المهدي المنتظر... في ضوء القرآن والعلوم الحديثة والرياضيات - 4
كتابات - زهير الاسدي


(( دراسة علمية تتناول بالبحث والتحليل مسألة المهدي المنتظر على ضوء ما جاء في القرآن الكريم و السنن الكونية ويقوم بتفسيرها على حسب العلوم الحديثة مثل الرياضيات والفيزياء والأحياء ونحو ذلك ))
الباب الثالث
هوية المهدي من القرآن الكريم
المهدي مظهر لعلم الله في النشأة
لقد كنا حتى الآن نتساءل عن الأدلة العقيلة والنقلية التي تثبت حقيقة المهدي المنتظر الذي يظهر الإسلام على الدين كله ويبسط العدالة الشاملة على كوكب الأرض , الأمر الذي انتهينا فيه إلى أنه من الضرورات الوجودية التي لا يمكن تصوّر عدمها , وعلى الرغم من أننا قدّمنا من البراهين العقلية والنقلية ما يكفي لإثبات ذلك , نرى أن بحثنا لن يكتمل إلا إذا تطابقت تلك الحقيقة ( الضرورة) مع الحقائق المبثوثة في القرآن الكريم الذي هو (.. تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)[1].
وخلال بحثنا الموسع عن الخلافة وحمل هوية الله ( الأمانة) بقوانينها العامة ومظاهر تجلّيها, قد تناولنا الكثير من الآيات القرآنية التي تؤكد الحقيقة التي انتهينا إليها, وهي ان هوية الله تعالى مجدة يجب أن تظهر في النشأة بتمام كمالها( غير منقوص منها شيء) وهي من الضرورات الوجودية التي لا يمكن تصوّر عدمها, وفي هذا البحث نتناول بالتحليل الكثير من الآيات التي تتصل بالمهدي المنتظر بالقدر الذي يفيد بحثنا المخصص لبيان هويته عليه الصلاة والسلام , ونترك الأخريات إلى فرص أخرى مخصصة لبيان أحداث آخر الزمان [2] والرجعة[3] التي سيكون للمهدي فيها الدور الأعظم الذي صمم لأجله.
قال تعالى مجده: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)[4]
الشاهد أو الشهيد هو الحاضر والعالم بالشيء عن قرب , يقال شهد فلان الحادثة, فهو شهيد, والشاهد في المحكمة هو الذي كان حاضراً في مسرح الأحداث وعالماً بها وقت حدوثها, وقول العبد: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله , معناه أعلم واُقر بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله , و الشاهد أو الشهيد العالم بما يشهد إنما يكون معياراً للحكم والفصل نحو قوله تعالى: (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ )[5] والمعنى إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معياراً لنا في معرفة الحق والباطل, ونحن المتبعون له والمبلغون عنه نكون معياراً للناس في تبيان الحق والباطل .
 وعلى ضوء ما تقدّم تكون الشهادة المشار إليها في قوله:(..قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) تعني معيار الحكم والفصل بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين الكافرين, والآية الشريفة تشير بصراحة ووضوح إلى أن ليس الله جل شأنه الشاهد( المعيار)الوحيد بل (ومن عنده علم الكتاب) أيضاً , فالله تعالى مجده والذي عنده علم الكتاب هما الشاهدان والمعيار الذي يفصل بين الحق والباطل, بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والكافرين المنكرين لرسالته التي ينبغي أن تكون الدستور الصالح للحياة حتى نهاية الحياة الدنيا.
 وقد اختلف القوم بشأن قوله (ومن عنده علم الكتاب) والمشهور عندهم إنها إشارة إلى أهل الكتاب من الأديان السماوية (اليهود والنصارى), وهذا بعيد جداً , لأن أهل الكتاب لا يشهدون بأن محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم) رسول الله ولا يعترفون به نبياً , فتلك الشهادة تعني دخولهم في الإسلام , بل هم على العكس من ذلك يقولون للكافرين بأنهم أهدى من المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وإليك النص :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً*أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً)[6]
ولا أدري كيف يقتنع البعض أن هؤلاء الذين يعتبرون الكافرين أهدى من المؤمنين برسول الله, والملعونين من الله, أن يشهدوا أن محمداً رسول الله أو يشهدوا له بالحق عند الكافرين , ويفسر قوله (ومن عنده علم الكتاب) على ضوء ذلك , ولا ينبغي أيضاً أن يكون أهل الكتاب معياراً للفصل بينه وبين الكافرين-كما زعم البعض- فهو أشرف المرسلين وخاتم الأنبياء ذو مقام (قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى)[7] من الله ذو الكمال المطلق , ورسالته هي الرسالة التامة الكاملة التي يظهرها الله على الدين كله , فأهل الكتاب وجميع الأديان والأنبياء تحت لواء رسوله الله صلى الله عليه وآله وسلم, ومن المحال أن يكون أهل الكتاب شهداء ومعايير للحكم بينه وبين الكافرين .
