مستقبل الهوية ومصيرها
بحث في النفس الإنسانية في ضوء القرآن والعلوم الحديثة والرياضيات
الحلقة الثانية
كتابات - زهير الأسدي
 

كيف تنمو وتتكامل النفس الإنسانية
اعتقد أنني في الحلقة السابقة ومن خلال المقدمة العلمية قد أوضحت كل ما يتعلق بالبنية التحية التي تقوم عليها النفس الإنسانية ( موضوع بحثنا) و أشرت إلى بعض البنى الفوقية التي تقوم عليها وفي هذه الحلقة أكمل مع البعض الآخر من تلك البنى التي تتراكم عليها طبقة من بعد طبقة خلال مراحل النمو والتكامل التي يقطعها الإنسان منذ ولادة وحتى موته المحتوم ذات يوم .
فكما أشرنا مرات إن نفس الإنسان روح من الله ( نفخت فيه من روحي ) هي في الأصل سليمة ومتوازنة , كما جميع عناصر الكون متوازنة بدقة عجيبة (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) ( الرحمن7) فالله العدل الحق قد وضع الميزان في النفس الإنسانية عند نفخ الروح , وفي جميع الموجودات التي يخلقها من الذرة إلى المجرة وما كان أصغر من ذلك أو اكبر .
فكما ذرات العناصر متوازنة بالفطرة حيث كمية القيمة الموجبة (بروتونات) تساوي بالتمام كمية القيمة السالبة ( الإلكترونات) وأن أي زيادة أو نقصان في أحدى القيمتين يؤدي إلى شذوذ الذرة عن فطرتها الأصيلة وتحركها ( انجذابها) نحو عناصر اخرى قد تفقدها هويتها الأصيلة وتصبح جزء من تلك العناصر بعد فقدانها لهويتها الأصيلة, كذلك النفس الإنسانية متوازنة بالفطرة , حيث قيمة الخير ( الموجب) مساوية بالتمام لقيمة الشر (السالب) والدليل على ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى :
 (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (10 الشمس)
 أي أن الله قد أودع في النفس الإنسانية بالفطرة كميات متساوية من السالب والموجب ( كما ذرات العناصر) حيث الفجور قيمة سالبة ( شر) والتقوى قيمة موجبة ( خير).
 إن هذا التوازن يجعل الإنسان في بداية خلقه لا في عالم الجنة ( الموجب) ولا في عالم النار (السالب) ولكن خلال حياته ومراحل النمو والتكامل المتجهة نحو الله يميل بالتأكيد إلى احد الاتجاهين وتكون أعماله ضمن ذلك الاتجاه الذي يسير فيه, إما اتجاه (موجب) نحو عالم الجنة بالإيمان والتقوى والخير والمحبة والأعمال الصالحة ..الخ , وإما اتجاه سالب نحو عالم الجحيم بالكفر والنفاق والفجور والحقد والأعمال الطالحة ..الخ . أنظر الرسم الذي يشير إلى الأصل الوجودي المتوازن ,
ولأجل بيان حقيقة اتجاه حركة النفس خلال مراحل النمو والتكامل ضمن معيار موضوعي خالي من الهوى والعاطفة نستعين بالرياضيات ونضع النفس في منتصف المحور السيني والصادي المبين بالرسم ونرصد حركتها بأي اتجاه تسير وإلى أين .
ولأجل ذلك أقول: لما كان الله أول وآخر , وظاهر وباطن , فإن النفس الإنسانية تبدأ من الله في مقام الأول , وتتحرك نحوه في مقام الآخر , وتبدأ من الله في مقام الباطن وتتحرك نحوه في مقام الظاهر , وهذه حقيقة عامة لا ينكرها مؤمن, تؤكدها كل الموجودات من حولنا حيث تبدأ من ابسط وحداتها ( بذرة ـ نطفة- بويضة-) ثم تنمو وتتكامل ونحو مزيد من الظهور مما يعني أنها تبدأ من الله في مقام الأول – الباطن- وتتحرك نحو الله في مقام الآخر –الظاهر.
