المهدي المنتظر... في ضوء القرآن والعلوم الحديثة والرياضيات -
2
كتابات - زهير الاسدي
(( دراسة علمية تتناول بالبحث والتحليل مسألة المهدي المنتظر على
ضوء ما جاء في القرآن الكريم و السنن الكونية ويقوم بتفسيرها على
حسب العلوم الحديثة مثل الرياضيات والفيزياء والأحياء ونحو ذلك ))
الباب الثاني :المهدي في الدنيا والآخرة
الفصل الأول: المهدي قائم بأمر الله
والآن بعد أن عرفنا -من خلال الأحاديث الشريفة والمصادر الكثيرة
التي ذكرناها في المباحث السابقة- هوية المهدي المنتظر الذي يملأ
الأرض قسطاً وعدلاً, واتضح لنا أنه ليس مسألة مذهبية تخص فئة دون
غيرها, بل هو من الحقائق الموثقة في مصادر المسلمين على اختلاف
اجتهاداتهم, أصبح من الضروري عرض تلك الحقيقة -التي استخلصناها من
الأدلة النقلية المتواترة -على العقل والقرآن الكريم, فإن تعارضت
ولم تتوافق معهما سوف نضرب بها عرض الحائط , وإن توافقت وتطابقت مع
نصوص القرآن والأدلة العقلية نأخذ بها ونعتبرها من الحقائق المؤكدة
التي لا يسلك الشك إليها من سبيل .
ولأجل ذلك نتناول أولاً مسألة أخرى- قد تكون غير مبحوثة من قبل-
تتصل بهوية المهدي المنتظر بالبحث والتحليل, و المسألة هي :
ان المهدي المنتظر عليه الصلاة والسلام ليس بمقام الإمام -الثاني
عشر- الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً في الحياة الدنيا فحسب , بل هو
بمقام القائم بأمر الله الذي بواسطته يحاسب الله الناس أجمعين في
النشأة الأخرى الخالدة ( يوم القيامة).
فكما هو المصمم من قبل السماء لأداء أهم وأخطر مهمة في الأرض -
إظهار الإسلام على الدين كله وبسط العدالة الشاملة في الأرض- في
الحياة الدنيا, كذلك هو الذي يتولى أمر العدالة الشاملة في يوم
الحساب, فهو- كما سيظهر خلال البحث- المرآة التي يظهر فيها الله
للناس (في مقام الظاهر) في الدنيا والآخرة , أي في شخصه المقدس
تتجلى أسماء وصفات وأفعال الله للناس في الدنيا والآخرة, فيكون
واسطة لظهور الله في سبيل بسط العدالة الشاملة (في الدنيا) وحساب
الناس أجمعين (في الآخر).
وفي سبيل بيان تلك المطالب نبدأ أولاً بتصوّر الحساب يوم القيامة ,
ثم بيان الضرورة التي تفرضها طبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوق ,
وعند استعراض الأدلة يظهر لنا ان حساب الناس يوم القيامة ينبغي أن
يكون بواسطة بشرية وجودها ضرورة وجودية لا يمكن تحقق ولا حتى تصوّر
الحساب دونها , ثم نشير إلى العلاقة الضرورية التي تؤكد أن الذي
يبسط عدل الله في الأرض هو ذاته الذي بواسطته يتولى الله شأن
العدالة والحساب في الآخرة .
والمستحصل ان المهدي المنتظر عليه الصلاة والسلام الذي يملأ الأرض
قسطاً وعدلاً في الحياة الدنيا , هو ذاته الذي سيتولى مهمة العدالة
الشاملة في الحياة الأخرى ,أي هو الواسطة الضرورية التي بها يحاسب
الله الناس يوم القيامة, وستكون المصادر والبراهين التي تؤكد لنا
تلك الحقائق من العلوم الحديثة والقرآن الكريم الذي هو
(..تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى
لِلْمُسْلِمِينَ)[1].
تصوّر الحساب يوم القامة:
مما لا شك فيه ولا نقاش في عقيدة المؤمنين بالله واليوم الآخر ان
النشأة الأخرى من المحتوم الذي قرره وقدره الله سبحانه وتعالى ,
فجميع الرسالات المنزلة منذ آدم عليه السلام وحتى خاتم الأنبياء
صلى الله عليه وآله وسلم تؤكد على حتمية الآخرة, وأن الحساب حق وأن
الجنة والنار حق لا ريب فيه, فالاعتقاد بالآخرة والحساب من العقائد
المحسومة التي لا شك فيها ولا اختلاف عند جميع المؤمنين بالله
واليوم الآخر, ولكن تصوّر الحساب والكيفية التي يقف بها الناس أمام
الله للحساب من الأمور التي قد تختلف الاجتهادات وتتنوع التصوّرات
بشأنها.
والسؤال هو : ترى ما هي الكيفية التي يقف بها الناس للحساب يوم
القيامة ؟؟ وهل يرون الله ويسمعون كلامه تعالى مجده عند الحساب
والمحاججة والاختصام بين يديه؟؟
الجواب : من المؤكد ان الله جل شأنه منزه تنزهاً تاماً ومطلقاً عن
مجانسة مخلوقاته, فهو تعالى مجده –وعلى حسب قانون العلية- لا يباشر
أمر الخلق بنفسه بل يوكل ذلك إلى مخلوقاته فيكونوا هم السبب الذي
بواسطته ينفذ أمر الله في النشأة . فعلى سبيل المثال: الله هو الذي
يحيي ويميت, ولكنه جل شأنه منزه عن مجانسة مخلوقاته فلا يباشر ذلك
بنفسه ويقبض أرواح الناس بيده , بل أوكل ذلك للملك عزرائيل
والملائكة الذين معه لتولي أمر الموت وقبض أرواح الناس (قُلْ
يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ
إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ )[2] .
