المهدي المنتظر... في ضوء القرآن والعلوم الحديثة والرياضيات - 3

كتابات - زهير الاسدي
 

(( دراسة علمية تتناول بالبحث والتحليل مسألة المهدي المنتظر على ضوء ما جاء في القرآن الكريم و السنن الكونية ويقوم بتفسيرها على حسب العلوم الحديثة مثل الرياضيات والفيزياء والأحياء ونحو ذلك ))<
الباب الثاني :المهدي في الدنيا والآخرة<
 الفصل الرابع: <
تجلي هوية الله في المهدي المنتظر <
لما كان من الثابت والمؤكد ان المهدي المنتظر الذي يملاً الأرض قسطاً وعدلاً يظهر في آخر الزمان , وثبت لدينا ان هوية الكائنات الحية تظهر بتمام كمالها في نهاية المطاف , فإن هوية الله يجب أن تظهر في نهاية الزمان في شخص المهدي عليه الصلاة والسلام, فالآيات الوارد ذكرها- أعلاه- إنما تتحدث عن ظهور هوية الله بتمام كمالها في آخر الزمان , والمهدي المنتظر هو المرشح الوحيد لحمل هذه الهوية( الأمانة) بتمام كمالها, لضخامة الدور الذي خُلق من أجله .<
وليس هذا بمحال بل العكس هو المحال, فأنت أيها العزيز حينما تكون قوي وكريم وعزيز وشكور ورحيم ومحسن وعادل, إنما تكون خليفة لله تتجلى في شخصك هوية الله ( أسماء وصفات وأفعال الله ) على قدر مرتبتك ودرجة كمالك , حيث القوة والكرم و العزة والشكر والرحمة والإحسان والعدل من مظاهر هوية الله تعالى مجده, وكلما ازداد تجلى أسماء وصفات وأفعال الله في شخصك كلما ازدادت درجة كمالك وكنت أقرب إلى الله من غيرك , وهذا هو معنى القرب إلى الله تعالى, أن تكون صورة عن الله ومظهر له في النشأة صفة وفعلا.<
ولما كان توحيد الله وتقديس كماله يحتم علينا تنزيهه عن مجانسة خلقه والإحاطة به كالرؤية والتكليم المباشر , فإن وجود خليفة الله الذي هو الواسطة- المرآة -لظهور هوية الله (أسماءه وصفاته وأفعاله) أمر ضروري يحتمه الإيمان بالله وقانونه العام الشامل الذي يحكم جميع مظاهر الوجود, فكما لا يمكن تحقق أو تصوّر نشر دين الله في الأرض دونما نبي مؤيد من السماء , كذلك لا يمكن تحقق ولا تصوّر بسط عدل الله في الأرض دونما خليفة الله التام الكامل الذي تتجلى هوية الله في شخصه, يكلم ويحاجج الناس ويختصمون بين يديه عند بسط عدل الله في الدنيا أو في الآخرة عند الحساب , فحكم المهدي المنتظر الذي يتولى هذه المهمة إنما هو حكم الله يظهر بواسطة شخصه المقدس.<
 فكما في قوله تعالى (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)[1] كذلك يمكن القول عن القائم بأمر الله ( وما حكمت إذ حكمت ولكن الله حكم ) أو (وما حاسبتهم إذ حاسبتهم ولكن الله حاسبهم) 0<
وكما في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)[2] كذلك يمكن القول عن القائم بأمر الله عليه الصلاة والسلام ( إن الذين يقفون بين يديك عند الحساب إنما يقفون بين يدي الله ,الكلام الذي يسمعونه منك إنما هو كلام الله ) .<
وهكذا يظهر لنا –بوضوح- إن فعل الله المتصل بالناس – بأي درجة كان- إنما يظهر بواسطة الإنسان , فكما فعل الله يظهر بواسطة أيدي المؤمنين فيرمي ويقتل الكفار ويخزهم ويشفي صدور قوم مؤمنين , كذلك فِعل الله يظهر بواسطة المهدي , وكما يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي يد الله , والذين يبايعونه إنما يبايعون الله , وهذا لا يعني التجسيم والتشبيه , كذلك شخص القائم بأمر الله هو هوية الله و الذين يقفون بين يديه عند الحساب إنما يقفون بين يدي الله , وهذا لا يعني أيضاً التجسيم والتشبيه, بل فعل الله يظهر بواسطة الكيان المقدس .<
تجلي هوية الله في الإنسان الخليفة<
ليست مسألة تجلي هوية الله في الكيان المقدس الذي يظهر الإسلام على الدين كله ويملاً الأرض قسطاً وعدلاً , فرضية خيالية لا تقوم على أساس علمي – كما يزعم المشككون- بل هي من الضرورات الوجودية التي لا يمكن تصوّر عدمها.<
ولقد أثبتت البراهين القاطعة ان الكون ظل لله تعالى مجده ومظهر لصفاته وأسمائه وأفعاله, ولعل من أوضح البراهين الواقعية على ذلك هو : من المحال أن يكون هناك خلق دونما خالق , ولا رحمة دونما رحيم, ولا رزق دونما رزاق, ولا كرم دونما كريم , ولا حكمة دونما حكيم , ولا عدل دونما عادل , فالله هو الحقيقة الوجودية المطلقة , وجميع ما في الكون مظاهر محددة للهوية المطلقة , والإنسان هو الكائن الوحيد المرشح لـ أن يحمل الهوية المطلقة بمقدار يتناس ودرجة كماله, والدليل على ذلك قوله تعالى مجده: <
(إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)[3] <
