الشمس تشرق من الجنوب - في تمجيد الحضارة التي أنتجت الملحمة الحسينية
كتابات - سعدون محسن ضمد


تبرير
تمر الذات العراقية اليوم، وتحديداً الهوية الشيعية بمنعطف كبير وخطير، ذلك هو منعطف التأسيس، التأسيس للمستقبل، مستقبل الحضور والامتداد الديني والإنساني والحضاري. وفي تقديري فإن ظروف التأسيس هذه تستدعي منا كامل اليقظة ومنتهى الحذر والاستعداد، فمهما كان الحاضر حاسماً بالنسبة للمستقبل ومتحكماً به، كانت مسؤولية القائمين على هذا الحاضر أكبر وأكثر تعقيداً. ومن هذا المنطلق وبهذا الفهم أريد أن أخصص هذه الأوراق لدعم الهوية الشيعية، ليس بداع من التمييز الطائفي، ولكن بدافع من الإيمان الذي يقول أن الطريق لتكامل الكل يبدأ من خطوة بناء الجزء، وبما أن الأجزاء مسئولة عن صحة بناءها الجسدي، وبما أنني شيعي الانتماء، فإنني مطالب بالتالي بالمشاركة ببناء الجزء الخاص بي من الكل العراقي.
إن الدافع الذي يدفعني للإحساس بمسؤولية البناء الجزئي، هو محاولة تلافي كل ذلك الزمن المعتم الذي استغرقه اللانظام السابق وهو يحاول أن يهدم هذه الهوية ويشتت هذا الانتماء، ولو لم تكن التجربة التي نمر بها الآن ـ وكما قلت سابقا ـ تجربة مصيرية لكان يمكن لنا أن نؤجل الحديث عن بناء الذات، لكن هول هذه التجربة وخطرها هو الذي يحفز فيّ الدعوة لهذا الموضوع تحديداً. وبما أن العراق في سبيله لأن يمر بفترة بناء وتجديد، وبما أن هذا العراق حصة الجميع، فعلى هؤلاء الجميع أن يكونوا حاضرين في عملية البناء، ليكونوا مسئولين عن سلامتها وتمامها. ولا تكون المسؤولية تامة إذا كان الحضور مبتسراً وناقصاً.
إذن فهذه الأوراق مخصصة للدعم والبناء وليس للهدم، ومهما جاء في طياتها من محاولات نقدية فإنها تحاول الوصول لهدف البناء هذا لا غير. ولا بد من الإشارة إلى أن هذه المحاولة ستتخذ من الملحمة الحسينية مدخلاً لها، باعتبار أننا في شهر هذه الملحمة، وأننا تعودنا على عنونة كل فعالياتنا بعنوان الحسين، خصوصاً تلك الفعاليات التي تقع في شهر الشهادة هذا.
دخول أول: (تمهيدي)
لا يمكن لأي متتبع ومهما كان دقيقاً أن يحصي الكيفيات التي تم فيها معالجة الملحمة الحسينية، ومن ثم فلا بد لأي كاتب أو محلل يريد أن يعيد إنتاج هذه الملحمة فكرياً أن يرتبك أو حتى يعجز، ولا بد له أيضاً من أن يتذكر قول عنترة بن شداد وهو يقف عاجزاً عن مخاطبة أطلال عبلة بسبب كثرة الشعراء الذين عالجوا موضوعة الأطلال إذ يقول حائراً: هل غادر الشعراء من متردم... أم هل حللت الدار بعد توهم.
في الحقيقة أن الزاوية التي سأدخل منها لحرم الشهادة هذا هي الزاوية الحضارية، وأقصد حضارة الشعب العراقي، هذا الشعب الذي خرج على الإنسانية بالكثير من الدروس والعبر والملاحم، وكان أعظمها هو درس وعضة وملحمة الحسين. نعم لقد خرج الحسين للإنسانية من رحم الحضارة العراقية، أنا أدعي ذلك، وأنا كفيل بإثبات هذه الدعوى. أما لماذا هذا المدخل وهذه المعالجة لهذه الملحمة بالذات، ففقط لأنني أريد الآن أن أدعم الذات العراقية وكما قلت تحديداً الهوية الشيعية، للأسباب التي قدمتها سابقاً، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لأنني وكما أسلفت أيضاً أريد أن أنفرد بزاوية أنظر من خلالها للملحمة الحسينية.