والله جل شأنه هو الذي يخلق ولكنه جعل لهذا الخلق أسباباً طبيعية
فالناس يُخلقون بواسطة الآباء وعن طريق النطفة (هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ
ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً..)[3] والمعنى ان التراب يتحوّل إلى
مواد غذائية نباتية ثم حيوانية , ثم تكون نطفة في صلب الإنسان
المتغذي بها , ثم تكون النطفة علقة وجنين نامي ثم يولد طفلاً
مرشحاً لجميع الاحتمالات المعروضة في طبيعة الحياة التي ينمو
ويتكامل فيها.
والله تعالى مجده هو الذي يحيي الموتى ويبعث من في القبور , لكنه
متنزه عن مجانسة مخلوقاته فلا يباشر ذلك بنفسه ويحيهم فرداً فرداً
بل جعل لذلك سبباً وهو النفخ في الصور, وقد أوكل أمر النفخ-كما
تؤكد المصادر الإسلامية- للملك إسرافيل (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ
فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ
شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ
يَنْظُرُونَ)[4].
والله جل شأنه هو الذي يكتب في الغيب الأقدار والأرزاق والآجال
وغيرها , ولكنه منزه عن ذلك ولا يباشر الكتابة بنفسه , بل أوكل ذلك
إلى الخليفة التكويني ومن يقوم بأمره (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ
)[5] .
والله تعالى مجده هو العليم الحكيم الرحيم بالعباد الذي يخرجهم من
الظلمات إلى النور, ولكنه لا يباشر ذلك بنفسه, بل بواسطة الأنبياء
والمرسلين الذين ينزل عليهم الكتب والرسالات بواسطة الملائكة ( الر
كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ )[6]
ولما كان الله تعالى مجده منزه عن مجانسة مخلوقاته في جميع الأمور
التكوينية والاعتبارية كما يصرح هو في كتابه الحكيم, فإن الحساب
يوم القيامة لا يمكن أن يباشره هو بنفسه, ومن المحال أن يظهر للناس
بذاته ويكلمهم بصورة مباشرة , فقد أثبتت البراهين القاطعة استحالة
ذلك ويؤيدها الذوق العقائدي السليم , فرؤية الله تعالى مجده أو
سماع صوته عند الحساب محالة لعدة قرائن منها:
أولاً: ان ذلك يعني أحد أمرين: إما أن يرتقي الممكن إلى مرتبة
الواجب ويتصف بالصفات الكمالية الوجوبية فيرى الله ويسمع كلامه
جهرة, وإما أن ينزل الواجب إلى مرتبة الممكن ويتصف بالصفات الناقصة
الممكنة فيخضع للزمان والمكان كي يتسنى للناس رؤيته وسماع صوته,
وكلا الأمرين باطل ومحال تحققه, يرفضه العقل و يأباه الذوق
العقائدي السليم , فالصفات الكمالية الوجوبية منزهة وممتنعة عن
النزول من علياءها المطلق إلى سفل الإمكان وقيد الماهية المحدد
بالزمان والمكان , والممكن الناقص الفقير ممتنع عن تجاوز قيد
الماهية وحدود الزمان والمكان, فكيف يمكن له بلوغ مقام المطلق
والإحاطة به ؟؟ وهو تعالى مجده (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)[7] ,
(لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[8] .
ثانيا: ولما كان الله هو المطلق, فإن كل أسماءه وصفاته مطلقة
بالضرورة, فكما رحمة الله مطلقة , كذلك لطافته مطلقة بالضرورة ,
واللطافة المطلقة تعني ببساطة انه منزه تنزهاً تاماً ومطلقاً عن
المادة , أي ان نسبة المادة إليه = صفر , ولهذا (لا تُدْرِكُهُ
الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ) و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) . وهكذا يتضح لنا ان رؤية الله ممتنعة ومحالة مطلقاً وكذلك
سماع صوته جل شأنه .
وهذه الحقيقة التي أوضحناها إنما مقدمة ضرورية لبيان حقيقة الحساب
وكيفيته يوم القيامة , كي نقول:
كما ان الله لا يخاطب الناس مباشرة عندما ينزّل عليهم الكتب
السماوية ليخرجهم من الظلمات إلى النور, بل جعل ذلك بواسطة
الأنبياء والمرسلين من البشر أنفسهم, كذلك الله عند حساب الناس
والقضاء بينهم بالقسط لا يباشره بنفسه, بل جعل لهذا الأمر واسطة
بينه وبين الناس, وهذه الواسطة إنما ضرورة وجودية لا يمكن تحقق ولا
حتى تصوّر الحساب يوم القيامة دونها. و للبساطة يمكن تشبيه الواسطة
لظهور الله وأمره في النشأة حيث يتطلب الحساب التكليم والمحاججة
والاختصام بالمرآة أو جهاز ( التلفزيون) الذي ينقل الصورة والصوت
من جهة الصدور إلى جهة الوصول دونما حلول أو مجانسة , فأنت حينما
تشاهد التلفزيون أو تنظر في المرآة لا ترى حقيقة المشهد المنظور
بذاته, بل ترى صورة عنه , كذلك الأمر عند الحساب يوم القيامة يجب
أن يكون بواسطة (مرآة) يتجلى الله فيها .
والسؤال هو :
إ ذا كان الله تعالى مجده منزه عن مجانسة مخلوقاته لا يرونه ولا
يسمعون صوته , فكيف يحاسبهم ويحكم بينهم –بالعدل- يوم القامة ؟؟ هل
يكون ذلك بواسطة ملك من الملائكة , أم مخلوق بشري مهمته القيام
بأمر الله وبسط عدله ؟؟
للجواب نقول : بما أن الحساب مختص بالبشر فإن الواسطة ( المرآة)
التي يظهر الله فيها للناس لحسابهم والحكم بينهم يوم القيامة ينبغي
أن يكون من البشر أنفسهم , فكما يختار الله من البشر أنبياء
ومرسلين واسطة لتبليغ رسالاته وتعليم الناس الحكمة ويخرجهم من
الظلمات إلى النور , كذلك يختار الله من البشر واسطة ( مرآة) يظهر
فيها ليكلمهم ويحكم بينهم بالعدل يوم الحساب وتوجد عدة قرائن تؤكد
هذه الحقيقة.