بل عبارة ( ومن عنده علم الكتاب) تشير إلى القائم بأمر الله لكونه الخليفة الكامل و المرآة التامة التي يتجلى الله فيها ويظهر للناس فيحاسبهم ويحكم بينهم بالحق في الدنيا عند بسط العدالة الشاملة وفي الآخرة عند الحساب , فالله -كما أشرنا مرات-لا يباشر أمور الخلق بنفسه بل يوكل ذلك لمخلوقاته ليقوموا بها كالملائكة والأنبياء كل حسب اختصاصه, و هو جل شأنه لا يتجسّم فيظهر للناس عند بسط عدله وحساب الناس , بل يكون ذلك بواسطة القائم بأمره ( المهدي)عليه الصلاة والسلام .
 وليُعلم ان عبارة (علم الكتاب) لا شأن لها بأهل الكتاب ( اليهود والنصارى) لا من قريب ولا من بعيد , بل الكتاب المشار إليه هو كتاب الغيب الذي تُسجل فيه كل أحداث الزمان وكل أعمال الناس بدليل قوله تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً )[8]
(وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[9]
ولما كان كتاب الغيب (لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا )فإن الذي (عنده علم الكتاب) يعلم بكل ما موجود في هذا الكتاب من أحداث وأعمال الناس المسجلة فيه , وبهذا العلم الذي منحه الله له يكون شهيداً ومعياراً للحكم بين الحق والباطل , بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين الكافرين, بل هو-كما بينّا من قبل- الجهة التنفيذية لأمر الله الذي يتولى مهمة العدالة بين الناس في الدنيا والآخرة , فالله العليم الحكيم لا يعطي علم الكتاب المسجلة فيه كل أحداث الزمان وكل أعمال الناس لشخص إلا لغاية وهدف حكيم, وهي إظهار الإسلام على الدين كله وبسط العدالة الشاملة في الدنيا والآخرة.
ولما كان الحساب والفصل يوم القيامة يشمل جميع الناس بما فيهم الأنبياء من الأولين والآخرين , فإن ذلك يستدعي أن يكون الشاهد الذي يتولى مهمة العدالة بين الناس عنده علم بأعمال الناس أجمعين, ويحيط علماً بجميع الشرائع والرسالات السماوية وجميع الأحداث التي حصلت في الأرض, و من المؤكد ان جميع هذه الأمور مسجلة وثابتة في كتاب الغيب , و قد منح الله علم هذا الكتاب للشاهد( القائم بأمره المهدي) ليكون الجهة التنفيذية لتولي أمر العدالة بين الناس في الدنيا والآخرة .
 ولما كانت مراتب العلم تمتد من اللاعلم إلى كل العلم , والكون مظهر لهوية الله تعالى مجده, وهو كامل تام لا يسلك النقص إليه من سبيل, فإن مرتبة العلم التام يجب أن تظهر في النشأة وتتجلى في الإنسان الكامل الذي حمل الأمانة( هوية الله) التي تتضمن بالضرورة العلم, وهي من الضرورات الوجودية التي لا يمكن تصوّر عدمها, وتجلي العلم التام لا يكون إلا في الشخص المصمم من قبل السماء لإنجاز أهم وأخطر مهمة في تاريخ النشأة , وقد بات واضحاً انه المهدي.