وكما جسد الإنسان يبدأ من النطفة الصغيرة , ثم ينمو ويتكامل شيئا فشيئاً عن طريق الطاقة والمواد الغذائية التي تأتيه من المحيط , كذلك نفس الإنسان تبدأ من ابسط وحدتها ثم تنمو وتتكامل من طاقة المعلومات التي تستحصلها من المحيط , فهي في بداية خلقها لا تفهم شيئاً وليس فيها من المعلومات إلا الحركة الأولى ( حيمن يتحرك نحو بويضة) وهذه الحركة إنما معلومة عقلية , تحرك الكيان الذي تلبست به (الحيمن) نحو الهدف ( البويضة) وخلال مراحل النمو والتكامل يتكوّن الجنين ويصير يستلم المعلومات من الأم عن طريق العلاقة الروحية ( بالإيحاء- التخاطر) ما بين روح الجنين ورح إلام التي تحتضنه وتحيط به من جميع الجهات , ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس) .
وحينما يولد الطفل ليس في عقله من المعلومات إلا كيف يلتقم ثدي إلام الذي يدر عليه الحليب , ثم شيئاً فشيئاً وبالإيحاء تدخل إلى عقله المعلومات بصورة مستمرة, فيتعلم الكثير من الأمور والمعلومات خلال مراحل تكوينه ضمن النمو والتكامل , أما المعلومة الإيجابية , فتكون قيمة مضافة في المحور الموجب ( انظر الرسم) وأما المعلومة السالبة , فتكون قيمة مضافة في المحور السالب , و هكذا تتراكم في نفس ( عقل)الإنسان كميات الموجب أو السالب من المعلومات التي تدخل النفس وتكون جزء منه لتؤثر فيما بعد على الاتجاه الذي يتحرك فيه الإنسان .
 فعلى حسب تلك المعلومات نوعاً وكماً يكون اتجاه الإنسان بل حقيقة الإنسان, مؤمن أو كافر , خيّر أو شرير , محب أو حاقد , مصلح أو مفسد , سالب أو موجب , وهكذا حتى نهاية حياته , وفي الآخرة يجد أنه قد خلق لنفسه خلال مراحل النمو والتكامل عالمه الذي سيكون فيه إلى الأبد , فالذي عمل بالموجب والخير والمحبة والإصلاح , يجد كل ما علمه وخلقه ( انتجه) خلال حياته الأولى أمامه , وكذلك حال الذي عمل بالسالب ,الشر, الحقد , الفساد , يجد ما عمله وأنتجه خلال حياته الأولى أمامه.
 فالسبب الذي يجعل هذا الإنسان يتجه في أعماله نحو العالم الموجب ( الجنة) وذاك نحو عالم السالب (الجحيم) هو قوة المعلومات المتراكمة في عقل الإنسان خلال مراحل النمو والتكامل .
ولما كان الإنسان لا يعلم شيئاً في بداية تكوينه وتظهر هويته الوجودية خلال مراحل النمو والتكامل فيكون عالماً وعبقرياً وفيلسوفاً ومصلحاً ..الخ , فإنه كما يتحوّل الطين إلى كيان مادي للإنسان خلال مراحل الخلق ( طين – نبات ـ حيوان – نطفةـ إنسان ) كذلك المعلومات تتحول إلى كيان معنوي للإنسان (عقل) ولما كان العقل هو القائد والمحرك للكائن الآدمي وبه يتعيّن مصيره ومرتبته , فإنه يجب على الإنسان أن يحرص حرصاً شديداً على الجرعات المعلوماتية التي تشكل عقله وبالتالي مصيره ومرتبته . وأن يجد ويثابر في استحصال جرعات معلوماتية على قدر كبير من الإيجابية , وأفضلها التي تأتي من الله و رسوله والقرآن والشريعة , وأن يتجنب المعلومات السالبة التي فيها الفساد والمصير البائس وها هنا يدخل عنصر الإرادة وهي أهم من المعلومات .
