مقال في علم المستقبل - للسائلين عنه
كتابات - زهير الأسـدي *
 

لقد كتب بعض الإخوة في هذا الموقع الشريف ( كتابات) مقالات موجهة لي شخصياً تتضمن تساؤلات عن علوم المستقبل وتعريفه وعلاقته بما أكتب, وقد لمست فيها بعض الجهل بهذا العلم وطريقة نسبه إلى جهات بعيدة كل البعد أن مصدره الأصيل, فبعضهم يعتقد أنه علم الخرافة ( الفنجان وقراءة الكف ونحو ذلك ) وبعضهم يعتقد أن انه علم غربي حديث طارئ على حضارتنا, وأنا شخصياً لا أملك إلا أن أبتسم أمام تلك الآراء البسيطة ( البريئة) التي تنم أن أصحابها طيبون وعلى نياتهم ولا أقول غير ذلك , ولأجل ذلك اكتب هذا المقال , لعله يكون جواباً لمن وجهوا إلي التساؤلات , وتنويراً لمن يرغب بمزيد من المعرفة .
أقول : ليس علم المستقبل بحديث أو صناعة غربية ذات ماركة مسجلة مقترنة بالتكنولوجيا الحديثة, ولا هو ذو علاقة بالخرافة وقراءة الطالع كما يظن البعض, بل هو علم قديم جداً قدم الإنسان منتزع بالأصالة من علم الله تعالى مجده الذي يعلم بكل دائرة الزمان من الأزل إلى الأبد , والكثير من علم الله قد نزل إلى الأرض بواسطة الروح الذي نفخه الله في آدم عليه السلام (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (الحجر29) وبواسطة الوحي ,  حيث أول إنسان في الأرض آدم عليه السلام كان يعلم المستقبل والكثير من أحداثه, يعلم بأنه سوف يأتي زمان ويكون فيه نبي من ولده اسمه محمد يختم النبوة ويكون له شأن ومنزلة عظيمة عند الله وعند المؤمنين به , وتقول بعض الروايات أن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة 37) كانت ان الله علّمه أن يدعو باسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآل بيته الطيبين الطاهرين عليهم السلام , وعلى هذا فإن علم المستقبل بدأ من آدم عليه السلام ومصدره الأصيل في الوجود الله تعالى مجده.
ولو نستعرض سيرة الأنبياء عليهم السلام نجد أن النبوة قائمة على التنبؤ, أي العلم بأحداث المستقبل, ولا يوجد نبي بلا نبوة أو تنبؤ , بل جميعهم كانوا يخبرون عن نبوءاتهم والحوادث المستقبلية , ويستبقون الزمان  بوضعهم الخطط والبرامج التي تحصّن الناس من الفتن والمظلات التي سوف تحدث لهم في المستقبل قبل أوانها , ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك آل بيته المعصومين عليهم السلام , قد سجلوا لنا من خلال الأحاديث الشريفة والروايات المنقولة عنهم الكثير من الأحداث التي سوف تحدث في المستقبل منذ ذلك الحين , مما يعني أنهم من علماء المستقبل , وقد اخبرونا بالتفصيل عما يحدث في الفترة التي تسبق ظهور المهدي عليه السلام والفترة المعاصرة لظهوره , وقد سجل أحد الباحثين - المعاصرين-أن هناك 3666 حديث  للمعصومين عن المهدي عليه السلام الذي خصه الله دون غيره من الآخرين باظهار العالية ليرفع من مكانية الأمة التي شرفها بأشرف المرسلين والكتاب الجامع لجميع الكمالات.
 وعند قراءتنا للقرآن الكريم نجد المئات من الآيات الشريفة تحدثنا عن المستقبل وما سوف يحدث في الأرض من أحداث وفي السموات أيضاً, بل القرآن الكريم يذهب إلى ما هو ابعد من دائرة الزمان الممكن ويخبرنا عن الآخرة وما سوف يحدث فيها من أحداث, نحو طريقة الحساب والمثول أمام عدالة الله جل شأنه , وعناصر ومفردات عالم الجنة وما فيه من نعيم مقيم, و عناصر ومفردات عالم الجحيم وما فيه من عذاب مهين ونحو ذلك .