لكن منذ متى كان الحسين نتاجاً حضارياً، وهل يجوز لنا أن ندعي ذلك؟ وكيف يكون الكلام عن هذا الموضوع دعماً للهوية الشيعية؟ ثم ما علاقة الحسين بالحضارة العراقية؟ وهذه ثلاث أسئلة ستتكفل هذه الورقة بالإجابة عليها تباعاً. المهم الآن أن ننجز تعريفاً أولياً لبعض المصطلحات التي سنستخدمها في معالجتنا هذه.
دخول ثاني: (تعريفي)
لا بد لنا ونحن ندخل لمعالجة ملحمة كربلاء حضارياً من التعريف ببعض المصطلحات التي تهمنا بهذا الشأن، ونبدأ بمصطلح الحضارة، الذي عرفه شاكر مصطفى سليم بأنه: «كل ما يرث المجتمع من أجياله السابقة باستثناء الصفات الحياتية الطبيعية، من نظم وقيم ومعتقدات اجتماعية وفكرية و (دينية) وأنماط سلوكية، ومهارات فنية، يسيطر بها على بيئته، ويكيف نفسه لها، ويستطيع بوساطتها إشباع احتياجاته الحياتية والاجتماعية، ويمررها من جيل إلى الجيل الذي يليه» [ لوسي مير، مقدمة في الانثروبولوجيا الاجتماعية، ترجمة د. شاكر مصطفى سليم، ص353.]، وعرفها (إدوارد تايلر) بأنها «ذلك الكل المعقد الذي يشتمل على المعرفة والعقيدة والفن والقانون والأعراف وجميع القدرات والعادات التي يكتسبها الفرد بصفته عضواً في المجتمع» [عبد الرزاق، سعدي فيضي، المدخل إلى علم الإنسان،ص61].
إذن وبحسب هذين التعريفين فإن الحضارة تعني كل ما يرثه مجتمع ما من الأجيال السابقة له، باستثناء الموروث الطبيعي، أي الصفات الحياتية، وعلى هذا الأساس فإن العقيدة ـ وبغض النظر عن كونها إلهية أو وضعية ـ هي موروث حضاري وهي أيضاً منتج حضاري، إذ أن الحضارة لا تعني فقط التكنولوجيا، ومن ثم فإن حضارة شعب ما لا يمكن قياسها بالمستوى التكنولوجي لهذا الشعب أبداً، إنما يمكن قياس مدنية هذا الشعب بهذا المقياس، أو يقاس تطوره أو عصريته بهذا المقياس، أما الحضارة فلا تكون التكنولوجيا مقياساً لها. ولو كانت كذلك لكان تأريخ الحضارة يبدأ منذ الثورة الصناعية في أوربا، ولما كانت هناك حضارة في بلاد سومر في وادي الرافدين، ولا في مصر، ولا في غير ذلك من البلدان. إذن فالحضارة تشمل طريقة اللبس والنوم وطرق بناء البيوت وتربية الأطفال وسياسة أمور البلد وسن القوانين والأعراف والعادات والصناعات المحلية، وطريقة تبادل التحية وكيفية تبادل الزيارات..الخ.
وكل من هذه الأمور يسمى سمة حضارية، فالملابس سمة حضارية، العقال سمة من سمات الحضارة العراقية، وكذلك الدشداشة، والسبحة، ودلال القهوة والخيمة التي تقام فيها مجالس العزاء (الفاتحة)، ولذلك عرفت السمة الحضارية بأنها «أصغر وحدة حضارية مادية كانت أم معنوية، يمكن تحديدها أو تعيينها، عند تحليل حضارة من الحضارات. والسمة الحضارية قابلة للانتشار أو الاندماج مع سمات حضارية أخرى لتكوين مركب حضاري» [ مقدمة في الانثروبولوجيا، م. س، ص355.]. بقي أن نشير إلى أن السمات الحضارية تؤدي وضائف حضارية لأهل الحضارة، فالخيمة التي تنصب لاستقبال جموع المعزين بالوفاة مثلاً سمة حضارية وهي تؤدي لأهل العزاء وضيفة إيواء ضيوفهم، ونفس الأمر يقال عن الجامع، فهو سمة من سمات الحضارة الإسلامية، وهو يؤدي وضيفة للمسلمين حيث أنه يشكل بالنسبة لهم أنسب مكان يمكن لهم أن يقيموا فيه شعائر دينهم، وهكذا. وهناك بعض السمات الحضارية لا يكون لها دور بالنسبة للشعب إلا إذا اجتمعت مع سمات أخرى، فمثلاً العقال الذي يوضع على الرأس سمة حضارية، ولكنه لا يؤدي دوره ووظيفته الحضارية إذا تم ارتداءه وحده، حيث أن وضيفة هذا اللباس