التغييرات النفسية في سير أحداث العالم
 دراسة في علوم المستقبل
كتابات - زهير الاسدي
 السيكولوجيا

 
 ليس غريباً ولا إقحاماً أو اقتحاماً أن تستند الدراسات المستقبلية على العوامل النفسية كمقدمة ضرورية للتغييرات المحتملة , فالنفس –كما هو معلوم-محرك أساسي في عملية التفكير, وصنع القرار, وتحديد المصير, واستلهام الحدس الضروري في الكثير من الخطوات والسيناريوهات المستقبلية التي يرسمها الإنسان على مستوى الفرد والمؤسسة .
 
 وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقية في آيات منها:
 
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (53الأنفال)
 
(..إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (11الرعد)
 
مما لاشك فيه ولا نقاش أن الموت من محطات المستقبل المحتوم , بل هو من أهم المسائل الضرورية التي تسترعي اهتمام الناس وتثير فيهم مشاعر ومواقف متباينة تتعين على حسب تكوينهم النفسي و منظومتهم المعلوماتية التراكمية, ولا ترقى مسألة مهما كانت أهميتها إلى مستوى موت إنسان ( هو أو الآخر).
 
وإذا ما تناولنا مسألة الموت (المستقبل) بالبحث والتحليل نجد أن نظرة الناس إليه تنقسم إلى قسمين أثنين, أحدهما -وهم المؤمنون بالله واليوم الآخر- ليست لديهم أية عقدة أو خوف من الموت ويعتبروه من المحتوم الذي لا مفر منه وهم طوال عمرهم يعملون لأجل ميتة مشرفة والفوز بجنة عرضها السموات والأرض , وغالباً ما تجد المؤمن التقي يحب الموت ويعتبره السبيل الوحيد والأكيد للقاء الله الذي يعشقه والفوز بالسعادة الأبدية في جنة عرضها السموات والأرض , ولعل هذا العشق الكبير هو الذي يجعل المؤمن المجاهد يحب الموت شهيداً في سبيل المعشوق ( تعالى مجده) ويقوم بعلميات بطولية شجاعة لا يسلك الخوف أو الشك إليها من سبيل.
 
 والفئة الأخرى من الناس -وهم غير المؤمنين أو الغافلين- تجدهم يخافون من الموت ويصابون بالرهبة الشديدة منه ويكرهون حتى ذكر اسمه , ولكل من هاتين النظرتين المتقابلتين (للمستقبل المحتوم) أسبابها الموضوعية , سوف نتحدث عنها بما تستحق من اهتمام.
 
 أرى أن حب المؤمن للموت وكره الكافر له لم يأتِ من فراغ, بل هو شعور حقيقي متأتي من أعماق النفس التي تستشعر مصيرها في الآخرة من خلال الأعمال التي تقوم بها , حيث أن كل عمل يقوم به الإنسان سواء كان إيجابي أو سلبي إنما يرتبط به ارتباطاً سببياً تكويناً كما لو كان أبنه الذي يخرج من الصلب (أو الرحم), ويكون بمثابة مواد إنشائية لبناء المصير في الآخرة , فأما الأعمال الايجابية ( الخيرة) فإنها تجعل المؤمن يتحسس السعادة التي يتقدم نحوها يوماً من بعد يوم ولحظة من بعد لحظه, فتراه يحب الموت الذي يوصله إلى تلك السعادة الأبدية التي يستشعرها بحدسه الإيماني الذي ينمو ويتكامل كلما أنتج المزيد من الأعمال الخيرة وكلما اقترب من محطة الموت المحتوم عبر قطار الزمان.
 
أما الكافر -الغافل - فتجده يكره الموت ويتمنى أن لا يأتي أبدأ , لماذا ؟؟ لأنه في أعماق نفسه -ومن خلال الذنوب التي يرتكبها- يستشعر مصيره البائس والعذاب الأليم الأبدي الذي ينتظره عندما يصل قطار الزمان إلى تلك المحطة المحتومة (الموت) , فبالتأكيد يكره الموت ويخاف منه خوفاً شديداً, لأن النفس الإنسانية (التي هي نفحة من روح الله ) تدرك في أعماق فطرتها حقائق مؤكدة وتشعر بها وكأنها حقيقة شاخصة, بينما العقل الظاهر ( الواعي) إذا ما كان مستغرقاً بالماديات لا يعلم بها وقد يستلم تلك الحقائق والنداءات من أعماق نفسه على أنها مجرد مشاعر .
 
