مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

الاسـلام والغرب د. أحمد شلبي
المسيح في نظر المسلمين


ظلت مريم في الاعتكاف كعادتها، ولكنها فوجئت في يوم من الأيام برجل يقف أمامها، فارتاعت وتساءلت: مَن هذا الذي يُنغص عليها وحدتها؟ وماذا يريد نمها؟ ولكنه نقلها من عجب إلى عجب حين قال لها: (إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً) مريم/ 19، وصاحت مريم: (أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بَغِياً) مريم/ 20، فأجاب: (كذلك، قال ربك هو عليّ هيّن، ولنجعله آية للناس ورحمة منا، وكان أمراً مقضياً) مريم/ 21، ورضيت مريم بمنحة الله، وبدأ الحمل، وتقول الآية الكريمة: (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين) الأنبياء/ 91.
- ما الروح؟
وينبغي أن نقف هنا وقفة قصيرة لنقدّم دراسة عن الروح متصلة بقوله تعالى: (فنفخنا فيها من روحنا).
وقد وردت (الروح) في القرآن الكريم بمعان ثلاثة هي:
1 ـ بمعنى جبريل، قال تعالى:
ـ (وأيدناه بروح القدس) البقرة/ 87.
ـ (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا) مريم/ 16.
ـ (نزل به الروح الأمين) الشعراء/ 193.
ـ (تعرج الملائمة والروح إليه) المعارج/ 4.
ـ (تنزل الملائكة والروح فيها) القدر/ 4.
2 ـ بمعنى الوحي بوجه عام أو القرآن بوجه خاص، قال تعالى:
ـ (ينزل الملائكة بالروح من أمره) النحل/ 3.
ـ (يلقي الروح من أمره على مَن يشاء من عباده) المؤمنون/ 15.
ـ (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) الشورى/ 52.
3 ـ بمعنى القوة التي تحدث الحياة في الكائنات، قال تعالى:
ـ (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) الإسراء/ 85.
ـ (إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) الحجر/ 28-29.
ـ (إني خالق بشراً من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) ص/ 71-72.
ـ (والتي أحصنت فرجها فنفنخنا فيها من روحنا) الأنبياء/ 91.
ـ (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا) التحريم/ 12.
والآية السابقة (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) واضحة الدلالة على أن هذه القوة التي تحدث الحياة في الكائن هي من علم الله، وأن الله سبحانه خص نفسه بمعرفة كنهها، وهو وحده الذي يمنحها فتدب الحياة أو يأخذها فتصبح الأجسام هامدة.
والآيات التالية تطبيق لذلك، فالله خلق بشراً من طين ثم أودعه الروح، وباللغة القرآنية (نفخ فيه من روحه) أي أودعه القوة التي لا يعرفها ولا يسيطر عليها سواه، فجاء آدم.
وأودع هذه القوة رحم مريم العذراء التي أحصنت فرجها والتزمت بالعفاف وعدم مخالطة الرجال، ونتيجة لنفخ روح الله في رحم مريم أي إيداع الله القوة التي تخلق الكائن الحي في رحم السيدة العذراء، جاء السيد المسيح.
ومن هنا تجيء الآية الكريمة: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم..) آل عمران/ 59.
ويلاحظ في الآيتين الكريمتين السابقتين المرتبطتين بالسيدة العذراء وحملها أن الآية الأولى تقول (فنفخنا فيها) والثانية تقول (أحصنت فرجها فنفخنا فيه) والمقصود في الآية الأولى منحنا مريم القوة التي جعلت طفلاً يدب في رحمها، فالضمير لمريم، أما الآية الثانية فاتجهت للوسيلة التي يجيء الأطفال عن طريقها وذلك للتقريب، وهناك إحدى القراءات في هذه الآية تقول (فيها) أيضاً، والنفخ هو تسلط الارادة كما سنرى بعد قليل وليس نفخاً بالمعنى المعروف.
ويتجه الإمام البيضاوي اتجاهاً ميسراً في شرح هذه الآيات فيرى أن (مِنْ) حرف زائد، وأن المقصود أودعنا في الطين أو في الرحم روحنا أي القوة التي لا يملكها سوانا والتي بمقتضاها يجيء كائن حي بدون الوسائل العادية. وكلماته هي (روح خلقناه بلا توسط أصل).
ويقول الباحثون المسلمون إن معنى النفخ هو تحصيل آثار الروح أي أن تدب الحياة، ويقولون إن منح الله القوة في كل الأرحام ضروري للحمل والحياة، وأن كثيراً من الأزواج يلتقون بزوجاتهم، ولا يحصل حمل مدة من الزمن لأن الله سبحانه لم يمنح هذه القوة التي يبدأ بها الحمل أو تبدأ بها الحياة، ثم يتفضل الله عندما يشاء فيمنح هذه القوة ويبدأ الحمل، ومعنى هذا أن نفخ الروح في الأرحام ضروري لكل البشر، وإنما ورد النص في حالتي آدم وعيسى لأن الخلق في آدم والحمل في عيسى جاء بغير الطريق الطبيعي، ولكن بالنسبة لله سبحانه وتعالى تستوي كل الطرق.