ومن خلال ما تقدم نستنتج ان الفرق بين خليفة الله الكامل ( القائم بأمره) وغيره , هو العلم بالكتاب الذي (لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا) فبهذا العلم يقوم بأمر الله وينفذ أمره في إظهار الإسلام على الدين كله, ويبسط العدالة الشاملة في الأرض , ويتولى مهمة العدالة يوم الحساب , وبهذا العلم يكون خليفة الله الكامل التام الجامع لجميع الكمالات والمزوّد بالعلم اللدنّي الذي يفيضه الله تعالى مجده عليه مباشرة دونما واسطة, فعلمه من علم الله جل شأنه , وحكمه بين الناس هو حكم الله العدل .
 وعلى حسب قاعدة: (حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد ), فإنه كما في قوله تعالى :(وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)[10] كذلك يمكن القول عن القائم بأمر الله ( وما حكمت إذ حكمت ولكن الله حكم ) أو (وما حاسبتهم إذ حاسبتهم ولكن الله حاسبهم) .
وكما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)[11] كذلك يمكن القول عن القائم بأمر الله عليه الصلاة والسلام ( إن الذين يقفون بين يديك عند الحساب إنما يقفون بين يدي الله , الكلام الذي يسمعونه منك إنما هو كلام الله ) .
كما يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي يد الله , والذين يبايعونه إنما يبايعون الله ( وهذا لا يعني التجسيم والتشبيه) , كذلك شخص القائم بأمر الله ( المهدي) حامل هوية الله ومظهر لعلمه وأفعاله, والذين ينظرون إليه إنما ينظرون إلى الله . وهذا لا يعني أيضاً التجسيم والتشبيه.
ما هو الدليل ؟
وقد يقول قائل: كيف يمكننا أن نجزم بأن الكتاب المشار إليه في الآية هو كتاب الغيب ؟ وأن الذي عنده علم الكتاب المشار إليه في قوله (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) هو المهدي المنتظر دون غيره ؟؟ ما هو الدليل على ذلك ؟؟
للجواب نقول : إن الله جل شأنه قد أعطى علم من كتاب الغيب لبعض عباده لأداء مهمة في الأرض , والقرآن الكريم يخبرنا عن بعضهم ويسكت عن بعض, يقول: (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)[12] يجمع المسلمون على أن (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ) اسمه آصف بن برخيا, ونحن نرى أن الكتاب المشار إليه هو كتاب الغيب وليس الكتاب التشريعي المنزل كما يقول البعض, ولدينا على ذلك دليلين,.
الأول: إن الرجل (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ) صنع معجزة كبرى قد استعصت على النبي سليمان عليه السلام نفسه, وهي إحضار عرش الملكة بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في زمن مقداره أقل من رمشة العين, أي بسرعة تقارب سرعة الضوء, وكان ذلك في عصر تقطع فيه مثل تلك المسافة في شهور , مما يعني أن الرجل قد استعان بكتاب الغيب الذي تسجل فيه الصور الملكوتية لجميع الموجودات بما في ذلك عرش الملكة بلقيس في تحقيق تلك المعجزة ( وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[13] الكتاب المبين هو كتاب الغيب كما هو بيّن من سياق الآية, ولما كان الحرف(مِن) في قوله (عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ) للتبعيض, فإن الرجل عنده بعض من علم كتاب الغيب وليس كل الكتاب .
الثاني: لو كان الكتاب المشار إليه في قوله (عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ) هو الكتاب التشريعي, لكان سليمان نفسه أولى به, باعتباره نبي ذلك العصر , وكلنا نعلم أن العلم بالكتب التشريعية المنزلة لا يصنع مثل تلك المعجزة , ولو كان يصنع المعجزات لفعلها سليمان عليه السلام بنفسه وما طلبها من الآخرين , فالكتاب إذاً كتاب الغيب والعلم بالغيب هو الذي يصنع المعجزات.
دليل آخر : ويخبرنا القرآن الكريم في سورة الكهف عن رجل قد آتاه الله رحمة منه وعلمه من لدنه علماً يتصل بالغيب قال: (فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)[14] يجمع المسلمون على أن الرجل اسمه الخضر وهو إلى يومنا هذا حي يرزق , ومن خلال قصة موسى والخضر عليهما السلام التي يخبرنا عنها القرآن الكريم [15] نجد أن موسى طلب من الخضر أن يعلمه العلم اللدنّي الذي عمله الله إياه مقابل أن يتبعه , والاتباع هو الطاعة (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً)[16] وأن الخضر قد علم مسبقاً وقبل أن يبدأ بتعليمه أن موسى سوف لن يصبر (قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً*وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً)[17] مما يعني أن العلم اللدني الذي عمله الله للخضر هو العلم بكتاب الغيب وبهذا العلم عرف الخضر مسبقاً أن موسى لن يصبر وسوف يعترض على الكثير من الأجداث التي يشهدها , وبالفعل قد حصل ذلك.
