نحو دراسات مستقبلية إسلامية
بحث في علوم المستقبل
الحلقة السادسة
كتابات - زهير الأسـدي *
تصورات "سيناريوهات" آخر الزمان
لقد أوضحنا في فصل سابق ( الحلقة الثانية) في معرض الحديث عن أنواع
الدراسات المستقبلية الإسلامية, ان الدراسات المستقبلية التنبؤية
التي تستشف احدث المستقبل من خلال النصوص الدينية ( القرآن
والأحاديث الشريفة والروايات ) من أصدق أنواع الدراسات لتعيين
محطات مستقبلية ثابتة ومؤكدة يتحرك نحوها المسار المستقبلي في خط
مستقيم ابتداء من حاضرنا, وفي الحلقة الخامسة أعطينا مثالاً لتصور
"سيناريو" مستقبلي أصيل من سورة الإسراء المباركة التي تحكي عن
تحرير المسجد الأقصى ( القدس الشريف), وفي هذه الحلقة نبدأ برسم
نموذج من تصورات"سيناريوهات" مستقبلية ابتداء من حاضرنا وحتى نهاية
الزمان(زلزلة الساعة) و على حسب ما جاء في القرآن الكريم وبالطريقة
التي أوضحناها وهي: تعين محطة مستقبلية معلومة والتحرك نحوها
ابتداء من حاضرنا المعلوم , وعلى هذا فإن دراستنا ستكون سهلة
للغاية وهي كما الخط المستقيم الواصل بين نقطتين .
ولما كان الخط عبارة عن نقاط فإن الخط المستقيم الواصل بين نقطتين
معلومتين إنما عبارة عن نقاط متكررة بدرجات تصاعدية متسلسلة رابطة
الأولى بالثانية , فعلى سبيل المثال : إذا ما كانت النقطة الأولى
درجتها 90 مثلاً , والثانية درجتها 100 مثلاً , فإن الخط المستقيم
الواصل بين هاتين النقطتين المعلومتين يكون عبارة عن مجموعة نقاط
هي: (99,98,97,96,96,95,94,93,92,91) .
كما في الخط المستقيم الواصل بين نقطتين معلومتين , كذلك في
دراستنا هذه , سيكون تصوّر "سيناريو" مسارنا المستقبلي عبارة عن
مجموعة نقاط تصاعدية رابطة مابين حاضرنا المعلوم وآخر حدث مستقبلي
يحدث في الأرض, وهو زلزلة الساعة التي يخبرنا عنها القرآن الكريم
في آيات كثيرة منها :
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ
السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ
مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ
حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى
وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(2)) الحج
(يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ)(
الدخان16)
(وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا
لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً )(الكهف59)
(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ
عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً
وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (النحل 61)
من خلال هذه الآيات- وغيرها كثير- نعلم أن آخر حدث في الأرض سيكون
أكبر حدث مأساوي كارثي تشهده الأرض في تاريخها بحيث يقضي على جميع
مظاهر الحياة فيها بدليل قوله (..مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ
دَابَّةٍ..) حيث الدابة هي كل ما يدب على الأرض من كائنات سواء
كانت بشرية أو حيوانية , فحينما يأتي ذلك الأجل الذي اجله الله
فإنه سوف تقضي على جميع دواب الأرض ويفنيها وهو آت لا محال بدليل
قوله (.. فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً
وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) على اعتبار إذا هنا ظرف زمان .
ولما كان لا كائن حي ينجو من ذلك الحدث العظيم والموت سوف يقضي على
جميع مظاهر الحياة في الأرض , فإن حساباتنا في هذه الدراسة سوف
تعطي ذلك الحدث المعلوم درجة 100% وهي نسبة ودرجة نعتبرها حقيقية
ويقنية , لأنه لا كان حي سوف ينجو من الموت بعد تلك الواقعة التي
تحدث تغيرات على كوكب الأرض كله (إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ (1)
لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا
رُجَّتْ الأَرْضُ رَجّاً (4) وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسّاً (5)
فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً (6)) الواقعة
بذلك نكون قد حددنا آخر نقطة في مسار المستقبل في الأرض وهي كارثة
حقيقية كبرى تقضي على جميع مظاهر الحياة على الكوكب , ولم يبق إلا
أن نحدد نقطة الحاضر الذي ننطلق منه في دراسة مسار الزمان الواقع
مابين هاتين النقطتين.