الأمانة: هي الوديعة التي يؤتمن عليها عند الغير للحفاظ عليها لفترة من الزمان ثم تسترد لصاحبها, وليست الأمانة المشار إليها في الآية المباركة الدين الحق بتفاصيله -كما يقول البعض- , بل هي هوية الله الوجودية( أسماء وصفات وأفعال الله), فالآية تتحدث بوضوح عن حمل نوع الإنسان للأمانة كائناً من كان , وهي تشير إلى استعداد تكويني) فطري) وليس شرعي, يمتاز به الإنسان عن سائر الموجودات, والدليل على ذلك مقايسة استعداد الإنسان بالسماوات والأرض والجبال .<
أما ما هي الأمانة ؟ وكيف استودعت عند الإنسان للحفاظ عليها؟, فهي روح الله (هوية الله) لحظة النفخ في آدم عليه السلام , (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)[4], يتوارثها نوع الإنسان عن آدم جيل من بعد جيل, فالروح الذي نسبه الله إلى نفسه وقال: (مِنْ رُوحِي ) إنما هوية الله الوجودية ( أسماء وصفات وأفعال الله) قد استودعت في كيان الإنسان أمانة للحفاظ عليها حتى تعود إلى صاحبها ( الله) عند الرجوع إليه ولقاءه في الآخرة , (اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[5].<
 و أوضح دليل يمكن أن نقدمه على أن الروح المنسوب إلى الله الذي نفخه في آدم عليه السلام هو الأمانة التي حملها الإنسان هو: سجود جميع الملائكة دونما استثناء لآدم عليه السلام لحظة نفخ الروح في كيانه (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)[6] فالسجود إنما كان لهوية الله التي ظهرت في آدم في تلك اللحظة الجليلة عندما تلبست روح الله في كيان آدم, وليس السجود لشخصه , فهو في تلك اللحظة لم يفعل شيئاً يستوجب سجود الملائكة, فالسجود إذاً كان لله بواسطة آدم الذي ظهرت هوية الله في شخصه.<
 والدليل الآخر إنه في الآية التالية من بعد أن ذكر الأمانة قال: (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)[7] فاللام في (لِيُعَذِّبَ) للغاية- كما هو بيّن- أي عاقبة هذا الحمل (حمل الأمانة- الهوية) أن (يُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ) الذين يخونون الأمانة ولا يحافظون على سلامة الروح التي أودعها الله عندهم وديعة , (وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) الذي يصونون الروح ويحافظون على الأمانة المستودعة عندهم .<
بعد أن عرفنا أن هوية الله المشتملة على سمات الكمال هي الأمانة التي يتوارث حملها الإنسان من بعد نفخها في آدم عليه السلام, نأتي إلى بيان عرض الأمانة والاستعداد الفطري الذي جعل الإنسان يحملها من دون سائر الموجودات( السماوات و الأرض والجبال) .<
نعود إلى أصل الموضوع, قال :( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً).<
لما كانت الأمانة هوية الله الوجودية , وهو تعالى مجده الوجود الصرف أزلاً وأبداً, فإن الأمانة معروضة أزلاً وأبدأ , والموجودات ( السماوات والأرض والجبال) بمجرد أن تندفع إلى الوجود تجد هوية الله ( الأمانة) معروضة عليها, وهي بإمكانياتها الفقيرة واستعداها الضعيف لا تقبل ( تأبى) أن تحمل تلك الهوية المشتملة على كل سمات الكمال فتشفق منها لضيق سعتها , ولكن الإنسان الظلوم الجهول حملها, واستطاع بما وهبه الله من مقدار أوفر من علم وإرادة , أن يكون خليفة الله في الأرض وسيد الموجودات فاستحق سجود جميع الملائكة.<
الظلوم الجهول وصفان مشتقان من الظلم والجهل يتصف بهما من كان شأنه كذلك , نحو قولك: شخص طموح , طفل لعوب, ماء طهور .. الخ . ولما كان الظلم تجاوز الحد, فإن الإنسان الظلوم -المتصف به- من شأنه تجاوز القيود والمحددات ولا يقف عندهما, أي مجبول على استعداد فطري لتجاوز القيود والمحددات في كل الشؤون التي تتصل به أو التي يخوض فيها , وهذا الاستعداد الفطري هو الذي جعل الإنسان قابل لحمل الهوية المطلقة على إطلاقها( إدراك المطلق وغير المتناه), بينما السماوات والأرض والجبال مجبولة على استعداد فطري محدود غير قابل لتجاوز المحددات والقيود , فتكون غير قابلة لحمل الهوية المطلقة على إطلاقها( تشفق منها). <
 أما معنى الجهول فهو: الفناء والاستغراق في التجاوز,غير المقيد بحد, فعقل الإنسان بالفطرة مستعد للنمو والتكامل بصورة غير محددة, و قابل لـ أن تتجلى فيه أسماء وصفات وأفعال الله على حسب درجة كماله, حيث الكرم والإحسان والشكر والرحمة والشفقة والعلم ..الخ من مظاهر هوية الله التي تتجلى في مرآة الإنسان , فكل إنسان يتصف بصفات الله ويفعل أفعاله يكون خليفة الله ومظهر له في النشأة على حسب تجلي تلك الأسماء والصفات والأفعال في شخصه, والشخص الخالي من العيوب ( المعصوم) الذي يتجلى في شخصه اكبر قدر ممكن من أسماء وصفات وأفعال الله هو خليفة الله الكامل التام.<
