المرجعية الدينية الشيعية على مفترق طرق *
كتابات - شباب آل محمد
المقدمة
يتحدث كثير من الكتاب الشيعة عن المرجعية الشيعية ،و قد تصاعدت وتيرة هذا
الحديث بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران ،وما تبعها من استحقاقات
كثيرة و معقدة ، على أن اغلب هذه الكتابات ذات طابع مناقبي ، تتصل بقضايا
السلوك و المنزلة العلمية ومداخلات الأنساب و الأحساب ، و قليلاً ما نلتقي
بالتحليل التاريخي لظاهرة المرجعية ، و علاقتها بالزمن ككائن حي متحرك ،
وهو أمر يحتل موقعاً مركزياً من مهمة النهوض بالطائفة من جميع الجهات ، و
تزداد هذه الضرورة إلحاحاَ في هذا الزمن الصعب ، حيث كثيراً ما يتوقف
الاختيار الناضج على استيعاب التاريخ وملابساته ، فضلاً عن الإحاطة الواعية
بثقافة العصر الذي راح يتفجر بالوقائع و الأحداث ، حتى بات من الصعب ان
نقول ان هناك تاريخاً ، و قد استدعي هذا الطوفان خوفاً و قلقاً على ضياع
الهوية ، مهما كان جوهرها و حقيقتها .
إن أقصى ما نسمعه ونقرأه في هذا المجال ، مما يصب في المحاولات الجادة ، لا
يتعدى وصف المرجعية من منظور الحاجة الشرعية ،
في سياق من العمومية ، مع بعض ا لإشارات الى الدور المرجعي في بعض مفاصل
التاريخ المعاصر ، وهذا يعود الى افتقاد النظرة الموضوعية الدقيقة في
التعامل مع المرجعية ، وبالتالي افتقاد آليات التحليل التي تتناسب مع طبيعة
الظاهرة و فلسفتها ومهماتها ، ان كل ظاهرة كائن ، له مقوماته ، وأي عملية
تحليل ودراسة للظاهرة تتعين إلى حد كبير ، في ضوء الجدل الحاصل بين الظاهرة
ككل و الواقع الخارجي ، كذلك على هدي علاقات المكونات الداخلية ، هذه
العلاقات التي يؤدي إغفالها الى نظرة ساذجة مبتسرة ، تغري بمزيد من الرخاوة
في التواصل مع أي بنية في هذا الوجود ، ومن ثم باسترشاد الوظيفة المرتقبة
الوظيفة القائمة.، وللأسف الشديد لم نصادف دراسة للمرجعية في هذه السعة و
الشمولية و العمق ، وهي حاجة ترتبط بعمق الوجود الشيعي ، فكراً و غاية و
كياناً ، ونحن ـ شباب آل محمد في شمال أُوربا نتطلع إلى هذه الدراسة الجادة
على طريق الكيانية الشيعية العالمية ـ .ولكن افتقاد هذه الإنجاز على أرض
الواقع ، لا يمنع من بعض الإسهامات البسيطة المتواضعة ، التي من شأنها
تسليط الضوء على جملة من إشكاليات هذه القضية المصيرية .
قوام الوجود :
المرجعية بالنسبة لنا ليست حاجة ، وذلك مهما وصفت بالضرورة ، ان هذا
التقييم يتجاهل نقطة جوهرية ، ان المرجعية قوام الشيعة فكرياً و روحياً ،
الشيعة كفكر ووجود ومصير وتاريخ وحياة ترتبط ـ شئنا أم أبينا ـ بالمرجعية ،
فهي المسؤولة عن تصميم التكوين الذاتي للمسلم الشيعي ، تبعاً لتحديدها
أحكام ا لله وبيان الموقف المطلوب إزاءها ، وهي التي تحدد لنا معالم الطريق
التي بموجبها نبرئ الذمة ، و بذلك تشكل منبعاً من منابع الاطمئنان الديني ،
و المسلم الشيعي ينظر الى المرجع قدوة في السلوك و التصرف و الممارسة ، في
شؤون الدين و الدنيا ، مثله الأعلى على امتداد الأئمة من أهل البيت ، و
المرجع سلوة المسلم الشيعي في مواجهة الفراغ الكبير الذي تركه غياب القيادة
المعصومة ، فالمرجع في نظر هذا ا لمسلم انعكاس للقيادة المذكورة ، الأمر
الذي يخفف من وطأه هذا الغياب القاسي ، ان هذه الشعور متغلغل في الضمير
الشيعي من دون ان يشعر ، ترسب في أعماقه عبر جدل تاريخي وفكري طويل ، يمارس
دوره في الخفاء الى مديات كبيرة ، و المرجعية قيادة فكرية و سياسية اكتسبت
شرعيتها من تراث عقائدي متين ، و تعززت بمرور الزمن ، وذلك بسبب ما مرت به
هذه الطائفة من حالات اضطهاد و حرمان و تشريد ، و بسب الموقع النيابي
للمرجعية عن الأئمة الأطهار … هذه القيادة ليس لها بديل أو نظير ، تجاذبت
كل أسبابها الشرعية و الزمنية و الموضعية عبر تاريخ طويل ، ولقد تصدت طوال
عقود من الزمن لاداء دورها ، تصيب تارة و تخطئ ، تنجح مرة و تخفق ، كأي
قيادة بشرية ، و طالما تنتج نماذج متميزة ، تنتقل بها الى آفاق رحبة من
إنتاج الفكر ، و تحديد المهمات ، وخلق الآليات ، و تشخيص الأدوار ، وربما
تشهد نماذج من نوع آخر ، تجمد على القديم ، ولا تجرؤ على الجديد ، تنزوي
بعيداً ، و تفكر بان اقتحام الزمن يشكل مخاطرة غير محسوبة ، و ربما تفرز
نماذج من نوع ثالث ، تخضع لتطورات الزمن بحذر ، تنظر الى الماضي كي تستمد
منه الثقة في مواجهة المستحدث ، و تمضي خطوات وئيدة لتخفيف ضغوط الزحف
القادم بقوة وشراسة ، و انطلاقاً من كل هذه المقتربات ، تكون المرجعية مادة
للنقد و التقويم والتقييم ، شريطة الالتزام بالقواعد الأخلاقية وا لموضوعية
ومن أهمها ان يكون النقد في المجالات التي تتصل بوظيفة المرجعية حقاًَ ،
ومهما يكن ، نستطيع ان نقول :لا بديل عن المرجعية ، لأنه لا مندوحة من
الحكم الشرعي ، و لا بد من قيادة نابعة من طبيعة التركيبة الشيعية عقيدة و
تاريخاً ، و بالتوازي مع هذه المعادلة ، يتقرر مصير الشيعة بالمرجعية قبل
أي عنصر من عناصر الوجود الشيعي ، سواء كان هذا العنصر حزباً او تاجراً او
مثقفاً ، فالمرجعية عقل الشيعة و التشيع و الروح التي تسري في أوصال هذا
الجسم ، و الدم الذي يغذي خلاياه و عظامه و أعصابه ، وليس سراً ، ان أي
مشروع نهضوي يهدف للارتفاع بالوجود الشيعي ، على الصعيد الثقافي او السياسي
او الاقتصادي ، يتلكأ و يتعثر ، و قد يخفق الى الأبد إذا لم ينل مباركة
المرجعية ، و لو بكلمة بسيطة أو إشارة عابرة ،و التجارب أثبتت ذلك بلغة
الواقع الحي ، ومن هنا تتأكد الحاجة اكثر الى النقد ، فأن مشروعاً بهذه
الضخامة ينبغي ان يخضع للعملية النقدية باستمرار ، النقد يمارس دوره في
المجالات التي تؤسس التاريخ اكثر من أي مجال آخر ، النقد عملية تنقيح
للمسؤولية ، إنقاذ للتاريخ ، وننقد المرجعية يساوي إنقاذ الشيعة بكل
مفرداتها المادية و المعنوية ، و إذا كنا قد اشترطنا الخلق والموضوعية
اللذين من شأنهما صب النقد في إطار التحديد الصحيح للمشكلة ، فان التوسل
بالآليات المناسبة شرط علمي ثالث .