1- بما أن البشر هم المعنيون بالحساب, والحساب يتطلب الحوار
والمحاججة والاختصام, فإن الحساب لا يمكن أن يكون إلا بواسطة إنسان
(خليفة الله) مهمته بسط عدل الله يكلم الناس ويكلموه ويختصمون
عنده.
(قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ
مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً
رَسُولاً)[9]
2-لما كان الإنسان أشرف من جميع الملائكة وأعلى منزلة منهم عند
الله بدليل قوله تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ
أَجْمَعُونَ)[10] دونما استثناء لآدم عليه السلام عند بث الروح فيه
, فإن الله جل شأنه عند الحساب لا يظهر للناس ويكلمهم إلا بواسطة
أشرف مخلوقاته( الإنسان) خليفته في الأرض وحامل الأمانة التي عجزت
عن حملها جميع المخلوقات , ويؤكد هذه الحقيقة قوله : (إِنَّا
عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا
وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)[11]
3-أما عن الجن المبتلون بالتكليف الشرعي والمحاسبة يوم القيامة ,
فشأنهم شأن الإنس , فكما يبعث الله لهم الأنبياء من البشر وليس من
الجان , كذلك حسابهم يوم القيامة يكون بواسطة الإنسان وليس من الجن
, وللعلم الإنسان أعلى مرتبة من الجان والدليل على ذلك إن الله طلب
من إبليس – وهو من الجن – السجود لآدم مع الملائكة لكنه أبى
واستكبر فحقت عليه لعنة الله إلى يوم الدين لمعصيته ذلك الأمر , (
إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ)[12] .
(وَإِذْ قُلنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسجَدُوا إِلا
إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)[13]
وعلى هذا فإن نوع الجن الذي طلب منهم السجود لآدم عليه السلام أقل
مرتبة من الإنسان ولا يمكن أن يتولى أحد منهم الحساب يوم القيامة ,
بل نوع الإنسان ( المنحدر من آدم ) الذي سجد له الملائكة كلهم
أجمعون , هو الأقرب إلى الله من حيث الكمال, وهكذا يظهر لنا
–بوضوح- ان الإنسان الكامل هو المرشح الوحيد لـ أن يتجلى الله فيه
ليكون الواسطة التي يحاسب بها الله الناس يوم القيامة.
مناقشة البراهين
بعد أن قدّمنا البراهين –الأساسية- الواضحة , التي تؤكد على أن
مهمة الحساب يوم القيامة يجب أن يتولاها الإنسان الكامل ( خليفة
الله) الذي حمل الأمانة من دون المخلوقات, على اعتبار ان الله منزه
تنزها تاماً ومطلقاً عن مجانسة مخلوقاته, نتناول في هذه الوريقات
تلك البراهين بالنقد والمناقشة .
من الثابت والمؤكد عند المؤمنين ان النشأة الأخرى ضرورة وجودية
لظهور هوية الله فيها , وأن الحساب في تلك النشأة حق لا ريب فيه ,
وأن الواسطة( المرآة) التي يظهر الله فيها للناس لحسابهم وبسط عدله
ضرورة وجودية لا يمكن تحقق أو تصور الحساب دونها , ودليل الضرورة
هو استحالة رؤية الله وسماع صوته مباشرة , فلا بد من واسطة بشرية
لهذا الأمر, كما الأنبياء واسطة بشرية لوصول كلام الله ( علم الله)
إلى الناس.
ولما كان البعث من بعد الموت حق, وعدل الله حق, والحساب بالثواب
والعقاب حق , وهو عام شامل للناس أجمعين , وكان الحق المتعالي هو
الوجود الصرف والكمال المطلق المنزه تنزهاً تاماً ومطلقاً عن
مجانسة مخلوقاته (غير خاضع لحيثيات الزمان والمكان), فإن بسط العدل
وحساب الناس أجمعين بالثواب والعقاب ينبغي أن لا يباشره الله جل
شأنه بنفسه , بل يكون بواسطة خليفته الكامل التام القائم بأمره
وباسط عدله, ولبيان هذا الأمر بمزيد من التفصيل ينبغي التذكير
أولاً بأن هناك الكثير من الآيات القرآنية التي تشير إلى ظهور الله
للناس-بعضها في الدنيا- وتكليمه إياهم وحسابهم يوم الحساب (
القيامة), نذكر منها :
(هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ
مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى
اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ)[14]
(هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ
يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ
يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا
لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا
خَيْراً قُلْ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ)[15]
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ
وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ
فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ)[16]
(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ
ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا
يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[17]
(قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ
بِالْوَعِيدِ *مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا
بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ )[18]
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)[19]
في الآيات أعلاه –وغيرها كثير- إشارات واضحة إلى أن الناس سوف (
يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ
) وهذا – كما سيأتي بيانه- سيكون في آخر الزمان, أي في الحياة
الدنيا بدليل قوله: (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ
آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ
نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ
كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلْ انتَظِرُوا إِنَّا
مُنتَظِرُونَ) . حيث (يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) في الدنيا
المفطورة على النقص, أما في الآخر فتظهر كل الحقائق الخافية,
وعندئذ تأتي كل آيات ربك غير منقوص منها شيء.
والآيات تقول: ان الله تعالى مجده لا ينظر إلى فئة من الناس ولا
يكلمهم ولا يزكيهم يوم القيامة, وبقية الناس ينظر إليهم ويكلمهم
عند الوقوف أمامه للحساب, , وبعض الآيات ظاهرها يشير إلى مجيء الله
وحضوره في المكان نحو قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً
صَفّاً)[20], و هناك فئة من الناس ينظرون إليه (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
نَاضِرَةٌ*إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ).