ومن المؤكد ان السبب الذي جعل الإنسان يحمل الأمانة من بين جميع الكائنات هو( العقل) روح الله المنفوخ في آدم الذي يتوارثه أبناءه جيل من بعد جيل, وأن سجود الملائكة كلهم أجمعون لآدم لحظة ظهور الله في كيانه, يثبت لنا ان الإنسان أعلى مرتبة من جميع الملائكة , لأنه يحمل الهوية المنسوبة إلى الله (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) وعلى الرغم من أن الملائكة والجن مخلوقين قبل آدم عليه السلام , فإن هوية الله( الخلافة) لم تظهر في النشأة بتمام كمالها إلا بعد نفخ الروح في آدم , والدليل على ذلك قوله تعالى مجده يخاطب الملائكة , (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ)[8] فالملائكة كانوا موجودين ويسبحون بحمد الله ويقدسون له, ولكنهم لم يكونوا خلفاء لله أي لم يحملوا سمات هويته بتمام كمالها كما حملها الإنسان . ولعل الفرق التكويني بين الإنسان والملائكة هو السبب الرئيسي الذي جعل الإنسان يحمل هوية الله بتمام كمالها دون الملائكة , فالملائكة – وكما هو معلوم- محددين بقيد الفطرة التي فطرهم الله عليها, انهم لا يتناسلون ولا يمرون بمراحل النمو والتكامل ولا يضيفون إلى علمهم علماً( قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[9] بينما الإنسان الظلوم الجهول القادر على تجاوز القيود والمحددات بصورة غير محددة يتناسل ويمر بمراحل النمو والتكامل , فيكتسب مراتب الكمال ويضيف إلى علمه علماً خلال رحلته التي يقطعها ما بين الولادة والموت .<
من خلال ما تقدم يتضح لنا إن السر كل السر يكمن في النمور والتكامل المجبول عليهما الإنسان الظلوم الجهول الذي يتجاوز القيود والمحددات بصورة غير محددة , تجعل سمات الهوية الكامنة في كيانه تظهر بصورة غير مقيدة بسمة دون غيرها ولا محددة بمرتبة لا يتجاوزها . <
ويمكن بيان ذلك من خلال المثال التالي : كلنا نعلم ان هوية الشجرة كامنة ومعبأة على هيئة معلومات محمولة في اصغر وحدة مادية فيها وهي البذرة , وهذه الهوية لا تظهر بمرتبة واحدة ولا صورة واحدة , بل بمراتب وصور مختلفة خلال مراحل النمو والتكامل التي تقطعها ما بين البذرة والشجرة التامة الكاملة , فالهوية كلها كامنة في البذرة , ولكن ليس بالضرورة أن تظهر بتمام كمالها وبنفس الكيفية في جميع الأشجار , بل على حسب ظروف النمو والتكامل, فقد تطرأ عليها ظروف تعوق نموها بالشكل الطبيعي فتنحرف أغصانها ويتغير شكلها ويتغير طعم ثمارها, أو قد تموت وهي ما زالت نبتة صغيرة وقبل أن تظهر هويتها بتمام كمالها.<
 كما في الشجرة ,كذلك في الإنسان , هوية الله الوجودية كامنة في كيانه منذ المرحلة الأولى لنشأته, فالنطفة تحمل كل هوية الإنسان الوجودية المنتزعة من هوية الله , وخلال مراحل النمو والتكامل المحصورة ما بين الولادة والموت تظهر مراتب تلك الهوية على حسب ظروف التكامل التي يمر بها الإنسان , فمنهم من يزكي روحه ويسمو بها إلى أعلى عليين من خلال الحفاظ على الأمانة التي أودعها الله فيه(لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)[10] فتظهر فيه الكثير من أسماء وصفات وأفعال الله مثل ( الإيمان ,الشكر , الإحسان , الرحمة , العلم ,الكرم ..الخ),<
 ومنهم من يخون الأمانة ولا يحافظ عليها فيلوثها بأنواع النواقص والظلمات مثل ( الكفر , اللئم , الغلظة , الجهل , الغفلة , البخل , ..الخ) حتى يهبط بروحه إلى اسفل السافلين , (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)[11]<
يستفاد مما سبق : إن الأمانة التي يحملها الإنسان (المؤمن أو غيره) هوية واحدة لا غير, وهي هوية الله تعالى مجده بتمام كمالها تكون كامنة في أعماق فطرته, ولكنها لا تظهر عند الجميع بنفس الصورة والمرتبة , بل على حسب حركة النمو والتكامل والظروف التي يمر بها الإنسان ما بين ولادته وموته, فمنهم من يرجع الأمانة لصاحبها بتمام كمالها غير منقوص منها شيء(فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ), ومنهم من لا يرجع منها شيء(أَسْفَلَ سَافِلِينَ), وما بين هذه المرتبة وتلك تترتب مراتب كمال الناس .<
حتمية ظهور خليفة الله الكامل في الأرض <
إن هذا القانون الذي أشرنا إليه في الأوراق السابقة( قانون الخلافة وحمل الهوية), جدير بالبحث الفلسفي والعلمي أكثر من سائر الجوانب الأخرى , لأنه- كما ظهر لنا بوضوح- قانون كوني عام يحكم جميع عناصر الكون دونما استثناء.<