ولما كان لا شيء يولد من العدم, ولكل شيء سبباً, فإنني شخصياً لا افرق بين المشاعر النابعة من أعماق النفس والحقائق المؤكدة التي يدركها العقل الواعي , واعتبرها كلها حقائق بدرجات يقينية متفاوتة, ما كان منها ظاهراً يعتبره الناس حقائق ملموسة مؤكدة لأنها تتوافق مع عقولهم التي اعتادت معايشة الحياة المادية, وما كان باطناً يعتبره الناس مجرد مشاعر وأحاسيس , والحق أن كلاهما حقائق متفاوتة في درجة وضوحها, تتعين على حسب كفاءة المدرك( العقل).
 
 وعلى هذا فإن حب المؤمن لله وللموت الذي يوصله إليه وإلى السعادة الأبدية, ليست مجرد مشاعر بل حقائق مؤكدة يدركها العقل الباطن ويتعامل معها على أنها حقائق تمثل عنصر جذب للمحبوب وللسعادة التي يمنحها تعالى مجده. وكره الغافل للموت والخوف الشديد منه , ليس مجرد إحساس عابر , بل هو حقيقة مؤكدة يدركها العقل الباطن ويتعامل معها على هذا الأساس , فالإنسان لا يمكن أن يحب أو يكره أشياء لا وجود لها , بل ان وجود الأشياء وتأثير حضورها على الناس هو الذي يجعلهم ينجذبون إليها ويطلبونها أو ينفرون منها ويرفضونها, وهذا ما ينطبق على السعادة والشقاء , إن وجود السعادة ( الجنة) وما فيها من جاذبية مؤثرة ,هو الذي يجعل المؤمن يتحسسها من خلال الطاقة الإيجابية ( الأعمال الخيرة- الحسنات) التي ينتجها ويبثها في المحيط فتذهب إلى عالم الجنة وتجذبه معها إلى هناك من خلال العلاقة السببية الرابطة ما بين المصدر الفاعل ( الإنسان) والهدف الذي تستقر فيه الأعمال الحسنة ( الجنة), فالمؤمن لا يطلب الموت بل يطلب السعادة التي يصل إليها عبر بوابة الموت, والأعمال الخيرة (الحسنات) التي ينتجها خلال عمره إنما حلقة وصل وطاقة ايجابية خلاقة وعقل أضافي تجعله يتحسس الجنة وينجذب إليها من الأعماق .
 
 وأن وجود العذاب (الجحيم) وما فيه من قبح وتنفير هو الذي يجعل الغافل- المذنب- يهرب منه ويخافه ويشعر بالرهبة الشديدة منه ويتحسسه من خلال الطاقة السلبية ( الأعمال الشريرة) التي ينتجها ويبثها في المحيط , وسواء احب الموت أو هرب منه فإنه ملاقيه حتماً, فالغافل لا يخاف من الموت بل من العذاب الأبدي الذي يصل إليه عبر بوابة الموت ,ويستشعره من خلال الرابطة السببية ما بين أعماله الشريرة ( السيئات) والمصير الأبدي( الجحيم) الذي يتجه صوبه, وهذا هو الفارق الجوهري ما بين حب الموت أو الرهبة منه عند كل من المؤمن والغافل.
 
 أمام حقائق كهذه , فإن الخاسر الوحيد والأكيد في نهاية المطاف هو الغافل البعيد عن الله وعن السعادة الأبدية والرابح المؤكد هو المؤمن , بصرف النظر عمن يملك القدرات والأدوات, لأن النتيجة الحتمية لمستقبل كلاهما هو الموت , المؤمن في محطته المستقبلية الأخيرة ( الموت) يفوز ويكسب اللعبة إلى الأبد في سعادة أبدية تامة لا يسلك الشقاء إليها من سبيل , والكافر – الغافل- حينما يصل محطته الأخيرة( الموت) يخسر اللعبة ويدخل مرحلة العذاب الأبدي الذي ليس فيه ذرة راحة بعدما يترك كل مجده الزائف في دنيا فانية لا محال.
 
