طريقة علمية للتنظيم الإسلامي على حسب قوانين الكون
النظرية الإسلامية
كتابات - زهير الأسـدي


مدخل
نحاول في هذا البحث أن نتتبع النظرية الإسلامية الأصيلة في تنظيم العلاقات ما بين القيادة والجماهير , وتنظيم ترتيب الأولويات القيادية والخطط والبرامج ( السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية ..الخ) التي تنسجم مع قوانين الكون الحاكمة لعناصر النشأة, أي تنسجم مع إرادة الله القاهرة التي تخلق تلك القوانين وتجعلها حاكمة بحوله وقوته , وهذه هي العبادة الحقيقية التي ترقى بالمخلوق إلى مصاف الكمال الذي يريده الله تعالى مجده وهو القائل:
(عبدي اطعني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون) حديث قدسي
فالطاعة -التي هي قبول وانسجام مع قوانين الله- هي السبيل إلى الكمال ومصاف مرتبة كن فيكون , وهي بلا شك مرتبة الحرية (الإرادة)المطلقة التي لا يعجزها شيء التي توصل الإنسان إلى مرتبة ( كن فيكون).
هذا عن النظرية الأصيلة, أما التطبيق فيعتمد على سعي الإنسان والجماعات أنفسهم ومدى تطابق سعيهم مع ما يريده الله تعالى مجده أي مع قوانين الكون.
سوف نبدأ أولاً بالمسلمات العقائدية التي يتفق عليها الجميع لتكون البنية التحتية التي تقوم عليها نظريتنا الأصيلة, ثم نقوم بترجمة العقيدة الأصيلة المنتزعة من هوية الله تعالى مجده إلى معادلة علمية ورياضية على حسب اللغة العلمية السائدة التي يفهمها جميع من يتعاطى مع العلم وبطريقة مبسطة ومتاحة للجميع , ثم نجري تطبيقات عملية للنتائج المستحصلة ,لتكون منهاجاً عملياً للمسلمين في تنظيم شؤونهم السياسية والعسكرية والأجتماعية ونحو ذلك.
لما كان الله خالق كل شيء وهو مصدر العلم في الكون وهو تعالى مجده مصدر الشريعة والعقائد , فإن العقيدة علم والعلم عقيدة , نعني بالعلم جميع مظاهر العلم دونما استثناء, بما في ذلك العلوم الطبيعية والرياضيات (..إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ..)( فاطر28) الخشية هي التقوى وهي غاية ما يطمح إليه المؤمن التقي, ان يخشى الله ويتقيه , فالعلم إذاً سبيل أصيل إلى التقوى وبالتالي إلى الكمال , وعند عكس المعادلة تكون التقوى هي السبيل الأصيل إلى العلم بدليل قوله :( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (البقرة282)) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29الأنفال))
فالتقوى إذاً سبيل إلى العلم و إلى الفرقان الذي يكون في العقل يفرق بين القيم المتقابلة ( الحق والباطل, الخير والشر, النافع والضار , الصواب والخطأ.. ونحو ذلك) وإذا ما بلغ الإنسان أو المجتمع هذه المرتبة من العلم والتقوى بحيث يستطيع ان يفرق بين الحق والباطل ,النافع والضار , الحسنات والسيئات, الصواب والخطأ, فإن جميع خطواته وأعماله وبرامجه في المجالات التي يخوضها تكون منسجمة مع الحق ومع ما يريده الحق تعالى مجده , بل يكون بسلوكه الصائب الخالي من الأخطاء هو الحق في مقام الظاهر والفاعل في النشأة , وهذه هي الغاية من الخلق والغاية من العبادة... وهي أن تظهر أفعال الحق في النشأة في مقام الظاهر بدليل قوله : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات56) ليعبدون أي ليطعون وليظهروا أفعالي وسمات هويتي في النشأة من خلال طاعتي والألتزام بتنفيذ ما آمرهم به , فإذا ما ظهرت السمات الكاملة والأفعال الحقة الكاملة في الإنس والجن , فإن الحق يكون قد ظهر في مقام الظاهر ,لأنه هو المصدر الأصيل لتلك السمات والأفعال الكاملة, وما عليهم – الإنس والجن-إلا ان يطيعوا الله ويظهروها في النشأة من خلال سلوكهم الظاهر المنسجم مع ما يريده الله تعالى مجده .