والسؤال هو :هل تكليم الله للناس يوم القيامة عند الحساب يكون
بصورة مباشرة من حضرة قدس الحق تعالى مجده ؟ أم بواسطة القائم
بأمره الذي اختاره لهذا الغرض؟؟
الجواب على هذا السؤال بات واضحاً وأكيداً لكثرة البراهين القاطعة
التي تؤكد تنزه الله جل شأنه عن مجانسة مخلوقاته , فمن المحال أن
يظهر للناس ويكلمهم بذاته سواء كان ذلك في الدنيا أو في الآخرة,
لأن الظهور والتكليم يعني خضوع المطلق للمكان والزمان أي افتقار
الخالق لمخلوقاته, ورؤية ذات الله أو سماع صوته جهراً تعني الإحاطة
به ( إحاطة المخلوق المقيد بقيد الزمان والمكان بالله المطلق) وهذا
محال كما هو بيّن وتؤكده البراهين القاطعة.
فكما استحالة الرؤية وحضور ذاته تقدس وتعالى في المكان كذلك
استحالة تكليمه للناس , لأن التكليم على حسب الذي يألفه الناس يعني
سماع الصوت , والصوت لا يصدر إلا عن جسم فصوت الكلام المألوف لنا
إنما يكون من اهتزاز الأوتار الصوتية التي في الحنجرة , وهذا الصوت
لا يكون مسموعاً إلا إذا انتقل خلال وسط مادي, فالصوت الذي تسمعه
من أحدهم أو من الآلات إنما يكون محمولاً عبر ذرات الهواء , وهذا
ما أثبتته التجارب العلمية الحديثة , حيث وضعوا جرس كهربائي في
صندوق زجاجي مفرغ من الهواء وقاموا بتشغيل الجرس فيه , فوجدوا أنهم
يشاهدون اهتزاز عتلة الجرس دونما سماع الصوت , وخرجوا بنتيجة
مفادها: ان الصوت لا يصدر إلا عن جسم ولا ينتقل إلا من خلال وسط
مادي .
و لما كان الصوت لا يصدر إلا عن جسم ولا ينتقل إلا بواسطة المادة,
فالكلام المسموع عبارة عن معنى محمول في وسط مادي , ولما كان الحق
تعالى مجده منزه تنزهاً تاماً ومطلقاً عن المادة فمن المحال أن
يصدر عنه صوت يكلّم به الناس لأن ذلك يعني التجسيم والخضوع للمكان
والزمان . فإذا كان الإنسان لا يرى الهواء وهو مادة ,فكيف يرى الله
المنزه عنها( المادة) تنزها تاماً مطلقاً؟
ولما استحال على الله مجانسة المادة وخضوعه للزمان والمكان (لا
تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[21], فلن يبقى إلا القول :بأن ظهور الله
للناس أو تكليمه إياهم ( سواء كان ذلك في الدنيا أو في الآخرة)
إنما يكون بواسطة أشرف مخلوقاته وهو الإنسان الكامل , وسيظهر خلال
البحث انه القائم بأمر الله (المهدي المنتظر ) عليه الصلاة والسلام
الذي يتولى مهمة العدالة الشاملة في الدنيا والحساب يوم القيامة .
الباب الثاني : المهدي في الدنيا والآخرة
الفصل الثاني : كلام الله حقيقة إطلاقية
ما دمنا في معرض الحديث عن تكليم الله لمخلوقاته ينبغي أن نشير إلى
أن تكليم الله جل شأنه لموسى عليه السلام, لم يكن تكليماً مباشراً
كما نتكلم نحن مع بعضنا البعض , بل خلق الله الصوت خلقاً فسمعه
موسى من مصدر مادي وهو الشجرة , وخلق الصوت كما هو معلوم لا يعني
المجانسة, فكما خلق الناس وخلق الموجودات الأخرى لا يعني المجانسة,
كذلك ذات الله جل شأنه منزهة عن المجانسة عند خلق الصوت لموسى عند
تكليمه إياه .
ما يقال عن البشر يقال عن الملائكة أيضاً, فالله جل شأنه كما هو
منزه عن مجانسة الناس والمباشرة بتكليمهم, كذلك منزه عن مجانسة
الملائكة وتكليمهم , على الرغم من انهم مخلوقات ( غيبية ) غير
ظاهرة لنا في عالم الطبيعة والشهود, إلا أنهم مخلوقين من مادة
لطيفة ( اقل كثافة من مادة عالم الطبيعة الظاهرة), فمن المؤكد أنه
لا يوجد موجود في الوجود منزه تنزها تاماً و مطلقاً عن المادة إلا
الحق تعالى مجده وهذا التنزيه يوجب امتناع المجانسة مع المخلوقات
سواء كانت غيبية أو شهودية ,طالما يرجع الجميع إلى اصل مادي مقيد
بالزمان والمكان , فالمجانسة تعني خضوع الكامل المطلق للزمان
والمكان وقيدهما ومحدداتهما , وهذا محال على الله تعالى كما هو بين
ومؤكد بالبراهين .
أما عن كيف يعلم الملائكة( وكذلك القائم بأمر الله) بأمر الله كي
يتم تنفيذه والقيام به , فهو بواسطة الوحي والفيض الرحماني من ساحة
قدسه , وهذا الوحي والفيض إنما ضرب من الخلق , فوحي الله لكي يصل
إلى الملائكة وإلى القائم بأمره ينبغي أن يكون محمولاً في وسط مادي
لطيف , و يؤكد هذه الحقيقة التي أشرنا إليها قوله تعالى :
(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.. )[1]
الروح المشار إليه في الآية الكريمة مطلق الروح وهو الأمر أو الوحي
الذي يوحيه الله في الغيب فيخلقه خلقاً وتحمله الملائكة من جهة
الصدور إلى جهة الوصول, ويؤيده قوله تعالى عن الملائكة
(فَالْحَامِلاتِ وِقْراً)[2] وهو من ألطف أنواع المادة ولو لم يكن
مادة لما استطاع الملائكة أن يحملوه من جهة الصدور ويتنزلون به إلى
جهة الوصول, فالوحي أو الروح المشار إليه مخلوق وكل مخلوق مادة
سواء كان غيبي أو شهودي , والفرق بينهما إنما في المرتبة , هذه
الطف لا تراها عيون الناس وتلك أغلظ تراها عيونهم .