  مقطع
 وبناء على تقدم فإن علم المستقبل علم أصيل مصدره الوحي والنبوة وله قوانين وقواعد منتزعة من هوية الله تعالى مجده, قد سجلها القرآن الكريم في آيات كثيرة جداً, غير تلك التي يدعيها الغرب وينسب له البعض انه علم ممهورة باسمه,, وأنا كمسلم مهتم بشؤون ديني الذي يأمرني أن اعمل للغد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ..) (الحشر18) أتوق للمستقبل الذي يبشر به القرآن الكريم سواء كان ذلك على مستوى الآخرة وجنة عرضها السموات والأرض , أو على مستوى الدنيا حيث بسط العدالة الشاملة على الكرة الأرضية التي ينهض بها المهدي عليه السلام , لذلك أجد نفسي أمام مسؤولية شرعية بما أعطاني الله من إمكانيات علمية متبنية على أسس أكاديمية وثقافة عامة استحصلتها من الخارج بالمثابرة , أن اهتم بهذا العلم الذي يستشرف المستقبل  وابحث في القرآن والأحاديث الشريفة عن الأسس العلمية والمنطقية لهذا العلم الذي للأسف لم ينهض به احد إلا القلة النادرة من أبناء قومي , وخلال البحث في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة و الإلمام بمبادئ الكثير من العلوم الحديثة , وجدت أن أصل كل علم منتزع من هوية تعالى مجده الذي نفخ الروح في الإنسان وجعله خليفته في الأرض وأمر جميع الملائكة أن تسجد له , و كل ما في الأرض من كمال إنما مظهر لكمال الروح الذي حمله الإنسان .
هذه هي رؤيتنا عن أصالة علوم المستقبل الذي بدأ بآدم عليه السلام ونشأ وترعرع في بيوت الأنبياء والمعصومين عليهم السلام حتى وصل إليها من خلال القرآن الكريم  والأحاديث الشريفة تاماً كاملاً ومنزهاً ًمن العيوب.
 أما في الغرب فإن البدايات العلمية الجادة بدأت في بريطانيا عند بداية القرن التاسع عشر , وظهرت ملامحها الحقيقية في بداية القرن العشرين من خلال صدور المؤلفات التي رسمت صورته في الحقول المتخصصة التي يخوض فيها , حتى أطلقوا عليه تسمية علم المستقبل (Futurology) على الدراسات المستقبلية التي تحولت شيئا ًفشيئاً إلى حقل متكامل يخوض في علوم شتى يبحث في المبادئ النظرية والاستشراف والتطبيق , ثم أخذ طريقه إلى التدريس وشيدت له جامعات ومؤسسات أبحاث متخصصة , وقد اهتمت به بعض الدول إلى درجة أنهم في السويد (عام 1973) قد خصصوا له سكرتارية وزارية خاصة بالدراسات المستقبلية , وسارعت الكثير من الدول الغنية إلى تخصيص ميزانية خاصة به, ساهمت بارتفاع عدد المؤسسات المتخصصة بالدراسات المستقبلية حتى أرتفع العدد في أمريكا من 600 مؤسسة ولجنة وسكرتارية في عام 1967 إلى 1000 بعد أقل من عشرين سنة , وبلغ عدد العاملين فيها أكثير 10,000 خبير وباحث وتقني , متخصصين في إقامة الندوات والمؤتمرات التعليمية و توجيه الرأي العام وإصدار الدوريات والكتب المتخصصة به , حتى تحوّلت الأنماط البحثية إلى مدارس ونظريات لها روادها من العلماء والخبراء وتحّول اتجاه منها إلى ظهور علوم فرعية منبثقة منه مثل علم اجتماع المستقبل (Sociology of Future)  ونحو ذلك .