فالبعض من الناس يعلم بمضار الكثير من الأمور والسلوكيات ولكنه يمارسها , فمثلاً قد تجد طبيباً على قدر كبير من العلمية ويعرف اكثر من غيره مضار التدخين على الصحة الجسدية والنفسية , ولكنه يدخّن , إن طبيب كهذا لم ينفعه علمه وأصبح علمه ( عقله) أسيراً لرغبات النفس الإمارة بالسوء , في هذه الحالة يحتاج إلى إرادة قوية لكي يسيطر على رغباته غير الموضوعية والضارة بكيانه , لكي ينقذ كيانه من الأضرار .
إن ما يجري على سلوك التدخين يجري على الكثير من السلوكيات التي يمارسها البعض من الناس خلال حياتهم اليومية , فقد تجد شخصاّ يعلم بالحرام والحلال ومتفقه بالدين اكثر من غيره , ولكنه يمارس الذنوب والمخالفات الشرعية , إنه يملك الكثير من المعلومات عن الحلال والحرام و لكنه لا يملك إرادة قوية تسيطر على رغباته التي تدفع به نحو تلك الممارسات الخاطئة الآثمة .
 ولو تسأل كل من الطبيب المدخن وذلك المتفقه في الدين عن السبب في ممارسة تلك الأخطاء التي لا تليق بهم فسوف تسمع حجج ومبررات واهية , هي من اختلاق النفس الأمارة بالسوء التي تغذت بمعلومات وممارسات خاطئة حتى أصبحت من القوة بحيث سيطرت على العقل الممتلئ بالمعلومات القيمة وأصبح أسيرا لها , وكما يقول الإمام علي عليه السلام ( كم من عقل أسير عند هوى أمير) نهج البلاغة.
 ولو بحثنا عن حقيقة الرغبات سوف نجدها هي الأخرى عبارة عن معلومات قد دخلت العقل من المحيط . فالممارسة السلوكية الخاطئة سواء كانت تدخين سيجارة او غيبة أو نميمة أو حسد أو شتيمة أو انتقاص أو غير ذلك , إنما معلومات تدخل العقل بالتجربة الحسية لتك الممارسات وبالتكرار تصبح عادة قد تدمن عليها النفس , فالسيجارة الأولى أو الممارسة الخاطئة الأولى ليس لها من القوة بحيث تسيطر على العقل و قد يرفضها العقل وينفر منها في بادئ الأمر, ولكن بالتكرار تصبح عادة و تزداد قوتها بالممارسة . وفي حالة كهذه فإن العلاج الوحيد والأكيد هو تنمية الإرادة بالصبر وتغذيتها باستمرار بالمعلومات وأعمال الصبر لتصبح الحارس الأمين للعقل الذي يجعله حراً طليقا بلا تأثير من رغبة أو جهة اخرى .
كما في النفس السالبة الإمارة بالسوء , كذلك في النفس الموجبة الأمارة بالخير والإيمان والتقوى , حينما تعتاد النفس على الممارسة السلوكية الموجبة العبادة مثلاً وفعل الخيرات والأعمال الصالحة وتتذوق حلاوتها فإنها تدمن عليها وتصير باستمرار تطلب جرعاتها  اللذيذة المتأتية من تلك الممارسات الإيجابية , وتنقل لنا الروايات الكثيرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول:( أرحنا يا بلال ..), مما يعني أنه كان ينتظر بشوق الصلاة ولقاء الله.. فالراحة والسعادة النفسية تبدأ مع آذان بلال الذي يؤذن بلقاء الحبيب الذي هو مصدر الخير والجمال والسعادة والاطمئنان .