إن الشيعة اليوم يتطلعون الى المرجعية أكثر من أي وقت مضى ، يتطلعون إليها
كمنقذ من المخاطر التي تهدد هذا الوجود في الصميم و الجوهر ، بل تهدد
المرجعية ذاتها ، وما قيمة الكيان المرجعي ، مهما بلغ من ضخامة و ألق فكري
و شخصي إذا كان الشيعة يعانون من الفقر و الظلم و التمزق و التناحر ؟ ما
قيمة هذا الكيان مهما أبدع في علومه و فنونه و الوهابية تنخر في قاعدته
البشرية ؟ و المعلومات تشير الى أن سرطان الوهابية بدأ ينفذ سمومه في معاقل
ا لوجود الشيعي ، و يرتكب خطأً منهجياً من يعتقد إنها مجرد موجة عابرة ، و
ليس من شك ان بعض دوافع هذا التعليل هو العجز عن مواجهة المشكلة ، أو هي
محاولة للهروب من تبعة المسؤولية التي أصبحت جادة ، لا ترحم و لا تسامح .
خطر التغريب
نحن نعتقد إن لكل مساحة شيعية مشكلتها الخاصة في درجة ملحوظة بل بارزة ،
ويمكن تشخيصها بسهولة ، و هذا ما فصلنا به القول في الحلقة السابقة ، و لكن
هناك مشكلة أعمق و أخطر ، إذا استفحلت سوف تأكل الأخضر واليابس ، تلتهم
الهوية وتدمر الذات و تنسي التاريخ ، و نعني بها قضية التغريب ، و هي قضية
قد رصد لها امكانات ضخمة ، على صعيد الفكر و المال و الإعلام و المؤسسات ،
إننا لا نواجه محاولة تغريب عفوية ، لا نواجه عملية تغريب آلية ، بل هناك
تخطيط شمولي يهدف الى تغيير العقلية من الأساس ، إحداث انقلاب جذري في
الذات ، تحويل الرؤية تماماَ ، و قد بدأت بوادر هذا التخطيط تلوح في الأُفق
، و نحن لا نشير هنا الى نتف من الفكر الغربي في مجال اللغة و علوم النفس و
الاجتماع ، تهب بين آونة وأُخرى على ثقافتنا و فكرنا ، بل نشير الى هذا
الانفعال العام بالغرب ، دون مراجعة ، و لعل من معالم هذا البلاء ان تخضع
عقلنة الدين الى مناهج البنيوية و القطيعة و النص المنفي ، وغيرها من آليات
التحليل الغربي لقضايا الإنسان و المجتمع ، ان هذه المنهجية تجد لها صدى
جميلاً و محبباً في عقول شبابنا و مفكرينا ، وهي ذات سمة حركية تغري بتوليد
الفكر و تنشيط العقل ، تنسجم مع التحولات الهائلة التي يمر بها المجتمع
العالمي ، و ربما تتحول الى أَدوات لمحاكمة قواعد التفكير التي درجت عليها
مجامعنا العلمية ، وبكل صراحة ، متبنياتنا في التفسير و التحقيق و
الاستنباط في الفقه و الحديث و التاريخ وكل مجالاتنا المعرفية ، لا نقول ان
هذه المناهج صحيحة ، و لكن لا بد من موقف علمي قوي و رصين في التعامل معها
، ولا بد من استحداث آليات جديدة في عقلنة حياتنا الدينية بالشكل الذي
يستوعب هذا التغير الهائل ، الذي راح يهز مملكة اليقين في كل شيء ، و هذه
مهمة المرجعية في الدرجة الأُولى ، ونعتقد أن بداية الطريق هو ان تتواصل
المرجعية مع ذوي الاختصاص من خريجي الجامعات الغربية للتعاون الفعلي و
الجاد في هذا الخصوص ، ان هذه الشريحة من الجسم الشيعي مهملة ، و لم تلتفت
إليها المرجعية كطاقة جبارة خلاقة ، و قد جاء دورها اليوم في مواجهة خطر
التغريب ، لقد تصدى بعض هؤلاء لهذه المشكلة و قدموا جهداً لا بأس به ، خاصة
بعض المفكرين في المغرب العربي ، و لكن نحن على ثقة ان المرجعية الدينية
الشيعية إذا شمرت عن ساعدها بحماس و تخطيط سوف تقدم ما هو أعمق وأثري ، إن
مواجهة التغريب تحتاج إلى رؤية شاملة تتناول القضية بالتفصيل ، و ليست
المسألة فتوى على سؤال او تحذير أخلاقي وعظي ، إن التغريب مدرسة تمتلك
أدوات معرفية خطرة تحفر في المعرفة بعيداً ، و تستطيع أن تقلب المفاهيم
والموروث و المقدس ، تستعين برصيد هائل من المذخور المعرفي في مجال علوم
النفس و الاجتماع ، ومما يذكر هنا ان الفكر الغربي الحالي مشغول بتوسيع
التجربة لجعلها صاحبة القرار الأخير في كل مجالات المعرفة ، بما في ذلك
مصدر المعرفة الذي هو من متبقيات الفكر الفلسفي .
ان المرجعية باعتبارها القيادة الروحية للمسلمين تتحمل العبء الأكبر و
الأصعب في إنقاذ المجتمع المسلم من هذا الخطر العالمي ، و كما قلنا إن أهل
الاختصاص مرتكز الجهد المطلوب .
الغزو الوهابي
و إذا كانت إشكالية التغريب تخص العقل المسلم بصرف النظر عن أي انتماء
مذهبي أو قومي ، فإن الغزو الوهابي من القضايا التي تخصنا كشيعة في الصميم
، و من الملاحظ حقاً ، إن العمل الوهابي في الوسط الشيعي كان عابراً أو
بسيطاً الى حد ملموس ، أما الآن فهو عمل منظم بدقة ، ونتصور إن هذه النقلة
في أسلوب العمل ، إنما جاءت في ضوء تشخيص دقيق للواقع الشيعي في العالم ،
إن الوهابية وجدت فرصتها الذهبية في حالات التمزق التي يعاني منها الجسم
الشيعي ، إن هذا التمزق يساعد موضوعياً على إحلال البديل المضاد ، ان العمل
الوهابي في الوسط الشيعي يعتمد على ستراتيجية منظمة ، ولم يعد مجرد شكوك
مثارة أو أسئلة مطروحة أو قرأن يهدى … هذه الاستراتيجية مشتقة من وضع
الشيعة بالذات ، فإن الاخفاقات التي مني بها الجسم الشيعي هي مادة هذه
الاستراتيجية ، هذه الاخفاقات التي تمثلت بوضوح في مصاديق صارخة ، قد يوحي
النظر ـ صواباً أو خطأً ، قصداً أو سهواً ـ بأنها دليل على العجز العقائدي
و التردي الفكري ، و لعل من أبرز هذه الاخفاقات ما نراه من صراع مدمر داخل
هذا الجسم ، وهو صراع حاد تجاوز في كثير من الأحيان لياقات
الحوار ، ولم يضع في الحساب مصلحة الشيعة و التشيع ، و لعل منها تعثر
المشروع السياسي المتمثل بالدولة الأمل ، فان هذه الاخفاقات و غيرها تحدث
ثقوباً و مساحات فارغة و نتوءات في عمق الجسم ، مما يغري بالتسلل الى هذا
العمق
نجح الوهابيون في اختراق قلاع الوجود الشيعي ، فهم متواجدون حتى في النجف و
كربلاء و قم ، ونحن نحذر من استصغار الخطر الذي طالما ابتلى به الشيعة طوال
تاريخهم ، و الغريب إننا لم نتعلم من أخطاءنا رغم أنها باهضة الثمن ، حيث
كلفتنا كثيراً .