ولما كان الله الكامل المطلق هو المصدر الأصيل في الوجود لجميع السمات والأفعال الكاملة , فإن الفرق بين العبادة والمعصية يكمن في مدى كمال أو نقص السمة أو الفعل الذي يصدر عن الإنسان باعتباره حامل روح الله ومظهر له في النشأة, وعلى هذا فإن جميع السمات والأفعال الكاملة المنتسبة إلى الله تعالى مجده تعتبر عبادة , وجميع السمات والأفعال الناقصة , تعتبر معصية .
وفيما يخص بحثنا نقول : يجب أن تكون جميع السمات والأفعال التي يظهرها ( الخط الإسلامي الصدري) في الأرض على أكبر قدر ممكن من الكمال وخالية قدر الإمكان من العيوب والأخطاء , وأن السبيل الوحيد والأكيد إلى ذلك هو الله تعالى مجده , هو الهدف ( الكامل التام) الذي نسعى إليه , وحوله وقوته الوسيلة التي نتحرك بها إليه , من خلال تنظيمنا الجهادي الرسالي الذي يسعى إلى أقامة دولة الحق تحت قيادة قائدنا المفدى المهدي المنتظر عليه الصلاة والسلام . ولأجل ذلك نبدأ بالمسلمات الإسلامية ونتخذها سبلاً إلى الله, وخلال الرحلة إليه -وهو الكامل تعالى مجده -نكون قد اهتدينا إلى الحق وحققنا كمالنا الذي نكتسبه منه خلال جهادنا في سبيله
(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) ( العنكبوت69)
فالهداية إلى سبل الحق تأتي من خلال الجهاد الأكبر والأصغر في سبيل الله.
المسلمات - مقدمات
من المسلمات المؤكدة في العقيدة الإسلامية أن الله خالق كل شيء , ومن نوره تنبثق جميع الموجودات إلى الوجود, وهي مظهر له في مقام الظاهر , فلأن الله خالق يوجد المخلوق , ولأن الله كريم يوجد الكرم , ولأن الله مؤمن يوجد الإيمان ,ولأن الله محسن يوجد الإحسان , ولأن الله جميل يوجد الجمال , ولأن الله رحيم توجد الرحمة ,ولأن الله عليم يوجد العلم, وهكذا جميع سمات هوية الله تعالى مجده تظهر في النشأة في مقام الظاهر بواسطة مخلوقاته, فهو الأصل وهي مظهر له .
ومن المسلمات أيضاً في العقائد الإسلامية أن الإنسان خليفة الله في الأرض وحامل روحه الذي سجدت له جميع الملائكة دوما استثناء (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (30 الحجر) و بهذا يعتبر الإنسان الوحدة الوجودية الأصيلة التي تحمل هويته الله في الكون , ومن تكرار هذه الوحدة يتألف المجتمع ( الأمة ) وعلى حسب نوعها تكون هوية الأمة ( إسلامية مؤمنة)
ومن المسلمات العقائدية الأخرى , ان العبادة ( الصلاة) إنما علاقة رابطة ما بين الإنسان و خالقه العظيم , أي علاقة سببية أصيلة ما بين الإنسان والأصل الوجودي الذي انبثق منه وأعطاه هويته وسماته الأصيلة , وعلى هذا فإن العبادة مظهر لسمات هوية الله في الأرض في مقام الظاهر , والمطلوب من الإنسان أن يظهر سمات الهوية التي استودعت في كيانه أمانة في الأرض , ولأن الأصل مؤمن ويصلي, وجب على جميع المخلوقات التي تأخذ هويتها منه أن تؤمن وتصلي .
فالأصل الوجودي هو الله : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً)( 43 الأحزاب) فلأن الله يصلي وهو الهوية الأصيلة في الوجود , وجب على جميع الكائنات-الهويات- التي تنبثق عنه ان تصلي كما هو يصلي جل وعلى , وهذه الحقيقة يؤكدها قوله تعالى مجده (..كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ..)(النور41) وعلى هذا فيجب على الإنسان- باعتباره حامل الأمانة( روح الله)- أن يصلي وأن يكون بالمؤمنين رحيماً كما الله يصلي وهو بالمؤمنين رحيماً, فالله حينما يخلق المخلوقات وينفخ الروح في الإنسان إنما يعطي هويته إلى تلك المخلوقات ضمنها حب الصلاة التي هي علاقة سببية مع المصدر الأصيل (...الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه50) فكل شيء مخلوق قد هُدي- بالتجاذب التكويني السببي- إلى الجهة التي أعطته الهوية ودفعته إلى الوجود . ولا أحد من المخلوقات أستطاع بتكوينه أن يحمل هويته الله ( الأمانة) بتمام كمالها إلا الإنسان, لهذا سجدت له جميع الملائكة دونما استثناء ولم تسجد لغيره على اعتبار كل الكمال قد ظهر فيه لكمال مرتبته التي قبلت الهوية.
(إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً )(72,الاحزاب)
أصل النظرية
ولما كان الله واحد أحد وهو خالق كل شيء , فإن الحدث التاريخي لكل عنصر من عناصر الكون محكوم بقانون عام شامل للجميع , فحركة الكواكب مثلاً هي ذاتها حركة الذرات, و هي ذاتها حركة الإنسان, والفرق بين الجميع بالمرتبة والأصل واحد , وحينما نقرأ في القرآن الكريم مثلاً أن المخلوقات الجامدة تصلّي وتسبّح لله (..كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ..)(النور41) تتأكد لدينا العوامل المشتركة ما بين جميع مخلوقات الله التي يجمعها قانون واحد وتنتهي إلى مصدر واحد ( وهذا هو التوحيد العملي في العرفان ).
ولما كان الله موجود في جميع الكائنات وعناصر الكون , وهو تعالى مجده واحد أحد , فإن القانون الأصيل الذي يحكم الذرة هو ذاته الذي يحكم المجرة والإنسان وجميع عناصر الكون دونما استثناء .
ولما كانت جميع الكائنات والعناصر تصلي ( أي تنسجم في علاقتها مع الله وتخضع له) والإنسان المؤمن السوي كذلك, فإننا من خلال مراقبة ودراسة سلوك الكائنات الطبيعية التي هداها الله إليه بالفطرة والتكوين , نستطيع أن نكتشف العلاقات التنظيمية الأصيلة التي تجعلها تستمر في سلوكها المنسجم مع الله ومع بعضها البعض. وعلى حسب تلك القوانين المشتركة نقوم بتنظيم أنفسنا وكأننا وحدات وجودية تصلي وتسبح لله من خلال السلوك التنظيمي الذي ينسجم مع قوانين الله الأصيلة . وهذا هو التوحيد العملي والعرفان الحقيقي الذي مارسه الأنبياء والمعصومون عليهم السلام , ويسعى إليه كل عارف يريد الوصول إليه تعالى مجده . ويظهر بوضوح من خلال صلاة الجماعة وطقوس الحج, التي هي عبادات وأعمال تنظيمية جماعية تنسجم مع قوانين الكون ( سيأتي بيانها)
( ما من شجرة إلا وتقول أنا الحق ولكن ليس هناك مثل موسى ليسمع النداء )
كما في الشجرة كذلك في كل عنصر وكل ذرة من ذرات الكون , انها تقول أنا الحق , فهل من سامع ؟؟
أظن أن القصد من العبارات السابقة واضح ولا يحتاج إلى تبيان .
وعلى ضوء ما سبق أقول : إن الله العليم الحكيم (...الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه50) قد فطر جميع عناصر الكون في أحسن تقويم وأودع فيها قانونه الواحد الأحد , وهي جميعها- سوى الإنسان العاصي- تسبح وتمجد وتسجد (تخضع) لله في كل شؤونها التكوينية (..كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ..)(النور41)
أي انها تنسجم في علاقتها الأصيلة مع الله , ونحن البشر إذا ما استطعنا أن نطبق قانون الله الذي يحكم تلك العناصر التي لا تعصي الله في شؤون تنظيماتنا الحياتية( السياسية,العسكرية, الاقتصادية ,الثقافية ,الإعلامية..الخ) نكون قد طبقنا قانون الله الأصيل الواحد الأحد على أنفسنا وأصبحنا نصلي ونسبح ونقدس ونسجد وننسجم طاعة لله الذي خلق تلك القوانين وجعلها حاكمة لجميع عناصر الكون دونما استثناء .
بناء النظرية
بعد أن بينّا المسلمات العقائدية التي تخص موضوع بحثنا , واشرنا إلى العلاقة التنظيمية ما بين الكائنات والمصدر الأصيل الذي انبثقت منه , نأتي إلى تثبيت تلك الأساسيات بطريقة علمية ننتزع منها نظرية إسلامية أصيلة نستفيد منها في جميع شؤوننا العبادية في الأرض بما في ذلك العمل التنظيمي في سبيل الله ومن أجل الأمة ,لأن جميع المظاهر الأصيلة في الوجود تنتزع من هوية الله , باعتباره خالق لكل شيء وجميع الكائنات تأخذ هويتها منه تعالى مجده.