كيف تؤثر الأفكار على سلوك الإنسان وبالتالي مصيره
في الحلقة السابقة أوضحت بالبراهين العلمية أن الأفكار التي ينتجها ( يخلقها) الإنسان تكون كما الأبناء الذين يخرجون من صلبه , يرتبطون به ارتباطاً سببياً تكوينياً لا فكاك منه (إلا بطرق سوف أذكرها لا حقا) وهنا أبيّن تأثير هؤلاء الأبناء وبنات الأفكار على الإنسان الذي ينجبهم .
أقول إن ولادة الفكرة , أو استحصال معلومة من الخارج تدخل العقل لتكون جزء منه, تحتاج إلى زوجين أثنين من العناصر ( سالب وموجب) كما الذكر والأنثى في إنجاب الأطفال , و كما أن وجود قطب واحد لا يمكن ان يكون سبباً كافياً لإنجاب الأطفال , كذلك الحال فيما يخص الأفكار (السلوك) لا يمكن أن تولد الفكرة ( أو السلوك) من قطب واحد بل لا بد ومن توفر قطبين اثنين هما : (أنت والآخر) أما أنت فمعلوم لك من أنت , أما الآخر فهو كل شيء في الخارج ما سواك . فأنت أينما وجهت فكرك ونحو أي شيء في الخارج سوف تنجب ابناء وبنات أفكار او تتخذ مواقف أو تتصرف بسلوك ما أو تنفعل او تتعاطف أو تقبل أو ترفض ..الخ. وهذه كلها مواليد جديدة تندفع إلى الوجود تكون أنت اباً أو أماً لها والآخر شريك لك في عملية الإنتاج ( الخلق) التي مارستها , وإذا كنت وحيداً بلا أي علاقة مع الخارج ( شريك) فأنك بالتأكيد سوف تكون عقيماً ولا تستطيع أن تنجب ولا فكرة , والآخر أيضا إذا ما كان معزولاً عنك فإنه يكون عقيماً ولا ينجب أو ينتج أي فكرة تتعلق به ما لم يتفاعل مع القطب المقابل له ( انت) , وقد أثبتت التجارب العلمية الحديثة على أشخاص قد عزلوا منذ ولادتهم عن ذويهم وعن المجتمع أنهم لم يتعلموا حتى الكلام ولا توجد لديهم أي معلومة على المستوى البشري , على الرغم من سلامة السمع والنطق عندهم , والسبب في ذلك أنهم كانوا معزولين عن المحيط ( الآخر) الذي من خلال العلاقة معه ينتجون الأفكار التي تكون ضمن كيانهم المعنوي ( العقل).
 وهناك الكثير من الأفكار والمواقف والإشارات موجودة في الخارج ,تبقى كامنة وبلا أنجاب ما لم تشاركها أنت في عملية الإنجاب ( الإنتاج) وعلى حسب العلاقة معها يكون ابناء وبنات أفكارك إما شرعيين أو أولاد زنا , إذ ليست كل معلومة أو فكرة أو موقف في الخارج المحيط بك تستطيع ان تتزاوج معها لتنجب قبيلة أفكارك ومواقفك وأعمالك منها , فهناك أفكار ومواقف وأعمال ومعلومات محرّم عليك أن تقربها , ومهما حاولت هي أن تراودك عن نفسها وتغلق الأبواب وتقدم لك الأغراء وتقول ( هيت لك ) يجب عليك أن تمتنع وترفض ممارسة الحب معها وتتخذ نفس الموقف الذي اتخذه يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة السلام مع إمرأة العزيز حينما راودته عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك ( .. قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) (23 يوسف)
هذه هي الحقيقة في الواقع هناك أفكار ومواقف وسلوكيات حلال عليك التزاوج معها بل واجب عليك التزاوج معها في سبيل أنجاب المزيد من الأفكار والمواقف والأعمال الايجابية التي تملأ المحيط بالخير والمحبة والإيمان والسلام ونحو ذلك , فتكون قد عمرّت الأرض وأصلحت فيها , وستجد جميع ابناء وبنات أفكارك وزوجاتك اللاتي أنجبت منهن قبائل الأفكار والقيم الايجابية في جنة عرضها السموات والأرض . واعلم انه كلما أكثرت من أولاد وبنات أفكار وقيم شرعيين ايجابيين , كلما ساعدوك وأعانوك في مواقف كثيرة دونما أن تشعر بهم ,لأنهم ببساطة مرتبطون بك سببياً وتكوينياً و يحيطون بك من جميع الجهات دون أن تراهم ( إلا إذا كنت صاحب بصيرة نيرة), فأنت السبب الشرعي في خلقهم و الدفع بهم إلى الوجود , فكما تحبهم يحبونك وكما تدافع عنهم يدافعون عنك وهكذا.