يستفاد مما سبق -إلى الآن – لما كان الله منزه تنزها مطلقاً عن
مجانسة خلقه , فإن وجود الواسطة التي تنقل أمر الله من جهة الصدور
إلى جهة الوصول ضرورة وجودية لا يمكن تصور عدمها أبداً , لأن
انعدام هذه الواسطة يعني انعدام الصلة ما بين الخلق والخالق , و
لما كان الحساب يوم القيامة يتطلب الحوار والمحاججة –كما يصرّح
القرآن الكريم - فإن وجود واسطة ( مرآة) يظهر الله فيها للناس
ويكلمهم ويحاججهم بها من الضرورات الوجودية التي لا يمكن تحقق أو
تصور الحساب وبسط عدل الله دونها, حيث انعدام الواسطة بين المحاسِب
والمحاسَب يعني انعدام الحساب وهو من الضرورات. فكما اختار الله
المهدي عليه الصلاة والسلام لبسط عدالة السماء على الأرض في الدنيا
كذلك يختاره لبسط العدالة التامة في الآخرة.
وقد تسأل وتقول : لما كلّم الله جل شأنه موسى عليه السلام , كان أن
خلق الله الصوت خلقاً فسمعه موسى , وتكليم الله للملائكة وللقائم
بأمره يكون بواسطة الوحي وهو الروح المشار إليه في الآية التي سبق
ذكرها, فما المانع أن يكون تكليم الله للناس عند الحساب بنفس
الكيفية ؟؟
للجواب نقول : المانع هو ليس لجميع الناس القابلية المحضة لتلقي
الروح والوحي الذي يوحيه الله في الغيب كي يخاطبهم الله كما يخاطب
الملائكة والقائم بأمره وحياً , فذلك يتطلب درجة عالية من الكمال
وتزكية النفس لا يصل إليها إلا القلة النادرة من خالص عباد الله
الذين اصطفاهم ( كالأنبياء والأوصياء والأولياء), فإذا كان ذلك
ممتنعاً عن عامة المؤمنين الذين صفت نفوسهم وتزكت بالعبادة والتقرب
إلى الله, فما بالك بالكافرين الذين هم في أدنى مراتب السفل ؟؟
ولما كان ليس باستطاعة جميع الناس بلوغ المقام الذي يمكنهم ويجعلهم
مؤهلين للارتقاء إلى مصاف تلقي الوحي الذي يوحيه الله جل شأنه في
الغيب , فإن ذلك يستدعي بالضرورة وجود واسطة تنقل هذا الوحي إليهم
عند الحساب, وهذه الواسطة ينبغي أن تكون من نفس نوع الإنسان ,
يراهم ويروه ويكلمهم ويكلموه , ولو كان بمقدور الناس بلوغ مقام
الارتقاء إلى مصاف سماع وفهم وحي الله لما كان للأنبياء من دور
مطلقاً, ولا حتى الملائكة, فدور الأنبياء إنما توصيل هذا الوحي
للناس بتبليغ رسالات الله إليهم مع شرحها ببساطة تتناسب وعقول
العامة منهم .
(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً
أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ
بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)[3]
كلام الله من جهة الصدور إلى جهة الوصول
لما كان الحق تعالى مجده هو الوجود الصرف والحقيقة المطلقة, فإن
كلامه عند الصدور من ساحة قدسه لا يخضع للزمان والمكان مطلقاً ,
ولكنه في جهة الوصول يكون خاضعاً للزمان والمكان , لكون الجهة التي
يصلها كلام الله سواء كان ملكوت( كتاب الغيب) أو ملائكة أو بشر
خاضعون للزمان والمكان , فكلام الله لكي يصل إلى جهة الوصول ينبغي
أن يدخل دائرة الإمكان ويتنزل إلى مراتب الجهة التي يصلها, وبدون
هذا الدخول والتنزيل في المراتب لا يمكن أن يصل الكلام من المطلق
الخارج عن دائرة الإمكان إلى الجهة الواقعة في تلك الدائرة ,
فالوحي إنما يُخلق خلقاً في دائرة الإمكان كي يكون له حضور عند جهة
الوصول .
ولما كان الله (هُوَ الأولُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )[4] وهو تعالى مجده مطلق غير
متناه, فإن دائرة الإمكان التي يحيطها الله من الأولُ وَالآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ يجب أن تكون مراتب غير متناهية , تمتد
ما بين اللاشيء (في مقام الأول) و كل شيء (في مقام الآخر), وهي
مراتب مادية غير متناهية أيضا تمتد من اللامادة (في مقام الباطن)
إلى كل المادة الظاهرة (في مقام الظاهر) , وهذه المراتب الغيبية
والشهوية يطلق عليها الله في القرآن تسمية آفاق , ( وَلَقَدْ رَآهُ
بِالأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ)[5]
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ
أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[6]
ولما كانت دائرة الإمكان عبارة عن آفاق غير متناهية يحيطها الأفق
المطلق من الظاهر والباطن , فإن كلام الله الصادر من الأفق المطلق
يتنزل في المراتب الآفاقية حتى يصل إلى الجهة التي يتوجه الخطاب
إليها , وهذه السلسلة الآفاقية التي يتنزل عبرها كلام الله هي
الواسطة المادية التي بواسطتها ينتقل كلام الله من جهة الصدور إلى
جهة الوصول .