هي إضفاء الوقار على لابسه، ولو أن رجلاً ما لبس هذا العقال لوحده وبدون (غترة) لعرض نفسه للسخرية ولما كان وقوراً أبداً، إذن فالعقال يؤدي دوره إذا تم ارتداءه مع (الدشداشه) والعباءة، أو مع (الصاية) والعباءة، وهكذا، وتسمى العناصر التي تؤدي دورها مجتمعه بالمركب الحضاري، الذي يعرف بأنه «مجموعة سمات حضارية مركبة ومترابطة وظيفياً. ولها القدرة على المحافظة على تركيبها وترابطها الوظيفي بالنسبة للزمن، كما أنها قابلة للانتشار بشكلها المركب المترابط من حضارة إلى أخرى، والاندماج فيها، مثل مركب (القوس ـ السهم) ومركب (الحصان ـ السرج ـ العنان) ومركب (الزورق ـ المجداف ـ الشراع). وهناك نوع آخر من المركب الحضاري، وهو تركيز عدد من السمات والفعاليات الحضارية حول شيء أساسي في الحضارة، مثل مركب الماشية في شرقي أفريقيا» [م. ن، ص355].
إذن ملخص القول: أن الحضارة تتكون من الأعراف والتقاليد والقوانين والديانات وغير ذلك من الأمور التي يرثها شعب ما عن أسلافه، باستثناء الموروثات الطبيعية.
هل الحسين نتاجاً حضارياً؟
بدأ لا بد لنا من التأكيد على أن الدين منجز حضاري، وأن اعتقادنا بكون الدين منجزاً حضارياً لا يتعارض مع إلهية هذا الدين، فنحن لا نقول بأن هذا الدين قد ادعاه أحد أفراد هذه الحضارة، بل نحن فقط نقول: بأن هذا الدين وجد في ظل هذه الحضارة وليس في ظل غيرها، ونحن من أجل أن نميزها به، ونميزه بها، نقول بأنه منجز من منجزات هذه الحضارة. هذا أولاً، وثانياً: إن من المعروف والمتفق عليه بين علماء النفس والاجتماع بأن لكل إنسان منظومة وعي يدرك الواقع من خلالها، وبأن هذه المنظومة ومهما كانت دقيقة في تلقيها وتحسسها لهذا الواقع إلا أنها لا بد أن تسقط عليه ما يجعلها تدركه بصورة مختلفة عما يدركه غيرها، ومن هنا قيل بأن التناول أو المعالجة الموضوعية أمران غير ممكنان. بعبارة أخرى نقول: بأن المسلم عندما يشاهد في الطريق امرأة بملابس قصيرة فأنه يحكم عليها بأنها امرأة غير شريفة مثلاً، على خلاف ما لو شاهدها رجل أمريكي، حيث أنه سيحكم عليها بغير هذه الطريقة، وفي الحقيقة فإن المسلم لم يدرك المرأة كما هي عليه في الواقع، فهي بالواقع مجرد امرأة تلبس ملابس قصيرة، أما موضوع الشرف فهو حكم يحتاج لمعطيات أخرى. غير أن المسلم وبحكم طبيعة وسيلته بالأدراك وما تمتلئ به هذه الوسيلة يكون مجبولاً شأنه شأن باقي البشر على مثل هذا الإدراك للواقع. وعندما يكون الإنسان الفرد هكذا فلا بد أن يكون المجتمع كذلك أي أن المجتمعات تختلف في عملية تعاملها مع المواضيع الواحدة، لأن المجتمع ليس غير مجموعة أفراد. ولذلك نجد أن الدين الإسلامي مع أنه موضوع واحد في الواقع الخارجي قد اختلف وهو ينتشر في المجتمعات المختلفة، ومن هنا نجد المجتمعات الإسلامية تختلف عن بعضها في الكثير من النواحي، فالمجتمع العراقي يعتبر أن تخصيص بيت خاص للحريم تجتمع فيه النساء ولا تختلط مع الرجال من صميم الإسلام، أما في المجتمع الإيراني فإنهم لا يرون ذلك، أو في المجتمع الأمريكي المسلم مثلاً. ويمكن لنا أن نورد مثالاً أكثر وضوحاً، عندما نتذكر بأن إسلام المجتمع البدوي يختلف عن إسلام المجتمع الحضري، إذ أن المجتمع الحضري لا يعتبر بأن السرقة أمر مقبول، أما بالنسبة للمجتمع البدوي فلم يجد أنه يتناقض مع نفسه وهو يستولى على أملاك الغير عن طريق السرقة أو الغصب، وهو لم يعتبر هذه العملية سرقة أبداً ومن ثم فهو لا يجد نفسه سارقاً.