رؤى مستقبلية
بعد تلك المقدمة الضرورية التي أوضحتها بإيجاز , نأتِ الآن إلى التوقعات المستقبلية التي يمكن أن تحدث في القادم من الايام على ضوء حقيقة الموت الذي هو من محطات المستقبل وعنصر ضروري في تكامل النشأة.
 
 أرى أن أمريكا لما شنت الحرب على ما تسميه (الإرهاب) قد أعلنت عن أهم نقاط ضعفها , وهي :
 
1- انها خائفة , حيث اعتبرت ( الإرهاب) عدوها الرسمي المؤثر على أمنها القومي بدلاً عن دولة او أمة بعينها , وهذه نقطة ضعف سيكولوجية مهمة ربما يستثمرها أعداءها بذكاء للتفوق على أهم نقاط قوتها من خلال هذه الثغرة الكبيرة التي لا يمكن ردمها بجميع الوسائل الأرضية, فالإرهاب -وهو مفهوم ذو دلالات سيكولوجية محضة- لا يرتبط بدولة أو امة بعينها, بل بمسببات الخوف والرهبة , وبمجرد تحريك أمريكا لقدراتها العسكرية الضخمة باتجاه الحرب يعني أنها خائفة (مرعوبة) وإلا فلماذا تحارب وتدفع الثمن من اقتصادها ودماء أبناءها أليس هذا دليل على وجود الخوف ؟؟
 
2- ان شن الحرب عليها ( غزوها) في عقر دارها يعني خسائر كبيرة جداً من جانبها , مقابل خسائر لاتذكر في صفوف أعداءها المهاجمين , وهذا ما ظهر بوضوح في أحداث 11 أيلول (سبتمبر) , حيث خسائرها كانت كارثية مقابل عدد قليل جداً في صفوف أعداءها المهاجمين . وهذه نقطة تفوق هامة على أمريكا ربما يستثمرها أعداءها ضدها ويجعلون الحرب تدور في عقر دارها في الايام القادمة .
 
 3- إن أعداء أمريكا إذا ما حاربوها في عقر دارها لا يحتاجون إلى آلات عسكرية ضخمة ولا إلى مجموعات كبيرة من المهاجمين, بل إلى إفراد لا يهابون الموت وربما يحبونه في سبيل قضيتهم التي يؤمنون بها , وان أحداث سبتمبر قد أحدثت كارثة حقيقية كبرى دونما غرام واحد من المتفجرات, حيث استخدموا طائرات أمريكية في ضرب أهدافاً إستراتيجية وأمنية على أراضيها, وهذه المسألة ربما يستفيد منها أعداء أمريكا الذين يفتقدون للأسلحة والأدوات الضخمة والتنظيمات الكبيرة. بل إن فرداً واحداً في حالة غضب وثأر لكرامته المجروحة بمشرط السياسة الأمريكية المتغطرسة يستطيع ان يخطف طائرة ويعيد إلى شاشة الوجود ذلك المشهد المرعب الذي حدث في 11 أيلول ,وما أدرانا لعلنا مقبلون على مسلسل رعب طويل تعرضه لنا شاشة الوجود في دار اكبر قوة مستكبرة في الأرض .
 
3- إن أحداث 11 أيلول ( سبتمبر) قد أظهرت بوضوح أن جميع إمكانيات أمريكا التقنية وآلتها الحربية الضخمة وأجهزتها الأستخباراتية غير قادرة على صد أو منع هجوم من قبل أفراد يتفوقون على أمريكا في أنهم لا يهابون الموت بل ربما يرغبون به في سبيل إيذاءها في عقر دارها انتقاماً منها وثاراً لكرامتهم التي جرحتها أمريكا بسياستها المتغطرسة تجاه شعوبهم وأمتهم.
 