وكما قلنا منذ قليل ان هوية الله تعالى مجده موجودة أزلاً وأبداً , وهي( أسماء وصفات وأفعال الله ) تظهر في الموجودات على قدر مرتبتها ودرجة كمالها , ولما كان الإنسان خليفة الله , والخلافة قانون كوني عام , فإن وجود خليفة الله التام الكامل من الضرورات الوجودية التي لا يمكن تصوّر عدمها, فيجب أن يظهر الإنسان الكامل الذي تتجلى في شخصه هوية الله الوجودية بتمام كمالها, كي يتحقق مصداق خلافة الله في الأرض وحمل الهوية ( الأمانة), تماماً كما يتحقق على النطفة مصداق إنسان كامل عندما تخرج من القوة إلى الفعل وتظهر كل هوية الإنسان دونما نواقص, فكما تظهر هوية الموجودات بتمام كمالها في نهاية المطاف وبعد سلسلة من مراحل النمو والتكامل , كذلك تظهر هوية الله في الإنسان الكامل بتمام كمالها في نهاية الزمان وبعد سلسلة من النمو والتكامل , فالمهدي المنتظر الذي يظهر في نهاية الزمان, ويظهر الإسلام على الدين كله ويبسط العدالة الشاملة على الأرض هو المرشح الوحيد لهذه المرتبة من الكمال .<
ولكي نمهّد لبيان هذه الحقيقة نتناول نقطة واحدة بالبحث والتحليل ذات علاقة بظهور الهوية , وهذه النقطة هي هوية الله الوجودية التي تنتزع منها جميع الهويات الوجودية الظاهرة والباطنة على السواء .<
قال تعالى مجده يصف نفسه : (هُوَ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[1] <
وقال يصف ظهوره في الأرض:(إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)[2] <
لما كان الله-بتصريح الآية المباركة - ظاهر كما هو باطن, فإنه تعالى مجده ليس باطناً فحسب- كما يظن البعض- بل ظاهر في النشأة , وظهوره إنما يكون في مرآة مخلوقاته الممتدة ما بين اللاشيء وكل شيء ( اللاكمال وكل الكمال), وهي مصاديق لهويته المطلقة غير المتناهية, وعلى هذا فإن جميع المخلوقات من الذرة إلى المجرة وما كان أصغر من ذلك أو أكبر إنما مرايا تعكس ظهور الله فيها على حسب استعدادها ومرتبتها في الوجود , وظهوره الأعظم يكون في أشرف مخلوقاته الذي حمل الأمانة فاستحق سجود جميع الملائكة دونما استثناء .<
 والقرآن الكريم يصرّح -بكل وضوح -بأن الإنسان هو الوحيد من بين الموجودات الذي حمل الأمانة ( هوية الله) بتمام كمالها فاستحق سجود الملائكة, وهذا السجود – كما هو بيّن-لم يكن لآدم كشخص, بل لهوية الله التي ظهرت في كيانه لحظة نفخ الروح , فقد نسب الله الروح إلى نفسه وأمر الملائكة بالسجود في لحظة النفخ قال: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)[3] ولما كان الحرف (إذا) ظرف زمان , والروح منسوب إلى الله, فإن لحظة نفخ الروح في آدم عليه السلام إنما كانت لحظة ظهور الله - بمقام الظاهر- في كيان الإنسان, وهي بلا شك لحظة جليلة عظيمة تستحق سجود جميع الملائكة والكائنات العاقلة, وكلنا نعلم ان ظهور هوية الله في آدم عليه السلام كان في تجلّى أسماء الله في شخصه, فهذا ما يؤكده قوله تعالى مجده: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا)[4] حيث أسماء الله هويته تعالى مجده, وتعليمها لآدم كان بانتقالها إلى كيانه لحظة النفخ .<
وهكذا نجد –بوضوح- ان الله المطلق لا يمكن أن يظهر في مقام الظاهر بذاته في النشأة , بل يظهر نموذج مصغّر لهويته الوجودية يطلق عليه القرآن تسمية أمانة وحامل هذا النموذج ( الأمانة) يسميه القرآن خليفة, وليس آدم وحده خليفة الله في الأرض , بل جميع أبناء آدم خلفاء يحملون هوية الله ( الأمانة) على قدر استعدادهم ومرتبة كمالهم, بدليل قوله ( .. وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً)[5] .<
فجميع الناس خلفاء لله في الأرض تتجلى فيهم هوية الله على حسب استعدادهم ودرجة كمالهم, وكلما كان الإنسان أكثر كمالاً كلما كان أقرب إلى الهوية الكاملة التامة( اقرب إلى الله), وهكذا تمتد الدرجات من اللاكمال إلى كل الكمال وهو الأقرب إلى الله ومظهر لتمام هويته تعالى مجده في الأرض , فدرجة الكمال التام لا بد بل يجب أن تظهر في النشأة لتكون مصداق لكمال الله في مقام الظاهر , وهي من الضرورات الوجودية التي لا يمكن تصوّر عدمها, لأن عدم ظهور هذه المرتبة التامة يعني النقص في هوية الله , تعالى عن ذلك علواً كبيراً, والسطور التالية ستقيم البرهان على ذلك.<
المقدمة الأولى:<
 إن هوية الله كاملة تامة مطلقة لا يسلك النقص إليها من سبيل , تحيط بجميع المراتب الوجودية الظاهرة والباطنة الممتدة ما بين اللاشيء و كل شيء , و اللاكمال وكل الكمال .<
المقدمة الثانية:<
 جميع الموجودات الظاهرة والباطنة إنما مصاديق وجودية لهوية الله التامة المطلقة (غير المتناهية) في مقامي الظاهر والباطن , وهي مراتب وجودية ذات درجات تمتد من اللاشيء إلى كل شيء , واللاكمال إلى كل الكمال . <
البرهان:<