وبالمقارنة بين مهام آصف بن برخيا والخضر من جهة ومهام المهدي من جهة أخرى, نجد أن المهام التي يقوم بها المهدي عليه الصلاة والسلام من أشرف واعظم المهام في تاريخ النشأة, وهي إظهار الإسلام على الدين كله و بسط العدالة الشاملة على الأرض في الدنيا , وحساب الناس أجمعين يوم القيامة , فهل يعقل أن يعطي الله علم الغيب لرجال يمارسون مهام محدودة في الأرض نحو إحضار عرش الملكة بلقيس كما فعل آصف, وثقب السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار كما فعل الخضر , ويحبس ذلك العلم عن المهدي الذي يقوم بأعظم المهام وأخطرها في الدنيا و الآخر؟
فكما علّم الله آصف بن برخيا والخضر عليهما السلام علم الغيب لأداء مهام في الأرض , كذلك يعلّم المهدي عليه الصلاة والسلام لأداء المهام التي صُمم لأجلها.
 وكلنا نعلم أن الله تعالى مجده في كتابه الكريم قد وعد أن الأرض يرثها عباده الصالحون[18], ووعد أن يظهر دين الإسلام على الدين كله[19], لتكون قوانينه حاكمة لجميع شؤون الناس , ويتحقق بسط العدالة الشاملة في الأرض , وإذا ما تأملنا في هذا الأمر من الوجهة الواقعية التطبيقية , فإنها مهمة غير عادية, بل هي من أعظم وأخطر المهام على الإطلاق, فلم يحدث أن أظهر أحدهم( سواء كان نبي أو غيره) دين الله على جميع الأديان وبسط العدالة الشاملة في جميع أقطار الأرض, فتلك مهمة يتطلب تنفيذها إمكانيات علمية وتنفيذية ضخمة مصدرها السماء.
ولما كانت تلك المهمة من أعظم وأخطر المهام التي تتطلب إمكانيات علمية وتنفيذية ضخمة , والمهدي المنتظر الذي أشارت إليه آلاف الأحاديث الشريفة الموثقة في مصادر المسلمين وغيرهم[20], هو المصمم من قبل السماء لأدائها, فإن قوله (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) يشير إلى المهدي دون سواه . وبهذا العلم الضخم ينهض بالمهمة التي أوكلت إليه , فالغيب –كما سيأتي بيانه- هو القدرة الفائقة التي تتفوق على جميع قدرات الشر الضخمة الموجودة في زوايا الأرض , والذي عنده علم كتاب الغيب , هو الوحيد الذي يتمكن أن يظهر الإسلام على الدين كله ويبسط العدالة الشاملة في الأرض .
فهناك الكثير من الأحاديث الشريفة الصحيحة المتواترة قد بلغت الآلاف منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, تؤكد أن الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً هو المهدي المنتظر الإمام الثاني عشر بن الحسن العسكري عليهما الصلاة والسلام, وعلى هذا فإن الشخص الذي يقوم بمهمة العدالة الشاملة على الأرض في الحياة الدنيا , هو ذاته الذي يتولاها يوم القيامة عند الحساب وتلك مهمة تتطلب العلم بكتاب الغيب , ليعرف على الأقل أعمال الناس (الحسنات و السيئات) كي يحكم بينهم بالحق . فالذي يتولى مهمة العدالة هو المرشح الوحيد لأن يكون شاهداً بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين الكافرين , (..قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)[21]
وهكذا تنحل أكبر إشكالية قد تشغل بال الكثير من المؤمنين عن الكيفية والقدرة التي تمكّن ( المهدي المنتظر) من إظهار الدين الإسلامي على الدين كله , و بسط العدالة الشاملة على الأرض , وحيثيات الحساب يوم القيامة.