إن نظرة واحدة لوسائل الإعلام السمعية والبصرية والمقروءة تكفي لأن
ندرك ان السمة المميزة لحاضرنا هي العنف (الحرب – الإرهاب) الذي
يهلك البعض ويخرب بنيانه , وهناك مظاهر كثيرة أخرى لعصرنا الحاضر,
مثل العلم والتطور التكنولوجي والمواصلات والمعلوماتية ونحو ذلك ,
لا نستطيع ان نعتبرها نقطة انطلاق لدراستنا هذه , لأنها ببساطة
ليست من نفس جنس ذلك الحدث الأخير الذي سيحدث في الأرض وهو الكارثة
الكبرى التي يسميها القرآن البطشة الكبرى ,( (يَوْمَ نَبْطِشُ
الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ)( الدخان16) .
ولما كان آخر حدث في الأرض ليس حدثا علميا أو تكنولوجيا كبيراً, بل
هو كارثة مميتة كبرى تقضي على جميع الكائنات وليس على الإنسان
فحسب, وكان الفناء هو السمة المشتركة بين جميع الكائنات الحية
والجامدة ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ)) الرحمن 26, فإن نقطة
الحاضر التي نريد أن ننطلق منها إلى المستقبل يجب أن تكون من ضمن
مظاهر وأسباب الموت والفناء التي يسميها القرآن الكريم بـ القارعة
ويعتبرها سمة مميزة لمسار الزمان حيث يقول:
(...وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا
قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ
وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)(الرعد 31)
ولما كان (لا يَزَالُ) ظرف زمان مستمر , و(حَتَّى) ظرف زمان يشير
إلى انتهاء الغاية , وما بين الأثنين (قارعة) تصيب الذين كفروا ,
فإن أهم سمات الزمان المتحرك نحو المستقبل هي القارعة التي تستمر
بالنمو والتكامل حتى تكون كارثة كبرى تقضي على جميع مظاهر الحياة
في نهاية الزمان الذي هو بلا شك بدرجة 100% , وليس بعده إلا عالم
ما بعد 100% وهو عالم الكمال في النشأة الأخرى التامة الكاملة التي
لا يسلك الموت إليها من سبيل. وعلى ضوء هذه الحقائق سوف تكون نقطة
الحاضر التي ننطلق منها من نفس جنس المستقبل وآخر حدث فيه وهي
القارعة .
بعد ان حددنا نقطي الزمان التي نريد ان نرسم له مساراً مستقبلياً
يستشف أهم أحداثه المميزة, نبدأ بالآية القرآنية التي تشير إلى
مسار مستقبلي مستمر حتى آخر حدث في الأرض .
(...وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا
قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ
وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)(الرعد 31)
(لا يزال) ظرف زمان مستمر غير محدد نحو قولك: (لا يزال التلميذ
مجتهداً في دروسه) أي مستمر في الدراسة بجد وتفوق, و (حتى) ظرف
زمان يشير إلى انتهاء الغاية , بمعنى إلى هنا ينتهي الزمان المقرر
نحو قولك :( يستمر العمل حتى المساء) أي إلى المساء.