أريد أن أقول بأن الدين منتج حضاري، فالدين الإسلامي منتج حضاري، وهو عندما ينتقل لغير الحضارة التي تم إنتاجه فيها فإن هذه الحضارة الجديدة تجري عليه عملية إعادة إنتاج. كما حصل عند البدو، عندما أعادوا إنتاج الإسلام بشكل يلائم ظروفهم وطبيعة إدراكهم لموضوع الدين، ومن هذا المنطلق نستطيع أن نقول: بأن الملحمة الحسينية منتج من منتجات الحضارة العراقية، أو أن هذه الحضارة أعادة إنتاج هذه الملحمة على أقل تقدير.
كيف يكون الكلام عن هذا الموضوع دعماً للهوية الشيعية؟
قلنا سابقاً بأن التكنولوجيا ليست مقياساً للحضارة، ومن ثم فإن افتقار شعب ما للتكنولوجيا لا يعتبر دليلاً على كونه شعب بلا حضارة، نعم يمكن اعتباره شعباً ليس مواكباً للعصر، أو ليس مدنياً بما فيه الكفاية، لكننا على كل حال لا نستطيع أن نعتبره شعباً بلا حضارة، والدليل على ذلك مضافاً لما قدمناه أن علماء الانثروبولوجيا يعتبرون جميع الشعوب الأفريقية التي لا تمتلك أياً من مستويات التكنولوجيا شعوباً متحضرة، وقد راح يؤكد الكثير منهم على ضرورة الفصل بين هذين الأمرين.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن لكل حضارة ميزة تتميز بها عن غيرها، أو عطاء تشارك من خلاله ببناء الإنسانية وتطويرها، حيث أن الحضارات تشترك جميعها بعملية البناء هذه، ولا يخفى ما للحضارات الشرقية من باع خطير في هذا النوع من الإسهام، وطبعاً هذا الإسهام محفوظ ومسجل لها بلا شك. لكن الذي أريد أن أؤكد عليه هو ضرورة البحث عن العطاء الذي يميز كل حضارة عن غيرها، من أجل أن نقيس الدور الذي تعلبه أو لعبته كل من هذه الحضارات في عملية دفع الإنسان إلى الأمام. من أجل أن أصل لموضوع أحب التأكيد عليه دائماً، ذلك هو الميزة المعنوية للإنتاج في الحضارة العربية بصورة خاصة والشرقية بصورة عامة. لقد استغرقتنا كثيراً التكنولوجيا التي تفضلت بها علينا الحضارة الغربية، وفي الحقيقة أن هذه الحضارة قد ساهمت وهي ما زالت تساهم بعملية بناء المجد الإنساني، من خلال التطور التكنولوجي الذي تقوده بجدارة منذ زمن قريب، غير أن هذا الإسهام يجب أن لا يأخذ بعقولنا إلى الدرجة التي تجعلنا نعاني من عقدة الاستلاب بإزاء هذه الحضارة، ومن ثم تدفعنا هذه العقدة إلى خيارين لا ثالث لهما، أما الوقوف بوجه هذه الحضارة ومحاولة ضربها بأي شكل، الأمر الذي يوقعنا بالتناقض والتعارض، فنحن من جهة نستورد منها مركباتها الحضارية ونريد لهذه المركبات أن تتطور من أجل أن تلبي لنا حاجاتنا، ومن جهة أخرى نحاول تدميرها. أو أننا لا ننصب لهذه الحضارة العداء بل نعمل على الاندماج بها والذوبان بمعطياتها ونتاجها إلى المدى الذي يوقعنا بالمسخ، حيث نقع حتماً تحت تجربة تجعلنا مسخاً غريباً، فمن الواضح أننا لن نتحول لغربيين، أمريكيين أو إنكليز، ولن نعود شرقيين عرب مسلمين، وفي هذا الأمر منتهى الفشل. لكننا لو وضعنا أنفسنا موضع الند لهذه الحضارة، ولو أننا عرفنا مقدار ما قدمناه لها وقسناه بما قدمته لنا، لأدركنا بأننا فرسي رهان في حلبة سباق وأن الجولات لم تحسم بيننا لحد الآن.