 لما كان الله تام كامل مطلق , يحيط بكل شيء, أي بجميع المراتب الوجودية الممتدة ما بين اللاشيء وكل شيء , واللاكمال إلى كل الكمال, و كانت جميع الموجودات الظاهرة والباطنة مصاديق وجودية لهويته تعالى مجدة في مقامي الظاهر والباطن , وهي مراتب وجودية ذات درجات تمتد من اللاشيء إلى كل شيء ( اللاكمال إلى كل الكمال) , فإنه من المحال أن يخلو الكون من أي مرتبة من تلك المراتب المحاطة بالله من الأول والآخر الممتدة من اللاشيء إلى كل شيء ( اللاكمال إلى كل الكمال), فجميع المراتب يجب أن توجد وتظهر في الكون , وأي نقص في مرتبة من هذه المراتب يعني النقص في هوية الواجب المطلقة( غير المتناهية) تعالى الله عن ذلك علواً كبيراُ , فمرتبة الكمال التام يجب أن تظهر في النشأة لتكون مصداقاً لكمال الله في مقام الظاهر , وهي مرتبة القائم بأمر الله ( المهدي المنتظر) الذي تتجلى في شخصه هوية الله بتمام كمالها.<
 برهان رياضي<
ولتوضيح ما سبق ببساطة ووضوح نستعين بمراتب الأعداد ومصاديقها ونبدأ بمثال بسيط . <
من المعلوم أن الأعداد الكاملة عشرة تمتد من الصفر إلى العشرة , أما لماذا عشرة وليس أكثر ولا أقل من ذلك؟ فالقرآن يجيب ونحن نوضّح ما يقول:<
(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)[6] <
لا تكون الحسنة حسنة إلا إذا كان العمل خالصاً لله , أما السيئة فهي العمل الذي يتوجه لغير الله, والسبب في أن الحسنة بعشرة أمثالها, هو انك حينما تتوجه بعملك إلى الله, لا تتوجه إلى مرتبة واحدة محددة , بل تتوجه إلى هوية مطلقة متعددة المراتب تمتد إلى غير المتناه , وفعلك المتوجه إلى غير المتناه يستوجب بالضرورة أن تأتيك ردود أفعال[7] على قدر تلك المراتب, وكلنا نعلم انه من المستحيل التعبير عن غير المتناه بعدد محدد أو قيمة محددة , لأنك بمجرد أن تذكر عدد أو قيمة لغير المتناه تكون قد حددته وهذا خلاف .<
 ولما كان من المستحيل التعبير عن غير المتناه بعدد أو قيمة, فإن التعبير عنه إنما يكون بنموذج ( مصغّر)محدد في أصغر وحدات المراتب , وليس ذلك النموذج إلا العشرة التامة, حيث العشرة مراتب عددية تمثل دورة كاملة -كما دورة الكون -تبدأ من الصفر في مقام اللاعدد وتنتهي إليه في مقام الأعداد الكاملة( العشرة), تماماً كما مراتب غير المتناه تبدأ من الصفر في مقام اللاشيء وتنتهي بالصفر في مقام كل شيء , والصفر هو الله تعالى مجده , حيث نسبة المادة إليه مقدارها = صفر , (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[8] فإذا كان المطلق لطيف, فإن لطافته تكون مطلقة بالضرورة ,أي منزه تنزهاً تاماً ومطلقاً عن المادة ( نسبة المادة إليه =صفر)<
 وكما الموجودات تبدأ من الله وتنتهي إليه (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ)[9],( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)[10]<
كذلك العشرة تبدأ من نقطة – الصفر- وتنتهي إليها بعد أن تدور دورة كاملة .<
 والآن بعد أن عرفنا ان العشرة التامة منتزعة من هوية الله ( المطلقة) وهي نموذج مصغّر لغير المتناه , أبحنا ندرك بوضوح لماذا الحسنة – المتوجهة لله – بعشرة أمثالها وليس أقل من ذلك ولا أكثر, فالسبب هو أن العشرة الكاملة نموذج ( مصغّر) لمراتب هوية الله تعالى مجده .<
ولما كان الله ( هو الأول والآخر) فإنه يحيط بالموجودات من جميع الجهات ,كما تحيط الدائرة المركز, والعمل المتوجه إلى الله إنما يتوجه إلى عشرة مراتب, وكأن الفعل الحسن شعاع من نور ينطلق من مصدر واحد( مركز) و يتوجه إلى عشرة مرايا (محيط) , وكل مرآة تعكس النور الذي أرتسم فيها, وهكذا نجد أن الفعل الواحد يترتب عليه عشرة ردود أفعال في آن, حيث الحسنة فعل من العبد , والجزاء رد فعل من الله . <
 هذه المقدمة التي أوضحناها إنما تمهيداً لبيان الدليل الرياضي الذي يثبت أن مراتب الهوية الوجودية لا بد بل يجب أن تظهر جميعها في النشأة , ومن المحال أن تكون هنا مرتبة ناقصة : ونقطة البدء في هذا الدليل هو :إن الأعداد سواء كانت عشرة كاملة أو غير متناهية , إنما مفاهيم منتزعة من الهوية المطلقة ( الله) يجب أن يكون لها مصاديق في النشأة .<
ولما كان الله ظاهر وباطن , والكون مظهر لهويته تعالى مجده, فإن مقام الباطن في هويته يجب أن يكون له مصداقاً ظاهراً في النشأة, أي كل مرتبة باطنة يجب أن يقابلها بالضرورة مرتبة ظاهرة, وهذا قانون عام نجد مظاهره في أبسط وحدات المادة التي يتألف منها الكون وهي الذرة , التي تتألف من وحدات متكافئة من السالب والموجب ( الإلكترونات والبروتونات) فكل إلكترون( سالب- باطن) يقابله بالضرورة بروتون ( موجب- ظاهر), فالكون مبني على التوازن ( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ)[11] وهذا الميزان إنما قانون عام شامل يحكم جميع عناصر الكون, وهو مظهر لهوية الله الظاهر والباطن .<
