكرهم من داخلهم ومن
خارجهم،وبيدهم السلاح والمال والتخطيط والإعداد الكامل ،في حين نجد
المسلمين والمخلصين عزلاً من كل ذلك،فهذا هو الامتحان الآلهي الأتم،والأكمل،((ليهلك
من هلك عن بينة ويحيى من حيا عن بينة))(الأنفال /42) ومثل هذا الظرف وهو
الظرف الدائم والمستمر ولربما لمئات السنين يعطينا وجوب الشعور بالوحدة
والتماسك والتضامن وقوة الإيمان،لكي نستطيع أن ندفع المؤامرات ونكفي أكثر
ما هو مستطاع من الشدائد والمظالم التي يريدها لنا العدو المشترك المتمثل
بالثالوث المشؤوم وهو الاستعمار الإسرائيلي الأمريكي البريطاني قبحهم
الله،والأمر هنا كما قال أحد أعضاء دار التقريب بين المذاهب الإسلامية كانت
موجودة إلى عهد قريب والآن لا أثر لهم انحلوا الذي كان مؤسسة مهمة في مصر
–القاهرة حيث قال ما مضمونه ((أنه ليس المراد في هذه المرحلة من العمل
والتفكير هو أن نجعل الشيعيين سنيين أو نجعل السنيين شيعيين،وإنما المهم هو
التمسك بالدين المشترك وهو الإسلام والقيام ضد العدو المشترك وهو الكفر
والإلحاد المتمثل بالاستعمار وأنصار الاستعمار))وبطبيعة الحال فإن مجرد
التفكير في هذه الوحدة قلبياً وعقلياً له مرحلة مهمة وجيدة ونافعة تكفي في
نتاجها عدم توجيه الحقد والعداء ضد بعضنا البعض والعياذ بالله من مختلف
مذاهب الإسلام وإنما اختصاص توجيه الحقد والعداء ضد من هو أهل لذلك،وهو
العدو المشترك المتمثل بالكفر والاستعمار،ويقول المثل أنا وابن عمي ضد
الغريب كما يقول المثل في عادات العشائر ربما تعرفونها أنه قد تكون قبيلتان
متعاديتين فيما بينهما ومتقاطعتين بشدة إلا أنهما حين يجابههم العدو
المشترك وتغير عليهما قبيلة ثالثة يكونان يداً واحدة وعملاً واحداً وقلباً
واحداً اتجاه هذا العدو المشترك،فإذا دفعوه واستراحوا عادوا إلى العداء من
جديد فيما بينهم ،
ومن الواضح أننا لم ندفع العدو المشترك إلى الآن بل لا زال في تزايد ومرارة
ولا أقل أن يَحَذَرَ كل واحدٍ منا مهما كان مذهبه ومهما كان عمله ومهما
كانت طبقته أن يحذر من أن يكون معيناً ضد نفسه وضد إسلامه بيد أو لسان مهما
كان قليلاً أو كثيراً،يُضاف إلى ذلك الالتفات إلى أن عمل بعض المذاهب ضد
بعضها كما يحدث الآن من الوهابيين مع شديد الأسف كما قد يفترض حدوثه من أي
جهة كانت يكون بكل تأكيد عملاً مبرمجاً وموجهاً في مصلحة الاستعمار ولا
يستفيد من ذلك،ولا يفرح به إلا العدو المشترك،وإسرائيل ،من حيث نعلم أو لا
نعلم،بينما لا يستاء العدو المشترك إلا من التحابب،والتعاون،والأُلفة بين
المؤمنين والمسلمين،ونحن مأمورون في القرآن الكريم أن نسئ إلى قلوبهم ،كما
قال تعالى في محكم كتابه الكريم(ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون
من عدوٍ نيلاً إلا كتب لهم به عملٌ صالح))(التوبة/120) إذن فالأخوّة مطلوبة
في الإسلام على كل حال،وهذا بطبيعة الحال،ليس من طرف واحد،بل من كل
الأطراف،وليس كلامي هذا استجداء للعاطفة،لأننا لا نخاف من غير الله سبحانه
وتعالى،وإنما هو لإقامة الحجة،والفات النظر لمن يريد أن يستجيب إلى داعي
الله،ونصوص الكتاب الكريم،والسنة الشريفة،ويكون ذلك في مصلحتهم أولاً،وفي
مصلحة الإسلام ثانياً،ودفعاً للعدو المشترك ثالثاً ، وهذا لا يعني من ناحية
أخرى عدم أهمية الحفاظ على المذهب،والعناية بمصالحه ، ومصالح طائفته،فإن
هذا ضروري أيضاً أمام الله سبحانه وتعالى،بأنه الحق الذي نؤمن به،لكن ينبغي
أن يكون عمل أي مذهب،أو قل عمل أي مسلم، بحيث لا يضر بالمذاهب الأخرى،-لا
