نحو دراسات مستقبلية إسلامية
بحث في علوم المستقبل
الحلقة الثامنة والأخيرة
كتابات - زهير الأسـدي *
الخلاصة والتوصيات


لقد واجهنا منذ البدء في دراسة مسائل المستقبل على ضوء الأساليب والخطوات العلمية المتبعة في هذا الكتاب , أهم وأخطر سؤال على صعيد البحث العلمي وهو : ما هو السبيل أو الأساس العلمي الذي يفسر لنا أحداث المستقبل تفسيراً علمياً حاسماً يرقى بقناعتنا إلى درجة اليقين, أو هو أقرب منه ؟
وكان الجواب عن السبيل الذي سلكناه في جميع فصول الكتاب هو: أن نستعين بالقوانين الكونية العامة والخاصة المبثوثة في آيات القرآن الكريم وعناصر الكون الطبيعية من حولنا ونفسر بها جميع المسائل التي تتصل بالمستقبل, مع دراسة بعض النصوص القرآنية التي تخبرنا عن المستقبل كنموذج يبين خطوات الدراسة وطريقة الاستنباط العلمية
و أما الأساس العلمي الذي استندنا عليه في تشييد أركان علم المستقبليات فكان هوية الله تعالى مجده التي تنبثق منها جميع الهويات الوجودية وحركة الزمان والمكان المنتزع منها قانون النمو والتكامل الذي هو من أهم القوانين العامة التي تحكم جميع عناصر الكون دونما استثناء, والمشاهد الواقعية لكل ما حولنا تؤكد ذلك
 فمن أوضح مظاهر قانون النمو والتكامل هو : ان الكائنات الطبيعية لا يخلقها الله دفعة واحدة تامة سوية , بل تبدأ من أبسط وحداتها ثم تنمو وتتكامل شيئاً فشيئاً ( بحركة الزمان) حتى تظهر جميع سمات هويتها الوجودية عندما تبلغ مستوى الكمال المطلوب الذي كان مركوزاً في صميم فطرتها منذ البدء في ابسط وحداتها , فالإنسان والحيوان والنبات مثلاً عناصر وجودية لا يخلقها الله دفعة واحدة تامة سوية , بل تبدأ من أبسط وحداتها وهي البذرة أو الخلية المخصبة , ثم وتنمو وتتكامل شيئاً فشيئاً حتى يظهر كمال سمات هويتها الوجودية بكمالها التام في نهاية مراحل النمو والتكامل, وتنقل هويتها الوجودية إلى الجيل القادم عن طريق التناسل , هذه المراحل من النمو والتكامل التي تمر بها الكائنات في سبيل بلوغ كمالها وظهور هويتها الوجودية الكامنة في أصلها التي انبثقت منه , إنما هي مسارات مستقبلية مركوزة في صميم الوجود ومنتزعة من قانون حركة الزمان الذي مصدره الحق تعالى مجده ( المتحرك بذاته والمحرك لغيره)
وليس قانون النمو والتكامل يحكم الكائنات الحية فحسب , بل الكائنات التي تسمى (جامدة) أيضاً , فالكون الكبير( السماوات والأرض) لم تُخلقا دفعة واحدة , بل خلقهما الله من ابسط الوحدات وهي المادة الأولى وفي ستة أيام, أي على ستة مراحل , كل مرحلة قد تمتد إلى ملايين السنين , وهذه المراحل الستة إنما مراحل نمو وتكامل تمر بها النشأة في سبيل بلوغ تمام كمالها في المرحلة السابعة ( الآخرة) التي يطلق عليها القرآن تسمية (اليوم القيامة ) وتظهر كل سمات هويتها الوجودية- التي هي مظهر لهوية الله في مقام الظاهر- في نشأة ذات ديمومة وبقاء .