الكفر في اللغة الستر والتغطية, نحو قوله:( وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ )( الفتح5) يعني يستر سيئاتهم أي يغطيها فلا تظهر,
كفر الشيء إخفاءه نحو ( كفر الرجل بئر الماء) أي غطاها بستر واقي ,
وقد يعني الرفض نحو كفر النعمة رفضها وعدم الاعتراف بها, وعلى هذا
الضوء فإن (الَّذِينَ كَفَرُوا) ليسوا الملحدين بالله فحسب, بل كل
الذين يكفرون بنعم الله, بما فيهم أهل الكتاب و المنافقين الذين
يكفرون بانعم الله ويمارسون مظاهر الظلم والكفر والفساد في الأرض
وقد يكون بعضه من النوع المشار إليه بقوله: (..وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْكَافِرُونَ)(المائدة44) و هذا يشمل جميع القادة و الزعماء
والسياسيين الكبار الذي يصنعون قرار الحرب والظلم والأعتداء
والفيتو الظالم, والخونة والعملاء ونحو ذلك, وما أوضح سلوك هؤلاء
للعيان في أيامنا هذه.
الباء في (بِمَا) سببية و( ما) مصدرية, (صَنَعُوا) الظلم والفساد
في الأرض ,وهذا شأن الكافرين.
القارعة هي المصيبة - البأس- الكارثة - وتشمل كل مكروه يصيب الناس
, مثل الأمراض والحروب والفيضانات والزلازل والحرائق وحوادث السير
وتصادم القطارات وسقوط الطائرات والانفجارات و السيارات المفخخة
ونحو ذلك من الحوادث التي تصيب الناس, وهذا ما نشهده يوميا في شتى
بلاد العالم .
أما (وَعْدُ اللَّهِ) المشار إليه في الآية فهو عذاب الاستئصال
الشامل ( زلزلة الساعة) الذي جعل الله له موعداً لا يتأخر ساعة ولا
يتقدم قال:
(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ
عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً
وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) ( النحل 61)
وقال أيضاً: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا
مُنْتَقِمُونَ)( الدخان16)
البطشة الكبرى هي القارعة الكبرى التي ليس هناك قارعة أكبر منها,
وما هي إلا زلزلة الساعة التي تقضي على كل مظاهر الظلم والفساد في
الأرض . فالآية -التي نحن بصددها- تشير بوضوح إلى بأس يصيب
الكافرين جزاءً بما صنعوا, وتشير ضمناً إلى بأس غير مباشر- رعب-
إرهاب- يحمل رسالة إنذار وتحذير للذين تحل القارعة بالقرب من دارهم
, أي في بلادهم , و كذلك هي للذين يعلمون بها ولو من بعيد.
ومعنى الآية ببساطة يكون بالصورة التالية: (( لا يزال الذين كفروا
تصيبهم كارثة جزاءً بما صنعوا من ظلم وفساد في الأرض, أو تحل
قريباً من دارهم وبلدانهم , ويستمر هذا الحال بلا توقف إلى أن يأتي
وعد الله وينزل العذاب الشامل( زلزلة الساعة) الذي يستأصل كل مظاهر
الفساد والظلم ولا يترك على الأرض من دابة, و هذا وعد من الله , إن
الله لا يخلف الميعاد ))
والسؤال هو: هل تلك القارعة –الكوارث- تحدث في أيامنا هذه أم لم
تحدث بعد ؟
الجواب تجده في الأخبار اليومية التي تنقل لك أخبار الزلازل
والفيضانات وأمواج المد و الانفجارات والسيارات المفخخة وسقوط
الطائرات الحربية والمدنية وتصادم القطارات واغتيال السياسيين (
الذين لا يحكمون بما انزل الله) ونحو ذلك من الأخبار نشهدها فيما
حولنا وفي وسائل الأعلام كل يوم, هذه كلها تجيب بنعم صريحة وواضحة
لا ينكرها عاقل, وتشهد أن أحداث آخر الزمان بدأت تظهر بكل وضوح ,
وأن هناك قارعة متعدد الصور والإشكال بدأت تظهر وتنمو وتتكامل
شيئاً فشيئاً حتى تبلغ ذروتها ( البطشة الكبرى- زلزة الساعة) التي
تقضي على جميع مظاهر الحياة في الأرض .