أقل بهذا المقدار- تحصيلاً للوحدة الإسلامية،والتكاتف المحمدي،أو قل يجب أن
لا يعمل أي مسلم عملاً يفيد به الاستعمار، ويوجد به الفرقة،والازعاج في
المجتمع الإسلامي، ومن عمل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة،والناس
أجمعين،حتى لو كان هو السيد محمد الصدر نفسه.(دستور الصدر/جمعة 32ص365)،وفي
مقام آخر خاطب السيد الشهيد الصدر الثاني (سلام الله عليه)كافة المؤمنين
سواء في داخل الحوزة العلمية المقدسة من العلماء والفضلاء أو من خارجها من
عامة الناس وتحديداً وجّه خطابه إلى الذين لم يناصروه ولم يؤازروه في نهضته
الإسلامية العظيمة التي أحدثها في المجتمع بواسطة صلاة الجمعة المقدسة
وتعرض في هذا المقام وهي الجمعة السابعة والعشرين والتي كانت تمثل الذكرى
السنوية الأولى على إقامة صلاة الجمعة فقد خاطب فيها الأسرة العلمية لآل
الحكيم بعد انتهاء النزاع حول مدرسة الباكستاني التي حاول الشهيد الصدر
الثاني(قدس الله خَفِيُّه) استثمارها لطلبة العلم ولكن آل الحكيم استرجعوها
عن طريق الدولة والذي عبّر سماحته عنها في هذه الخطبةبـ(اُستُرجِعَتْ
الوديعة)ومع ذلك سترون نوع الخطاب الذي توجه به(قدس الله خَفِيُّه)الذي
امتاز بغاية الرِقة والتسامح والعاطفة الأخوية والرعاية الأبوية إذ قال
(قدس الله خَفِيُّه) ((أني أوجه كلامي إلى المؤمنين الذين إلى الآن لم
يناصروا السيد محمد الصدر،ولم يكونوا معه سواء في داخل الحوزة،أو في
خارجها،أهلاً بكم وسهلاً بين هذا الجمع الحافل بالتقوى،والشرف،والفضائل وأن
من أحسن الكلمات التي قالها الإسلام والقرآن، وكل كلماته حسنة((إنما
المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم))(الحجرات/10) ولا حاجة إلى
استمرارالتباعد،والتباغض،وتبادل،التهم،والاشكالات،بل تعالوا
نتفق،ونتصاحب،ونتصافى،ونتحابب في الله،وفي ولاية أمير المؤمنين،وفي
المذهب،وفي الدين،وبابي مفتوح،وقلبي مفتوح لكم جميعاً،مهما كنتم
الآن،وأينما كنتم،ولا أريد منكم شيئاً إلا الأخوّة في الله،وفي رسوله،وفي
ولاية أمير المؤمنين،وتبقى التفاصيل الأخرى ثانوية يمكن المناقشة فيها
بالتدريج، يكفي أن لا تكون اختلافاتنا وانشقاقاتنا فيها خدمة للعدو
المشترك،لإسرائيل،والاستعمار،ولكل من هو بعيد عن الله،وعن رسوله،فما دمنا
تجمعنا الروابط الحقيقية المقدسة،فلماذا لا نتحد،ولا نتآخى،ولا
نتقارب؟ولماذا ننصر عدو الله،وعدو رسوله،من حيث نعلم،أو لا نعلم ، فما دامت
هذه الحياة موجودة عندي،والنفس يصعد وينزل،فإني أرحب بكم بكل قلبي،وأعذركم
عن كل ما حصل منكم،وتعذروني إن كان حصل بعض الشيء مني ،أو ممن يرتبط بي،أو
ينتسب ألي، ونفتح تاريخاً جديداً،كما قال الشاعر،هذه الأبيات أحفظها من
زمان ، وهي لطيفة :
مِنَ اليومِ تعارَفنا
- وَنطوي ما جَرى مِنَّا
فلا كان ولا صار
- ولا قُلْتُم ولا قُلْنا
وما أحسنَ أنْ نَرْجِعَ
- للودَّ كما كُنَّا
-لاحظوا- أخصّ من هنا- وهذا منبر مقدس- وأخص من هنا بالذكر آل الحكيم قدس
الله أرواح الماضين منكم،وحفظ الباقين،تلك الأسرة الطيبة المتفقهة الشريفة،
فلماذا يكون-لو صح التعبير- بينها وبين آل الصدر أي خلاف؟ولماذا نزغ
الشيطان بيننا؟وخاصةً وأن الفرصة مواتية بعد أن زال سبب الخلاف واسترجعت
الوديعة،وبالتأكيد فإن دوام الخلاف واستمراره،لا يخدم إلا الاستعمار ولا
يضر إلا الحوزة والمذهب،وليكن زمام المبادرة بيدي،وإني قد أبرأت
ذمتي،وأرضيت ضميري،بهذا العرض الدال على حسن النية .(دستور الصدر/الجمعة 27
ص296 ).