وفي المجال ذاته تقوم بعض المؤسسات ذات العلاقة بنشاطات مكثفة بعقد مؤتمرات دورية لدراسة المستقبل ونظرياته وتطبيقاته , حتى أن المؤتمر الذي عقد عام 1990 في أمريكا حضره 850 عالماً وخبيراً من 48 دولة , كان من بينهم بعض العرب الذين يمثلون الاتجاه العلماني مع غياب الإسلاميين للأسف في هذا الميدان .
 
 ولأنني- كما غيري من المسلمين- ابحث عن الأصالة وعدم الاغتراب في الهوية والعقائد وطريقة استحصال العلوم, قد حصرت اهتمامي بما هو أصيل  فقط  أي القرآن والأحاديث الشريفة, إلا المتابعات العلمية في العالم, حتى وجدت أن كل شيء في دائرة الإمكان يفسرها الزمان , الذي هو مظهر لحركة الواجب تعالى مجده المتحرك بذاته والمحرك لغيرة , ومن خلال هذه الحركة استطيع كباحث مسلم ان أبني أسس وقواعد حركة التاريخ و عناصره بما فيها المادة, أشكالها ومراتبها, ووجدت أن هناك فرقاً ًكبيراً ما بين الباحث المسلم الذي بين يديه القرآن الكريم والأحاديث الشريفة حيث حقائق المستقبل مؤكدة ومحتومة , وبين الباحث الغربي المحروم من كل ذلك وينسب ابحاثه  ونتائجه إلى مصدر مجهول حتى تكون كلها مجرد احتمالات لا أكثر فيأتي حدث طارئ غير متوقع ينسف كل نتائج ابحاثه التي بنيت على الاحتمالات .
 ولما كان الزمان يفسر كل شيء بناء على الحركة الجوهرية التكاملية الداخلة في تركيب كل شيء باعتبارها حركة الواجب تعالى مجده , فإن ما اسمية بـ علم الزمان  يدخل في تركيب كل العلوم دونما استثناء بما فيها الشريعة والإنسان , والباحث الذي يستطيع أن يستنبط القوانين العامة في الكون ويقارنها بالأحداث المثبتة في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة يستطيع أن يظفر بالكثير من الحقائق المؤكدة وبأقل قدر من الأخطاء أو الاحتمالات .
وإليكم نموذج من الطريقة التي اتبعها  في كيفية انتزاع القوانين العامة في الكون من هوية الله تعالى مجده , وتطبيقها فيما بعد في ميادين العلوم التي أخوض فيها .
نسأل من هو الله ؟ لنعرف كيف خلق عناصر وكيف يحركها ؟؟  يجيبنا بقرآنه المجيد بكل وضوح حيث يقول:
(هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الحديد3)

في هذه الآية المباركة التي تصف هوية الله تعالى مجده قوانين عامة عن الزمان والمكان ,ولما كان الله خالق كل شيء , فانه لولا الخالق لما وجد المخلوق , و لو لم يكن الله (أول وآخر) لما وجد زمان (ماضي ومستقبل- أزل وابد) ,ولو لم يكن الله (ظاهر وباطن) لما وجدت المادة الظاهرة والباطنة , وبالتالي المخلوقات الظاهرة والباطنة .
 وفي سبيل انتزاع قانون عام للعلوم التي ابحث فيها أقوم بإجراء المعادلة البسيطة الموضحة بالرسم الجانبي :

حيث الله تعالى مجده هوية واحدة لا غير ( واحد أحد) ولكن مظاهر وجوده في الوجود تكون أول وآخر , ظاهر وباطن , فمنه تندفع الموجودات الزمانية والمكانية ( الظاهرة والباطنة) للوجود , وعند ترجمة تلك القيم إلى مفردات علمية لغرض تطبيقها في العلوم الحديثة, فإننا من القيم المتقابلة (أول وأخر) ننتزع السالب والموجب في المحور الذي يسمى بالمحور السيني , ومن القيم المتقابلة ( الظاهر والباطن) ننتزع السالب والموجب في المحور الذي يسمى بالمحور الصادي . لنحصل في النهاية على تفسير علمي أصيل للزمان والمكان منتزع من هوية الخالق العظيم مبيناً بالرسم الجانبي الثاني .