التغييرات المتوقعة
إن تلك السيناريوهات المتوقعة إذا ما حدثت في ضل الأوضاع الراهنة, فإن تغييرات كبيرة غير متوقعة سوف تحدث في أمريكا وفي العالم منها :
 
1- إن الشعب الأمريكي الذي لم يعانِ من حصار وحرب حقيقية على أراضية او نقص في الخدمات , قد أدمن على حب الدنيا وحياة النعومة والترف من خلال الجرعات المنتظمة التي تعاطاها طوال السنوات السابقة,و بهذا فهو غير قادر على تحمل أي مشقة أو صعاب يمكن ان تحدث له في كارثة مفاجأة دونما سابق إنذار, على العكس من الشعوب التي فطمت من تلك الحالات بعلقم المصاعب وتدربت على تحمل الصعاب عنوة من خلال الحصار والحروب والكوارث والمعانات ونقص في الخدمات ونحو ذلك, وإذا ما حدثت في أمريكا أحداثاً مفاجأة كتلك التي حدثت في 11 أيلول ( سبتمبر) , فإن تغييرات سيكولوجية كبيرة سوف تحدث في المجتمع الأمريكي, أهما :أن تلك الصدمة – وكما هو معلوم في علم النفس- سوف تحدث صحوة حقيقية من الاستغراق في سكر الدنيا وتوافه الأمور وتجعل الناس يفكرون بالأمور الجادة ويعطونها الأولوية من مساحة تفكيرهم , ولا توجد مسألة أهم من الحياة والموت وتتصاغر جميع المسائل الأخرى أمام هاتين المسالتين ( الحياة والموت).
 
2- أنا كمسلم احترم إنسانية الآخرين وعقولهم التي هي صناعة إلهية محضة , أراهن على أن كل إنسان بمجرد ان يصحو من سكرة الاستغراق في توافه الأمور ويصبح عقله مشغولاً بالأمور الجادة في الحياة ويعطيها الاهتمام الذي تستحق, يكون على درجة كبيرة من العدالة ولا يمكن أن يمارس الظلم على الآخرين او حتى يرضى عنه, على العكس من الإنسان التافه المستغرق بالنزوات وتوافه الأمور, إن لم يمارس الظلم في سبيل إشباع نزواته ربما يسكت على الظلم الموجه ضده أو ضد الآخرين , وهذا شأن التافهين في كل زمان ومكان.
 
3- ولما كان الرأي العام الأمريكي دور كبير في التأثير على صناعة القرار هناك , فإن التفكير الجاد في العقلية العامة للامركيين يساهم كثيراً في تغيير السياسة الخارجية لأمريكا تجاه الشعوب المظلومة من خلال الضغط المستمر على صناع القرار هناك , حيث التفكير الجاد يجعلهم في مستوى راق من الإنسانية يتجاوزون رغباتهم الذاتية المترفة التي لا تساوي شيئاً أمام فداحة الموت وإزهاق أرواح الأبرياء ونقص الخدمات الضرورية سواء كان عندهم أو عند الآخرين , ويكونوا بنفس مستوى تفكير الشعوب المقهورة المظلومة بغطرسة السياسية الأمريكية التي تحاصر وتشن حروب على شعوب بأكملها دونما مسوغ شرعي أو قانوني .
 
4- إن التفكير الجاد بعيدا عن توافه الأمور تجعل الناس سواء كانوا أمريكيين أو غيرهم في مستوى قريب جداً من العدالة , حيث العدالة مع العقل والعقل مع العدالة, وكلما عمل عقل الإنسان بموضوعية أكبر وبعيدا عن الأنانية والذاتية وتوافه الأمور كلما كان اكثر عدلاً في التعامل مع الآخرين .
 
 5- كلنا نعلم أنه لا تستطيع أي جهة في العالم أن تضمن سكوت مجموعة بشرية مظلومة مجروحة الكرامة مسلوبة السيادة في بلدها وتعاني من احتلال جهات أجنبية دونما مسوغ شرعي أو قانوني, وقد تسببت في الكثير من المصاعب التي تعانيها هي وشعبها, على تلك الاهانات الواقعة ضدها وضد قومها, وأن الإنسان المظلوم المجروح الكرامة قد يصل إلى مستوى يفضل الموت ألف مرة على الاستمرار في حياة بائسة كهذه , وقد يلجأ على الانتقام إذا ما وجد ان لا جدوى من الظالم في كف ظلمه عنه بالطرق العادية .
 