ولما كان كلام الله عند الحساب ينبغي أن يصل إلى الناس أجمعين
ليحكم بينهم بالعدل , فإن الواسطة التي يتنزل بها كلام الله ويظهر
للناس عند الحساب لا يكون إلا في مرتبة آفاقية من نفس جنس الناس ,
يكلمهم ويكلموه , يسمعهم ويسمعوه, وعلى هذا فوجود مرتبة من الناس
في مقام القائم بأمر الله يتولى مهمة الحساب أمر ضروري لا يمكن
تصوّر تكليم الله للناس وحسابهم بدونه, وهو المهدي المنتظر عليه
الصلاة والسلام خليفة الله والمرآة التامة لظهور الله فيها, و
الفصول التالية سوف تتناول البراهين القرآنية والعلمية التي تؤكد
هذه الحقيقة إن شاء الله تعالى .
الباب الثاني : المهدي في الدنيا والآخرة
الفصل الثالث: الخلافة قانون كوني عام
ولو أردنا أن نبحث عن قوانين تكوينية عامة نفسّر بها الواسطة
الضرورية الحتمية لظهور الله ( في مقام الظاهر) في النشأة, فإن
نظرة متأملة في أنفسنا وفيما حولنا تكفي لــ أن نبدأ تجربة مثمرة
بهذا الشأن (وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي
أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)[1], فالخلافة – كما سيظهر خلال
البحث-قانون كوني عام شامل يحكم جميع عناصر الكون من الذرة إلى
المجرة , ولما كان المهدي المنتظر من عناصر الكون فإنه بالتأكيد
محكوم بقوانينه العامة.
ولأجل ذلك نبدأ بحثنا بالفرضية القائلة: إن كل عنصر من عناصر الكون
-سواء كان صغيراً أو كبيراً, تافها أو عظيماً- يعتبر مظهر ( مرآة)
لظهور هوية الله فيه على قدر مرتبته واستعداده , وسبيلنا إلى بيان
هذه الحقيقة هوية هو الوجود الصرف ( الله) الموجود في كل زمان
ومكان.
يقول الحق تعالى مجده يصف هويته - ذاته-: (هُوَ الأَوَّلُ
وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ )[2]
ولما كانت هذه الهوية واجبة الوجود, فإنها ليست عدمية بل موجودة في
الكون ( الله موجود في كل زمان ومكان ولا يخلو منه زمان ولا مكان )
حيث الزمان مظهر لهوية الله في مقامي الأَوَّلُ وَالآخِرُ, والمكان
مظهر لهويته في مقامي الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ, فلولا الخالق ما
وجد الخلق , و لو لم يكن الله أول وآخر لما كان الزمان ( ماضي
ومستقبل) ولو لم يكن الله ظاهر وباطن لما كانت هناك موجودات ظاهرة
وباطنة, فالكون باختصار مرآة لظهور هوية الله , ولما كان الله مطلق
وغير متناه , فإن الكون الذي هو مظهر لهويته مطلق وغير متناه
بالضرورة, وهو يتألف من مراتب وجودية تمتد ما بين اللاشيء وكل شيء
, ومراتب اعتبارية تمتد ما بين اللاكمال وكل الكمال, ومجموع تلك
المراتب الوجودية هي هوية الله المطلقة في مقامي الظَّاهِرُ
وَالْبَاطِنُ, فالكون كما يصفه القرآن الكريم في آيات كثيرة عبارة
عن عالمي الغيب والشهادة , أي ظاهر وباطن.
أما عالم الغيب فهو عالم الموجودات الغائبة عن حواسنا مثل الجان
والروح والملائكة والملكوت, و يشمل الأشعة المبثوثة في الكون مثل
الأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية وجاما وبيتا , والأمواج
الكهرومغناطيسية وغيرها . وأما عالم الشهادة فهو عالم الموجودات
الظاهرة التي تشهدها حواسنا في عالم الطبيعة مثل الجبال والأنهار
والبحار والبشر ودواب الأرض والطيور القمر والشمس والنجوم ..الخ.
ولو بحثنا في عالم الطبيعة نجد أنه يتألف من عناصر مادية متباينة
المرتبة من أخف العناصر إلى أثقلها, و كما هو معلوم ان هذه العناصر
المادية تتألف من وحدات صغيرة جداً يطلق عليها تسمية ذرات , فالذرة
هي ابسط وحدة مادية( معتبرة)[3] عن المادة, وذرة كل عنصر تعتبر
نموذج مصغّر لحمل هوية ( خصائص) ذلك العنصر الذي يؤلفه, وليس هذا
فحسب بل الذرة بما أنها تتألف من السالب والموجب ( إلكترونات
وبروتونات) تعتبر نموذج مصغّر لهوية الله في مقامي الظاهر والباطن
, وحركتها التي تؤلف الزمان تعتبر مظهر لهوية الله في مقامي الأول
والآخر . فالذرة إذن نموذج مصغّر تحمل هوية العناصر التي تؤلفها
ومظهر لهوية الله في آن, وليست الذرة وحدها نموذج مصغّر ومظهر
لهوية الله , بل الخلايا في الكائنات الحية أيضاً, فهي نماذج
مصغّرة تحمل هوية الكائن الذي تؤلفه ومظهر لهوية الله على قدر
مرتبتها, وقد أثبتت التجارب العلمية الناجحة فيما ما يسمى
بالاستنساخ ان هوية الكائن الحي تكمن في ابسط وحداته وهي الخلية ,
فمن خلية واحدة يمكن تكرير الكائن الحي ( سواء كان حيوان أو نبات)
بنسخة مطابقة للأصل المأخوذ منه الخلية , مما يعني إن هوية الكائن
الحي تكمن في أبسط وحداته ( الخلية) فالخلية إذاً نموذج مصغّر تحمل
هوية الكائن الحي .