ان مواجهة الغزو الوهابي باتت مهمة جوهرية ، وهي الأُخرى في حاجة الى تخطيط
شامل تشترك في إعداده كل ا لطاقات الشيعية ، بصرف النظر عن كل خلاف مرجعي
أو حزبي أو قومي أو سياسي ، لان المصير المجهول يسحق الجميع ، لا يعرف
تمييزاً او استثناءً ، يهدد العقيدة ويفتك بالهوية الدينية بلا رحمة ،
ويبدو ان الوهابية مصممة على الغزو
وفق خطة مبرمجة ، تعتمد على المراجعة و التقويم المستمر ، إنه عمل تبشيري
، يتعدى توزيع الكتب و الأشرطة و المحاضرات ، بل هو تبني ، يقوم على
الرعاية الفكرية و المعاشية و السياسية ، و لهذا كثيراً ما يركزون على
السادة من آل محمد ، و يركزون على المدن المقدسة ، و في خدمة الدعوة
الهدامة متفانون ، مخلصون للوهابية بالذات ، الأمر الذي يفعل من وتيرة
العمل ، انها دعوة ، وليست مجرد نداء او حوار ، دعوة متبناة ، و الأخبار
تفيد ان النظام في العراق وغيره يساند الجهود المبذولة في هذا الطريق ،
لغايات لم تعد مجهولة للواعيين ، ومرة أُخرى نحذر من الاستخفاف بالأمر ،
هذا الاستخفاف الذي يعد من مميزات العقلية الشيعية في التعامل مع الحوادث و
الوقائع ، بما فيها الأزمات ، لقد استصغرنا الخطر الصدامي و تعاملنا معه
بتعالي ، و كنا نقول ان المرجعية موجودة ، و ان المساجد عامرة ، وان
العشائر حاضرة ، وإن المنبر الحسيني قائم ، و النظام كان مرتاحاً لهذا
التقدير المغلوط ، و قد استثمره بمهارة وفن ، وكلنا يعرف النتيجة التي آل
اليه المصير .
ان التصدي للغزو الوهابي اصبح مهمة تدخل في نطاق الأولويات ، فيما نحن في
غفلة ، و قد نعي سعة الخطر و آفاقه المخيفة ، ولكن لا نحرك ساكناً ، اللهم
إلا في حدود جهود تكاد ان تكون مخجلة ، ومرة أُخرى نقول ان العمل المخطط لا
يضارعه إلا عمل مخطط ، و نعتقد ان مواجهة هذا الغزو لا يحتاج الى الجهد
الفكري المركز فقط ، بل إضافة الى ذلك الى تخطيط إعلامي مدروس ، يضع
تفاصيله أهل الاختصاص من أبنائنا المثقفين ، المطلعين على الفكر ا لوهابي
تاريخاً و مضموناً ، فالمرجعية مدعوة الى عقد ندوات ومؤتمرات عمل لهذه
الغاية .
ان مواجهة هذا الخطر جزء لا يتجزأ من مفهوم المرجعية ، لأنها داخلة في إطار
الإنذار الذي أناط القرآن مهمته على عاتق المرجعية ، انها الملاذ من الوقوع
في الشبهات الفكرية والدينية ، وعدم التصدي للغزو الوهابي و غيره إنما يعني
التخلي عن الأمة ، وتركها عرضة للأهواء و المطبات ، و إلا ما قيمة البحوث و
الدراسات الفقهية و الأصولية و القرآنية و الجسد الشيعية يعاني من النخر
الوهابي ؟ أين موقع هذا العلم من هذه المعركة الشرسة ؟
ترميم النسيج الممزق
المهمة الثالثة التي تنتظر المرجعية هي ترميم النسيج الممزق ، النسيج
الشيعي يفتقد تماماً الى النظم الذي من شأنه ضبط العلاقة بين مفرداته و
مكوناته الداخلية ، بل العكس هو الصحيح ، حيث تتحكم في هذا الوجود سمات
التنافر و قوانين التناحر ، و بالتالي ، فإن هذا الجسم خاضع لسنة التآكل من
الداخل ، ان الشيعة هي الكيان العقائدي / البشري الوحيد الذي يمتلك كل
أعضاء الجسم الكامل ، الذي من شأنه ان يتحرك بقوة و فاعلية قي مجرى التاريخ
، ولكن للأسف الشديد إن هذه الأعضاء بدل أن تتكامل تتآكل ، ان الصراع
الشيعي / الشيعي نذير شؤم ، انه مقدمة شر مستطير ، خاصة وان الصراع دخل
أطواراً غير منطقية ، و ذلك من تشهير وهتك وتكفير و تشكيك ، فالكيان في
طريقة الى التفتت و التمزق ، انه كيان عليل ، و علته من داخله ، و هذا
الصراع يتسم بالشمولية ، فهو بين المراجع والحواشي و الأحزاب و الجمعيات و
المساجد و خطباء المنبر الحسيني و الحوزات العلمية ، و قد لوحظ في الأيام
الأخيرة ان الصراع أخذ يتفاقم على صعيد الوسائل ، و قد صرفت أموال طائلة ،
و أُهدرت طاقات هائلة ، و أُهدر زمن ثمين ، في هذا الصراع المؤسف .
ان المرجعية مدعوة الى طرح بيان شرف ، و من ثم برنامج عمل من أجل المصالحة
الشيعية / الشيعية ، و في الواقع مهما اختلفت التصورات حول الأولويات ، و
مهما تباعدت الرؤى في بعض المسائل العقائدية ، يبقى التفاهم على خطوط عمل
عامة قائم وممكن ، و لكن شريطة ان تتوفر النوايا الحسنة ، ولا نعتقد أن
يهود إسرائيل اقدر منا على تقدير هذه الحقيقة ، ومن ثم العمل وفق مقتضاها و
منطقها ، ان ترميم هذا النسيج لا يتناقض مع تعدد الأولويات ، و لا يصطدم
بتعدد الهموم ، بل الطائفة الناضجة هي التي تستفيد من هذا التعدد لخلق كيان
متفاهم متفاعل ، يتبادل الخبرات و الأدوار في سياق نظرية عمل متطورة ، تتسم
بالمرونة ، بل هنا تتجلى روعة التخطيط و التدبير و التوجيه .
ان المرجعية تمتلك كل المؤهلات التي تمكنها من إحداث هذه النقلة على صعيد
التشكيل الداخلي للجسم الشيعي ، هي تملك المال و الرجال و القواعد الشعبية
و الفكر ، فما الذي يعوزها ؟ وما الذي تفتقده ؟ وكلنا يعرف ان كلمة
المرجعية في هذه القضية و قضايا أُخرى حاسمة أو شبه حاسمة ، تؤدي دورها
بفاعلية وسرعة ، و لا نغالي إذا قلنا انها هي التي تتحمل المسؤولية الأكبر
في هذا المجال ، و لا يوجد أي مبرر للتأخر او التلكؤ ، بل مثل هذا الموقف
يزيد من عملية التفكك و التشظي والتشتت .
لجنة إدارة الأزمات
العالم يتغير بسرعة غير معهودة ، يتغير تكنولوجياً و فكرياً و سياسياً ،
وتيرة هذا التغير فلتت من زمام السيطرة و التحكم و التوجيه ، التغير هو
الذي يملك زمام القيادة و التصميم و التقييم ، ولم يعد الثبات سيد الموقف ،
ومن نتائج هذه التحولات المدهشة انعدام التاريخ ، و تزلزل الهوية ، وارتهان
اليقين الى منطق النسبية ، والصراع السياسي بين القوى و الدول و الطوائف و
الأديان تداخلَ و تمازجَ بشكل معقد ، كما ان الصراع الاقتصادي اتخذ أساليب
معقدة …فالعالم يمر في فوضى ، الأمر الذي دعا الكثير من العلماء و الباحثين
الى دراسة قوانين الفوضى!