ولعله يرتبط بهذا ما يذكره ابن هشام حول تفسير قوله تعالى: (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) آل عمران/ 6، فإنه يذكر أن عيسى (ع) كان ممن صُوِّر في الأرحام كما صوّر غيره من بني آدم (آل عمران/ 49).
وقد أعطى الله سبحانه وتعالى لعيسى (ع) هذه القوة ليستعملها في هيئة الطير التي صنعها من الطين ثم نفخ فيها فأصبحت طيراً بإذن الله، قال تعالى: (ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم، أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله).
- النفخ:
وإيضاحاً لكلمة النفخ التي تكرر ورودها في القرآن الكريم متصلة بخلق آدم و بخلق عيسى (ع) أو بخلق طير من الطين أو متصلة بالنفخ في الصور، نذكر أن المفسرين يرون أن معنى النفخ هو تحصيل آثار الروح أي أن تدب الحياة، فهو تسلط الإرادة بالحياة في حالة آدم وعيسى وهيئة الطير التي أعدّها عيسى، وتسلط الارادة بالبحث يوم القيامة، وكلمات المفسرين التفصيلية هي: أصل النفخ إجراء الريح في تجويف جسم آخر، ولما كان الروح يتعلق ولاً بالبخار اللطيف المنبعث من القلب، وتفيض به القوة الحيوية فيسري حاملاً لها في تجويف الشرايين إلى أعماق البدن جعل تعلقه بالبدن نفخاً، والمقصود تعلق الإرادة على كل حال.
وعلى هذا فخلق عيسى على هذا النمط هو على نمط خلق آدم وخلق الطائر من الطين الذي سيهيئه عيسى على هيئة الطير، وهو تصرف لا يحتاج لجهد، ولكن المسيحيين عندما اتخذوا ذلك وسيلة لتأليه عيسى عقدوا الأمور، وصوروا عيسى ابن الله .. والله سبحانه لم يلد، ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
- مشكلات السيدة العذراء بعد الحمل:
لقد تقبلت السيدة العذراء أمر ربها، وبدأ حملها بابنها، ولكن كيف سيكون موقفها من الناس الذين لا يعلمون ما تعلم؟
وبعد فترة بدأ الجنين يدب في رحم العذارء، وكثرت أوهامها وأفكارها عما سيقوله الناس عنها وخرجت من الهيكل إلى قريتها الناصرة، وأقامت في بيت صغير اعتزلت فيه الناس، ثم خرجت مع يوسف النجار إلى بيت لحم، فلما أوشكت على الوضع وأحست ألم المخاض خرجت من القرية، فأجاءها المخاض (دفعها) إلى جذع نخلة يابسة، وحيدةً فريدةً، حيث وضعت السيد المسيح، ونظرت لطفلها البريء الذي سيصبح في نظر القوم دليل جريمة، وقالت: (يا ليتني مِتُّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً) مريم/ 23، ثم فكرت في طعامها وشرابها ليكون ذلك وسيلة لدرِّ اللبن إلى ابنها، فسمعت صوت الملاك يناديها (ألاّ تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً –جدول ماء- وهزِّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً، فكلي واشربي، وقرِّي عيناً) مريم/ 24-26.
وإذا كانت مسألة الطعام والشراب قد انحلّت فكيف بمشكلة العار؟ وماذا عسى أن تقول للمتهمين والمتهكمين والذين سيصيحون فيها قائلين (يا مريم لقد جئت شيئاً فَرِيّاً، يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمك بغيا) مريم/ 27-28، ولكن الملاك علّمها الرد على هذا الاتهام، وهو أن تسكت وتدع الرد للطفل الصغير ففي كلامه الرائع معجزة وآية معجزة، (فإما ترينّ من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلّم اليوم إنسياً) مريم/ 26.
فلما تجمع القوم وسألوها عن فعلتها أمسكت عن الكلام وأشارت إليهم ليكلموا الصبي (فأشارت إليه، قالوا كيف نكلم مَن كان في المهد صبياً؟ قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً، وجعلني مباركاً أينما كنت، وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً. وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً، والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً) مريم/ 29-33، وصدّق قليلون، ورآه الباقون سحراً، وظلت أغلبية بني إسرائيل الساحقة في طغيانهم يعمهون، فكانوا يسمونه (ابن البغية) وكانوا يقولون على مريم بهتاناً عظيماً.
- هل هناك حكمة في أن عيسى ولد من غير أب؟
يرى الأستاذ أبو زهرة أن ذلك كان لحكمة رائعة، فاليهود كانوا قوماً ماديين ربطوا الأسباب بمسبباتها، وسادت عندهم الفلسفة التي تقول إن خلق الكون كان من مصدره الأول كالعلة من معلولها، فأراد الله سبحانه أن يوضح لهم أن قدرته هي التي ربطت الأسباب بمسبباتها، وأنها تستطيع أن تتجاوز هذا القانون فيوجد المسبب دون أن يوجد السبب، فخلق الله عيسى من غير أب لهذا. ومن مادية اليهود أيضاً إنكارهم الروح واعتقادهم أن الانسان مادة خلقت من مادة فأراد الله أن يخلق إنساناً دون أنت كون المادة أساساً له.