6- إن كوارث حقيقية كأحداث سبتمبر إذا ما حدثت في أمريكا مرة أخرى , فإنها سوف تظهر بوضوح فشل الحروب الأستباقية على الآخرين ( فالحرب الأستباقية تعني بوضوح ظلم يمارس ضد ملايين الناس دونما مبرر), ربما تكون تلك الحرب هي السبب في استجلاب نقمة وانتقام المظلومين والمتضررين من تلك السياسة الظالمة .
 
 وما أدرانا لعل الكثير من الأمريكيين أصحاب الضمائر الحية والفطرة السليمة يسألون أنفسهم وسياسييهم السؤال التالي :
 
 انتم أيها الأمريكيون: هل تقبلون باحتلال دولة أجنبية لكم , تهين كرامتكم الوطنية وتتحكم بمصيركم وتتسبب في قتل الكثير من ابناء شعبكم وتجلب لكم الإرهاب والسيارات المفخخة, وتتسبب في الفقر والبطالة ونقص الخدمات الضرورية ؟؟ إذا كنتم لا ترضون بهذا وتعتبرونه ظلماً , فلماذا إذاً تقبلونه على الآخرين باسمكم وأنتم في بلد ديمقراطي ليبرالي – كما تدعون-تستطيعون التعبير عن رفضكم للظلم دونما ملاحقات أو ضغوط ؟؟ أم ان السكوت علامة الرضا ؟؟
 
إن قتل إنسان مظلوم بريء متساوي في درجة الإجرام بصرف النظر عن دينه أو جنسه أو عرقه أو جنسية البلد الذي يحملها , فكما التفجيرات التي تحدث في أمريكا وبريطانيا وفي غير بلد تعتبر اعمالاً إرهابية , كذلك احتلال العراق وفلسطين وأفغانستان , وحصار العراق من قبل , كلها في خانة واحدة والفرق بينهما أن هذه جرائم إرهابية رسمية وتلك فردية ( قطاع خاص) .
 
ومن حق الإنسان العادل ذو الفطرة السليمة المتجرد من أي نظرة عنصرية مسبقة , ان يتساءل , لماذا هذه الضجة الإعلامية الكبيرة التي حدثت في العالم ازاء أحداث لندن وسبتمبر من قبل , دون أن يقابلها نفس الضجة لمقتل الابرياء في بلدان اخرى مثل العراق وفلسطين وأفغانستان وتركيا وغيرها ؟؟
 
التغييرات السيكولوجية المتوقعة وتأثيرها على سير الأحداث
كلنا نعلم أن الإنسان منذ لحظة ميلاده وحتى موته في تغير مستمر على مستوى المادي والمعنوي , ويظهر ذلك بوضوح من خلال النمو والتكامل الحاصلان لجسده وعقله خلال مراحل العمر , ولما كانت المجتمعات والأمم عبارة عن وحدات إنسانية متكررة , فإن التغيير الحاصل في النفس الإنسانية مقدمة ضرورية لتغيير المجتمعات والأمم وبالتالي تغيير مسار التاريخ نحو منعطفات واتجاهات غير متوقعة , على اعتبار الإنسان صانع التاريخ ومستهلكه في آن, وأن النفس الإنسانية هي المحرك والقائد للكائن الآدمي .
 
 ومن المؤكد أيضاً أن التغييرات النفسية والعقلية إنما تحدث نتيجة معلومات متأتية من الواقع المحيط تغذي الشخصية عقلياً ونفسياً كما تغذي المواد الغذائية جسد الإنسان وتجعله ينمو ويتكامل في مراحل العمر التي يقطعها ما بين الولاة والموت , ولعل الخوف من الموت (الرهبة) من أكبر وأعظم المؤثرات النفسية التي تترك أثرها الفعال في النفس الإنسانية وتجعلها تنضبط في مواقف ومناسبات ليس لمؤثرات اخرى عليها من سلطان غيره , فالخوف من الله والعقاب الأبدي في جهنم وبئس المصير الملازم لمفهوم الموت يؤثر بدرجة كبيرة في الكثير من الناس ويجعلهم ينضبطون في سلوكهم الحياتي مع الآخرين والمجتمع, ويراجعون حساباتهم باستمرار ويحرصون على تحسين سلوكهم نحو الأحسن والأفضل استعدادا للموت المحتوم ذات يوم لأجل الفوز بالسعادة الأبدية وتجنب العذاب.
 