فكما الكائن الحي يبدأ من الحياة وينتهي بالموت المحتوم ذات يوم,
وهو خلال حياته في كل لحظة وكل حين يقترب شيئا ًفشيئاً نحو موته
المحتوم . كذلك نشأة الحياة الدنيا (بكل عناصرها) في كل لحظة وكل
حين تقترب شيئاً فشيئاً من عالم الموت المحتوم ( النهاية) حتى تدخل
فيه بكامل كيانها وعناصرها وتنتهي الحياة كلها في الأرض (كُلُّ
مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ
وَالإِكْرَامِ (27) الرحمن)...وبعد ذلك تخرج من الجهة الأخرى
للوجود في نشأة ذات ديمومة وبقاء لا يسلك الموت إليها من سبيلها
لأنها ببساطة قد تجاوزته وأصبح خلفها.
أمسك أي صحيفة يومية أو شغل التلفاز أو الانترنت على الأخبار وأنظر
ما ترى ؟
ترى يومياً عشرات من الحوادث –القارعة- تصيب الذين كفروا أينما
كانوا في الأرض, مرض الإيدز يحصد الآلاف ويصيب الملايين , حوادث
السير كل يوم بالعشرات , زلازل , فيضانات , حرائق , موجات حر ,
موجات برد, انفجارات , اشتباكات مسلحة , سيارات مفخخة ,سقوط طائرات
حربية ومدنية , تحدث كل يوم وتصيب المئات – إن لم نقل الآلاف- من
الناس .
وما هذه الحوادث التي تحدث كل يوم إلا مصاديق واقعية للقارعة التي
يخبرنا عنها القرآن المجيد بأنها سوف يستمر حدوثها في الأرض
(حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ) أي حتى تأتي زلزلة الساعة وتموت
النشأة بجميع عناصرها(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) ( الرحمن26)
وهذا هو وعد الله الذي سجله لنا في القرآن الكريم( إِنَّ اللَّهَ
لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ).
رسم التصور ( السيناريو) المستقبلي
بعد أن بينا معنى الآيات المباركة التي تحكي عن أحداث المستقبل ,
نأتي الآن بيان طريقة رسم التصور " السيناريو" المستقبلي للفترة
الممتدة ما بين زماننا الحاضر ونهاية الزمان ( زلزلة الساعة) التي
يخبرنا عنها القرآن الكريم بكل صراحة ووضوح ,لأجل بينان ترتيب
الأحداث ما بين حاضرنا وذلك الحدث الأخير الذي ينهي مظاهر الحياة
على الأرض, ينبغي أن نستعين بالقوانين العامة لمسار الزمان
,القواعد الرياضية البسيطة التي يفهمها الجميع.
النمو والتكامل .
إن من أهم قوانين حركة الزمان الجارية على جميع عناصر الكون هو
قانون النمو والتكامل الذي نشهد مظاهره بصورة مباشرة وواضحة في كل
ما حولنا , تأمل في أي كائن حي ( الإنسان , الحيوان ,النبات) تجد
انه يبدأ من ابسط وحداته ( البذرة أو الخلية الحية المخصبة) ثم
ينمو ويتكامل شيئاً فشيئاً حتى يبلغ كل كماله وتخرج هويته الوجودية
التي كانت كامنة في تلك الوحدة البسيطة ( البذرة- الخلية) على هيئة
جينات وراثية مشفرة ,
فالإنسان مثلاً يبدأ خلقه من ابسط وحدته وهي خلية واحدة مخصبة (
بويضة الأم وحيمن الأب) تكاد لا ترى بالعين المجردة لكنها تحمل في
صميمها كل هوية الإنسان الوجودية وخصائصه المميزة على هيئة معلومات
مشفرة محمولة في وعاء مادي يُطلق عليها تسمية جينات وراثية , من
هذه الخلية البسيطة تبدأ الخطوة الأولى لمسار زمان الإنسان الخاص
في حياته الدنيا الذي نهايته بلا شك الموت المحتوم ذات يوم, وما
بين نقطة البداية, التي مرتبتها واحد في مقياس الزمان, والنهاية
التي مرتبتها 100% سلسلة من إحداث زمانية تصاعدية يمر بها الإنسان
حتى يبلغ نهايته عمره ويستهلك آخر لحظة من زمانه الخاص . وسواء كان
عمر الإنسان يوماً واحداً ثم يموت أو سنة أو عشرة أو مئة عام , فإن
اللحظة التي يموت فيها وينتهي زمانه الخاص يكون قد بلغ مرتبة 100%
من زمانه , وعلى هذا فإن كل لحظة تمر على الإنسان ابتداء من يوم
خلقه فإنه لا ينمو ويتكامل نحو الموجب فحسب , بل هو يقترب من موته
شيئاً فشيئاً حتى يلاقيه . وهذا الحال ينطبق على جميع الكائنات
المتحركة بالزمان .