 أما في مسألة أولاد وبنات الأفكار والقيم والمواقف والعلاقات غير الشرعية فينقلب الحال إلى الضد, حيث أن ابن الزنا –كما هو معلوم - أول ما يكره أبوه وأمه , ويتمنى لو ينتقم منهم لأنهم هم السبب في خلقه والدفع به إلى الوجود ليواجه تلك التعاسة والمجتمع الذي يحتقره دون ذنب اقترفه , كذلك حال المواليد غير الشرعيين من العلاقة المحرمة مع القيم والأفكار والأعمال التي يحرم الله ان يقربها الإنسان ويعاقب عليها .
 فالعاقل هو الذي يحرص على ان يبني علاقات شرعية وأخلاقية مع كل ما هو خير وإيجابي وإيماني في المحيط ويتزاوج مع ما يشاء من الأفكار والقيم الإيمانية الايجابية التي يحللها الله والتي يأمر بها الشرع المقدس وينجب من قبائل القيم والأفكار والمواقف والأعمال ما استطاع إلى ذلك سبيلاً , وستكون له عونا وجنوداً في حياته الدنيا , وفي الآخرة تتحول إلى مواد إنشائية لبناء جنته التي يخلد فيها ( تفكر ساعة خير من عبادة سنة )
والعاقل يتخذ من يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة و السلام قدوة له حينما تراوده الأفكار والمواقف والسلوكيات الغواني ويمنع نفسه من التزاوج معهن ويتجنب إنجاب أولاد وبنات زنى لأنه يعلم أنه سوف يعلنوه ويسببون له المتاعب والتعاسة والكآبة وضيق العيش ونحو ذلك ويدفعون به دفعاً نحو الجهة ( السالبة) التي ينتمون إليها, لأنهم يرتبطون سببياً مع الجهة التي أنجبنهم ودفعت بهم إلى الوجود .
 وأعلم أن السبيل الوحيد والأكيد للتخلص من تلك السيئات هو الاستغفار وإنجاب قبيلة كبيرة من الحسنات يدافعون عنك ويطردون تلك السيئات إلى غير رجعة والدليل على هذا من القرآن الكريم قوله تعالى مجده (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) (114هود) فكن من الذاكرين وأجعل حسناتك يذهبن بالسيئات لكي لا تصاب بالكآبة والحزن وعدم الارتياح , فالجنة بما فيها من سعادة ولذة وبهجة تحيط بك من جميع الجهات وأنت بإعمالك الحسنة تزيد من مفرداتها وبناءها يوما من بعد يوم بإعمالك ومواقفك وأفكارك الإيمانية الخيرة , وهذه حقيقة يراها أصحاب البصيرة المتنورة بنور الله ويعيشونها في حياتهم قبل آخرتهم .