- نشأة عيسى:
ليس عندنا كثير من المعلومات عن نشأة عيسى، ويقول القس بولس شباط إن الأناجيل قد أوجزت الكلام عن حياة عيسى من مولده إلى دعوته، فلم تذكر منها إلا نزراً يسيراً. ولا كَتَبَ الإنجيليون سوى أنه كان يزاول التجارة وقد نشأ ـ فيما يبدو ـ كما ينشأ الصبيان في عهده، وكان ينتقل مع أمه بين الناصرة وببيت المقدس، وامتاز بذكاء وعمق، فلم يكن يهتم بمظاهر الأشياء بل كان يغوص في أعماقها، وكان يسمع المدرسين والحكماء فلا يسلم بما يقولون به، بل يناقشهم كلما رأى في كلامهم غموضاً أو ألغازاً مما تعود سواه أن يقبلها دون تفسير أو نقاش، وقد ألَمَّ بالتوراة ونال من العلم قسطاً كبيراً، وساءه ما آلت غليه حالة قومه من بني إسرائيل من ضلال وعمى، وما خضعوا له من ترهات وأكاذيب سنلم ببعضها فيما يلي:
- بنو إسرائيل قبل نبوة عيسى:
حرَّف بنو إسرائيل شريعة موسى وجعلوا همهم جمع المال. وامتدّ هذا التفكير المادي إلى العلماء والرهبان، فأخذوا يحرضون العامة على تقديم القرابين والنذور للهيكل رجاء أن يحصلوا على الغفران، وربطوا الغفران برضا الرهبان ودعائهم.
وتعمقوا في المادية وبعدوا عن الروحية، فأنكر فريق منهم القيامة والحشر، ومن ثم أنكروا الحساب والعقاب، فانغمس الكثيرون منهم في متاع الحياة الدنيا غير خائفين من عاقبة، ولا متوقعين حساباً، وفي كلمة واحدة لقد فسدت العقيدة وفسدت الأخلاق، ولم يكن بد من منقذ يحاول أن يردهم عن طغيانهم الذين كانوا فيه يعمهون.
- نبوة عيسى ومعجزاته:
بُعث المسيح وهو في حوالي الثلاثين من عمره، وكان لب دعوته التبشير بالروح وهجر الملاذ الضالة، وأيده الله بمعجزات خارقة هامة ذكرها القرآن في الآيات الآتية: (ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم، أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) آل عمران/ 49. فهذه معجزات أربعة:
1 ـ خلق طير من الطين.
2 ـ إبراء الأكمه والأبرص.
3 ـ إحياء الموتى.
4 ـ الإنباء بما هو مجهول من طعامهم ومدخراتهم.
وأما المعجزة الخامسة فهي إنزال المائدة التي طلبها الحواريون وقد ورد ذكرها في قوله تعالى: (إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين، قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين، قال عيسى بن مريم: اللهم ربنا أنزل علنيا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين، قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين) المائدة/ 112-115.
ولست أدري كيف يتشكك الحواريون في رسالة عيسى مع براهينه الماضية، وهم الذين اتبعوه من دون بني إسرائيل؟ وإذا كان هذا شن الحواريين فكيف يكون شأن العامة، ثم لماذا كانت المائدة هي الوسيلة الوحيدة ليصدقوا، مع أنها ليست أقوى من إحياء الموتى ولا إبراء الأكمه والأبرص؟
وقبل أن نترك معجزات المسيح نقرر أن المسلمين مع إقرارهم بهذه المعجزات لا يؤيدون ما تذكره الأناجيل عن استعمال هذه المعجزات في الحياة العملية، فالذي يقرأ هذه الأناجيل يلاحظ ملاحظتين هامتين:
1 ـ تذكر هذه الأناجيل عدداً ضخماً أحياهم المسيح بعد الموت، أو شفاهم من البرص، أو جعلهم يبصرون بعد العمى، وطبيعة المعجزة غير ذلك، إنها دليل لإثبات النبوة، ومعنى ذلك أنها تستعمل بضع مرات لتحدي البشر حتى يصدقوا، ولكن الذي تذكره هذه الأناجيل غير هذا، إنه أشبه بالتمثيل، أي يُميت الله فيحيى عيسى مَن أماته الله دائماً، ويقضي الله بالعمى فَيَهبُ عيسى الأبصار لكل العميان.
وتحفل الأناجيل بالحديث عن العشرات والمئات من المجانين والمصروعين والعميان والموتى والمشلولين الذين شفاهم السيد المسيح، وأحياناً يذكر إنجيل متى أن (جموعاً كثيرة جاءت ليسوع فيهم العرج والعمى والخرس والشل وآخرون كثيرون وطرحوا عند قَدَمَي يسوع فشفاهم).
2 ـ من أين هذا العدد الكبير من المرضى والموتى والعميان.. الذين ذكرت الأناجيل أن معجزات المسيح مستهم؟ حتى ليوشك أن يفوق هذا العدد سكان فلسطين جميعاً في ذلك الوقت، وكأن كل السكان مسهم البرص أو العمى فشفاهم عيسى، أو ماتوا فأحياهم.