 وهذا ما حدث فعلاً بعد إحداث سبتمبر مباشرة , حيث أظهرت الدراسات النفسية التي أجرتها بعض المؤسسات هناك, أن الكثير من الشعب الأمريكي أصبحت لهم ميول دينية , ونسبة كبيرة منهم بدأ يبحث عن عقائد الإسلام من باب الفضول العلمي والتعرف عليه وأن نسبة كبيرة منهم قد اعتنق الإسلام عن قناعة منهم أكاديميون وأصحاب خبرات علمية .
 
 وليست هذه حالة غريبة , فقد اثبت الواقع المعاش في العراق مثلا ً, ان غالبية الشعب العراقي من بعد معانات الحصار والحروب التي خاضها العراق قد توجهوا إلى التدين بقوة واتخذوه منهجاً لهم في الحياة , وأن الكثير منهم قد انصلحوا بسبب التدين وانضبط سلوكهم تجاه الآخرين , ولعل هذه الحالة تتعمم على الكثير من الشعوب في الأرض في ضل ظروف متشابهة تجعلهم يتركون توافه الأمور ويتوجهون لما هو أهم وضروري , والقاعدة العقلية التي تقول : إن حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد , يمكن أن تحكم هذه التغييرات المتوقعة في ظل ظروف متشابهة.
 
 فمثلا أن حقيقة الماء متشابهة في جميع كميات الماء في العالم, وإذا ما علمنا أن مكونات الماء الاساسية في جزيئة واحدة منه هي ( H2O) فإننا ندرك على الفور أن جميع جزئيات الماء في العالم عبارة عن( H2O) ولا نحتاج أن نجري اختباراً لجميع جزئيات الماء في العالم لنتأكد من هذه الحقيقة الواضحة.
 
 وإذا ما أجرينا تجربة على قدح من الماء ونجد انه يغلي بدرجة 100 مئوية , وينجمد بدرجة الصفر المئوي, فإننا لا نحتاج إلى أن نعيد نفس التجربة على جميع كميات الماء في العالم لنتأكد من التغييرات التي تحصل للماء في ظل الظروف المتشابهة , بل هي ذاتها في ذات الظروف .
 
 كذلك النفس الإنسانية من حيث التكوين كما قطرة الماء الواحدة ومجموعها يؤلف المجتمع والأمة, تجري عليها نفس التغييرات في ضل الظروف المتشابهة , انها تستجيب بدرجة كبيرة ومؤكدة وتتوجه إلى التدين والقيم والمبادئ العالية في ظل الظروف الصعبة ومواجهة الموت والكوارث , وتفسق وتنحرف في ضل الترف واللهو والميوعة ونحو ذلك .
 
وعلى هذا فإن ما نراه مصيبة وكارثة في مكان ما قد يكون فيه رحمة وصحوة وإصلاح دون أن ندري , وما نراه من رفاهية وامن ورغد العيش في مكان آخر قد يكون نقمة واستدراج من حيث لا يشعرون , ولعل العقل الذي تجرد عن الهوى والرغبات غير الموضوعية وأصبح بمستوى التفكر الجاد وتحمل المسؤولية يدرك تلك الحقائق بوضوح اكبر من غيره . وأن أي باحث في علوم المستقبل من هذه المعطيات السيكولوجية المؤثرة , يستطيع أن يبني تصوراته على اسسس علمية رصينة تقترب إلى درجة اليقين في ضل تشابه الظروف ووحدة الموضوع الذي يدرسه .
 
 وبكلمة واحدة أقول: إن العالم مقبل على تغييرات كبيرة مقدماتها الضرورية تظهر من خلال الأحداث التي توقعناها , والذي يتحكم في سرعتها واتجاهها وتعيين الأهداف هو الله تعالى مجده وقد ذكر ذلك في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه( ومن اصدق من الله حديثا) .

الرئيسية  | مركز الصدرين للفكر الإستراتيجي |  العودة للصفحة السابقة