ان هذه الفوضى الكونية تخلق الأزمات تلو الأزمات ، للإنسان و المجتمع و
الدول و الطوائف و الأحزاب ، ومن الطبيعي أن تزدحم و تتعمق و تتكاثر هذه
الأزمات في مجال الوجودات الحية الفاعلة و المنفعلة في العالم ، وفي ميدان
النشاطات المتواصلة مع الآخر سلباً و ايجاباً بقوة و فاعلية ، ان مزيداً من
التماس بالعالم يعني مزيداً من الأزمات … مزيداً من المواجهة الساخنة …
مزيداَ من الجديد الذي يتطلب الموقف الجاد … ولأن الشيعة من المفردات الحية
الصاخبة في الساحة الإنسانية بشكل عام ، فأنها معرضة لمزيد من الأزمات على
كافة المستويات وعلى جميع الأصعدة ، إننا طائفة مأزومة شأنا أم أبينا ،
العالم المشتعل من جهة وطبيعة حضورنا من جهة أُخرى ، يساهمان في خلق هذه
المعادلة ، فهي طبيعية و موضوعية ، وهي من علامات التوقد الفكري و السياسي
و الاجتماعي ، وعلى الإجمال هي من سمات التألق الحضاري ، ان الطائفة التي
لا تعاني من أزمات في هذا العصر المتفجر تعتبر طائفة ميتة ، مفردة ملقاة
على هامش التاريخ ، تتنفس أجواء القبور و الأقبية الرطبة ، خاملة ، ولكن
النقطة الجوهرية هنا كيفية التعامل مع الأزمات كي نخرج ظافرين ، هذه هي
المسألة التي ينبغي طرحها ومعالجتها ، إن التغيرات الهائلة تجابهنا و
تفاجئنا باستمرار وعلى حين غرة ، هذه هي لغة العصر ، لا يعرف المقدمات ،
منطقه السرعة و المفاجأة في كل شيء ، الفكر و السياسة و الاقتصاد و العلم
والتربية و الأعلام و كل مجالات الحياة ، بلا استثناء ، على مستوى العالم و
الأقاليم و الأوطان ، في كل جزء من أجزاء العالم ، إننا نعاني من أزمة
قيادة ، و أزمة ثقة متبادلة ، و أزمة جواب عصري على أسئلة عقائدية ، و أزمة
موقف إزاء الأنظمة و الحكومات ، و أزمة ضمير من بعضنا البعض ، وأزمة تشخيص
الأولويات ، و أزمة المصير المجهول ، و أزمة ضياع في أُوربا ، و أزمة خوف
من مستجدات الحياة و خاصة هذه الثورات العلمية الهائلة ، و أزمة جهل
بالإنجازات الغربية الحديثة على صعيد اللغة و العلوم الإنسانية الأخرى و
أزمة تنظير في التعامل مع الزمن ، و أزمة غربة بين المثقف و العالم الديني
، و أزمة تناقض طبقي ، و أزمة ثارات مؤجلة ، وكل أزمة من هذه الأزمات عبارة
عن تحدي ـ مع الاعتذار لأن هناك من يفرق بين المصطلحين ـ وليس من شك ان بعض
هذه التحديات تحتاج الى موقف سريع ، خاصة التحديات السياسية ، وهي من ابرز
التحديات التي ابتلينا بها نحن الشيعة ، قديماً و حديثاً ، و عديم تقدير
الموقف الصحيح من هذه التحديات سبّب لنا الكثير من المشاكل ، من دماء
وحرمان و تشريد ، إن الشيعي لا يعرف موقفه من هذه التحديات ، يتسم
بالاجتهاد الفردي ، أو يخضع فيه لتوجيه اديولوجي خارج انتمائه الديني و
المذهبي ، و إذا كانت بعض المواقف قد تحددت أخيراً فهي على نحو عام ، و
غالباً ما تتسم بلحاظ جغرافي معين ، بحيث كانت سبباً في إحراج شيعة آخرين ،
بل سبباً في قتل شيعة آخرين ، انها جريمة في حق الشيعة و التشيع .
ان القضية برمتها تتطلب من المرجعية ان تؤسس لجنة أزمات دائمة تتشكل من
علماء كبار، ومن هل الاختصاصات المتنوعة لدراسة كل أزمة طارئة ـ و نحن نركز
هنا على الأزمات السياسية ـ و تشخيص الموقف المطلوب ، و لو و فق حدود عامة
، ان المرجعية إذا أقدمت على هذه الخطوة ستدخل في عمق التاريخ
لتصنعه من جديد على صعيد الكيان الذي تعهدت برعايته و حمايته .
ان هذا الإجراء ليس صعباً ، وكل مستلزماته موجودة ، ان خطوة بسيطة على هذا
الطريق ستخلق مناخاً شيعياً حيوياً ، سينتج أفكارا و طموحات و تصورات من
شأنها تحديد الأهداف ، و اكتشاف الموقع و تنقية الخلافات بدرجة معقولة و
تشخيص الحاجات .
إننا لا نبالغ إذا قلنا إننا في حاجة إلى غرفة أزمات لمواجهة الفوضى
العارمة ، و نعتقد لو أن مرجعاً واعياً يبادر لوضع لبنة بسيطة في هذا
المشروع الحيوي ، سيعطي ثماره بسرعة قياسية ، بل سيلقى تأييداً شعبياً
منقطع النظير ومن كل الشيعة ، و سوف تتحول اطروحاته إلى بيانات و أفكار
جماهيرية ، تتناقلها الأوساط الشيعة وتناقشها و بجرأة و إصرار ، فالشيعة في
الظروف العصيبة المستجدة ، و في ضوء هذه الحالة المتردية ، تنتظر الكلمة
الحرة التي تضع الإصبع على الجرح ، وبكل صراحة ، إن هذه الكلمة لا تجد
صداها المدوي الذي يستتبعه الأثر الكبير ، إلا إذا كانت كلمة مرجع .
الأزمة مفهوم زمني ، أي لها تاريخ ، ولكن هناك مصطلح آخر ، أو بالأحرى قضية
أُخرى ، قد تكون أخطر ، أقصد بذلك الطوارئ ، أي ما يواجهنا من كوارث ، ترى
ما هو موقفنا إذا تعرضت الدولة الأمل لانتكاسة كبيرة ؟ ما هو موقفنا لو أن
النظام الصدامي قرر استئصال الحوزة العلمية كلياً ؟ ما هو موقفنا لو اتخذت
طالبان قراراً حاسماً بتصفية شيعة الأفغان ؟ ما هو موقفنا إذا ثبت لنا أن
نسبة عالية من أطفالنا في المهجر لا يحمل متبنيات المذهب ؟
كل هذه طوارئ محتملة .
الاندماج بالأُمة الإسلامية
الوظيفة الجوهرية الأخرى التي تنتظر المرجعية في هذه المرحلة هي دمج الجسم
الشيعي بالأُمة الإسلامية ، الدمج من منطلق الخصوصية ، الخصوصية الفكرية و
التاريخية و الروحية ، وليس من شك ان مفهوم الدمج يعني ـ فيما يعني ـ
احترام حقوقنا كطائفة مظلومة ، خاصة وان التاريخ يبرهن بالأرقام ان الشيعة
قدموا كثيراً لإخوانهم في الدين و العقيدة ، حتى على مستوى التضحية
بالأرواح ، إننا نطالب المرجعية الكريمة بطرح برنامج تكامل مع المذاهب
الإسلامية الأخرى ، تتضمن عملية تكافل سياسي بين المسلمين ، و الظروف
الحرجة التي تمر بها الأمة الإسلامية تساعد على مثل هذا الاقتراح ، ان بعض
صيغ التعاون بين المسلمين التي نراها هنا و هناك ، تؤكد ان الشيعة يعطون
فقط ، فيما تتطلب لغة التعاون الشراكة في المصلحة .
ان كثيراً من الشيعة يتطلع الى الاندماج الموضوعي الذي من شأنه التكافل بين
كل أبناء القبلة ، و هذا يحتاج الى عهد مبرمج و مكتوب ، يتولى صياغته علماء
متخصصون ، و نعتقد ان بعض مراجع الشيعة ممن لهم باع بالعمل السياسي مؤهلون
لمثل هذا الطرح العالمي ، الذي سوف يهز الضمائر مجرد الإشارة اليه ، و
المرجعية بهذا العمل ا لجبار تضع حداُ ـ ولو في حدود ما ـ للجهود اللعينة
التي تبذلها كثير من قوى الشر والجهل لإشعال حرب طائفية بين المسلمين ، إن
مراجعة بسيطة لصفحات الإنترنت تكشف بوضوح عن هذه المحاولات المغرضة
أو الغبية ، حيث يتعرض الشيعة الى حملة تشويه منظمة ، بل الى يتعرضون الى
حملة استئصال ، و نحن نعتقد ان المرجعية تستطيع بما أُوتيت من طاقات و
إمكانات ان تطرح برنامج شرف بين علماء المسلمين ، يتضمن العمل على إيقاف
هذه المحاولات ، ومن أبناء السنة علماء واعون مدركون ، و هم يستشعرون هذا
الخطر بجدية ، لأنهم يعرفون مصادره و غاياته .