- اتجاه معجزات عيسى:
لماذا اتجهت معجزات المسيح اتجاهاً طبياً في الغالب؟
المشهور أن أكثر معجزات الرسل تأتي من نوع ما اشتهر من الفكر في عهد كل منهم، وتكون في مستوى أعلى مما يستطيعه الناس، فالسحر كان معجزة موسى، والبلاغة كانت من معجزات محمد، لانتشار السحر في عهد موسى، وانتشار البلاغة في عهد محمد، ولكن، ليس معنى هذا انتشار الطب بين بني إسرائيل في عهد عيسى، لا، فإن الثابت أن معرفة بني إسرائيل بالطب كانت قليلة حينذاك وقبل ذاك، حتى لقد كان انتشار الوباء بينهم من أسباب إخراجهم من مصر، والذي نراه أن معجزات عيسى في صميمها تتفق مع طبيعة مولده، فمعجزاته من نوع مولده ترمي إلى إحياء الناحية الروحية وإقامة الدليل على وجود الروح، تلك التي أنكرها أكثر بني إسرائيل فخلق شكل طير من الطين لا حراك فيه، ثم النفخ فيه فيتحرك ويطير مع أن مادته لم يزد عليها شيء، معناه أن زيادة جديدة طرأت، وهذه الزيادة ليست مادية قط، فلابد أن تكون روحية، وجسم الميت الذي لا يتحرك ولا يعي، يصبح بعد دعوة عيسى حياً واعياً دون زيادة مادية عليه، فمعنى ذلك وجود الروح.
وتتصل بمعجزات عيسى (ع) خرافة كان جديراً بنا أن نغض عنها الطرف، ولكن لا بأس من إيرادها للترويح، فقد ذكر الأب بولس إلياس في مجال الفخر بعيسى ومعجزاته ما يلي: (ومن مزيته التي لا يفاضله فيها نبي ولا رسول أنه أفضى بالقدرة على إتيان المعجزات إلى تلاميذه، ثم جدد منحها لهم بعد قيامه من الموت وصعوده إلى السماء، وأورث كنيسته تلك القدرة أيضاً).
ولو استطاع البابا الآن أن يحيي الموتى أو يبرئ الأكمه والأبرص كما كان عيسى يفعل، لو استطاع ذلك لتوقف الخلاف بين الأديان ولاتبعه كافة البشر، ولكن هيهات أن يكون ذلك، فليس البابا إلا إنساناً يمرض ولا يعرف الطريق إلى علاج نفسه، فما بالك بعلاج سواه، وقد رأينا حديثاً أحد البابوات يمرض ويطول عليه المرض، وتقوم الصلوات في الكنائس للتخفيف عنه وشفائه دون جدوى، فمن أين جاء بولس إلياس وأمثاله بهذه الخرافة؟
- اليهود ودعوة المسيح:
كانت دعوة المسيح تحارب اتجاهين تأصّلا عند اليهود، هما:
1 ـ شغفهم بالمادة وإهمالهم الناحية الروحية فيهم.
2 ـ ادعاؤهم أنهم شعب مختار، وادعاء أحبارهم أنهم الصلة بين الله والناس، وبدونهم لا تتم الصلة بين الخالق والمخلوق.
ولشد ما كان ارتياع اليهود وغضبهم عندما شهدوا يسوع يكستح أمامه كل ما يعتزون به من ضمانات، إذ يعلم الناس أن الله ليس من المساومين، وأن ليس هناك شعب مختار، وأن لا أحظياء في مملكة السماء، وأن الله هو الأب المحب لكل الأحياء، وأنه لا يستطيع اختصاص البعض بالرعايات عدم استطاعة الشمس ذلك مع الناس سواء بسواء.
وبسبب هذا الموقف تعرض عيسى إلى عداء بني إسرائيل وسخطهم، ولم يؤمن به إلا قليلون منهم، فقد انتظروه مسيحاً يبسط سلطان بني إسرائيل على العالم أجمع، ولكن خابت آمالهم فيه، ثم عندما رأوا أن بعض الضعفاء اتبعوه، خافوا أن تنتشر مبادئه، فأغروا به الحاكم الروماني، ولكن الرومانيين كانوا وثنيين ولم يكونوا على استعداد للدخول في الخلافات الدينية بين اليهود، ولم تكن دعوة المسيح التي أعلنها إلا إصلاحاً خلقياً ودينياً فلم تتصل دعوته بالسياسة، ولم تمس الحكومة من قريب أو من بعيد، ولذلك لم يستحق غضب الرومان، ولكن اليهود تتبعوا عيسى لعلهم يجدون منه سقطة تثير عليه غضب الرومان، فلما لم يجدوا تقوّلوا عليه وكذبوا، فأغضبوا الحاكم الروماني على عيسى، فأصدر أمره بالقبض عليه، وحكم عليه بالإعدام صلباً.
وكان الكهنة وغوغاء أورشليم المتمسكون بعقيدتهم السلفية أكبر المتهمين ليسوع.
- نهاية المسيح على الأرض:
أخذ جند الرومان يبحثون عن عيسى لتنفيذ الحكم عليه كما أوردنا من قبل، وكان عيسى قد لجأ إلى ضيعة جثسيماني ليحتمي بها، ولكن الخائن يهوذا الاسخريوطي أحد الحواريين، كان قد اتفق مع زعماء اليهود على أن يدلهم على مكمنه نظير ثلاثين قطعة من الفضة، وتسلم هذا الخائن هذا المبلغ، وقاد جند الرومان إلى حيث وجد السيد المسيح، ولما كان جند الرومان لا يعرفون شخصية المسيح، فقد ذكر الخائن لهم علامة هي قوله: الذي سأقبِّله هو هو أمسكوه.