لقد تميزت حضارتنا بإنتاج الكثير من العناصر والسمات والمركبات الحضارية، وعلى مر العصور، وإذا كان اكتشاف القوة البخارية يعد منعطفاً في تأريخ البشرية التكنولوجي، وإذا كان اكتشاف الكهرباء يعد كذلك، فإن علينا أن نتذكر بأن الإنسانية كان يمكن لها أن تظل منزوية داخل الكهوف، أو على أحسن التقادير حول الأراضي الزراعية وهي تستعمل أكثر الأدوات بدائية لولا اكتشافنا للكتابة. نعم إذ أن الكتابة هي السبيل الوحيد الذي مكن الإنسان من إضافة تجاربة المعرفية لبعضها البعض، وهكذا اكتشف هذا الكائن سر التراكم المعرفي وركب صهوة التطور منذ ذلك الوقت، ولو أننا أجرينا مقايسة موضوعية بين أهمية اكتشاف قوة البخار وبين أهمية اكتشاف الكتابة فماذا ستكون النتيجة، خاصة إذا تذكرنا بأن اكتشاف قوة البخار معتمد كلياً على اكتشاف الكتابة. نفس الأمر يقال عن العجلة. لكن ليس هذا ما أريد أن استخدمه لدعم الذات الشيعية، بل إنني أريد أن استخدم الأنبياء، نعم الأنبياء، المنتج الحضاري الذي لم يزاحمنا به أحد، وقد لا يزاحمنا به أحد. لقد أعطينا لجميع الحضارات الأخرى هذه الكواكب الزاهرة هذه الشخصيات العظيمة التي احتضنت الإنسان بكل حنان وعطف ودرأت عنه غربته ووحشته التي كان يعانيها وسط هذا الكون المخيف. لقد أنتجت الحضارات الأخرى فلاسفة، وعلماء، ومخترعين، لكنها جميعها، لم تستطع أن تعرف كيف تسنى لنا أن ننتج الأنبياء، دائما وبلا كلل أو ملل. نعم لم تعرف هذه الحضارات السر الذي يجعلها رغم تطورها التكنولوجي تتبعنا معنوياً وغيبياً بل وحتى معرفياً في الكثير من الأمور.
وبعد كل هذه المعطيات هل يعود من اللائق أن نشعر إزاء هذه الحضارات بالاستلاب، أو بالدونية، هل من اللائق أن نعاملها بارتباك وقلق وخوف وحتى بجبن. الأمر الذي لا يعود علينا إلا بالخسران، أم يجب علينا أن نفرد قامتنا بكامل فخرها واعتزازها ونتعامل مع هذه الحضارات بندية وثقة عالية بالنفس. فلا نعاديها بسبب وبدون سبب، ولا نختفي تحت ظلها ونحاول أن ننمسخ بسببها.
الآن وبعد كل هذا التطويل الممل، هل أنجزنا عملية دعم الهوية الشيعية، الجواب لا نحن حتى الآن لم نفعل.
ما علاقة الحسين بالحضارة العراقية؟
إن النبوة نتاج للحضارة العربية بصورة عامة، نعم نحن نشاركها في هذا النتاج بحكم انتمائنا لهذه الحضارة، ولكن لا بد لنا من ميزة، لا بد لنا من قوة تبعث الثقة بهويتنا التي أنهكها طول الظلم والإقصاء وكل محاولات الاستعباد. لا بد لنا من أن نقف بكل ما يليق بنا من فخر وشموخ، فهل نستطيع ذلك، هل انتجنا ما يؤهلنا للوقوف هكذا وقفة... هل نستطيع أن نخرج من الشعور بالاستلاب إزاء الآخرين الذي طاردنا كل هذا الزمن، نعم نحن نشعر بالاستلاب، علينا أن نعترف بذلك، أولاً، ثم نحاول الخروج منه ثانياً. فهل نمتلك حضارة متميزة.. هل أنتجنا ما يميزنا عن غيرنا، ومن ثم يؤهلنا لأن نثق بأنفسنا.. الجواب نعم.. لقد أنتجنا مركب الملحمة الحسينية.