لقد كان الإمام الصادق عليه السلام يخاطب السائرين على خط آل محمد عليهم
السلام ب [ شيعتنا ]، و بذلك يحدد الهوية و العنوان و المصداق ، ولكن في
كثير من الأحيان يكون مدخول الخطاب منصباً على الاندماج بالوجود الإسلامي
كله ، و بهذا يرسم لنا برنامج التكامل من منطلق الخصوصية ، و هذا العمل
يرتكز على رؤية عميقة تجمع بين العام والخاص ، انه يذكرنا بدعاء الإمام
السجاد لأهل الثغور ، و نصائح أمير المؤمنين للخلفاء الراشدين .
ان مثل هذا المشروع يخفف من آلامنا و مآسينا و مشاكلنا ، و يضيف لنا المزيد
من الخبرات و الطاقات ، انه يفتح بين أيدينا فرص التفاعل الناجح مع العالم
، وخاصة العالم الذي يشاركنا العقيدة و المصير ، ان مثل هذا المشروع يوفر
لنا فرصة التعريف بمشاكلنا التي تحتاج الى تعريف إخواننا بها ، وإلا كيف
نقنع الأخوة الفلسطينيين بحقيقة صدام مثلاً ؟!
الحوار الحضاري العالمي
تحاول الحضارة الغربية ـ عموماً ـ ابتلاع العالم كله ، تريد لقيمها ان تسود
الأرض ، و تحكم الضمير الإنساني في كل مكان من هذا العالم ، و يعتقد رواد
هذه الحضارة ، خاصة الأمريكيين منهم ، إنهم مكلفون إلهياً بإنقاذ الإنسان
في ضوء القيم و الأفكار و النظم التي يؤمنون بها و يعملون طبق فلسفتها ، و
يعتقد الكثير من بناة هذه الحضارة ، إن ما تفتق عنه الفكر الإنساني الآخر ،
من تصورات و قيم و اخلاق و نظم لا يعبر عن حاجة أصيلة ، وليس نتاج روح
كونية عملاقة ، لانه وليد مناخ غير صحي ، و يفتقد الى التفكير المنطقي
الكلي المترابط ، و لذلك هو نتاج مرحلي ، وان العقل الغربي هو الوحيد
القادر على إنقاذ الإنسان ، و بدأت محاولات جادة لترسيخ هذه الاتجاه عبر
تقنيات إعلامية عملاقة ، تستعين بالإنجاز الحسي العملاق ، و قد بدأت
تأثيرات هذا الفكر تظهر بوضوح على طموحات شبابنا و مفكرينا ، في حين يفكر
رواد الحضارات الأخرى اتخاذ المواقف المطلوبة لمواجهة هذا الغول العملاق ،
و نحن نعتقد ان المرجعية تستطيع ان تقدم الكثير في هذا المجال ، و الخطوة
الأولى المنتظرة ، هي إجراء حوار بين مفكرينا المسلمين و مفكري الحضارات
الأخرى ، كالحضارات الصينية و الأفريقية ، و هدف ا لحوار الدفاع عن هذه
الحضارات و إثبات حقها في الوجود و إبراز قدرتها على إغناء التجربة
الإنسانية ، و ذلك في مواجهة غرور الحضارة الغربية و صلفها و قسوتها ، إن
هذا الحوار ضرورة حضارية في مواجهة العقلية الغربية الأُحادية ، في مواجهة
منطق الافتراس الحضاري ، و في الحقيقة ان فرسان هذا العمل الجبار و رواده
الخلاقين هم أهل الاختصاص ، و بهذا تتضح أكثر و أكثر حاجة الجسم الشيعي الى
هذه الطاقة المعطلة .
بدأ الأزهر الشريف يمارس مثل هذه النشاطات الحية عبر الاتصال برموز حضارية
عالمية ، و آخرها المؤتمر الذي انعقد بالتعاون بين ممثلين عن الأزهر و
مجموعة من أساتذة التاريخ في جامعة هارفارد الأمريكية ، وهي بداية جيدة
تبشر بخير على صعيد التعامل مع الإسلام ، و قد تعهد المؤتمرون على مواجهة
الفكر الأحادي الذي يسعى الى الاستحواذ على حق الوجود والحركة ، و في
الحقيقة ان مما يحز في النفس ان تغيب المرجعية عن مثل هذه النشاطات التي من
شأنها تفعيل دور المرجعية في العالم ، و تساهم في الكشف عن الوجه المشبرق
لحقيقة التشيع العظيم ، ونحن على ثقة تامة ان مفكري الشيعة يمكن ان يقدموا
إسهامات أكثر عمقاً وتأثيراً في هذا المجال ، لأنه سليل تاريخ فكري ونضالي
عريق ، يزوده بقدرة هائلة على توليد الأفكار ، ومن المعروف ان المسلم
الشيعي متسلح بفكر التسامح ، و هذا يساعده على صياغة فكر متطور معطاء .
ان الحضارة الغربية جادة ان تكون عالمية مهيمنة ، آليتها في ذلك الإنجاز
التكنولوجي و عطائها العلمية الجبار ، و قدراتها الاقتصادية العملاقة ، و
تقنياتها الإعلامية الخيالية ، و هذا يستوجب تعاون حضاري مقابل ، يحد من
غلوا هذا التوجه المجنون ، و ستكون المساهمة المرجعية الرافد الحي لهذا
التحرك ، عبر الفكر العظيم الذي تملكه ، و بتوظيف الطاقات الأكاديمية
الشيعية التي لا تنفك عن الاعتزاز بدينها وتراثها .
ان مثل هذا ا لمشروع لا يسهم في عملية المواجهة ، ولا يعيد الثقة للضمائر
المهزوزة بالحضارة الغازية ، ولا يصعِد من درجة الحضور العقائدي للإسلام في
العالم … انه لا يقتصر على هذه العطاءات فقط ، بل إضافة إلى ذلك يعطي
للمرجعية بعداً عالمياً ، بعداً يتصل بمهمات على مستوى إنقاذ العالم و
الإنسان و التراث الإنساني من الاضطهاد و الضياع ، سيكون للمرجعية صوتها
المدوي في كل أنحاء العالم ، و هذا ما نريده لمراجعنا ا لكرام ، أنهم
الأمناء على حماية الإنسان ، و لأنهم خلفاء الرسول و أهل البيت في قيادة
المسيرة البشرية ، انهم النور الذي ينبغي ان يشع في جزء من هذا العالم .
إنقاذ الطفولة المهاجرة
تتزايد الهجرة الى الغرب بشكل كبير و غريب ، و تشير الدلائل ، الى أن منسوب
الهجرة هذا بتصاعد و ازدياد ، خاصة و إن هناك حاجة غربية ماسة للأيادي
العاملة و العقول ا لمفكرة ، قد يصل الى عشرات الملايين خلال السنوات
الخمسين الآتية ، ولا نريد ان نتناول الأسباب الكامنة وراء ذلك ، و النقطة
المهمة في هذا الخصوص و التي لها مساس بموضوعنا ، هو ان نسبة عالة جداً من
المهاجرين هم من الشيعة ، من العراق و أفغانستان و إيران و غيرها من الدول
التي يعاني فيها الشيعة من الحرمان و الاضطهاد و الخوف ، ومن المحتمل ان
تكون الهجرات الآتية ذات نسبة شيعية طاغية ، و مهما يكن من أمر ، فأن
الشيعة يشكلون في دول المهجر الأوروبي طيفاً بشرياً ظاهراً ، إنهم وجود ضخم
، و بصراحة ان هذا الوجود يعاني من مشاكل كبيرة ، فهناك الاستغراب و
الاستلاب ، و هناك الازدواجية الفكرية و الروحية ، و من مظاهر هذه المشاكل
، اتساع ظاهرة الطلاق ، و بروز ظاهرة التفكك العائلي ، وشيوع التسيب
الأخلاقي ، و سيطرة السلبية و اللامبالاة ، و البطالة ، و مما يؤسف له ان
هذا الوجود الشيعي الضخم في أُوربا و الغرب ، لم يدرج في قائمة الاهتمام
المرجعي ، الاهتمام الذي من شأنه تأسيس كيان شيعي فاعل ، يؤثر في مجرى
الحياة الفكرية و السياسية ، ثم يكون في خدمة الطائفة في العالم كله . قد
يشير بعضهم الى مسجد هنا و هناك ، و ربما الى إرسال مبلغ في هذه المناسبة
او تلك ، و في الحقيقة ان هذه الجهود خجولة ، و كثيراً ما تكون ضمن صراع
بين القوى ، مما قد يتسبب في مشاكل إضافية للشيعة ، و هذا ما حصل بالفعل ،
في حين ان جهود المرجعية يجب ان تتوجه الى المهجر بلحاظ خصوصياته و خصائصه
، ومن شروط ذلك ان لا يُزج في حومة الصراع المرجعي أو الحزبي ، مع العلم ان
أكثر هذه الأحزاب تمثل واجهات مرجعية ، شاءت أم أبت ، ومن هنا كانت أدوات
صراع أكثر من كونها أدوات بناء ،
ان المساجد الشيعية المنشرة في أُوربا ـ غالباُ ـ ما تمثل وسيلة صراع مع
الآخر ، و ليست وسيلة إعداد وتربية و صقل ، انها لم تعمل وفق خطة ستراتيجية
عامة ، لم تركز على بناء كيان إسلامي متماسك ، ذلك إننا يجب ان نكون
مجتمعاً داخل مجتمع .