تأثير الأفكار على سلوك الإنسان
 
يمكنني بيان تأثير الأفكار على الإنسان بالصورة الظريفة التالية :
 في احد الأيام وأنا اقلب التلفاز لفت انتباهي مشهد من أفلام كارتون ( توم آند جيري) وظهر في المشهد ما أراه رسوماً توضيحية للفكرة التي أريد توصيلها ببساطة ووضوح , القط توم وجد بيضة لا يدري ما بداخلها تباناها واحتضنها , فخرج كتكوت فرخ البط , وبمجرد أن خرج من البيضة اعتقد ان القط هو أمه , فاخذ يتبعه أينما ذهب - كعادة فرخ البط في إتباع أمه- ولا يفارقه أبداً , وقد تضايق وانزعج كثيرا القط من تلك الملاحقات واسودت عيشته , ومهما حاول أن يتخلص من فرخ البط ويقنعه بأنه ليس أمه فانه لا يفلح , وحتى الفأر جيري حاول كثيراً ان يفهم فرخ البط من خلال الكتب والصور التوضيحية بأنه فرخ بط وأمه من هذا النوع الموجود في الصورة لكن فرخ البط لم يقتنع وأصر على أن القط توم هو أمه التي انجبته , واخيراً وبعد أن فشلت جميع المحاولات بإقناع فرخ البط بالحقيقة , أخذ القط توم يقلد البطة الأم في الصورة والصوت - في سبيل إرضاء البطة الصغيرة والتخلص من ازعاجاتها -ويسبح في الماء كما البطة الكبيرة يتبعها ابنها الصغير مسروراً بامه التي تعلمه السباحة, وانتهى المشهد بهذه النهاية المأساوية التي لم تضحكني , إنها مأساة أن يقتنع القط ويتحوّل إلى بطة في خدمة فرخ بط شقي, وفرخ البط لم يقتنع بالحقيقة .
 هكذا هو الحال في تأثير أولاد وبنات الأفكار على الإنسان سواء التي ينجبها او التي يتبناها, إن كل فكرة تنجبها أو تتبناها تكون كما هذا البط الصغير يتبعك أينما وحيثما كنت ويتدخل في جميع شؤون حياتك من حيث لا تدري وقد يقنعك ان تتخلى عن هويتك الأصيلة (التي هي روح من الله ) وتتخذ هوية الأفكار التي أنجبتها او تبنيتها وصارت مرتبطة بك بالصميم, إن كانت تلك الأفكار إيجابية, خيرة , صالحة, فأنها تدفع بك نحو عالم الموجب التي تنتمي إليه وتغير هويتك المحايدة ( فألهمها فجورها وتقواها) إلى التقوى دونما فجور وتقنعك إلى درجة اليقين بأن هويتك هي التقوى وتجعلك تتصرف على هذا الأساس .
 أما الأفكار السلبية , الشريرة ,الطالحة , فإنها بالتأكيد مرتبطة بك بالرابطة السببية التكوينية ,تدفع بك نحو الجهة السلبية التي تنتمي إليها , وقد تقنعك بتغيير هويتك المحايدة إلى الفجور الذي هو الوجه السالب من الحقيقة , وتجعلك تتصرف على هذا الأساس على أن الفجور ( الشر) هو الحق وما سواه باطل والعياذ بالله .
 وكما يؤكد القرآن الكريم , إن السبيل الوحيد للتخلص من الأفكار السلبية هو ذكر الله وإنتاج مقدار كبير من الحسنات ليذهبن السيئات , فكما يتأثر الإنسان بعناصر عالم الطبيعة كذلك يتأثر بعناصر عالم الغيب والأفكار الكامنة فيه , ف على سبيل المثال لو خرجت إلى بيئة ذات طقس بارد دونما أن ترتدي ما يحصنك من البرد فأنك سوف تتأثر بالبرد وقد تصاب بنزلة برد او أمراض أخرى متعلقة به وهذه حقيقة معلومة للجميع , كذلك الحال حينما تخوض في ميدان الأفكار والمبادئ والمفاهيم بدون أن تحصن عقلك من تأثيراتها فأنك سوف تصاب بنزلات برد فكرية أو أمراض أخرى متعلقة بالأفكار وهذه حقيقة كما تلك , للأسف البعض لا يلتف إليها لعلها السبب في الكثير من المصائب التي تطرأ على الإنسان ويكون ضحيتها دون ان يدري .