كما في الإنسان كذلك في بقية الكائنات , فالشجرة العملاقة مثلاً
التي تنمو وتتسامق يوما بعد يوم ,إنما تبدأ من ابسط وحداتها وهي(
البذرة) التي تحمل كل هوية الشجرة الوجودية على هيئة معلومات
وراثية مشفرة (جينات) ثم تخرج تلك الهوية إلى الوجود شيئاً فشيئاً
خلال مراحل نمو وتكامل الشجرة , وكلما نمت وتكاملت الشجرة كلما
اقتربت من نهايته وموتها المحتوم ذات يوم , وهذا شأن كل كائن حي بل
شأن النشأة كلها بما فيها (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ (27)
الرحمن)...
ولما كانت نهاية زمان أي كائن حي سواء كان طويلاً أو قصيراً هي
100%, فإن بداية خلقه وتحركه في مسار الزمان يكون واحد % ,الخطوة
التي بعدها 2% والتي بعدها 3% والتي بعدها 4% ثم 5% وهكذا حتى يبلغ
مرتبة 100% من زمانه الخاص فيموت .
كما في هذا المثال البسيط كذلك في زمان نشأة الحياة الدنيا ,
اللحظة التي تزلزل فيها الساعة وتنتهي الحياة فيها وتفنى تكون قد
بلغت مرتبة 100% من زمانها وأجلها الذي عينه الله تعالى مجده ,
والمرحلة التي قبلها نسبتها 99% والتي قبلها 98% والتي قبلها 97%
والتي قبلها 96% وهكذا يستمر الحال تنازلياً وبنفس الترتيب إلى
مرتبة الصفر التي انبثق منها الخلق وسبقت الزمان والمكان .
ولما كانت النشأة تتضمن الكثير من العناصر الحية , فإن الحادثة
النهائية الأخيرة التي تقضي على جميع مظاهر الحياة وجميع عناصر
النشأة (وهي مليارات) يجب أن تكون حادثة عظيمة جداً ,نسبة التأثير
فيها مقدارها 100% ولو لم تكن كذلك فإنها لا تعتبر نهائية ولا
حاسمة طالما هناك حياة من بعدها , وهذا ما تؤكده الآيات القرآنية
التي تحكي عن نهاية الزمان بواسطة الحادثة الكارثية الكبرى (
البطشة الكبرى) التي تنهي جميع مظاهر الحياة على الأرض.
(يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ)(
الدخان16)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ
السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ
مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ
حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى
وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(2)) الحج
هذه الآيات تصف لنا مناخاً مرعبا للغاية بحيث تذهل حتى الأم عن
رضيعها وتسقط الحوامل من شدة هول الحادثة والناس يكونوا كما
السكارى من شدة العذاب , ولا توجد حادثة سابقة بهذا المقدار من
الهول, أنها حقاً نهاية وحاسمة ونسبة بطشها وتأثيرها مقداره 100% .