الحسين.. العباس.. زينب.. الأنصار.. الخيام.. الرايات.. العزاءات.. المنابر.. الحسينيات..الخ
لقد أعطينا العالم كل العالم رمزاً للثورة على الظلم والطغيان، لقد وهبنا الإنسانية نهرا ً من ضوء يأخذ بيدها نحو الخلاص، لقد فتحنا على التاريخ باباً قدسياً يعلمه معنى أن يكون الإنسان ثائراً وشهيداً.
لكن وإذا كانت الملحمة الحسينية ليست سوى قدوم الحسين طلباً للإصلاح واستشهاده على أرض كربلاء فمن أين لنا أن نعتبره نتاجاً عراقياً، خاصة ونحن متهمين بقتله؟
إن الجواب على هذا الأمر يتم بمقدمتين:
المقدمة الأولى: هي العودة لما أسسنا له سابقاً من أثر الشعوب على الموضوعات التي تدركها، وكيف أن البدوي أدرك الإسلام بغير الكيفية التي أدركها الحضري، ومن ثم فإن البيئة تؤثر على كيفية تعاطي المجتمع الذي يعيش فيها مع الموضوعات الخارجية، وخاصة منها العقائدية، وهذا الموضوع مما أفاض في شرحه والتأكيد عليه كل من علماء الاجتماع والانثروبولجيا، ومن شاء فليراجع كتابات علي الوردي بهذا الخصوص. عليه فإننا نريد أن نقول بأن الكيفية التي تم على وفقها تأسيس المذهب الشيعي ـ والذي من أهم مفرداته الملحمة الحسينية ـ هي كيفية عراقية جنوبية. أنا لا أقول هذا بدافع من التمييز، أبداً وإن كانت ملامح التمييز تبدو فاقعة، لكنني أحيل المتلقي إلى بحوث العلماء الذين أشرت لهم سابقاً ليعرف ما الفرق بين البيئة الصحراوية البدوية والبيئة المائية الريفية. أريد التأكيد على أن بين البيئتين اختلاف في الإنتاج، ومن هنا كانت البيئة المائية هي الحاضنة الدائمة للحضارات قديماً وحديثاً، طبعاً لأسباب كثيرة أهونها، أن البيئة الصحراوية تضطر ساكنيها إلى التنقل وهذا يعني عدم الاستقرار الذي هو ألف باء الحضارة، كما أن الماء يستدعي الاستقرار ويمكن من الزراعة التي هي مقوم الحضارة الأساسي، حيث أنها تنقل الإنسان من باحث عن الطعام إلى منتج له، ثم هي تدفعه شيئاً فشيئاً للتخصص، بإنتاج الحبوب مثلاً أو الخضر أو الثمار، وحتماً هي تدفعه لأنواع أخرى من التخصص وتقسيم العمل لا مجال لذكرها هنا، وهكذا تتكون الحضارة وتنمو.
إذاً فليس اعتباطاً أن ينتشر التشيع في البيئة الجنوبية، وإذاً فقد أخذ هذا المذهب من هذه البيئة ومن أهلها أكثر ملامحه وصفاته، وهذا الموضوع يحتاج لبحث مطول. لكنني يمكن أن استدل على عراقية المركب الحسيني من خلال رمز بسيط وواضح، أعتقد بأن الكاتب سليم مطر قد أشار له في كتابه (الذات الجريحة)، وهو رمز المرأة في الفكر المنتشر في بلاد ما بين النهرين (عشتار) فهذا الرمز يدل على أن أهل هذه المنطقة يقيمون وزناً للمرأة، ولا يبخسونها حقها، الأمر الذي يمكننا من فهم طبيعة الدور الذي لعبته (زينب العقيلة) في ملحمة الحسين، فلو كانت هذه الملحمة منتجة من قبل شعب أو حضارة تستخف بالمرأة لعملت هذه الحضارة على إخفاء هذا الدور وتجاهله، والشواهد على ذلك كثيرة، أقربها لنا أن زوجة الرسول عائشة رغم أنها جيشت الجيوش وخرجت على الخليفة، وقادة تمرداً تطالب فيه بدم الخليفة عثمان إلا أن الفكر الذي عالج موضوعها لم يكن فكراً يهتم للمرأة كثير اهتمام، ولذلك فقد غيبت عن سطح هذا الفكر إلا بشكل قليل وغير بارز لا يناسب خطورة الدور الذي لعبته في التاريخ الإسلامي.