 على أية حال فكما العاقل هو الذي يحصن جسده من البرد ولوثات الجرائيم وغيرها لكي يحمي كيانه من الأمراض والأوبئة , كذلك الحال فيما يخص النفس الإنسانية وعالم الأفكار , العاقل هو الذي يحصن عقله ونفسه الباطنة من الأفكار السلبية والجراثيم والنجاسات الفكرية التي تصدر عن البعض من الناس عن قصد أو بدونه .
ولقد لفت انتباهي وأنا أطالع الانترنت أن هناك نفر ضال (قليل) الكتاب يكررون في مقالاتهم نمطاً معينا ويكثرون استخدام كلمات صريحة جداً عن النجاسة والفضلات البشرية والحيوانية المقززة للنفس الإنسانية الطاهرة والذوق السليم, يحاول بعضهم أن يخلطها في الدولمة والعسل ونحو ذلك وتقديمها كوجبة فكرية للقاري المسكين على شكل نكتة أو شخابيط يعتقد أنها مقالاً. إن تكرار استخدام تلك المفردات بعينها في مقالات متكررة ومن كاتب بعينه إشارة قوية على أن العقل الذي ينتجها ويحاول فاشلاً تصدريها للآخرين لا يمكن ان يكون سليماً وطاهراً ,بل هو عقل موبوء ملوث بتلك النجاسات التي ينتجها .
 ولكي أعطي مثالاً واضحاً عن تلك الجراثيم والنجاسات الفكرية التي يحاول البعض أنتاجها وتصديرها إلى القراء المساكين لغرض نقل العدوى إليهم بقصد أو بدونه, اطلب من القاري أن يذهب إلى كتابات المدعو مهدي القاسم في كتابات , بعد ان يضع كمامات على انفه ويلبس قفازات بيديه وينتبه جيداً إلى المفردات النجسة والقذرة التي يستخدمها بصريح العبارة في مقالاته دون ان يلتفت إلى ضرورة احترام ذوق القاري المسكين , كأنه يحاول محاولات فاشلة أن ينقل إلى نفوسهم الطاهرة العدوى ويلوثها بتلك النجاسات التي لا يستأنس بها إلا الصرصر وينفر منها الإنسان السوي الطاهر النفس والذوق السليم .
اقول : فكما يحرص العاقل على لا طهارة طعامه و نظافة وأناقة ملبسه , ويتجنب نقل العدى المادية إليه من خلال الجراثيم والأدوات النجسة , كذلك يجب عليه أن يحرص على طهارة غذائه الفكري ويحصن علقه ونفسه الطاهرة من العدوى التي قد تنتقل إليه عبر الانترنت والكتب والصحف والفضائيات والمقالات الموبوءة ..الخ . فأطلب من الأخ القارئ ان ينتبه إلى نفسه في كل ميدان فكري او عقلي يخوض فيه , أن ينتبه ـ وهو يقرأ مقال , او يشاهد التلفاز ويتابع الأخبار , أو يستمع إلى الإذاعات ـ إلى ما تتضمنه تلك الوجبات الفكرية من مادة ايجابية أو سلبية.. وهل هي طاهرة وخالية من الجراثيم والفيروسات الفكرية ؟؟ نرجوا ذلك . , إن تأثير الجراثيم و الأمراض الفكرية أخطر واشد على الإنسان من تأثير الأمراض الجسدية , فالأمراض الجسدية معلومة ومحدودة التأثير , بينما الإمراض الفكرية مجهولة عند الكثير من الناس وتأثيرها لا ينحصر بفترة مؤقتة ولا حتى بحياة الإنسان بل يمتد إلى آخرته أيضا لأنه تأثير في صميم هوية الإنسان وقناعاته .