ولما كان مسار زمان النشأة تصاعدي يبدأ من الواحد بعد الصفر
وينتهي بنسبة100% التي تكمل فيها دائرة الإمكان وتبدأ مرحلة الخلود
, وكانت الحادثة النهائية ( زلزلة الساعة) كارثة كبرى تنهي جميع
مظاهر الحياة في الأرض , فإن المرحلة التي قبلها , تتضمن كارثة
كبرى شدة تأثيرها مقداره 99% , نحو حادثة حرب نووية كبرى تقضي على
مقدار كبير من الحياة على الأرض ولكن ليس كل الحياة , والحادثة
التي قبل هذه نسبة تأثريها 98% , والحادثة التي قبلها نسبة تأثيرها
اقل 97% والحادثة التي قبل نسبة تأثرها 96% وهكذا يستمر الحال حتى
مرحلة الحاضر الذي نحياه اليوم , والذي نشهد فيه حروب وحوادث
وكوارث مميتة نسبة تأثيرها اقل من تلك وأكبر من المراحل السابقة
التي كان فيها اكبر سلاح مميت هو المدفع و البندقية , والتي قبلها
سلاح القتل كان السيف والنبال , وهكذا يستمر الحال تنازلياً حتى
نصل إلى قابيل وهابيل ابني آدم عليه السلام , ولا ندري بأي سلاح
قتل قابيل أخاه هابيل أهو حجر أم اشتباك بالأيدي أم غير ذلك ولكنه
بالتأكيد ليس سيفاً لأن السيف بالنسبة لتلك المرحلة البدائية كان
يمثل سلاحاً متطوراً للغاية ولا يخطر ببال أحد من ذلك الجيل .
يمكن تلخص ما سبق بالنقاط التالية:
1- بقدر ما تنمو وتتكامل (تتطور) النشأة يوماً من بعد يوم , بقدر
ما تنفني وتموت شيئاً فشيئاً يوماً من بعد يوم , فكما الكائن الحي
كل خطوة نحو مزيد النمو والتكامل ,إنما هي خطوة نحو الموت والفناء
المحتوم ذات يوم .
2- لما كان الله قد حدد أهدافاً كبرى يريد تحقيقها في الحياة
الدنيا و قبل نهاية الزمان وهي:
((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ) (التوبة33)
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ
بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي
شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ
الْفَاسِقُونَ) (55النور)
فإن أغلب الكوارث المستقبلية الكبرى التي تشير إليها آيات القرآن
الكريم – سيأتي بيانها في حلقات قادمة- سوف تصيب أعداء الله من
الظالمين والمفسدين , و تقضي عليهم وعلى ظلمهم واستكبارهم شيئاً
فشياً حتى يأتي وعد الله وتنتهي كل مظاهر الظلم والفساد في الأرض .
3- لما كان من وعد الله وقضاءه أن يعاقب بني إسرائيل ويحرر القدس
الشريف من دنسهم بواسطة العراقيين وكل المؤمنين الخيرين معهم بدليل
قوله الموجه لليهود (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا
وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (7) الإسراء) ,
وكانت (القارعة) التي تصيب الذين كفروا من ضمن سنة الله الجارية
حتى نهاية الزمان, فإن من أسباب نهاية الصهاينة والظلم والاستكبار
في الأرض( أمريكا) تلك القارعة ( الكوارث) التي يستمر نزولها بأمر
الله على الكافرين والظالمين وتزداد شيئاً فشيئاً حتى يأتي وعد
الله وينتهي الزمان .
4- لما كان ظهور المهدي عليه السلام الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً
من المحتوم , فإن المسار المستقبلي للزمان ليس سالباً محضا
بالضرورة, نهايته الموت والفناء بالكوارث الكبرى, بل هو مسار
إيجابي أيضاً نحو مزيد من النمو والتطور وظهور كمال الإسلام
والعلوم العالية والحضارة العادلة النهائية الشاملة التي يقيمها
المهدي عليه السلام في الأرض.
5- لما كان مسارات أحداث الزمان تصاعدية وهي في زيادة مستمرة على
مستوى السالب والموجب اللذان ينتهيان إلى نسبة نهائية 100% في
عالمي الجنة والنار في نهاية المطاف , فإننا من خلال رصد الحوادث
الواقعة في يومنا هذا وتسجيل بياناتها بدقة نستطيع أن توقع الحوادث
التي من بعدها بصورة اقرب للواق