 من خلال هذه المعادلة  نستطيع أن ندرس كل ظاهر تاريخية زمنكانية ( زمانية ومكانية ) , بل يمكن أن نخوض إلى أعمق من ذلك وندخل إلى كنه الأحداث حينما نجرّد المعادلة السابقة إلى ابسط وحداتها الزمنكانية لتصبح الصورة الموضحة بالرسم التالي :

وهذه الأخيرة لها تطبيقات في مجالات علمية دقيقة جداً مثل أبحاث الذرة وأجزاء الذرة نحو الكواركات والأوتار الفائقة, وبها نتجاوز ما يسمونه بجدار بلانك في الفيزياء لنصل  في النهاية إلى كنه الحقيقة العلمية التي حيرت عقول العلماء إلى يومنا هذا:
(..وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (يونس61)
ويمكن الاستفادة من تلك النظرية في التطبيقات العملية والصناعية , وإني لأرجو من الله أن يكون لي الشرف في هذا المجال أن أقوم بوضع التصميم النظري لكمبيوتر المستقبل الإسلامي  الذي أراه على درجة كبيرة من السرعة والسعة , حيث المادة التي تتعامل مع المعلومات ضوئية –كمية ( من نظرية الكم) وليست ذرية كما هو شائع .
ولما كان الله واحد أحد وهو خالق كل شيء , فإن الحدث التاريخي لكل عنصر من عناصر الكون محكوم بقانون عام شامل للجميع , فحركة الكواكب مثلاً هي ذاتها حركة الذرات, و هي ذاتها حركة الإنسان, والفرق بين الجميع بالمرتبة والأصل واحد , وحينما نقرأ في القرآن الكريم مثلاً أن المخلوقات الجامدة تصلّي وتسبّح لله (..كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ..)(النور41) تتأكد لدينا العوامل المشتركة ما بين جميع مخلوقات الله التي يجمعها قانون واحد وتنتهي إلى مصدر واحد ( هذا هو التوحيد العملي ).
 وأنا كمسلم لا أتناول عناصر الكون والطبيعة من حولي من زاوية مادية محضة ولا اعتبرها كائنات جامدة كما يفعل الباحث الغربي , بل أحاول أن أدخل إلى قلب تلك الكائنات وأحاورها بالوجدان لأعرف كيف يا ترى تصلّي وتسبّح لنفس الرب الذي أصلي له وأسبح بحمده , أحاورها بقلب يؤمن بما أخبر به الخالق العظيم انها تعلم وتدرك ما تقوم به من صلاة وتسبيح (..كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ..)(النور41) وأحاول أن أنشئ معها علاقة قد غفل عنها الغافلون لعلها  تبوح لي عن بعض إسرارها الكامنة , يبدو أن هذه هي مشارف العرفان التي خاضها الأنبياء عليهم السلام  فكشفت لهم تلك الكائنات إسرارها وصارت تسبّح لله معهم:
 (..وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) (ص 17-20 ).
 (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُود وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ * وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) (النمل 16-24)
 
من خلال ما سبق نستنتج أن جميع ما في السموات والأرض كائنات اجتماعية شأنها شأن الإنسان ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ )(38 الأنعام ) وجميع تلك الكائنات تشترك بسمة الإدراك والشعور ,(.. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ..) (44الإسراء) وعلى ما يبدو أن صلاة وتسبيح الكائنات لله تعالى مجده يكون بواسطة القصور الذاتي الذي تشعر به تلك الكائنات أمام عظمة الله تعالى مجده , ومن مظاهره الجاذبية والنبض الذري الذي يصدر عنها وعن النجوم والمجرات بنفس الكيفية مع فارق بالدرجة , إنها تنبض بالزمان, والزمان ما هو إلا حركة الواجب تعالى مجده وبهذا هي ترتبط سببياً وتكوينياً بالله وهذا الارتباط السببي النابض لعله يكون هو الصلاة والتسبيح الذي تتحدث عنه آيات القرآن الكريم .