ولأجل دراسة عناصر الكون والقانون الذي يحكمها ويجعلها تنسجم في سلوكها مع الله الواحد الأحد , نسأل ما هي هوية الله الأصيلة التي انبثقت منها جميع الهويات ؟؟
هو يجيب في القرآن الكريم ونحن نوضح جوابه تعالى مجده , حيث يصف لنا هويته ويقول :
(هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )(3 الحديد)
لما كانت الآية المباركة تشير إلى هوية الله , وهو تعالى مجده خالق لكل شيء , فإنها بالتأكيد تتضمن الوحدة الوجودية الأصيلة لجميع عناصر الكون الظاهرة والباطنة على السواء , ولو بحثنا في هوية جميع الكائنات نجد أنها تتضمن بالضرورة هذه الهوية الأصيلة , على اعتبار أن الله موجود في كل شيء ولا يخلو منه شيء , فوجود الله في الموجودات إنما يعني وجود هويته فيها , و لما كانت مظاهر هويته تعالى مجده تتضمن قيم متقابلة (أول و آخر) (ظاهر وباطن) وهو موجود في كل شيء, فإن كل شيء في الكون له أول و آخر , ظاهر وباطن على حسب ما أعطاه الله من تلك السمات وأودعها في صميم فطرته.
فلولا الخالق لما وجد المخلوق , و لو لم يكن الله (أول وآخر) لما وجد الزمان (ماضي ومستقبل- أزل وابد) ,ولو لم يكن الله (ظاهر وباطن) لما وجدت المادة الظاهرة والباطنة ( المكان), وبالتالي ما وجدت المخلوقات الظاهرة والباطنة , ولو لم يكن الله منسجماً مع ذاته لما انسجمت المخلوقات في علاقتها معه, ولو لم يكن الله يصلي لما صلت المخلوقات ,إنها ببساطة تأخذ هويتها منه وتظهرها في النشأة على حسب حضها من نور هويته.
ولما كان الله موجود في كل شيء , موجود في كل زمان ومكان , فإن كل شيء عبارة عن زمان ومكان في آن , والعلاقة التنظيمية التي تربط الموجودات بالله ومع بعضها البعض تكمن في القيم المقابلة المشار إليها في الآية المباركة (أول و آخر) (ظاهر وباطن), ومن علاقة رقمية ( عددية) منتزعة من هوية الله سوف نشير إليها فيما بعد .
و لما كان الله(أول و آخر) (ظاهر وباطن),, وكل شيء عبارة عن زمان ومكان, فإن كل عمل تنظيمي ( سياسي, عسكري ,اقتصادي, اجتماعي ..الخ) عبارة عن حدث تاريخي زمنكاني ( زمان ومكان) له مكان يظهر فيه وزمان يستغرقه , ولما كان في نهاية المطاف لا يوجد إلا الجنة أو النار , فإن المسار التاريخي الزمنكاني الذي يمارسه الإنسان والجماعات , تكون إما حسنات تتراكم شيئاً فشيئاً حتى تظهر في نهاية المطاف في عالم الجنة , أو سيئات تتراكم شيئاً فشيئاً حتى تظهر في نهاية المطاف في عالم الجحيم .
ولأجل انتزاع قانون عام للمسار التاريخي الزمنكاني , ضمن النظرية التي نحن بصددها نقوم بإجراء المعادلة البسيطة الموضحة بالرسم الجانبي الأول :
حيث الله تعالى مجده هوية واحدة لا غير ( واحد أحد) ولكن مظاهر وجوده في الوجود تكون أول وآخر , ظاهر وباطن , فمنه تندفع الموجودات الزمانية والمكانية ( الظاهرة والباطنة) للوجود , وعند ترجمة تلك القيم إلى مفردات علمية لغرض تطبيقها في العلوم الحديثة والشؤون التنظيمية التي نحن بصددها, فإننا من القيم المتقابلة (أول وأخر) ننتزع السالب والموجب في المحور الذي يسمى بالمحور السيني , ومن القيم المتقابلة ( الظاهر والباطن) ننتزع السالب والموجب في المحور الذي يسمى بالمحور الصادي . لنحصل في النهاية على تفسير علمي أصيل للزمان والمكان منتزع من هوية الخالق العظيم مبيناً بالرسم الجانبي الثاني .