ولما كان الله (الخالق لكل شيء) واحد لا شريك له , فإن ما يجري على
الذرات والخلايا يجري على جميع عناصر الكون دونما استثناء , فكما
الخلايا والذرات نماذج مصغّرة لحمل هوية كائن أعظم تؤلفه ومظهر
لهوية الله في آن , كذلك الكائنات الحية مظاهر لهوية الله على قدر
مرتبتها الوجودية , والقرآن الكريم يطلق على النموذج المصغّر ذو
المرتبة العالية الذي يحمل أكبر قدر ممكن من سمات هوية الله تسمية
خليفة, وهو الإنسان الذي تتجلى في كيانه سمات هوية الله على حسب
مرتبة كماله وقربه من صاحب الهوية( الله تعالى مجده).
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ
خَلِيفَةً..)[4]
(يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ )[5]
وليس الأنبياء وحدهم خلفاء لله في الأرض بل جميع أبناء آدم دونما
استثناء والدليل على ذلك قوله:(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ
الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ
لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ)[6]
ولما كان جميع أبناء آدم خلفاء لله في الأرض , وجميع الكائنات
الأخرى نماذج مصغّرة ومظاهر لهوية الله, فإن الإنسان ( الخليفة)
يعتبر نموذج مصغّر لحمل هوية الله الوجودية في الأرض, فالنموذج
والخلافة إنما مفردتان لمعنى واحد وهو حمل الهوية الوجودية لموجود
اعظم واكمل , وينتهي الجميع إلى الهوية المطلقة ( الله تعالى
مجده).
فالخلافة –التي هي نموذج مصغّر لحمل هوية أعظم -إنما قانون كوني
عام يحكم جميع عناصر الكون- الصغيرة والكبيرة والتافهة والعظيمة-
على السواء, وكل ما حولنا يشير إلى هذه الحقيقة ويؤكدها, فالشجرة
مثلاً تبدأ بناء كيانها من بذرة صغيرة واحدة معبأة فيها كل هوية
الشجرة الوجودية, ولو لم تكن كل هوية الشجرة معبأة في البذرة لما
خرجت شجرة بعينها بل لكانت شيئاً آخر , فحبة القمح تخرج منها سنبلة
, ونواة التمر تخرج منها نخلة باسقة , مما يعني إن هوية السنبلة
كانت كامنة في حبة القمح على هيئة معلومات وراثية, ثم خرجت شيئاً
فشيئاً حتى صارت سنبلة تامة سوية, وهوية النخلة كانت كامنة في نواة
التمرة على هيئة معلومات وراثية , ثم خرجت شيئاً فشيئاً حتى صارت
نخلة تامة سوية .
والإنسان ذلك الكائن العجيب يبدأ بناء كيانه من نطفة ,بل من خلية
واحدة مخصبة[7] تحمل كل هويته الوجودية, ثم تنقسم وتتكاثر حتى تصير
جنيناً نامياً , ثم يولد طفلاً صغيراً ينمو ويتكامل حتى يصير رجلاً
تاماً سوياً أو امرأة تامة سوية, مما يعني إن هوية الإنسان كانت
كامنة في النطفة ولهذا خرج إنسان ولم يخرج كأن آخر, فالنطفة إذاً
نموذج مصغّر تحمل هوية الإنسان, والإنسان نموذج مصغّر يحمل هوية
الله على حسب درجة كماله .
ومن خلال هذه المظاهر الواقعية التي نشهدها كل يوم, يظهر لنا إن
الخلافة قانون كوني عام يحكم جميع عناصر الكون دونما استثناء ,
وجميع عناصر الكون الظاهرة والباطنة إنما نماذج مصغّرة تحمل هوية
الوجود (الله) على حسب مرتبتها ودرجة كمالها , ونحن نعلم أن
الموجود لا يكون موجوداً إلا إذا حمل سمات الوجود المنتزعة من
الهوية الوجودية المطلقة ( الله تعالى مجده) . وعلى هذا فالموجود
بمجرد أن يكون موجوداً ظاهراً أو باطناً يكون مظهراً- نموذجاً-
لهوية الله (الظاهر والباطن) .
مظاهر قانون الخلافة
والآن بعد أن بيّنا ان الخلافة قانون كوني عام يحكم جميع عناصر
الكون , وأثبتنا ذلك بالبراهين والأمثلة الواقعية بالقدر الذي ييسر
فهم البحوث المقبلة , يجب أن نتحدث عن العلاقة الضرورية التي تربط
الخلق بالحق ضمن ذلك القانون , فنقول:
كما العناصر الطبيعية تتألف من ذرات, والكائنات الحية تتألف من
خلايا, كذلك الكون العظيم يتألف -من عدد لا يحصى- من السماوات ,
وكل سماء ( نظام شمسي) يحكمها نظام الخلافة كما نظام الذرة والخلية
الحية, فقانون الله عام شامل يحكم جميع عناصر الكون الغيبية
والشهودية على السواء.
وكما الروح- العقل- في الإنسان هو القائد العام للكيان الآدمي
والمسؤول عن جميع الفعاليات الواعية وغير الواعية , كذلك الله هو
الروح-العقل- المطلق الذي يدير كل شؤون الكون (اللَّهُ نُورُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)[8] , (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ
كُلُّهُ)[9], وكما يوجد في كل خلية من خلايا الكائن الحي روح-عقل-
على قدر سعتها يمدها بالحياة ويحركها بخصوصية تتناسب ونوع الخلية ,
كذلك يوجد في كل سماء من السماوات السبع( غير المتناهية) خليفة لله
هو روح ( عقل) تلك السماء والمسؤول عن إدارة شؤونها على حسب نشأتها
وسير تكاملها نحو لقاء الله جل شأنه, وهذا الخليفة الذي هو ممثل
الله في كل سماء تجري عليه سنة الله في النمو والتكامل , فتكون
مرتبته على حسب درجة الكمال التي تبلغها كل سماء , فكما العقل في
الإنسان يبدأ من الضعف إلى الشدة خلال مراحل العمر الممتدة ما بين
الولادة إلى الموت, , كذلك خليفة الله في كل سماء يظهر بالتدريج
وعلى حسب مراتب كمال كل نشأة , فما بين أول خليفة لله في الأرض
(آدم عليه السلام) وآخر خليفة ( وهو المهدي المنتظر عليه الصلاة
والسلام) الذي يظهر فيه كل عدل الله وكل علم الله, مراتب كثيرة من
الكمال , فآدم الذي هو بداية ظهور الخلافة في الأرض كان كما البذرة
التي تنطلق منها هوية الشجرة العملاقة , والقائم بأمر الله (
المهدي) هو الثمرة التي تظهر فيها كل سمات الهوية في نهاية المطاف
, بل هو الشجرة كلها لأنه هو المظهر النهائي التام الكامل لهوية
الله التي يحملها.