وتمّ كل شيء على هذا النمط، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فإنه عند تقبيل الخائن للمسيح ألقى الله على الخائن شبه عيسى وملامحه تماماً، فأصبح الدليل هو المدلول عليه، وأصبح الذي قبَّل يحمل جميع ملامح الذي قُبِّل، وتقدم جند الرومان فقبضوا على الخائن وأرتج عليه، أو أسكته الله فلم يتكلم حتى نفذ فيه حكم الصلب.
أما السيد المسيح فقد كتب الله له النجاة من هذه المؤامرة، وانسلَّ من بين المجتمعين فلم يحس به أحد، وقد عبّر القرآن الكريم عن ذلك بقوله: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم).
بقيت بعض نقاط جديرة بالإيضاح هي:
أولاً ـ مَن هو الخائن؟
ما ذكرناه آنفاً من أن الخائن هو يهوذا الاسخريوطي أحد الحواريين الاثني عشر هو رواية مسيحية، أما المراجع الاسلامية فلم تحدد شخصية الواشي، وتتجه المراجع المسيحية إلى نجاح المؤامرة وصلب السيد المسيد، وأن يهوذا كان حياً بعد صلب عيسى، وأنه ندم وردّ إلى كهنة اليهود ما كان قد أخذه منهم، ومضى فخنق نفسه.
ولا يوافق المسلمون على هذا الزعم لأن هذه المراجع اتجهت هذا الاتجاه لاقتناعها بأن الذي صُلب هو السيد المسيح نفسه، ونقول إنه إذا ثبت أن يهوذا كان حياً بعد هذه الحادثة فن الخائن يكون شخصاً آخر، لأن المسلمين لم يحددوا شخصية الخائن.
وأغلب الظن أن الدفاع عن يهوذا دفاع مصطنع قام به بعض الذين شملهم الخجل من هذه الخيانة التي قام بها أحد الحواريين.
وإذا جاز لنا أن نجري بعض المقارنة فإننا نذكر القارئ أن زعماء المسلمين كانوا في حالات متعددة يضعون أنفسهم لمواجهة المخاطر حتى ينجو الرسول، وقد حدث ذلك في غزوة أحد وغزوة حنين، كما حدث قبل ذلك عندما بات الإمام علي في سرير الرسول ليلة الهجرة، وهو يعرف أن مَن يبيت في هذا السرير يواجه الموت من الأعداء المتربصين بصاحب البيت.
ثانياً ـ إلى أين ذهب عيسى بعد النجاة من المؤامرة؟
لم تتحدث المراجع التاريخية عن المكان الذي ذهب إليه عيسى (ع) عقب نجاته من المؤامرة، والذي يرشد له العقل أن عيسى (ع) بعد ذلك ترك فلسطين لأن بقاءه فيها كان معناه أن يعثر عليه اليهود والسلطة الحاكمة في يوم من الأيام، وأن ينفذوا فيه الحكم الذي صدر عليه.
وعلى كل حال فقد اختفى السيد المسيح عقب نجاته، واختفت معه أخباره، على أن هناك قولاً يرى أن المسيح هاجر إلى بلاد الهند ومات هناك في لاهور، وهو قول ينقصه التأكيد والوثائق.
ثالثاً ـ ماذا كانت نهاية عيسى بعد النجاة؟
هل رفع إلى السماء حياً بجسمه وروحه؟
هل استوفى أجله على الأرض وهو مختف ثم مات ودفن جسمه ورفعت روحه إلى بارئها؟
كان هناك اتجاه شاع بين الناس بأن عيسى (ع) عندما نجا من المؤامرة رفع بجسمه وروحه إلى السماء، وكان هذا الرأي يصور اختفاءه الذي تحدثنا عنه، ولكن هذا الاتجاه واجه دراسة واسعة قام بها المفكرون في العصر الحديث، واعتمدوا في كلامهم على نصوص قديمة ودراسات موثقة، وأوشك هذا الاتجاه الجديد أن يقضي على المزاعم القديمة التي كانت تقول برفع السيد المسيح بجسمه وروحه.
وعلى كل حال فينبغي أن نورد دعائم الرأي القديم، وأن نناقش هذه الدعائم لنسهم في تأصيل الرأي الجديد الذي نرتضيه.
بُنِيَ الرأي القديم على فهم غير دقيق للآيات والأحاديث التالية:
ـ قوله تعالى: (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبِّه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه، ما لهم من علم إلا اتباع الظن، وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه) النساء/ 157-158.
ـ وقوله: (إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا).
ـ ما ورد في البخاري ومسلم من أن رسول الله (ص) قال: والذي نفسي بيده ليوشكن ان ينزل فيكم ابن مريم حاكماً عادلاً مقسطاً، يكسر الصليب ويقتل الخنزير..
ـ ما ورد في مسلم من أن عيسى سينزل في آخر الزمان فيقتل المسيح الدجال.