المرجعية مدعوة الى ترقية الوجود الشيعي في ا لمهجر ، وليس من شك ان أهل
المهجر هم أعرف بحاجاتهم و أهدافهم و وسائلهم ، ومن المطلوب ان يصل الوجود
الشيعي في المهجر الى حد الاكتفاء الذاتي ، عالمهم منهم ، ومسجدهم بأموالهم
، ذلك كي يحققوا كيانية حقيقية فاعلة مؤثرة .
ان الاهتمام بالطفولة المهاجرة قوة مضافة الى التشيع ، لان هؤلاء يتحولون
الى دعاة و بناة ، و سيقدمون المزيد للشيعة كفكر و بشر .
لا نستطيع ان نوفي هذه القضية حقها في هذه العجالة ، ربما نتوفر عليها في
فرصة لاحقة بإذن الله تعالى .
الإصلاح الحوزوي
الحوزة كهف الإسلام و حصن التشيع ، و يكفي ان هذه المؤسسة العظيمة ، تكفلت
لعقود طويلة ، مسؤولية فكر أهل البيت ، بياناً و نشراً و دفاعاً ، و لذلك ،
ليس غريباً ان تسعى الكثير من الأنظمة و الأحزاب و القوى المشبوهة لتصفية
الحوزة أو تشويه رسالتها أو التضييق عليها ، فالحوزة تمثل الشخصية المعنوية
للتشيع ، و لكن هذا لا يمنع أبداً من إخضاع هذه المؤسسة للنقد ، باعتبار
العمل النقدي محاولة جادة على صعيد الإضاءة و التنوير ، و ليس عملاً يقوم
على أساس الانتقاص و التهوين ، و هذا هو مفهوم النقد في الخطاب الإسلامي
العميق .
شباب آل محمد يرون ان البداية في مجال الإصلاح الحوزوي تتصل بالعلاقة بين
الطالب الحوزوي و المجتمع ، فأن طالب الحوزة ـ بشكل عام ـ ذو اتجاه سلبي من
مجتمعه ، ليس له حضور طبيعي فضلاً عن حضور فاعل داخل الوسط الاجتماعي ، فهو
منزوٍ خائف متردد ، يتعامل مع الآخر و فق مقاييس المجاملة المحسوبة ، و قد
خرج الطالب الحوزوي عن هذا القيد المدمر بعد الحدث العظيم ، و لكن لم تكن
هذه النقلة علمية مبرمجة ، و قد تحكمت بها عوامل مرتبكة ، الأمر الذي افسد
كل شيء.
ان شباب آل محمد يتطلعون الى طالب حوزوي حاضر بشكل طبيعي داخل الوسط
الاجتماعي ، بعيداً عن التكاليف والتعقيدات و الألقاب ، و على امتداد هذا
التصور ، نرى ان من الضروري ان يجمع هذا الطالب بين العمل و طلب العلم ، أي
ان يعيل نفسه بنفسه ، لان الراتب الحوزوي مشكلة معقدة ، تحول الى حدٍ كبير
دون ممارسة الحياة بشكل جدي ، و تكرس في داخل الذات حالة الترقب الحذر ، ان
هذا الراتب يعتقل الحرية في أعماق الضمير ، فيما الاستقلال الاقتصادي يحرر
الذات من الخوف و التبعية الكاذبة ، يكسر الحواجز بين الطالب و الوسط الذي
يحيط به . و ليس من شك ان العمل يوفر للطالب الحوزوي فرصة التفاعل الأكثر
جدية مع العلم ، استيعاباً و عملاً و إيماناً ، ان المرجعية مدعوة الى
إقرار هذا المبدأ الانقلابي ، ان تحرير طالب العلم الديني من محنة الراتب
الحوزوي بمثابة ثورة معنوية هائلة في تاريخ الحوزة ، و سوف تفرز نتائج
رائعة في مجال دمج هذا الطالب العظيم بالمجتمع و العلم ، وإن ذلك سوف يوفر
الكثير من الرأس المال الشيعي لصرفه و استثماره في مجالات أُخرى ذات مردود
مفيد و مجدي على صعيد الوجود الشيعي ، بما في ذلك معالجة البطالة و الفقر و
الأمية في الأوساط الشيعية ، و لا نعتقد ان الدمج بين العلم و العمل مسألة
صعبة كما يروج بعضهم ، بل نعتقد جازمين ، إن مثل هذا الجمع يوسع الأفق
الذهني ، ويلهم العقل بنيات منطقية و فكرية جديدة متجددة ، لان للعمل منطقه
المتناسل المتوالد ، ولذا فإن الطالب الحوزوي سوف يبدع أكثر و ينتج أعمق
إذا انخرط في العمل و مارس الحياة الصعبة في هذا الميدان . و في نطاق
موضوعة الإصلاح الحوزوي ، نعتقد ان من المفيد جداً بل من صلب التصور
الإسلامي ، ان يكون للزي الديني قيمته الكبيرة ، ذلك ان هذا الزي علامة
مخصوصة ، تشير الى أن صاحبه يحمل علماً عظيماً ، سواء على صعيد المضمون أو
الهدف أو المستوى ، وأن مرتدي هذا الزي صاحب رفعة معنوية ، لا يخضع لابتزاز
أو مساومة ، و في الحقيقة إن الفترة الأخيرة شهدت موجة تعميم كبيرة ، و هي
ظاهرة في تصورنا خطيرة جداً ، لان العمامة كما قلنا مسؤولية ضخمة ، وهي
تتطلب مستوى علمياً متقدماً ، ومن هنا يرى شباب آل محمد ان ارتداء اللباس
الديني يجب ان يخضع الى مقاييس صعبة للغاية ، وإن التعميم المجاني خيانة
لله و للرسول و لأهل البيت عليهم السلام ، و على المرجعية واجب التصدي
لظاهرة التعميم المجاني ، و هذا المصطلح يشمل حتى طلبة العلم الديني الذين
لم يصلوا الى الكفاية العلمية الذاتية ، أي التي تمكنهم من التعامل مع
العلم الديني بمقدرة وكفاية و استقلالية ، بل ان يكون على درجة متقدمة من
ثقافة الزمن . .
يكلف الطالب الحوزوي الكثير من الزمن الشيعي ، لانه كثيراً ما يبدأ من
الصفر ، و هذا يستغرق زمناً مضنياً،
و الزمن في العصر الحديث غال جداً ، و أحسن طريقة متصورة لعلاج هذه المشكلة
ان تستقبل الحوزة الطالب الحائز مقدماً على تعليم عال ، ان الطالب الجامعي
يختصر الزمن و الجهد و المال ، لان هذا الطالب قد تهيأت مداركه للاستيعاب
أسرع و أعمق و أكثر ، كما أنه سوف لا يكون عالة على الرأس المال الشيعي
أثناء التحصيل العلمي الديني و بعده ، و نعتقد ان هناك المئات من شباب آل
محمد من خريجي الجامعات على استعداد تام للانخراط في الحوزة ، ومن مهمات
المرجعية الملحة هو التخطيط لمثل هذه النقلة المستعجلة ، وذلك بغية الحفاظ
على قدسية الزمن الشيعي .