 أما الإنسان فصلاته وتسبيحه إنما عن وعي يتناسب ودرجة كماله يظهر بوضوح من خلال شعوره بالخضوع طوعاً أو كرهاً للخالق العظيم , وهو مظهر راقي ومتقدم للقصور الذاتي الذي تشعر به الجامدات وتظهر الجاذبية الفيزيائية من خلاله .
ولما كانت جميع الكائنات تشترك بسمة الإدراك والشعور فإن هذا العنصر الأصيل في الوجود له شأن كبير في معرفة قوانين الكون وتطبيقاته في علوم المستقبل , وهو عنصر قد غفل عنه الباحثون في الغرب والعلمانيون للأسف في بلادنا , استطيع من خلاله أن أخوض في الكثير من المجالات العلمية  وتطبيقاتها التي حُرم منها الآخرون , وها  هنا يظهر لنا بوضوح لماذا سمي القرآن بـ القرآن الكريم , إنه يكرمنا بالكثير من العلوم والمعارف ويفتح لنا الآفاق الرحبة في جميع العلوم وتطبيقاتها دون أن تنضب خزائنه النفيسة .
ولما كانت جميع الكائنات تشترك بسمة الشعور والإدراك , فإن الظاهرة التاريخية التي تجري على الكائنات الطبيعية تجري على الإنسان بنفس الكيفية مع فارق بالمرتبة , حيث القانون الفطري الذي يحكم الجميع واحد , ومن خلال هذه الحقيقة أستطيع أن أخوض في الكثير من التفاصيل الدقيقة في ابسط وحدات الزمان وأكبرها واربط ما بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة التاريخية برباط واحد جامع مشترك, فتأتي نتائج الأبحاث- بإذن الله- على درجة كبيرة من الدقة لا تتوفر عند الذين يغفلون عن تلك الحقائق .
وبناء على ما تقدم يظهر لنا بوضوح إن التاريخ بوحداته الكبيرة والصغيرة كائن حي ينمو ويتكامل كما يتكامل الكائن الحي . وقد كتب من قبل مقالة في هذا الخصوص , شرحت فيها العلاقة الضرورية ما بين الكائنات والمصدر الذي انبثقت منه (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً) (فاطر41) يمكن هنا أن أعيد بعض فقراتها مع الاختصار تعميماً للفائدة.
أقول:
إن عناصر الكون ( السموات والأرض ) لم يخلقها الله دفعة واحدة , بل خلقها في ستة أيام (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ..) ( السجدة4) أي خلق الكون بعناصره الظاهرة والباطنة في ستة مراحل, كل مرحلة استغرقت ملايين السنين, ومازالت مرحلتي الحياة والموت في نمو وتكامل منذ آلاف- ملايين- السنين ولم تكتمل حتى تأتي المرحلة السابعة والأخيرة التي يطلق عليه القرآن تسمية( يوم القيامة) , فالكون ينمو ويتكامل كما الكائن الحي حتى يظهر كل الكمال في اليوم السابع ( يوم الدين- يوم القيامة- يوم التغابن – يوم الفصل) .
 فالشجرة التي هي من عناصر السموات والأرض ( جذورها في الأرض و أوراقها تأخذ طاقتها من الشمس) لا تُخلق دفعة واحدة تامة سوية , بل تبدأ من أبسط وحداتها وهي البذرة , ثم تنبت وتنمو وتتكامل شيئاً فشيئاً حتى يظهر كمال سمات هويتها الوجودية بكمالها التام في نهاية المطاف, وتنقل هويتها الوجودية إلى الجيل القادم عن طريق الثمار والبذور .