- مناقشة هذه الأدلة وردّها:
ويناقش جمهور المفكرين المسلمين هذه الأدلة فيقولون إن عيسى بعد أن نجا من اليهود عاش زمناً حتى استوفى أجله، ثم مات ميتة عادية ورفعت روحه إلى السماء مع أرواح النبيين والصديقين والشهداء، وقد ورد النص برفع عيسى ـ مع أن روحه سترفع بطبيعة الحال لأنه نبي ـ تكريماً لمكانته بعد التحدي الذي واجهه من اليهود، فذكر الله نجاته، ثم مكانته التي استلزمت رفع روحه.
ويقولون عن الآية الأولى (بل رفعه إليه) إنها تحقيق الوعد الذي تضمنته الآية الثانية (إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا) فإذا كان قوله تعالى (بل رفعه الله إليه) خلا من ذكر الوفاة والتطهير واقتصر على ذكر الرفع فإنه يجب أن يلاحظ فيها ما ذكر في قوله (إني متوفيك..) جمعاً بين الآيتين.
ويرى هؤلاء العلماء أن الرفع معناه رفع المكانة وقد جاء الرفع في القرآن بهذا المعنى كثيراً، قال تعالى:
ـ (في بيروت أذن الله أن ترفع) النور/ 36.
ـ (نرفع درجات مَن نشاء) الأنعام/ 83.
ـ (ورفعنا لك ذكرك) الانشراح/ 4.
ـ (ورفعناه مكاناً علياً) مريم/ 57.
ـ (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة/ 11.
وإذن فالتعبير بقوله (ورافعك إلي) وقوله (بل رفعه الله إليه) كالتعبير في قولهم: لحق فلان بالرفيق الأعلى، وفي (إن الله معنا9 التوبة/ 55. وفي (عند مليك مقتدر) القمر/ 55، وكلها لا يفهم منها سوى معنى الرعاية والحفظ والدخول في الكنف المقدس.
وهناك آية كريمة أقوى دلالة من آيات الرفع، ولكنها مع هذا لا تعني سوى خلود الروح لا الجسم، وهي قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) آل عمران/ 169.
فمع أن الآية قررت أنهم أحياء فليس معنى هذا حياة الجسم، فجسم الشهيد قد وُوري التراب، ومع أنها قررت أنهم عند ربهم. وأنهم (يرزقون) .. فليس المقصود هو العندية المكانية. ولا الرزق المادي، وإنما المقصود تكريم الروح بقرباه من الله قرب مكانة والاستمتاع باللذائذ استمتاعاً روحياً لا جسمانياً.
وعن الحديثين يجيب الباحثون بإجابتين:
أولاً ـ هما من أحاديث الآحاد وهي لا توجب الاعتقاد، والمسألة هنا اعتقادية كما سبق.
ثانياً ـ الحديثان ليس فيهما كلمة واحدة عن رفع عيسى بجسمه، وقد فُهِم الرفع من نزول عيسى، فاعتقد بعض الناس أن نزول عيسى معناه أنه رفع وسينزل، وهكذا قرر هؤلاء أن عيسى رفع لمجرد أن في الحديثين كلمة ينزل، مع أن اللغة العربية لا تجعل الرفع ضرورة للنزول، فإذا قلت نزلت ضيفاً على فلان، فليس معنى هذا أنك كنت مرتفعاً ونزلت، وإذا رجعنا إلى مدلول هذه الكلمة (نزل-وأنزل) في القرآن الكريم، وجدنا أنه لا يتحتم أن يكون معناها النزول مع ارتفاع، بل قد يكون معناها: جعل، أو قدَّر، أو وقع، أو منح، قال تعالى: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) الحديد/ 25، أي جعلنا في الحديد قوة وبأساً.
وقال: (وقل ربي أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين) المؤمنون/ 29، أي قَدِّر لي مكاناً طيباً.
وقال: (فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين) الصافات/ 172، أي وقع.
وقال: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) الزمر/ 6، أي منحكم وأعطاكم.
وهكذا يتبين لنا أن كلمة ينزل في الحديثين ـ لو صح هذان الحديثان ـ ليست إلا بمعنى يجيء، ومن الممكن أن يحيى الله عيسى ويرسله على شريعة محمد قبل قيام القيامة، وليس ذلك بمستبعد قط على الله، والاستنتاج الذي قاله به هؤلاء خروج بالكلمات عن مدلولها، فالرفع ليس من كلمات الحديث الشريف بل من تفكير بعض قارئ الحديث وليس من حقهم أن يضيفوا إلى الحديث ما ليس منه وما لا تستدعيه ألفاظه.
وهناك آيتان اختلف المفسرون في تفسيرهما، وجاء في بعض ما قيل عنهما أنهما تدلان على نزول عيسى في آخر الزمان، وهاتان الآيتان هما.
ـ (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) النساء/ 159.
ـ (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها) الزخرف/ 61.
فعن الآية الأولى يرى بعض المفسرين أن الضمير في (به) وفي (موته) عائد على عيسى ويكون المعنى على ذلك عندهم أنه ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل أن يموت عيسى أن سيؤمنون به عند عودته آخر الزمان، ولكن هذا مردود بما ذكره مفسرون آخرون من أن الضمير في (به) لعيسى وفي (موته) لأهل الكتاب، والمعنى أنه ما من أحد من أهل الكتاب يدركه الموت حتى تنكشف له الحقيقة عند حشرجة الروح فيرى أن عيسى رسول ورسالته حق، فيؤمن بذلك، ولكن حيث لا ينفعه إيمان.