نقول : ان كل معالم التطور الحضاري و السياسي و التقني و الفكري التي يمر
بها العالم تستوجب إصلاح الحوزة و تطويرها ، و بغير ذلك ستواجه الحوزة
مصيراً مأساوياً .
إصلاح المنبر الحسيني
المنبر الحسيني بمثابة الجريدة الشيعية السائرة ، و لا يختلف اثنان في دور
المنبر الحسيني على الصعيد الفكري والثقافي و السياسي و الروحي ، ولكن في
نفس الوقت لا يختلف اثنان في الدور السلبي الذي يمكن ان يلعبه هذا المنبر
بالذات ، فهو سلاح ذو حدين ، و قد استثمر قليل من الواعين المخلصين هذه
الإمكانية العظيمة في تعزيز الوعي الديني و المذهبي و الإنساني ، فيما
استغل كثيرون المنبر الشريف لغايات شخصية وعائلية ، و ليس من شك ان مستقبل
الوجود الشيعي يعتمد ـ فيما يعتمد عليه ـ على هذا المنبر العظيم ، فهو لسان
و فكر و مظهر و جمهور و حالة ، ومن هنا يعتبر المنبر ظاهرة إعلامية مركبة ،
لانه يتكون من عناصر متعددة ، من عناصر معقدة ، و كل عنصر له موقعه المركزي
من هذه الظاهرة ، فلا بد ان نفكر في كل عنصر من هذه العناصر .
ان الخطوة الأولى في إصلاح المنبر كما يرى شباب آل محمد هي ان يتحرر من لغة
التجارة ، فليس سراً ، ان القراءة الحسينية خضعت في العقود الأخيرة الى
منطق الإجارة ، و قد وصلت الأجرة الى عشرات الآلاف من الدولارات ! و تحول
بعض ممتهني هذه [ الشغلة ] الى إمبراطورات مالية عالمية ، و هذه الظاهرة
قللت و حجمت من قيمة المنبر الحسيني ، بل هي قد تهدده بالانقراض لا سامح
الله ، و يحتج بعض هؤلاء ، انهم يتقاضون هذه ا لأموال الطائلة لأن المنبر
هو مصدر رزقهم الوحيد ، و هي حجة واهية جداً ، و تنطوي على تبرير باهت لا
يحمل أي معلم من معالم الجدية و الرصانة ، فلا نعتقد ان القارئ الحسيني قد
سُدت بوجهه كل سبل العيش ، فهو ككل خلق الله ، السبل ميسّرة بين يديه ، و
ما يجنيه في موسم واحد قد يمكنه من مشروع اقتصادي يغنيه ، ان الأجرة على
القراءة الحسينية قد تساهم بالإساءة الى الفكر و الدين ، فيما القارئ الذي
يرتقي المنبر في سبيل الله ، انما يكون متحرراً من كل الضغوط ، بما فيها
ضغوط مؤسس المجلس حسب الاصطلاح الشائع .
ان المرجعية مدعوة الى تخريج قراء متبرعين ، من أجل القضاء على المافية
التجارية في هذا المجال الطاهر ، ان المستمع في هذه الأيام ليس أّذنا و حسب
، بل هو متسائل ، يتحرى عن الأسباب ، ويربط بين الظواهر ، ناقد من الدرجة
الأولى ، لا يكتفي بالاستماع الى الكلام ، بل يؤول و يفسر على ضوء الملبس و
المظهر و الأجر و المكان و الزمان ، و لذا فأن كلام القارئ و حده لا يكفي
في حسم النتيجة ، بل هذه النتيجة مرتبطة بكل هذه العوامل ، ومن الملاحظ في
هذه الأيام من خلال بعض عمليات الرصد ان مساحة الحضور في المجالس الحسينية
أخذت تتأثر بكل هذه المقتربات ، ومن هنا يرى شباب آل محمد ان مرجعية الأمة
مسؤولة عن دراسة هذه الظاهرة المؤسفة .
الخطوة الأخرى في موضوعة ا لمنبر هي المادة المطروحة ، فإن شباب آل محمد
يرون ان هذه المادة ينبغي ان تتركز بصورة أساسية على الجانب المصيري
للطائفة ، و ذلك على ضوء الواقع المأساوي الذي تمر به ، ان موضوعات مثل
الاقتصاد الإسلامي و نظام الحكم في الإسلام و ما هو على غرارها ، تعتبر ترف
فكري في مثل هذه الأيام التي يتعرض فيها الكيان الشيعي إلى التشتت و التمزق
، كما ان الظروف السياسية التي يمر بها العالم تؤكد مثل هذه الرؤية ، ان
الجسم الشيعي يعاني من التفكك الداخلي ، و كل عمل او هدف نسعى أليه ينبغي
ان يبدأ من إصلاح هذه الحالة المرتبكة ، من هذه الحالة المرضية ، و نعتقد
لو ان المنبر الحسيني بشكل عام ركز على هذه المشكلة لمدة سنة واحدة ، و
بشكل عام ، من خلال أرقام ، و انطلاقاً من أُسس نقدية هادئة ، و بالاشتراك
مع الواعين و أهل الاختصاص و التجار ، ان ذلك سيخلق ضغط قوي في ا تجاه
التصحيح .
لقد اصبح التاريخ مادة متوفرة ، ويمكن قراءته ، و الشيعي المعاصر لا يقنع
بطرح الواقعة التاريخية بعفوية ، ومن هنا فإن القارئ الحسيني خسر هذه
المادة ، ليس على صعيد الخبر ، بل على صعيد التحليل و التدقيق ، و ربما
هناك مستمع يفوق هذا القارئ بهذه المادة و غيرها ، و لذا فإن المجال الوحيد
المفتوح أمام هذا القارئ هو الجانب النقدي ، ثم الجانب الوعظي الذي أُهمل
في الأيام الأخيرة تحت ضغط الثقافة الثورية الساذجة ، و أرقى أنواع الوعظ
هو ا الذي يصب في توعية المسلم ا لشيعي إزاء دينه و طائفته ، لا، البناء
الاجتماعي المسؤول هو القادر على خلق ضمير متألق .ونعتقد ان موقع القارئ لا
بد ان يكون في مستوى الحضور ، أي من دون اعتلاء هذه المنصة العالية التي قد
توحي بالهيمنة و الغرور ، و تربي في ضمير القارئ شخصية المُلقي ، حيث تعتبر
الآخر مجرد متلقي .
رصد أولي
هذه في اعتقادنا أهم ما ينتظر المرجعية ، وإلا فإن التشيع في خطر ، و نحن
إذا القينا نظرة سريعة على وضعنا الملموس لوجدنا بعض معالم شاخصة ، تؤكد
أنه وضع لا يحسد عليه ، وان المسيرة في تراجع و تقهقر ، الأمر الذي يدعو
المرجعية حقاً الى المبادرة السريعة ، ومن هذه المعالم :
· انحسار حجم الجمهور المتردد على الجوامع و دور العبادة ، خاصة في إيران ،
وهذه الظاهرة أصبحت ملموسة و ملفتة للنظر ، و قد فسرت في الخطاب الغربي
بفشل الخطاب الإسلامي أو عدم قدرته على استيعاب الثورة التي صنعها .
· انحسار ظاهرة دفع الحقوق الشرعية بشكل عام ، و عدم التزام الكثير من
الملتزمين بدفعها الى المرجعية او التصرف حسب الاجتهاد الشخصي في توزيع هذه
الحقوق ، و هي ظاهرة بداً الوكلاء يشيرون إليها و يحذرون من نتائجها .
· انحسار الحضور على صعيد المحاضرات الإسلامية رغم الجهد المبذول في المجال
الدعائي ، فلم يتجاوز عدد المستمعين ثلاثين شخصاً في دار الإسلام او مؤسسة
الخوئي او المعهد الإسلامي في لندن ، رغم ان الجالية العراقية في هذه
العاصمة الحيوية تتجاوز الآلاف ، و المؤمنون يشكلون قاعدة جماهيرية عريضة
هناك ، و هي ذات الظاهرة في السويد و الدنمارك و المانيا و كل دول المهجر.
· تقلص حجم العلاقة بين العالم الروحاني و الجمهور الشيعي خاصة في إيران و
سوريا و أوربا ، و هي ظاهرة لا يمكن نكرانها ، و تهدد بمستقبل غير مريح على
صعيد العالم الشيعي برمته .