وليس قانون النمو والتكامل يقتصر على وحدات عالم الطبيعة فحسب بل يشمل وحدات عالم المعنى أيضاً , فكما ينمو ويتكامل عقل الإنسان مع نمو وتكامل عالمه المادي ( جسده) كذلك عقل النشأة ينمو ويتكامل مع نمو وتكامل النشأة مادياً , فالعائلة البشرية لم تبدأ بآدم وحواء من الجانب المادي التكويني فحسب, بل من الجانب المعنوي التشريعي أيضاً , وكما هو معلوم وثابت ان آدم عليه السلام كان أول خليفة وأول نبي على الأرض , وان نبوته كانت البذرة الأولى لشجرة الشرائع العملاقة التي اختتمت برسالة خاتم الأنبياء وأشرف المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وبالقرآن الكريم , فما بين آدم عليه السلام ورسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلسلة طويلة من الرسالات والأنبياء
 وبعبارة أخرى نقول: كما ينمو ويتكامل عقل الإنسان مع نمو وتكامل جسده , كذلك عقل النشأة الذي هو روح من الله ينمو ويتكامل شيئاً فشيئاً حتى يظهر العقل الكامل التام ( المهدي المنتظر) الذي تتجلى في شخصه كل سمات هوية الله الوجودية, فقانون النمو والتكامل إنما قانون عام شامل يحكم جميع عناصر الكون دونما استثناء ,وهو مسار مستقبلي جدير بالدراسة والبحث لأنه أصيل وفي صميم الوجود المنتزع من هوية الله تعالى مجده
 وكما يربي الآباء والتربيون الأطفال والتلاميذ عن طريق الإرشاد والتعليم الذي ينمو ويتكامل ويشتد مع تقدم العمر والمراحل, كذلك يربي الله خليفته في الأرض (الإنسان ) عن طريق بعث الأنبياء وتنزيل الكتب والرسالات خلال مراحل نمو وتكامل النشأة حتى تبلغ تمام كمالها في نهاية المطاف وتنتقل إلى النشأة الأخرى, وهذا هو المسار المستقبلي الأصيل في الوجود, إنه مظهر لحركة الواجب تعالى مجده المتحرك بذاته والمحرك لغيره , (من الأول إلى الآخر) (7)
 وعلى ضوء ما سبق فإن المسار المستقبلي الظاهر في النشأة ما هو إلا انعكاس لحركة الواجب تعالى مجده في مرآة الطبيعة , وكل حدث مهما كان صغيراً أو كبيراً إنما يكون بمشيئة الله وحوله وقوته , وعن سابق علم وحكمة (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (29 التكوير) (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (123هود) فكل شيء يتحرك بحول الله وقوته من الله في مقام الأول , وإلى الله في مقام الآخر , وبهذا فإن الصدفة أو الفوضى لا يسلكان للوجود من سبيل
الخاتمة
الآن وبعد أن انتهينا من الفصول الأساسية للدراسة المستقبلية وبينّا الكثير من الخطوات العلمية المتعلقة بها بالقدر الذي ييسر فهم الدراسات المستقبلية الإسلامية التي نطمح بتقديمها للمسلمين عامة على ضوء الشريعة السمحاء ,أصبح من الضروري استعراض النتائج الهامة التي توصلنا إليها في البحوث السابقة بشكل خاطف , ومن ثم تلخيصها في نقاط مبسطة تكون هي ثمرة الدراسة
ولأجل ذلك فإنه يمكن تلخيص أهم مبادئ الدراسات المستقبلية الإسلامية بالنقاط التالية:
1- لما كانت عناصر النشأة متحركة بحول الله وقوته ( حركة الواجب) , فإن المسار المستقبلي الذي يظهر الأحداث في الأرض يكون مظهر لحركة الواجب ومشيئته , و ان الصدفة أو العبث لا يسلكان للوجود ( الله) من سبيل
2- لما كان الكون بجميع عناصره مظهر لله في مقام الظاهر , وكان الله عليماً حكيماً , فإن المسار المستقبلي لكل عنصر من عناصر الكون مهما كان كبيراً أو صغيراً , عظيماً أو تافهاً , إنما يكون مظهر لعلم وحكمة الله في النشأة في مقام الظاهر
3- لما كان الله عالماً بكل شيء والعلم ذاته , وكان القرآن الكريم روح من الله وهو ( .. تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (89 النحل ) فإن كل علم الله الذي يتضمن العلم بأحداث الزمان يجب ان يكون موجوداً في القرآن الكريم , مذكوراً إما بصراحة ووضوح أو على شكل تجريد وترميز , يظهر في النشأة على شكل أحداث تنمو وتتكامل كما تظهر هوية الكائنات في الوجود من الجينات الوراثية المشفرة والمرمزة المركوزة في ابسط وحداتها التي تحمل خصائص هويتها الوجودية
4- لما كان الإنسان روح من الله والقرآن كذلك ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)الشورى) فإن كلا هما منبثقان من مصدر واحد , عالم بكل شيء , قد منح كلاهما - الإنسان والقرآن- هويته العلمية التي تتضمن بلا شك أحداث الزمان من الأول إلى الآخر , فكما القرآن روح من الله يتضمن أحداث الزمان من الأول إلى الآخر , كذلك هوية الإنسان تتضمن أحداث الزمان من الأول إلى الآخر على شكل ترميز وتجريد , ولولا هذه الهوية لما استطاع الإنسان أن ينمو ويتكامل في سبيل خروج هويته الوجودية الكامنة في ابسط وحداته التي ينبثق منها . فما بين بداية الإنسان ونهايته ,مسار مستقبلي موجود أصلاً فيه منذ البدء في جيناته الوراثية
5- لما كانت جميع الكائنات الوجودية تأخذ هويتها من الله تعالى مجده, فإنها كما في الإنسان تكتنز في صميم فطرتها مسارها المستقبلي الذي تتحرك نحوه , فالنشأة كلها تتحرك بحول الله وقوته من الأول إلى الآخر وفق خطة دقيقة ضمن هوية وجودية لا يسلك العبث إليها من سبيل .
6- لما كانت حقيقة الإنسان روح من الله (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (72ص) وكان الله عليماً حكيماً , فإن روح الإنسان- الذي هو من الله- يستطيع أن يدرك الكثير من الوقائع الحادثة قبل أوانها , كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام , يحدثان الناس عن المستقبل , مع فارق بالدرجة ما بين المعصومين والإنسان المؤمن التابع لهم والسائر إلى الله على طريقتهم العرفانية المثلى .