المقدمة الثانية: هذه المقدمة أيضاً تعتمد على طبيعة الإدراك الإنساني، وملخص موضوعها، أننا لو تخيلنا أن أسرة مكونة من زوج وزوجته وابنهما الصغير دخلوا للسوق، فهل نستطيع أن نتكهن بالأمور التي سيكترث لها كل منهم؟ أعتقد أن الجواب بسيط وواضح، فالطفل سيتوقف عند الألعاب باكياً، والأم عند أدوات الزينة والملابس والخضروات مثلاً، أما الأب فأعتقد أنه سيكون منشغلاً بالبحث عن أجمل وجه نسائي في السوق.
والسؤال المهم هو لماذا هذا الاختلاف في الإدراك؟ والجواب بسيط أيضاً إذ أن لكل من هؤلاء الثلاثة اهتماماته الخاصة، فالطفل لا يعرف قيمة أدوات الزينة والأم ما عادت تأبه للألعاب أما الأب فلا بد أنه مدفوع بغريزة الصيد المتأصلة بجذوره. النتيجة أن الإنسان لا يستطيع أن يدرك كل الواقع المحيط به، بل هو يدرك منه فقط ما يقع تحت اهتمامه الآني، وهذا ما يسمى بلعم نفس الاجتماع (بالبيئة السايكولوجية).
والآن لنسأل، ما الذي جعل الشيعة يتوقفون عند ملحمة الحسين، ما الذي جعلهم يتوجهون صوب كربلاء، إلى هذه الدرجة؟ هل لأن الواقعة حدثت بينهم؟ أعتقد أن الجواب هو لا، فلو كان الأمر كذلك لاهتم أهل الشام بموضوع السبايا الذي حدث بينهم أيضاً وهو كان أكثر إثارة ومبعثاً للحزن. إذن فهل كان السبب هو وجود مرقد الحسين وبقيت أصحابه في العراق، الجواب أيضاً لا، لأن رأس الحسين موجود في مصر، ومرقد زينب موجود في بلاد الشام، ومرقد الحسن وفاطمة وبعض الأئمة في الجزيرة العربية، ومع ذلك فإن جميع تلك الشعوب لم توليهم كثير اهتمام. فهل السر يكمن في عقدت الشعور بالذنب، باعتبار أن أهل العراق اشتركوا بصورة مباشرة بقتل الحسين، الجواب أيضاً لا، لأن أهل الشام اشتركوا بصورة مباشرة بمحاربة الإمام علي والإمام الحسن وهم مع ذلك لم يفعلوا معهم ما فعل أهل العراق. فما هو الجواب إذاً؟ لماذا خرج العراقيين على الناس والتاريخ والحضارات بمركب الملحمة الحسينية، إلى المدى الذي جعل الناس ترى الحسين من خلال الصورة التي رسمها له شيعة العراق، فالقارئ الحسيني أينما وجد مضطر للقراءة عليه مستخدماً الأطوار العراقية، والشاعر الشعبي الذي ينظم الشعر برثاء الحسين يظل شاعراً بالخجل وهو يحاول أن يجعل شعره متماهياً مع اللهجة العراقية، بل حتى أن زينب وهي ترسم في لوحات الرسامين تكون مضطرة لارتداء العباءة العراقية، و(البوشية) العراقية. لماذا حصلت كل هذه الأمور؟
أعتقد أن الجواب على ذلك أيضاً بسيط وواضح، إن هؤلاء الناس وانطلاقاً من البيئة أو ما يسمى بالنسق الإيكولوجي الذي بنوا حضارتهم فيه كانوا وما زالوا يأبهون ويهتمون لمثل الملحمة الحسينية، إنهم ببساطة لا يستطيعون أن يغادروا الأراضي التي تجري عليها معارك الشرف دون أن يبكوا عليها وينظموا فيها الشعر، وهذا السبب هو الذي دفعهم لأن يؤلفوا الملاحم بذكر كلكامش وكل الشخصيات التي طافت حوله، ويعيدوا انتاج هذه الملحمة فتكون لها نسخة سومرية ونسخة بابلية وربما نسخ أخرى. إذاً لو عاش كلكامش بين غير هؤلاء الناس فربما كانت الأيام كفيلة بمسح معالمه من على صفحات التاريخ.
وهذا ما أريد أن أقوله بالنسبة للإمام الحسين، فلو أنه قتل على غير هذه الأرض لذهبت ملحمته أدراج الرياح، وربما لهذا السبب جاء الإمام علي للكوفة، وقرر أن ينقل عاصمة خلافته لها. وربما أيضاً ولنفس السبب قبل الإمام الحسين أن يتوجه بأهله لأرض كربلاء.