· بدأ التجرؤ على مقام المرجعية ـ للأسف الشديد ـ و قد انتقل من السر إلى
العلن ، ومن الكلام الى الكتابة ، ومن الكلام المؤدب الى الكلام البذيء ، و
هذه الظاهرة نذير شؤم و سوء ، لان المراجع قادة الدين و ممثلي الأمام
المهدي ، ولأن التطاول على هذا المقام يقود الى تصدع التشيع ، ومما يؤسف له
حقاً ان تشتد هذه الظاهرة في داخل الوسط المرجعي بالذات ، والواجب يحتم على
كل شيعي ان يقف بوجه هذه الجريمة الكبرى بكل ما يملك من قوة و اقتدار .
· تراجع المنسوب الجماهيري الذي كانت تتمتع به الحركة الإسلامية ـ السائرة
على خط أهل البيت عليهم السلام ـ سابقاً و خاصة في إيران و العراق و الكويت
، و ليس من شك ان فصائل هذه ا لحركة و مفرداتها لم تتمكن الى الآن ان تتفق
على أدنى مستويات التفاهم المشترك ، تتقاسمها العناوين الجزئية و الطارئة
التي لا تشكل أي بعد مهم في مفهوم الشريعة أو الوطن أو الطائفة ، و تعد هذه
الحركة في المقياس الحركي الناجح من أبرز الأمثلة على تخلف العمل الحزبي في
بعض الأحيان .
· ومن القضايا المستجدة في الجسم الشيعي ـ للأسف الشديد ـ و الذي يعتبر في
غاية الخطورة ، بل هو من أخطر ما يهدد الكيان الشيعي فكراً و وجوداً ، هذا
التنافر بين الشيعة ، ليس على مستوى الأحزاب أو المرجعيات ، و لا على مستوى
هذا الشخص أو ذاك ، بل على مستوى الشعوب !
نعم على مستوى شعوب ، فأن ما فعلته الحكومة الإيرانية بالعراقيين و
الأفغانيين ، سواء على مستوى المعاملة السيئة ، أو نكران الجميل أو تشويه
السمعة أو تشقيق الأحزاب و نشر العدوات … إن كل هذه الممارسات الصبيانية ،
سواء عن قصد أو عن غير قصد ، أضرت بالعلاقة بين الشعوب الشيعية إذا صح
التعبير ، و نحن نعلم ان كبار العلماء في إيران كما أن القيادة الإسلامية
بريئة من هذه السياسة الجاهلية العنصرية ، ولكن نحن نتعامل مع الواقع الذي
حصل فعلاً ، فان النظام الإيراني الحالي يتحمل هذه المسؤولية .
· تراجع الاهتمام بالقضايا الكبيرة و الإغراق بالقضايا الهامشية التي تعد
من الأمور الثانوية ، ففي الوقت الذي يتعرض فيه شيعة العراق الى خطر
التوهيب و التشتت و التقتيل و النفي ، تصرف الأموال الطائلة و الجهود
الخيالية لإثبات موضوعات وهمية أو حقيقية ، ولكنها لم تمس مصير الطائفة
بالصميم ! و بالوقت الذي يتعرض فيه الشيعة الباكستانيون الى مذابح مروعة ،
يدور نقاش عقيم لسنوات طوال عن اجتهاد هذا
أو ذاك !
تغيير مفاهيمي جذري !
فالخطر ماثل و قائم ، و ذلك على ضوء هذه المقتربات الواضحة ، و ليس لها إلا
المرجعية الدينية ، و لك هذا المرجعية لا يمكن ان تؤدي هذه المهمة الكبيرة
إذا لم تتغير بعض المفاهيم ، يحصل انقلاب جوهري ببعض الأفكار و الممارسات ،
ومنها :
أولاً :ان نحدث تغييراً في معنى الولاء للمرجعية ، فبدلاً من ان يقوم على
الطاعة المطلقة للمرجع ، يستند الى العلاقة النقدية ، ليس على مستوى الحكم
الشرعي ، ,إنما على مستوى الموضوعات ، و النقد هو علامة الحب و الإخلاص ،
قوامه النصح و والترشيد و التوجيه ، بعلم و معرفة ، و في الحقيقة ان غياب
النقد ، هو الذي جرّأ بعض ا لناس في الأيام الأخيرة على مراجعنا العظام ،
بلغة قد لا تكون مؤدبة في بعض الأحيان ، بل إن غياب منطق النقد هو الذي أدى
ـ للأسف الشديد ـ الى ممارسة منطق اليد و القدح بين أيناء المراجع العظام و
حواشيهم و مقلديهم ، وهي ظاهرة مخزية توجع قلب الإمام المهدي ـ لا حول ولا
قوة إلا بالله العظيم و أنا لله و أنا اليه راجعون ـ .
ان تشريع النقد الحي الموضوعي و إدخاله في الخطاب الإسلامي نظرياً و عملياً
، سوف يحجم من مساحة الغيبة و يقطع الطريق على الفرية و البهتان ، و يخطو
بالتشيع فكراً ووجوداً مسافات كبيرة ، ان العلاقة النقدية بين المرجع و
المقلد قفزة حضارية .
ثانياً :هناك عبارة كثيراً ما تتردد و كثيراً ما نسمعها [ نحن نُزار ولا
نزور ] ، هكذا ينقل عن بعض العلماء ، و قد شاعت هذه المقولة للأسف الشديد ،
و أصبحت مقياساً للتعامل بين عالم الدين بشكل عام و الجمهور الشيعي ، و هي
في الحقيقة ذات موضوع آخر ، لأنها في الأساس تتحدث عن العلاقة بين العلماء
و السلاطين ، وليس بين العلماء والناس ، بل إن شباب آل محمد يرون العكس
تماماُ ، فإن المفروض ان يوفر العالم الديني وقتاً مخصوصاً لزيارة الناس
بشكل مكثف و مستمر ، خاصة الفقراء منهم ، وهذه القضية تكاد ان تكون مفقودة
!
ان هذه القاعدة تساهم في توسيع الهوة بين المرجعية و الأمة ، خاصة في هذا
الزمن الذي شاعت فيه قيم المشاركة السياسية و الفكرية ، و انتعشت فيه
مفاهيم التسامح و التواضع .
ان الزمن تغير ، ومثل هذه التصورات لن تجد أرضية صالحة بين الناس ، فيما
التفاعل مع الناس من خلال التواصل معهم ، أصبح من أهم المداخل للقيادة
الناجحة ، على الصعيد الفكري أو السياسي .
ان هذه القاعدة يجب ان تنقلب رأساً على عقب ، ومن الطبيعي إننا لا ندعو الى
زيارات مجاملة ، بل الى زيارات مسؤولة ، تهدف التغيير و البناء و العطاء ،
ان فقدان هذه الممارسة كان من الأسباب التي أدت الى انحسار دور المرجعية .
ثالثاً :ومن المتطلبات الملحة في هذا المجال حذف مفهوم [ الشأنية ] الذي
يعني مزيداً من المكاسب المادية و المعنوية ، بلحاظ قيم ، تكاد ان تكون
دنيوية فردية ، ففي ضوء هذا المقياس الغريب ، يبرر الكثير إثراءهم الفاحش
من أموال و حقوق المهدي عليه السلام ، و قد شاع هذا المصطلح الغريب في
الأيام الأخيرة بسبب التساؤل عن ظاهرة إثراء بعض [العلماء ]غير المعقول ، و
الذي ساهم مساهمة كبيرة في ضرب الصحوة الإسلامية من داخلها ، بل ان هذه
الظاهرة و ضعت الخطاب الإسلامي في موقع حرج أمام الأعداء ، و دعت الكثير من
ا لمخلصين الى إعادة النظر في حقيقة هذا الخطاب ، و فحص الماضي بدقة و
عناية !
ان اتجاه بعض الشباب لدراسة علم الرجال و تنقيب تاريخ المرجعية وتحري
الصحيح من سيرة النبي العظيم وأهل البيت عليهم السلام ، إنما تكمن وراءها
مجموعة أسباب ، لعل منها مفهوم الشأنية بلحاظ مستحقاته التي يرتبها أصحاب
الاصطلاح بالذات .