إن الظاهرة التاريخية الخاصة بالشجرة في نمو وتكامل وفق خطة كامنة في ابسط وحداتها وهي البذرة , حيث إنها مبرمجة في جيناتها الوراثية إلى أي صورة ولون وطعم يجب أن تكون .
 والإنسان ( خليفة الله في الأرض)لا يُخلق دفعة واحدة رجلاً تاماً سوياً أو امرأة تامة سوية , بل يبدأ من ابسط وحداته وهي الخلية المخصبّة التي تنقسم وتتكاثر بشكل مطرد فتكون جنيناً نامياً , ثم يولد وهو في اشد حالات الفقر والضعف , ومع نمو وتكامل عالمه المادي (جسده) ينمو ويتكامل عالمه المعنوي ( عقله) حتى يكون رجلاً تاماً سوياً أو امرأة تامة سوية , ينقل هويته الوجودية إلى الجيل القادم بواسطة النطفة وعن طريق التناسل , وهذا شأن كل حيوان. وهو مبرمج في جيناته الوراثية إلى أي صورة ولون وطول وسمات خلقية يجب أن يكون, أما العوامل المعنوية واستحصال المعرفة التي تميز كمال هذا عن ذاك , فهي المواد الإنشائية التي تساهم في بناء ذاته الباطنة (عقله), ينتخبها انتخاباً بقوة الإرادة التي تتوفر عنده بدرجة أكبر من بقية الكائنات .
وليس قانون النمو والتكامل يقتصر على وحدات عالم الطبيعة فحسب بل يشمل وحدات عالم المعنى أيضاً , فكما ينمو ويتكامل عقل الإنسان مع نمو وتكامل عالمه المادي ( جسده) كذلك عقل النشأة ينمو ويتكامل مع نمو وتكامل النشأة مادياً , وها هنا مسار زمني يتجه نحو المستقبل – الكمال- فالعائلة البشرية لم تبدأ بآدم وحواء من الجانب المادي التكويني فحسب, بل من الجانب المعنوي التشريعي أيضاً , وكما هو معلوم وثابت ان آدم عليه السلام كان أول خليفة وأول نبي على الأرض , وان نبوته كانت البذرة الأولى لشجرة الشرائع العملاقة التي اختتمت برسالة خاتم الأنبياء وأشرف المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وبالقرآن الكريم  الذي هو (...تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل89), فما بين آدم عليه السلام ورسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلسلة طويلة من الرسالات والأنبياء.
وبعبارة أخرى نقول: كما ينمو ويتكامل عقل الإنسان مع نمو وتكامل جسده , كذلك عقل النشأة الذي هو روح من الله ينمو ويتكامل شيئاً فشيئاً حتى يظهر العقل الكامل التام ( المهدي المنتظر) الذي تتجلى في شخصه كل سمات هوية الله الوجودية فيبسط العالة الشاملة في ربوع الأرض, ومن هذا يظهر ان قانون النمو والتكامل إنما قانون عام شامل يحكم جميع عناصر الكون دونما استثناء  , وهذا النمو والتكامل إنما مسار تاريخي يتجه نحو المستقبل نحو الكمال , ينبغي على الباحث المسلم أن يرصد عناصره المتحركة الظاهرة والباطنة (المادية والمعنية) , ليضع الدراسات السابقة لكل حدث  قادم له تأثير على حياة الأمة ومستقبلها . يمكن الاستفادة منها في البرامج الاستراتيجة والتوجهات العامة للأمة , بل هي موجودة أصلاً في القرآن الكريم لمن يريد.
( ..الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ..) (الأعراف 43)
 

الرئيسية  | مركز الصدرين للفكر الإستراتيجي |  العودة للصفحة السابقة