هوية المهدي من القرآن الكريم
تجلي هوية الله في شخص المهدي في الحياة الدني
قال تعالى مجده يؤكد على ظهور هويته في النشأة :
1-(هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ)[1]
2-(هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلْ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ)[2]
 3-(هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[3]
 4-(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ*وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ)[4]
الآيات الثلاثة الأولى تشير بوضوح إلى أن الله سوف يأتي ويظهر للناس في الحياة الدنيا, أي (هوية الله) سوف تظهر للناس, والآية الرابعة تشير إلى أن آية عظيمة سوف تنزل من السماء لأهل الأرض فيخضعون لها خضوعاً تاماً يضطرهم للانصياع والقبول , وفيما يلي بيان المعنى المراد منها:
نلفت الانتباه إلى أنه في الآية الأولى قال: ( يأَْتِيَهُمْ اللَّهُ (فِي) ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ) ولم يقل (بـ) ظلل من الغمام والملائكة , وهناك فرق واضح بين الاثنين, ولما كان لا يمكن أن يحاط بالله ,و هو تعالى مجده يظهر في النشأة بواسطة الإنسان الخليفة وحامل الأمانة ( الهوية) , فإن الآية تشير إلى ظهور هوية الله بتمام كمالها في الإنسان, فإذا ما ظهر الإنسان الكامل حامل الأمانة بتمام كمالها –المهدي-سيكون محاطاً في ظلل من الغمام والملائكة, وكما أشرنا من قبل – بكثير من البراهين- إن هوية الله بتمام كمالها يجب أن تظهر في النشأة بتمام كمالها في الدنيا(آخر الزمان) والآخرة, وهي من الضرورات الوجودية التي لا يمكن تصوّر عدمها.

كما هو بين ومؤكد بالبراهين الكثيرة القاطعة إن الله أكبر من كل شيء (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)[5] وهو تعالى مجده مطلق وغير متناه ولا يمكن أن يحاط به أو يتحدد في زاوية من زوايا الكون فيخضع للزمان والمكان , ولكنه جل شأنه كما هو باطن كذلك هو ظاهر (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ..)[6] وظهوره في النشأة إنما يكون بواسطة مخلوقاته وعلى حسب مرتبتها الوجودية , والظهور الأعظم يكون في أشرف المخلوقات الذي حمل الأمانة فسجدت له جميع الملائكة دونما استثناء , وكما قلنا من قبل إن لحظة بث الروح في آدم كانت لحظة ظهور هوية الله في كيان الإنسان, وهي لا شك لحظة جليلة عظيمة تستحق سجود جميع الملائكة , ومن المعلوم ان ظهور هوية الله في آدم عليه السلام كان في تجلى أسماء الله في شخصه (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا)[7] وكان ذلك عند نفخ الروح فيه الذي استحق سجود الملائكة .
ما نريد قوله ببساطة هو ان الله ظاهر كما هو باطن, وظهوره في النشأة في مقام الظاهر يكون بواسطة مخلوقاته, فعرش الله أو الكرسي هو كل الموجودات الظاهرة في الكون(من الذرة إلى المجرة) وظهور هويته الجامعة لمراتب الكمال إنما يكون بواسطة نموذج مصغّر يطلق عليه القرآن تسمية أمانة وحامل الأمانة يسميه خليفة, وليس آدم وحده خليفة الله في الأرض بل كل أبناءه خلفاء يحملون الأمانة ( الهوية) على حسب استعدادهم ومرتبة كمالهم , بدليل قوله (..وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً)[8].
وعلى هذا فجميع الناس خلفاء لله في الأرض تتجلى فيهم سمات هوية الله كل حسب استعداده ومرتبة كماله, حيث يقال هذا كريم وهذا حليم , وذاك عليم والآخر حكيم ..الخ , وكلما كان الإنسان أكثر كمالاً كلما كان أقرب إلى الهوية الكاملة التامة (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى)[9] إلى أن نصل إلى المرتبة النهائية التامة ونقول هذا هو الله (يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ)[10], فهكذا تمتد مراتب كمال الناس حاملي الأمانة ( الهوية) من اللاكمال إلى كل الكمال , ومرتبة كل الكمال هي الأقرب إلى الله ومظهر لتمام هويته تعالى مجده في الأرض , ولما كانت هوية الله كاملة تامة لا يسلك النقص إليها من سبيل , فإنه يجب أن يظهر الإنسان الكامل التام الذي تتجلى في كيانه هوية الله بتمام كمالها , وقد أقمنا البرهان على هذا في بحث الخلافة.