من خلال هذه المعادلة نستطيع أن ندرس كل ظاهر تاريخية زمنكانية, بل يمكن أن نخوض إلى أعمق من ذلك وندخل إلى كنه الأحداث حينما نجرّد المعادلة السابقة إلى ابسط وحداتها الزمنكانية لتصبح الصورة الموضحة بالرسم الجانبي الثالث :
وهذه الأخيرة لها تطبيقات في مجالات علمية دقيقة جداً مثل أبحاث الذرة وأجزاء الذرة نحو الكواركات والأوتار الفائقة, وبها نتجاوز ما يسمونه بجدار بلانك في الفيزياء لنصل في النهاية إلى كنه الحقيقة العلمية التي حيرت عقول العلماء إلى يومنا هذا:
(..وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (يونس61)
ويمكن الاستفادة من تلك النظرية في التطبيقات العملية في الشؤون التنظيمية بالطريقة التي نبينها في الفصل التالي :
تطبيقات النظرية
لقد قلنا منذ قليل إن قانون الله الواحد الأحد, واحد لا غير وهو يحكم جميع عناصر الكون من الذرة إلى المجرة دونما استثناء , وأن كل شيء في الكون عبارة عن زمان ومكان , وكل عمل فردي أو تنظيمي عبارة حادثة تاريخية زمنكانية مرتبطة بالأصل الوجودي الذي انبثقت منه ( الله تعالى مجده), وعلى هذا فإن الحدث التاريخي الزمنكاني الذي يحدث للذرة هو ذاته يحدث للأرض وللإنسان وللكواكب وللمجرات والكون الكبير بأكمله , والفارق بين الجميع في الدرجة والأصل واحد ( وهو الله تعالى مجده) وبهذا تصبح العلاقة النظامية القائمة ما بين الذرات والكواكب والكون الكبير هي الأصل التنظيمي للوجود الكامل الذي يريده الله تعالى مجده , لأنه هو الواجد والمنظم له .
ولما كان الإنسان عنصر من عناصر الكون , فإن ما يجري على عناصر الكون يجري على الإنسان بنفس الكيفية والفرق بالدرجة لا بالأصل , ونحن البشر إذا ما أردنا أن ننظم شؤون حياتنا الجماعية( السياسية) بطريقة تنسجم مع إرادة وقوانين الله تعالى مجده التي تحرك الكون نحو الكمال ( نحو لقاء الله) علينا أن نتخذ من قوانين الله الحاكمة لجماعات عناصر الكون معياراً يضبط سلوكنا ويحكم طرق تنظيمنا ونقارن ذلك بما هو موجود أصلاً في الشريعة ونجمع الاثنين في منظومة تنظيمية واحدة تكون هي الهوية الأصيلة التي نبني بها مجتمعنا الإسلامي المنظم والمنسجم مع حركة الكون كله المتجه نحو الكمال ( نحو لقاء الله).
ومن خلال دراستنا لعناصر الكون المحكومة بقانون الله الواحد الأحد , نجد أن الصلاة والارتباط المركزي مع الخالق العظيم هي السمة الأصيلة المشتركة ما بين جميع عناصر الكون دونما استثناء , (..كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ..)(النور41) وأن الصلاة الجماعية هي الأصل التكويني في الكون, وهي علاقة سببية تكوينية مع الله يكون مظهرها علاقة الكثرة بالوحدة , أو علاقة المحيط بالمركز تعتمد على عنصري الزمان والمكان , نحو صلاة الجمعة أو الجماعة في المسجد , وصلاة الكائنات الطبيعية التي نجدها في مجتمعات متراصة بين بعضها البعض, ومن المحال أن تجد عنصراً من عناصر الكون منفرداً عن بقية العناصر إلا فيما ندر , بل تجدها دائماً متراصة في تجمعات , نحو اجتماع ذرات عناصر الطبيعة التي تشكل المعادن والفلزات واللافلزات, أو اجتماع النباتات الطبيعية في البساتين والغابات , واجتماع الحيوانات والطيور والأسماك في تجمعات وهجرات جماعية متنوعة , وهذه كلها أمم وقبائل وعوائل مجتمعية تماماً كما البشر والفارق إنما بالدرجة والأصل واحد وهو مقام الكثرة المقابل لمقام الوحدة ., والدليل على ذلك قوله تعالى مجده :
( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (الأنعام 38)
أما فيما يخص الزمان والمكان وعلى مستوى صلاة البشر نجد أن المكان (المسجد) والزمان – الطبيعي- من أهم العناصر الأساسية في الصلاة ( في ارتباط المخلوق بالخالق العظيم) فقد جعل الله لصلاة الجماعة فضلاً وأجراً كبيراً ( قالوا 27 ضعفاً) لما لها من أهمية بالغة في حياة الفرد والجماعة , و قد حدد تعالى مجده زمن الصلة –الارتباط الواجب- به على حسب دورة الأرض اليومية وعند ظهور نور الله الظاهر بالشمس , الأوقات هي :
1- الفجر وهو بداية ظهور نور الشمس ( رمز لنور الله) 2- منتصف النهار وهو تمام ظهور النور , 3- غرب الشمس وهو نهاية ظهور النور, والدليل على ذلك من القرآن قوله تعالى مجده (أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً )(الإسراء78)
من هذه الآية المباركة نفهم أن الصلواة الواجبة الخمسة أوقاتها ثلاثة وهي الفجر ومنتصف النهار وغروب الشمس وتتعيّن طبيعياً من خلال دورة الأرض اليومية . وهناك نوافل أوقاتها في غير ذلك .
إن هذا الزمان الذي عينه الله لإقامة الصلاة على حسب الدورة الطبيعية للأرض إنما ليربط الإنسان بعناصر الكون من حوله ولتكون له دورة عبادية نفسية يعتاد عليها ويمارسها باستمرار كما لعناصر الطبيعة دورات , فالذرات مثلاً تدور, والكواكب والأقمار تدور , والكون كله من الذرة إلى المجرة يدور , وهذه الدورات الكبيرة والصغيرة لها أصل وجودي واحد وهي حركة الواجب تعالى مجده المتحرك بذاته والمحرك لغيره , فالزمان وليد الحركة وهو القاسم المشترك لجميع مظاهر العبادات , مثل الصلاة والصيام والحج , دفع الخمس, والجهاد ..ألخ.
وحركة الطواف حول الكعبة إنما مظهر لحركة زمنكانية وهي حركة الواجب تعالى مجده المتحرك بذاته والمحرك لغيره, وهي حركة أصيلة في الوجود , نجدها في حركة ذرات العناصر , وفي دوران الأرض والكواكب والأقمار وحركة المجرات والكون كله , انها ببساطة مظهر لحركة الواجب تعالى مجده الذي يحرك الكون كله بحوله وقوته , وهذه كلها مظاهر للزمان الذي يعتبر الركن الأساسي للعبادة والارتباط بالله الذي يحركه .
فهناك أوقات للصلاة اليومية الواجبة مرتبط بدورة الأرض اليومية وهو – كما قلنا منذ قليل- الفجر ومنتصف النهار وغروب الشمس , ووقت الصيام الواجب هو شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن ويتعين طبيعياً من دورة القمر السنوية ورؤية الإنسان للهلال , (..فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ..) البقرة 185
و وقت الحج الواجب مع الاستطاعة هو شهر ذو الحجة ويتعين طبيعياً من دورة القمر كما شهر رمضان ,
و وقت دفع الخمس \ الزكاة الواجب مع الاستطاعة يتعين على حسب ظروف كل إنسان وله دورة سنوية قمرية كما الواجبات المذكورة آنفاً .
أما الجهاد الواجب في سبيل الله فيجب أن تكون له أوقاتاً تتعين طبيعياً على حسب الظروف والحالات التي تمس حياة ومصالح المسلمين وتحقيقاً لأهداف الله التي سجلها في كتابه المجيد وهي إظهار الإسلام على الدين كله ولو كره المشركون , وعلى هذا فيجب على كل مسلم مستطيع إلا تدور سنة قمرية إلا وقد أدى واجب الجهاد في سبيل الله كما يؤدي واجبه في الدورات الطبيعية الأخرى في الصلاة والصوم والحج والخمس\ الزكاة , لأن هناك أراضي للمسلمين محتلة ومصالح المسلمين وحياتهم ليست على ما يرام , والزمن زمان حرب وليس زمان سلم.