وهكذا نجد – بوضوح – ان كل مفهوم منتزع من هوية الله تعالى مجده يجب أن يكون له مصداقاً ظاهراً في الكون ,أي كل عدد (باطن) يجب أن يكون له مصداقاً ( ظاهراً) في الكون , فالواحد مثلاً مفهوم باطن له مصاديق كثيرة في النشأة , نحو: رجل واحد , امرأة واحدة , شجرة واحدة, كوكب واحد , ذرة واحدة , شمس واحدة ..الخ , والعشرة الكاملة مفهوم باطن له مصاديق كثيرة في النشأة , منها النظام الشمسي الذي يتألف من شمس واحدة وتسعة كواكب سيارة , وهذا النظام إنما نموذج مصغّر لنظام الكون المنتزع من هوية الله تعالى مجده . فجميع الأعداد والأرقام من الصفر إلى غير المتناه, مفاهيم باطنة لها مصاديق ظاهرة في الكون , فغير المتناه الباطن مصاديقه في الكون غير متناه من الذرات , بل غير متناه من السماوات ( الأنظمة الشمسية- النجوم). <
 وعلى ضوء ما سبق وعلى حسب قانون التوازن ( الميزان) , فإن مراتب كمال الله الباطنة يجب أن يكون لها مصاديق ظاهرة في النشأة , وهذه من الضرورات الوجودية التي لا يمكن تصور عدمها , فأنت حينما تعد من الواحد إلى العشرة , يجب عليك أن تذكر جميع الأعداد الممتدة ما بين الصفر والعشرة , وإذا ما تجاهلت أحد الأعداد (السبعة أو التسعة مثلاً) ولم تذكره تكون قد أرتكبت خطأ .<
 فكما من المحال أن تكون هناك مرتبة ناقصة ما بين البداية والنهاية في العشرة الكاملة , كذلك في المراتب الوجودية غير المتناهية , لأنها مصاديق لهوية الله الكامل التام الذي لا يسلك النقص إليه من سبيل . <
ولما كانت دائرة الوجود تامة ( مغلقة) البداية هي عين النهاية, وهي مظهر لهوية الله ( الأول والآخر) , فإنه من المحال أن تكون هناك مرتبة ناقصة في هذه الدائرة المحاطة بالله الكامل من ( الأول والآخر) , لأن ذلك يعني النقص في هوية الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً , ويمكن تلخيص ما سبق وإقامة البرهان بالصورة التالية:<
المقدمة الأولى: الأعداد المجردة إنما مفاهيم ذات مراتب غير متناهية تمتد ما بين اللاعدد إلى كل الأعداد ( ما بين اللاشيء إلى كل شيء) وهي مراتب منتزعة من هوية الله (غير المتناه) في مقام الباطن .<
المقدمة الثانية: الموجودات الظاهرة في الكون غير المتناه (من اللاشيء إلى كل شيء) إنما مصاديق للأعداد غير المتناهية وهي مراتب منتزعة من هوية الله ( غير المتناه) في مقام الظاهر . <
البرهان: لما كانت جميع المفاهيم ومصاديقها في الكون مظاهر لهوية الله في مقامي الظاهر والباطن , وهو تعالى مجده منزه تنزهاً تاماً عن النقص والمحدودية, فإن الكون بجميع مراتبه الظاهرة والباطنة كامل تام لا يسلك النقص إليه من سبيل , من المحال أن تكون هناك مرتبة ظاهرة أو باطنة مفقودة من الكون .<
ولما كانت من سمات هوية الله الكمال , فإنه كما في مراتب الأعداد كذلك في مراتب الكمال, يجب أن تكون هناك مصاديق ظاهرة في الكون لجميع مراتب الكمال الباطنة المنتزعة من هوية الله تعالى مجده, ومن المحال أن تكون هناك مرتبة مفقودة لا تظهر في النشأة , وعلى هذا فإن هوية الله- بمقام الظاهر- يجب أن تظهر في النشأة بتمام كمالها( في شخص القائم بأمر الله) ومن المحال أن لا تظهر , والقرآن الكريم يؤكد هذه الحقيقة في آيات كثيرة نذكر منها .<
1- (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ)[12] <
2- (هلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلْ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ)[13] <
3- (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[14] <
4- (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)[15] <
6-(وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً)[16] <
7-(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ )[17] <
لاحظ انه قال (يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ ) ولم يقل: بظلل من الغمام والملائكة , مما يعني إن هوية الله سوف تظهر في الأرض وأول ما تظهر تكون محاطة بالغمام والملائكة , ولما كانت هناك أحاديث كثيرة متواترة بلغت الآلاف تؤكد ظهور المهدي المنتظر في نهاية الزمان ليملاً الأرض قسطاً وعدلاً , ولم تشر إلى شخصية أخرى , فإن هوية الله التي تأتى محاطة بالغمام والملائكة تتجلى في شخص المهدي المنتظر عليه الصلاة والسلام , واعلم أن الآية فيها مضاف محذوف تقديره القائم بأمر, ويمكن بيان معنى الآية بالصورة التالية: <
(هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ -القائم بأمر- اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ) ولأنه عليه الصلاة والسلام خليفة الله تام الكامل ومظهر لتمام هوية الله جاء سياق العبارات بالشكل الذي تعرضه الآية , فالله وهويته التامة شيء واحد بلا تمايز ولا اختلاف , ويؤيده قوله :<
(إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم)[18] <
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)[19] <
 وعلى حسب قاعدة ( حكم الأمثال فيما يجوز أو لا يجوز واحد) يمكننا القول : كما يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي يد الله , والذين يبايعونه إنما يبايعون الله ( وهذا لا يعني التجسيم والتشبيه) , كذلك شخص القائم بأمر الله ( المهدي) هو مظهر لهوية الله , حينما يظهر يكون الله قد ظهر , و الذين ينظرون إليه إنما ينظرون إلى الله . وهذا لا يعني أيضاً التجسيم والتشبيه .<
وهكذا نبرهن ان هوية الله بتمام كملها يجب أن تظهر في النشأة وتتجلى في خليفة الله (الإنسان) الذي حمل الأمانة ( الهوية) ومن المحال أن لا تظهر , وهي من الضرورات الوجودية التي لا يمكن تصور عدمها , وسيأتي بيان الآيات( المذكورة) التي تؤكد هذه الحقيقة في فرصة قادمة إن شاء الله تعالى .<
خلاصة ما سبق<
من خلال ما تقدم والمظاهر الواقعية التي نشهدها كل يوم, تظهر لنا حقيقتان مؤكدتان, الأولى: ان الخلافة قانون كوني عام يحكم جميع عناصر الكون دونما استثناء , وجميع عناصر الكون الظاهرة والباطنة إنما نماذج مصغّرة تحمل الهوية الوجودية (الله) على حسب مرتبتها ودرجة كمالها , فالموجود بمجرد أن يكون موجوداً ظاهراً أو باطناً يكون مظهراُ لهوية الله (الظاهر والباطن) ومن المحال أن يكون هناك موجود إلا إذا حمل سمات الوجود المنتزعة من الهوية الوجودية المطلقة ( الله تعالى مجده) .<
 والحقيقة الثانية :<
 إن النمو والتكامل قانون عام شامل يحكم جميع عناصر الكون دونما استثناء, بما في ذلك تلك التي يطلق عليها تسمية جمادات , حيث السماوات والأرض لم تخلقا دفعة واحدة, بل في ستة أيام, أي على ستة مراحل, وكل مرحلة استغرقت ملايين السنين , وهي بلا شك مراحل نمو وتكامل مرت وتمر بها النشأة في سبيل بلوغ تمام كمالها في نهاية المطاف , في نشأة ذات ديمومة وبقاء وحياة لا يسلك الموت إليها من سبيل , وإذا ما بحثنا في الكائنات الحية نجد أنها جماداً تحول إلى كائن حي ,حيث نجد الطين يتحول إلى نبات وحيوان وإنسان, فالنطفة التي يُخلق منها الإنسان إنما هي حصيلة المواد الغذائية التي منشأها الطين (التراب والماء), حيث يتحول الماء والتراب إلى نبات, وإلى لحوم الحيوان الذي يتغذى عليها , وبالتالي النطفة التي تتحول إلى إنسان هي هذه المواد التي يتغذى بها الإنسان , فالتراب إذاً ينمو ويتكامل ويتحوّل إلى إنسان.<
ومن أوضح التأكيدات على أن النمو والتكامل قانون كوني عام شامل هي : المظاهر الواقعية الحسية التي نشهدها في أنفسنا و كل ما حولها, حيث نجد الكائنات الحية (الإنسان –الحيوان – النبات) ينبثق من أبسط وحداته (الخلية الحية) ثم ينمو ويتكامل حتى تظهر جميع سمات هويته الوجودية , فيكون إنساناً تاماً سوياً, أو حيواناً تاماً سوياً , أو شجرة تامة سوية .<
فكما هوية الشجرة المحمولة في البذرة لا تظهر دفعة واحدة في النشأة , بل تبدأ أولاً بغرس البذرة ثم تنفلق وتنبت وتكبر وتنمو شيئاً فشيئاً حتى تظهر كل هوية الشجرة في نهاية المطاف, وكما هوية الإنسان المحمولة في النطفة لا تظهر دفعة واحدة فتكون رجلاً تاماً سوياً أو امرأة تامة سوية , بل بالتدريج البطيء , حيث تبدأ من النطفة والعلقة والمضغة والجنين , ثم يولد طفلاً لا يعلم شيئاً ثم ينمو ويتكامل شيئاً فشيئاً حتى يصبح رجلاً تاماً سوياً أو امرأة تامة سوية , كذلك هوية الله المحمولة في كيان الإنسان لا تظهر دفعة واحدة بتمام كمالها , بل بالتدريج البطيء وضمن قانون النمو والتكامل, حيث بدأت بآدم عليه السلام الذي كان كما البذرة الأولى لشجرة الخلافة, ثم نمت وتكاملت شيئاً فشيئاً في أجيال الأنبياء, حتى ظهرت كل شجرة الكمال في خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم , والثمرة النهائية ستظهر في نهاية المطاف في المهدي المنتظر الذي يظهر الإسلام على الدين كله ويبسط العدالة الشاملة على كوكب الأرض.<
 وعلى هذا الضوء فإن لحظة نفخ الروح في آدم عليه السلام إنما كانت بداية ظهور هوية الله ( الخلافة) وليست كل الظهور , أي كانت بمثابة غرس البذرة في التراب, وخلال عملية نمو وتكامل الحياة على الأرض بواسطة الأنبياء كانت الخلافة في الأرض تنمو وتتكامل وتظهر سمات هوية الله في الإنسان بالتدريج , تماماً كما تنمو وتتكامل النبتة في سبيل ظهور كامل هويتها( شجرة تامة سوية) , فكلما نمت وتكاملت الحياة على الأرض كلما نمت وتكاملت الخلافة فيها عن طريق بعث الأنبياء والرسل , حيث كل نبي يأتي يضيف علماً وكمالاً يدفع بالحياة نحو المزيد من النمو والكمال , وهكذا استمر الحال إلى بعث سيد المرسلين وأشرف الخلق أجمعين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أظهر كمال الشريعة وبلّغ كتاب الله الجامع لجميع الكمالات ليخرج الناس من ظلمات السفل والنقص إلى نور الكمال والسعادة الكبرى.<