ولما كان خالق الكون من الذرة إلى المجرة واحد, فإن القانون الذي
يحكم عناصر هذا الكون الواحد ينبغي أن يكون واحداً بالضرورة , و هو
قانون الخلافة العام الشامل.
ولما كانت الخلافة قانون كوني عام يحكم جميع عناصر الكون , والسماء
الدنيا التي نحن فيها من عناصر الكون, وهي نموذج للكون العظيم (كما
الخلية الحية في جسم الكائن الحي), فإن وجود خليفة يحمل سمات هوية
الله فيها أمر ضروري حتمي , والإيمان بالله وتوحيده يحتم علينا
الإيمان بوحدة قانونه الذي يحكم جميع مظاهر الكون وعناصره , فليس
من التوحيد أن نؤمن بأن الخلية الحية نموذج (خليفة) للكائن الحي
ونكفر بخلافة الله في السماء الدنيا التي هي أحد عناصر الكون وخلية
من خلاياه , ولا الذوق العقائدي السليم يقر أن يظهر الله العظيم
المطلق بذاته ويكلم الناس ويحاججهم عند الحساب, وعلى هذا فإن وجود
خليفة الله التام الكامل( المهدي) في الأرض الذي يحمل جميع سمات
هوية الله بتمام كمالها من الضرورات الوجودية التي لا يمكن تصور
عدمها , فكما يجب أن تظهر هوية النخلة بتمام كمالها في نهاية
المطاف من نواة التمرة النابتة, وكما يجب أن تظهر هوية الإنسان
المنبثق من النطفة بتمام كماله (رجلاً تاماً سوياً أو امرأة تامة
سوية) في نهاية مراحل النضج , كذلك يجب أن تظهر هوية الله بتمام
كمالها في كيان الإنسان الكامل حامل الهوية ( الأمانة) في نهاية
المطاف ( آخر الزمان), ولا يمكن تصوّر عدم ظهورها , ونعني بهوية
الله أسماء وصفات وأفعال الله , والقرآن الكريم يؤكد هذه الحقيقة
في آيات كثيرة منها :
(هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ
مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى
اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ)[10]
(هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ
يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ
يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا
لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا
خَيْراً قُلْ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ)[11]
(هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ
يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[12]
ولما أثبتت البراهين الكثيرة ان الله منزه تنزهاً تاماً ومطلقاً عن
مجانسة مخلوقاته , وهو تعالى مجده (..لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ)[13] و (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ
الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[14] , فإنه لا يظهر
بذاته للناس في مقام الظاهر , بل تظهر سمات هويته الوجودية في
خليفته ( الإنسان) الذي حمل الأمانة ( الهوية) من بين جميع
الكائنات, وعلى هذا فالآيات تتحدث عن ظهور هوية الله في كيان
الإنسان الذي حمل الأمانة.
==============
هوامش الباب الثاني \ الفصل الاول
[1] - سورة النحل , الآية 89
[2] - سورة السجدة , الآية 11
[3] - سورة غافر , الآية 67
[4] - سورة الزمر , الآية 68
[5] - سورة الانفطار , الآية 10-12
[6] - سورة إبراهيم , الآية 1
[7] - سورة الشورى , الآية 11
[8] - سورة الأنعام , الآية 103
[9] -سورة الإسراء , الآية 95
[10] - سورة الحجر , الآية 30 \ سورة ص , الآية 73
[11] - سورة الأحزاب , الآية 72
[12] - سورة الحجر , الآية31
[13] - سورة البقرة , الآية 34
[14] - سورة البقرة , الآية 210
[15] - سورة الأنعام , الآية 158
[16] - سورة البقرة , الآية 174
[17] -سورة آل عمران , الآية 77
[18] - سورة ق , الآية28 -29
[19] - سورة القيامة , الآية22-23
[20] - سورة الفجر , الآية 22
[21] - سورة الأنعام , الآية103
===============
هوامش الباب الثاني\ الفصل الثاني
[1] - سورة النحل , الآية2
[2] - سورة الذاريات , الآية2
[3] - سورة الشورى , الآية51
[4] - سورة الحديد , الآية3
[5] - سورة التكوير , الآية 23-24
[6] - سورة , فصلت , الآية 53
==============
هوامش الباب الثاني\ الفصل الثالث
[1] - سورة الذاريات, الآية 20-21
[2] - سورة الحديد , الآية 3
[3] - لقد اثبت العلم الحديث ان الذرة تتألف من جسيمات أصغر من
البروتونات مثل الكواركات, والأوتار الفائقة ,
[4] - سورة البقرة , الآية 30
[5] - سورة ص , الآية26
[6] - سورة الأنعام , الآية 165
[7] - البويضة المخصبة في رحم الأم
[8] - سورة النور , الآية 35
[9] - سورة هود , الآية 123
[10] - سورة البقرة ,الآية 210
[11] - سورة الأنعام , الآية 158
[12] - سورة النحل , الآية 33
[13] - سورة الشورى , الآية 11
[14] - سورة , الأنعام , الآية 103