والآن هل قدمت باقي الحضارات منتجاً حضارياً خالداً كالذي قدمناه، هل استطاعت رموز باقي الحضارات أن تحضر في الذاكرة الإنسانية لتعمل على إنقاذها من الرضوخ بصورة أزلية كما فعلت رموز حضارتنا، نعم حضارتنا، التي اشتركت بإنتاج إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، واختصت بإنتاج علي والحسن والملحمة الحسينية الخالدة، ومن هذا المنطلق أنا أدعوا الشيعة ليقفوا أمام الآخرين لا بتكبر ولا بتعسف ولا بتجاهل، ولكن بندية شريفة وواثقة من نفسها، فقط من أجل أن تكون هذه الهوية التي هي جزء من كل، قادرة وبامتياز على أن تكون لبنة مهمة وفعالة في خدمة هذا الكل الذي هو العراق، العراق فقط، وليس شيئاً آخر غير العراق.
المسؤولية المضاعفة
لقد أنجزنا لحد الآن الجزء المتعلق بالمدح، مدح الشيعة، في سياق إعادة بناء ذاتهم، وبقي علينا أن ننجز النقد، لاعتبارات كثيرة أهونها، أن الاعتماد على المدح فقط في عملية البناء يؤدي لتضخم الذات لا إلى إعادة ثقتها بنفسها، كما أن الاعتماد على النقد فقط يؤدي بها إلى الانهيار والموت ومن ثم التلاشي.
لقد قلنا في ما سبق أن الملحمة الحسينية تشبه المركب الحضاري الذي يتكون من تراكب عدت عناصر حضارية مع بعضها البعض، وقلنا أيضاً بأننا وحدنا أصحاب الامتياز بهذا المنجز الحضاري، وبقي علينا أن نشير إلى أننا وأيضاً وحدنا نتحمل من جهة أخرى مسئولية هذا المنتج، فإذا كان فيه ما يسيء للثورة الحسينية أو يظهرها بالمظهر الغير لائق، فإننا لوحدنا سنقف يوم الجمع لنيل الجزاء الذي نستحقه مقابل هذه الإساءة، كما أننا سننال حتماً ثواب أننا أنتجنا الملحمة الحسينية.
الآن أريد أن أقول: حقاً أنا لم أعمد لتحديد أين أحسنا وأين أسأنا للحسين من خلال إبرازنا لصورة ملحمته، لأن هذا الموضوع يحتاج لبحث مستقل، وبالتالي فلست بمعرض الإشارة لهذا الموضوع تحديداً، غير أن المهم عندي أن أكمل بناء ما بدأته من خلال طرح سؤال المحاسبة والنقد، السؤال الذي يكشف عن التالي:
نعم إن الأعم الأغلب من مفردات الملحمة الحسينية ارتبطت بالإرث الشيعي العراقي، ابتداء من الروضة خون إلى اللطم ـ الذي هو حركة تعبيرية عراقية بالاستناد لمعطيات بعض البحوث الحضارية ـ ، إلى الطبخ في أيام عاشوراء إلى المشي لكربلاء إلى احتفالات الأربعينية الحسينية إلى رمزية اللون الأخضر في هذه الشعائر، إلى اللهجة التي طعمنا بها الحوار الذي يدور بين شخصيات الملحمة الحسينية، فقد ذهب لسان الحال عندنا إلى أبعد الحدود وهو يحاول مجارات الخطاب الذي يتخيل أنه دار في أجوائها.
إذن وببساطة بالغة أقول: إن علينا أن نتوقف عند كل هذا الكم الهائل الشعائر الذي أنتجناه وطعمنا به جو المسرح الحسيني، علينا أن نقف عنده ونتساءل: أين أحسنا وأين أخطأنا، ما هي الشعيرة التي يمكن لها أن تنقل صورة الحسين إلى الآخر نقية وناصعة، وما هي الشعيرة التي تنقل الصورة مشوهة وعبثية وغير واضحة؟
ما هو التعبير الذي نقلنا من خلاله صوت الحسين وإرادة الحسين وإصلاح الحسين، وما هو التعبير الذي نقلنا به أشياء أخرى لا علاقة لها بالغاية التي سال من أجلها دم الحسين؟
وأخيراً وإذا توقفنا من خارج مسرح الشعائر وقمنا بمراقبة هذه الشعائر مراقبة نقدية، فهل سنعتقد ونحن نفعل ذلك بأن الحسين سيكون راضياً أم لا؟