التاثيرات الغيبية على عقل الإنسان
بالإضافة لما تقدم هناك تأثيرات غيبية أخرى على الإنسان يذكرها الله تعالى مجده في القرآن الكريم , منها تأثيرات مس الشياطين ( لعنة الله عليهم ) وكيف ان بعضهم يقع تحت تأثيرا الشيطان بحيث يستحوذ عليهم الرجيم اللعين , وأن السبيل الوحيد والأكيد لمثل تلك الحالات هو اللجوء على القوة العظمى في الكون ( الله تعالى مجده ) الذي يفتح بابه للجميع في الليل والنهار وفي كل آن ولا يرد السائلين ,( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ )( الاعراف201) إن استخدام مصطلح الإبصار من بعد مس الشيطان دليل على حالة العمى المؤقتة التي كانت في فترة المس السابقة للإبصار , مما يعني ان مس الشيطان الرجيم يتسبب في عمى فكري مؤقت يصيب الشخصية الواقعة تحت تأثير ذلك اللعين , ولما كان الدين يدعو إلى النظافة والطهارة في جسد ونفس الإنسان المؤمن ,عند الصلاة والعبادات الأخرى التي تتصل بالله تعالى مجده, فإن مس الشيطان يحدث في العادة عند عدم الطهارة وتسلل النجاسة المادية او المعنوية للإنسان , وكلما حرص الإنسان على طهاره روحه وبدنه كان على ذكر دائم للقداسة المطلقة في الكون ( الله) كلما كان بمنأى عن تأثيرات الشيطان الرجيم والعكس صحيح , وفي حال حدوث مس ( تلوث) معنوي من الشيطان الرجيم وما يصاحبه من عمى بصيرة مؤقت ,فإن السبيل إلى تطهير النفيس من تلك النجاسات المعنوية يكون بذكر الله , ( الله نور السموات والأرض) لا تبقى ظلمه ولا تأثير إلا ويزول عند ذكره واستحضاره في العقل , إن تذكر الله يعني ببساطة إنتاج طاقة فكرية من نور منتزع من نور الله , فالله يكون طرفاً في العلاقة معك وانت تنتج تلك الفكرة من خلال ذكره ومناجاته, انه موضوع فكرتك وطرفك الآخر الذي به تستعين على إنتاج فكرتك النورانية.
 ولا أريد ان أتحدث عن تذكر الشياطين واللهو و النجاسات الفكرية التي تكون طرفاً في العلاقة في إنتاج أفكاراً سلبية تتعلق بها , فالقاريء غني عنها , وهناك من صار عبداً مملوكاً للشياطين ونجاساتهم الفكرية واخذ يروج لهم ولبضاعتهم الفاسدة التي يحاول فاشلاً تصديرها للآخرين . تستطيع أن تعرفه بسهولة وبلا عناء كبير من خلال المفردات النجسة التي يروج لها في ما يسميه مقالات دونما مناسبة إلا كونها تفريغ ما بجعبته من مواد .
 أدعو الله أن يحمي إخواني المؤمنين من كل سوء ومن شر الفاسقين إذا كتبوا وإذا تحدثوا ,وان يخرس هؤلاء ويقطع دابرهم إلى الأبد لينعم الإنسان بما أعطاه الله من نفس طاهرة تحلق في فضاءات نعماء الله , وأكوان ملكوته, وسعادة ذكره, ولذة مناجاته , بعيداً عن تأثرات عبدة الطاغوت , وأن يشرح صدورنا للأيمان ويرفع لنا ذكر نبينا صلى الله عليه وأله وسلم ورسالته الخاتمة .
(بسم الله الرحمن الرحيم)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
========
 للموضوع بقية
 
 

الرئيسية  | مركز الصدرين للفكر الإستراتيجي |  العودة للصفحة السابقة