وبكلمة واحدة نقول: كما سجد الملائكة كلهم أجمعون لأول خليفة في الأرض( آدم عليه السلام) لحظة نفخ الروح في كيانه, وكان ذلك حدثاً كونياً جليلاً يمثل بداية ظهور الله في الأرض, كذلك الحال عند ظهور آخر خليفة لله في الأرض ( المهدي) الذي يمثل كل ظهور الله في الأرض, ( جميع أسماء وصفات وأفعال الله تتجلى في شخصه) , فيأتي محاطاً بالغمام والملائكة كما قال تعالى مجده, وهذا هو معنى الآيات السابق ذكرها.
ويمكن بيان معنى الآيات بالصورة التالية :
1-(هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ – القائم بأمر -اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ..)[11]
2-(هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ– القائم بأمر - رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ..)[12]
3-(هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ– القائم بـ – أَمْرُ رَبِّكَ ..)[13]
ولأن المهدي عليه الصلاة والسلام مظهر لتمام هوية الله جاء سياق الآيات بالعبارات بالصورة التي تعرضها الآيات , فالله وهويته التامة شيء واحد بلا تمايز أو اختلاف . ويؤيد هذا المعنى قوله:
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى..)[14]
 (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)[15]
فكما الله يرمي ويقتل الكفار بأيدي المؤمنين, كذلك يبسط العدالة الشاملة في الأرض ويحاسب الناس عند الحساب بواسطة القائم بأمره ( المهدي ), وكما يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي يد الله , والذين يبايعونه إنما يبايعون الله (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وهذا لا يعني التجسيم أو التشبيه, كذلك شخص القائم بأمر الله هو المظهر لهوية الله في الأرض ( مرآة لظهور الله في الأرض) وحينما يظهر كأنما الله ظهر, فيكون محاطاً بالغمام والملائكة, وهذا لا يعني أيضاً التجسيم والتشبيه , وظهوره في النشأة هو الآية المشار إليها في قوله (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) .
الفصول القادمة تتناول هوية المهدي كمظهر لهوية الله في مقام الظاهر .
================
هوامش الباب الثالث \ 1
[1] - سورة النحل , الآية 89
[2] - كتابنا ( القرآن يتحدث عن أحداث آخر الزمان) تحت الإعداد
[3] - كتابنا ( الرجعة ضرورة وجودية ) تحت الإعداد
[4] - سورة الرعد , الآية 34
[5] - سورة الحج , الآية 78
[6] - سورة النساء , الآية 51 -52
[7] - سورة النجم , الآية 9
[8] - سورة الكهف , الآية 49
[9] - سورة يونس , الآية 61
[10] - سورة الأنفال , الآية 17
[11] - سورة الفتح, الآية 10
[12] - سورة النمل , الآية 40
[13] - سورة يونس , الآية 61
[14] - سورة الكهف, الآية65
3- أنظر سورة الكهف , الآيات 65 -82
[16] - سورة الكهف , الآية 66
[17] - سورة الكهف , الآية 67-68
[18] - (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) الأنبياء:105
[19] - (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) التوبة:33 \ الصف 9
[20] - في مصادر أهل الكتاب( اليهود والنصارى) يشيرون إلى المهدي باسم المنقذ أو المخلص .
[21] - سورة الرعد , الآية 43
==============
هوامش الباب الثالث\2
[1] - سورة البقرة , الآية 210
[2] - سورة الأنعام , الآية 158
[3] - سورة النحل , الآية 33
[4] - سورة الشعراء , الآية 4-5
1- سورة البقرة , الآية 255
[6] - سورة الحديد , الآية 3
[7] - سورة البقرة, الآية 31
[8] - سورة الأعراف , الآية 69
[9] - سورة النجم, الآية9
[10] - سورة البقرة , الآية 210
[11] - سورة البقرة , الآية 210
[12] - سورة الأنعام , الآية 158
[13] - سورة النحل , الآية 33
[14] - سورة الأنفال, الآية 17
[15] - سورة الفتح, الآية 10
 

الرئيسية  | مركز الصدرين للفكر الإستراتيجي |  العودة للصفحة السابقة