هذه هي أهم مبادئ علم المستقبليات الإسلامي التي انتزعت جميعها من هوية الله الوجودية ومن القرآن الكريم وعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام , وهي بلا شك تختلف اختلافاً جذريا عن علم المستقبليات الأرضي البعيد عن السماء . أدعو أخواني المسلمين المهتمين بهذا العلم أو ممن يمارسون صناعة القرار على المستوى الرسمي أو على مستوى الجماهير , ان يلتفتوا إلى أهمية الدراسات المستقبلية في معرفة القادم من الأحداث لمواجهتها عن سابق علم وتوقع , ووضع الخطط والإمكانيات المناسبة لها قبل الآن , وهذا ما كان يعمل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي حدثنا عن الكثير من أحداث المستقبل , أتمنى على إخواني المؤمنين دراستها والعمل بها ضمن برامجهم الرسمية والجماهيرية, بل القرآن الكريم يحدثنا عن المستقبل الأرضي وعن الآخرة ويصوره لنا في "سيناريوهات" علمية في غاية الدقة والواقعية , ويدعونا للتحرك نحوه عن سابق علم ودراية . وكلنا نعلم أن جميع الأعمال العبادية قائمة على النية التي تعني العمل عن سابق تصور وتصميم, والنية التي هي قرار لا تكون إلا عن علم مسبق لما تريد أن تقدم عليه , وهنا تكمن أهمية الدراسات المستقبلية على مستوى الرسمي والجماهيري , ليس في سبيل مواجهة أزمة محتملة بل لصنع أزمة أيضا لتمرير مشروع أو فرض قرار ينسجم مع أهداف الله وإرادته .
ولأجل ذلك أقدم التوصيات التالية التي كانت من ضمن أهداف البحث منذ البدء:
التوصيات
1- استخدام طريقة العرفان وتزكية النفس في تدريب الكوادر العلمية المتخصصة في الدراسات المستقبلية والقريبة جداً من صانعي القرار , لضمان نزاهة العاملين في هذا المجال وخلو عقولهم من هوى النفس والرغبات وحب الدنيا والمصالح الشخصية , و ليكون عملهم خالصا لله تعالى مجده ومن أجل الأمة
2- وضع تصوّر مستقبلي، يتعين مداه على حسب أهمية المجال الذي يخوض فيه , ما بين السنة إلى عشرين أو ثلاثين سنة قادمة , يتم خلالها دراسة الغايات والأهداف والمصالح العامة, على أن يتضمن أكبر قدر ممكن من التفاصيل وباستخدام النماذج والحسابات الرياضية
3- تطعيم العلوم الإسلامية الأصيلة بخبرات وتقنيات العلوم الحديثة في مجال الدراسات المستقبلية مثل الرياضيات والفيزياء والحاسبات ونحو ذلك
4- فيما يخص الأمن القومي للمسلمين يكون الاعتماد على سيناريوهات مختلفة تتضمن كل الاحتمالات الممكنة والمتصورة أيضاً, يتم خزنها في منظومات حاسبات خاصة بهذا المجال ومبرمجة على أساس رياضي دقيق وحسب مبدأ الدائرة والمركز, تكون متاحة في كل حين لصانعي القرار مع مستشارين متخصصين في المستقبليات وإن لم يتوفر فالإستراتيجيون يحلون محلهم ريثما يتم تدريب الكوادر المتخصصة
5- دراسة الإمكانيات المطلوبة في كل مسار مستقبلي يراد تحقيقه على أن تشمل أهدافاً معروفة علمياً, وبيان متطلباته من نفقات وجهود وما يستلزم من تطوير علمي وعملي
تم بحول الله وقوته زهير الأسدي
=================
الهوامش
1- السيناريو غير الفني – من الانترنت – سلطان بن عبد العزيز
2- المصدر السابق
3- المصدر السابق
4- انظر لسان العرب ( مادة لفيف)
5- انظر نهاية إسرائيل والولايات المتحدة الامريكية – خالد عبد الواحد
6- أنظر الميزان في تفسير القرآن – الطباطبائي ( تفسير سورة الإسراء)
7- المهدي المنتظر ضرورة وجودية لا يمكن تصور عدمها ص134- 135 – زهير الاسدي
==================
المصادر
1- القرآن الكريم
2- - الميزان في تفسير القرآن - الطبأطبائي
3- نهج البلاغة شرح ابي الحديد ا لمعتزلي
4- السيناريو غير الفني ــ بحث على الانترنت \ عبد العزيز بن سلطان
5- نهاية إسرائيل والولايات المتحدة الامريكية – خالد عبد الواحد
6- عبدالمنعم كاطو وآخرون، "التخطيط المستقبلي بأسلوب السيناريوهات"، مركز الدراسات الإستراتيجية، القاهرة، 2001
7-      نهاية أسرائل واستمرار لعبة الامم - المركز العربي للدراسات المستقبلية
8- هزيمة المارينز – مجلة فورين أفيرز - محمد الخولي

 

الرئيسية  | مركز الصدرين للفكر الإستراتيجي |  العودة للصفحة السابقة