وليس الغرض من الجهاد الدفاع عن أراضي وحياة ومصالح المسلمين عند تعرضهم لغزو خارجي فحسب, بل لمحو الفساد من الأرض ولنشر الإسلام وإظهار دين الله (الحق) على الدين كله ولوكره المشركون .( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (33) التوبة .
من خلال ما سبق يظهر لنا – بوضوح- أن جميع عناصر الكون محكومة بدورات زمانية منشأها حركة الواجب تعالى مجده , وأن الارتباط بها سببياً يعني بالضرورة ارتباط بأصل الحركة الزمانية وهو الله تعالى مجده, ولما كانت العبادة إظهار لكمال الله في الأرض في مقام الظاهر, و لها اثر زماني ابدي في الآخرة , فإن السبيل لكمال الإنسان والمجتمع الإنساني هو أن يرتبط زمانيا بالله تعالى مجده في جميع شؤون حياته وليس العبادية فحسب , لأن الزمان الأبدي يتعين من تراكم وحدات الزمان التي يقطعها الإنسان في حياته الدنيا ,والتي تتراكم لحظة من بعد لحظة, وساعة من بعد ساعة, ويوماً من بعد يوم , وهكذا حتى نهاية المطاف , وعلى حسب الأعمال المنجزة في تلك الوحدات الزمانية يتعين كمال وأجر وثواب عاملها يوم القيامة.
ولما كان الله تعالى مجده هو الأصل السببي للزمان والمكان , وهو تعالى مجده الكمال المطلق الذي لا يسلك النقص إليه من سبيل , فإن وحدات المكان كما وحدات الزمان , إذا ما تراكمت وحدة من بعد وحدة وكتلة من بعد كتلة فإنها في النهاية تكون وحدة كمالية كبيرة تتعين درجتها على حسب عدد ونوع الوحدات المتراكمة , وأن أوضح مصداق للوحدات المكانية المتراكمة هي صلاة الجماعة التي لها أجر وفضل كبيرين جداً للفرد والجماعة ,( 27 ضعفا) حيث يجتمع ويصطف المصلون في وحدات متراصة ومتراكمة يؤدون فعلاً جماعياً واحداً وفي زمان واحدٍ, وأن هذا الاصطفاف والتراص يحبه الله كثيراً ليس في الصلاة وحسب بل حتى في ميدان الجهاد في سبيله وقد أشار إليه بصريح العبارة, وقال : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ )(4الصف) البنيان المرصوص هو الذي تتراكم وحداته المادية الداخلة في تكوينه بعضها مع البعض في تراص ليس بينه فراغ , كذلك يحب الله المؤمنين أن يكونوا في صلاتهم الجماعية , وفي جهادهم في سبيله, وطبعاً في كل عمل في سبيل الله أيضا بما فيه العمل السياسي أو الاجتماعي لأنه عبادة لله كما الصلاة والجهاد وبقية مظاهر العبادة . ( يد الله مع الجماعة)
ويبدو أن التراكم والاصطفاف والتراص تمارسه جميع عناصر الكون بما فيهم الملائكة والدليل على ذلك قوله (وَالصَّافَّاتِ صَفّاً) (1الصافات ), في إشارة إلى أصناف الملائكة التي تعمل بصورة جماعية متراصة, وقال :( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً) (22الفجر)
فكما تتراكم وحدات الزمان وحدة من بعد وحدة نهايتها حصيلة كمالية تتعين على حسب نوع وكمية الوحدات المتراكمة , كذلك تتراكم وحدات المكان وحدة من بعد وحدة نهايتها حصيلة كمالية تتعين على حسب نوع وكمية الوحدات المتراكمة .
وعلى ضوء ما سبق , فإن الأعمال الجماهيرية , الصلاة الجماعية, المظاهرات الجماعية, الاعتصامات الجماعية , الأعمال السياسية الجماعية التي تجمع المؤمنون صفاً كأنهم بينان مرصوص من انجع السبل المؤدية إلى تحقيق الكمال و هي موضع قبول ومحبة الله وتستجلب نصره وبركاته تعالى مجده, (يد الله مع الجماعة ).
وبكلمة واحدة نقول : إن العمل الجماعي شيء أصيل في الكون منتزع من هوية الله في مقام الكثرة, تمارسه جميع الكائنات الحية والجامدة على السواء , وهو من أهم عوامل القوة والكمال كما سيظهر في الاوراق القادمة.

للبحث بقية

الرئيسية  | مركز الصدرين للفكر الإستراتيجي |  العودة للصفحة السابقة