وأما عن الآية الثانية (وإنه لعلم للساعة..) فيرى بعض المفسرين أن الضمير في (إنه)، راجع إلى محمد (ص) أو إلى القرآن على أنه من الممكن أن يكون راجعاً ـ كما يقول مفسرون آخرون ـ إلى عيسى لأن الحديث في الآيات السابقة كان عنه. فالمعنى وإن عيسى لعلم للساعة، ولكن ليس معنى هذا أن عيسى سيعود للنزول بل المعنى أن وجود عيسى في آخر الزمان (نسبياً) دليل على قرب الساعة وشرط من أشراطها، أو أنه بخلقه بدون أب، أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث.
وعلى كل حال فنزول عيسى في آخر الزمان على فرض حدوثه ليس معناه رفعه حياً بجسمه كما سبق القول، ثم إن الدليل إذا تطرق له الاحتمال سقط به الاستدلال كما يقول علماء الأصول، وفي هذه الأدلة أكثر من الاحتمال، بل فيها اليقين عند الأكثرين.
- المسيح الدجال في رأي الإمام محمد عبده:
ترى المسيحية أن المسيح الدجال أو المسيح الدجال أو المسيخ الدجال شخص مضاد للمسيح وأنه ظهر أو سيظهر ليقود قوى الشر ضد قوى الخير.
ففكرة المسيح أو المسيخ الدجال فكرة مسيحية، وقد روى مسلم حديثاً عنها، وقد تعرض الأستاذ الإمام محمد عبده لهذا الحديث وقال: إن هناك تخريجين لهذا الحديث:
1 ـ أولهما أنه حدي آحاد متعلق بأمر اعتقادي، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا القطعي، لأن المطلوب فيها اليقين، وليس في الباب حديث متواتر.
2 ـ ثانيهما أن الدجال ليس إلا رمزاً للخرافات والدجل، وقد وجد ذلك وسيوجد عدة مرات، وهو يزول بشريعة الاسلام الغراء وبالقرآن والحديث وجهود العلماء والمفكرين وعلى هذا فلا وجود لما يسمى المسيح الدجال وهو الرأي الذي يرتضيه أكثر العلماء.
- رفع روح عيسى لا جسمه:
ونجيء الآن لإيراد بعض التفاصيل والأدلة التي ترى أن عيسى (ع) مات كما مات كل الأنبياء والصالحين وغيرهم، وأن جسمه قد دفن كما دفنت أجسام الأنبياء وغيرهم، وأن الذي رفع هو روحه:
وبادئ ذي بدء أذكر أن ندوة كبيرة أقامتها مجلة (لواء الاسلام) في أبريل سنة 1963م عن هذا الموضوع، وقد اشترك فيها مجموعة من العلماء الأفذاذ، واتفق الجميع على مبدأين مهمين هما:
1 ـ ليس في القرآن الكريم نص يلزم باعتقاد أن المسيح (ع) قد رفع بجسمه إلى السماء.
2 ـ عودة عيسى (ع) جاءت بها أحاديث صحاح، ولكنها أحاديث آحاد، وأحاديث الآحاد لا توجب الاعتقاد، والمسألة هنا اعتقادية فلا تثبت بهذه الأحاديث.
وعلى كل حال فالعلماء الذين يرون أن الذي رفع هو روح عيسى لا جسمه يعتمدون أساساً على الآيات القرآنية التالية:
ـ (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ثم إليّ مرجعكم) آل عمران/ 55.
فهذه الآية تذكر بوضوح ما سبق أن ذكرناه، أي وفاة عيسى وتطهيره وحمايته من أعدائه، وتجعل عيسى ضمن أتباعه إلى الله مرجعهم.
ـ (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: أن أعبدوا الله ربي وربكم، وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شيء شهيد) المائدة/ 117.
وواضح من الآية وفاة عيسى ونهاية رقابته على أتباعه بعد موته وترك الرقابة لله.
ـ وقوله تعالى حكاية عن عيسى: (والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا) مريم/ 33.
والآية واضحة الدلالة على أن عيسى ككل البشر يولد ويموت ويبعث، وكل ما يخالف ذلك تحميل للفظ فوق ما يحتمل.
وقد اشترك في هذا الرأي كثير من العلماء في العصور الماضية وفي العصر الحديث، وفيما يلي نسوق بعض تفاسير لهذه الآيات الكريمة كما نسوق آراء العلماء الأجلاء.
يقول الإمام الرازي في تفسير الآية الأولى: إني متوفيك أي منهي أجلك، ورافعك أي رافع مرتبتك ورافع روح إلي، ومطهرك أي مخرجك من بينهم، ومفرق بينك وبينهم، وكما عظّم شأنه بلفظ الرفع إليه خبّر عن معنى التخليص بلفظ التطهير، وكل هذا يدل على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منزلته، ويقول في معنى قوله تعالى: (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا) المراد بالفوقية، الفوقية بالحجة والبرهان ثم يقول: واعلم أن هذه الآية تدل على أن رفعه في قوله: (ورافعك) هو رفع الدرجة والمنقبة لا المكان والجهة، كما أن الفوقية في هذه الآية ليست بالمكان بل بالدرجة والمكانة.