ولما كان القرآن (تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)[20], وهو إلى اليوم لم تظهر جميع حقائقه بتمام كمالها, ولم تطبّق أحكامه في جميع أقطار الأرض , فإن النمو والتكامل لم ينته بموت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أدى دوره على أتم ما يكون, بل هو مستمر وينتشر يوماً من بعد يوم , وسيظهر كل الكمال في نهاية المطاف عند إظهار الإسلام على الدين كله و بسط العدالة الشاملة على كوكب الأرض على يدي المهدي المنتظر عليه الصلاة والسلام .<
ولما كانت الخلافة ( حمل الهوية) قانون كوني عام , تظهر في النشأة من خلال حركة النمو والتكامل , فإنها ليست حالة جامدة, بل متحركة تنمو وتتكامل باطراد كما تنمو وتتكامل النشأة وعناصرها الحية والجامدة, وعلى هذا فإن الخليفة المتأخر يكون أكثر كمالاً من المتقدم , وآخر خليفة لله في الأرض هو الأكثر كمالاً الذي تتجلى في شخصه كل سمات هوية الله بتمام كمالها . <
ولما كان من المؤكد أن تظهر هوية الموجودات المنتزعة من هوية الله بتمام كمالها في آخر مرحلة من مراحل النمو والتكامل , فإنه من المؤكد ظهور هوية الله في الإنسان في نهاية مراحل نمو وتكامل النشأة , (في آخر الزمان) وهذه من الحقائق الوجودية التي لا يمكن تصوّر عدمها , فكما المرتبة عشرة التي تمثل كل الأعداد بتمام كمالها , تأتي في نهاية المطاف لتكمل دائرة الأعداد الكاملة وتربط النهاية بالبداية , كذلك مرتبة خليفة الله الكامل التام الذي تتجلى في شخصه كل هوية الله بتمام كمالها , يأتي في آخر الزمان ليكمل دائرة الكمال ويربط النهاية بالبداية, فيتحقق الكمال التام في نشأة ذات ديمومة وبقاء لا يسلك الموت إليها من سبيل.<
ولما كان القرآن الكريم يؤكد في آيات كثيرة على ظهور الله للناس في الدنيا و الآخرة , والإنسان هو الوحيد من بين الموجودات الذي حمل هوية الله بتمام كمالها (الأمانة) , فإن ذلك الظهور لا يمكن أن يكون إلا بواسطة الإنسان الكامل الذي تتجلى في شخصه هوية الله بتمام كمالها. <
ولما كان إظهار الإسلام على الدين كله وبسط العدالة الشاملة على كوكب الأرض من أهم وأخطر المهام في تاريخ النشأة , فإن المهدي المنتظر الذي يتولى تلك المهمة العظيمة والمتميزة لا يمكن أن يشبه أحداً من الخلفاء السابقين , بل يجب أن يكون في مرتبة كمالية تتناسب والدور العظيم الذي سيعلبه في الدنيا والآخرة .<
ولما كان من الثابت والمؤكد ظهور المهدي المنتظر في آخر الزمان , وهوية الله في الموجودات تظهر بتمام كمالها في آخر مراحل النمو والتكامل , فإن المهدي المنتظر هو خليفة الله التام الكامل الذي تتجلى في شخصه هوية الله الوجودية بتمام كمالها ( غير منقوص منها شيء) وهو من الحقائق الموثقة في مصادر المسلمين والمؤكدة في جميع الآيات القرآنية التي تشير إلى ظهور هوية الله في الدنيا والآخرة. <
الفصول القادمة تتضمن الإجابة العلمية على الكثير من التساؤلات بشأن مسألة المهدي عليه السلام. <
=============<
هوامش الباب الثاني\ الفصل الرابع <
[1] - سورة الأنفال , الآية17<
[2] - سورة الفتح , الآية 10<
[3] - سورة الأحزاب , الآية 72-73<
[4] - سورة الحجر , الآية 29<
[5] - سورة الروم , الآية11<
[6] - سورة الحجر , الآية 30 \ سورة ص , الآية 73<
[7] - سورة الأحزاب , الآية 73<
[8] - سورة البقرة , الآية 30<
[9] - سورة البقرة , الآية 31<
[10] - سورة التين , الآية 4<
[11] - سورة التين , الآية 5<
===============<
هوامش الباب الثاني\ الفصل الخامس<
[1] - سورة الحديد , الآية 3<
[2] -سورة البقرة , الآية 30<
[3] - سورة الحجر, الآية 29<
[4] - سورة البقرة , الآية 31<
[5] - سورة الأعراف , الآية 69<
[6] - سورة الأنعام , الآية 160<
[7] - لكل فعل رد فعل مساوٍ له بالمقدار ومعاكس له بالاتجاه .<
[8] - سورة الأنعام , الآية 103<
[9] - سورة الحديد , الآية 3<
[10] - سورة الأعراف , الآية 29<
[11] - سورة الرحمن , الآية 7<
[12] - سورة البقرة , الآية 210<
[13] - سورة الأنعام , الآية 158<
[14] - سورة النحل , الآية 33<
[15] - سورة الشعراء, الآية 4<
[16] - سورة الفجر , الآية 22<
[17] - سورة القيامة, الآية22-23<
[18] - سورة الفتح , الآية 10<
[19] - سورة الأنفال , الآية 17<
[20] - سورة النحل , الآية 89
 

الرئيسية  | مركز الصدرين للفكر الإستراتيجي |  العودة للصفحة السابقة