ويقول الآلوسي: ان قوله تعالى (إني متوفيك) معناها على الأوفق أني مستوف أجلك، ومميتك موتاً طبيعياً، لا أسلط عليك مَن يقتلك، والرفع الذي كان بعد الوفاة هو رفع المكانة لا رفع الجسد خصوصاً وقد جاء بجانبه قوله تعالى (ومطهرك من الذين كفروا) مما يدل على أن الأمر تشريف وتكريم.
ويرى ابن حزم وهو من فقهاء الظاهر: إن الوفاة في الآيات تعني الموت الحقيقي، وأن صرف الظاهر عن حقيقته لا معنى له، وأن عيسى بناء على هذا قد مات.
وقد تعرض الأستاذ الإمام محمد عبده إلى آيات الرفع وأحاديث النزول، فقرر الآية على ظاهرها، وأن التوفي هو الإماتة العادية، وأن الرفع يكون بعد ذلك وهو رفع الروح.
ويقول الأستاذ الشيخ محمود شلتوت: ان كلمة (توفى) قد وردت في القرآن كثيراً بمعنى الموت حتى صار هذا المعنى هو الغالب عليها المتبادر منها، ولم تستعمل في غير هذا المعنى إلا بجانبها ما يصرفها عن هذا المعنى المتبادر، ثم يسوق عدداً كبيراص من الآيات استعملت فيه هذه الكلمة بمعنى الموت الحقيقي، ويرى أن المفسرين الذين يلجأون إلى القول بأن الوفاة هي النوم أو أن في قوله تعالى: (متوفيك ورافعك) تقديمً وتأخيراً، يرى أن هؤلاء المفسرين يحملون السياق ما لا يحتمل، تأثراً بالآية (بل رفعه الله إليه) وبالأحاديث التي تفيد نزول عيسى، ويُرَدّ على ذلك بأنه لا داعي لهذا التفكير، فالرفع رفع مكانة، والأحاديث لا تقرر الرفع على الاطلاق.
ويقول فضيلته إنه إذا استدل البعض بقوله تعالى (وجيهاً في الدنيا والآخرة من المقربين) آل عمران/ 45، على أن عيسى رفع إلى محل الملائكة المقربين. أجبناه بأن كلمة (المقربين) وردت في غير موضع من القرآن الكريم دون أن تفيد معنى رفع الجسم، قال تعالى:
ـ (والسابقون السابقون أولئك المقربون) الواقعة/ 10-11.
ـ (فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة ونعيم) الواقعة/ 88-89.
ـ (عيناً يشرب بها المقربون) المطففين/ 28.
فيقول: ليس في القرآن نص صريح على أن عيسى رفع بروحه وجسده إلى السماء، وليس فيه نص صريح بأنه ينزل من السماء، وإنما هي عقيدة أكثر النصارى، وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهور الاسلام بثها في المسلمين.
ويضيف هذا الباحث قوله: وإذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يصلح العالم فمن السهل أن يصلحه على يد أي مصلح ولا ضرورة اطلاقاً لنزول عيسى أو أي واحد من الأنبياء.
ويتفق الأستاذ أمين عز العرب مع اتجاهات الإمام محمد عبده والسيد محمد رشيد رضا فيقول: أستطيع أن أحكم أن كتاب الله من أوله إلى آخره ليس فيه ما يفيد نزول عيسى.
ويثير الأستاذ محمد أبو زهرة نقطة دقيقة حول الأحاديث السابقة فيقرر أنها ـ بالاضافة إلى أنها أحاديث آحاد وليست متواترة ـ لم تشتهر قط إلا بعد القرون الثلاثة الأولى، ويمكن ربط هذا بما ذكره السيد محمد رشيد رضا عن محاولات النصارى، فإنهم في خلال هذه القرون كانوا يحاولون إدخال بعض النصارى، فإنهم في خلال هذه القرون كانوا يحاولون إدخال بعض عقائدهم في الفكر الاسلامي بطريق أو بآخر بدليل أن هذه الأحاديث لم تشتهر في القرون الثلاثة الأولى مع ما وصلت له العقيدة الاسلامية من دقة وعمق في هذه القرون، ويختم الأستاذ محمد أبو زهرة كلامه بقوله إن نصوص القرآن لا تلزمنا بالاعتقاد بأن المسيح رفع إلى السماء بجسده، وإذا اعتقد أحد أن النصوص تفيد هذا وترجحه فله أن يعتقد في ذات نفسه ولكن له أن يلتزم ولا يُلزم.
ويقول الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي: ليس في القرآن نص قاطع على أن عيسى (ع) رفع بجسمه وروحه وعلى أنه حي الآن بجسمه وروحه، والظاهر من الرفع أنه رفع درجات عند الله، كما قال تعالى في إدريس: (ورفعناه مكاناً علياً) فحياة عيسى حياة روحية كحياة الشهداء وحياة غيره من الأنبياء.
ويقول الأستاذ عبد الوهاب النجار: إنه لا حجة لمن يقول بأن عيسى رفع إلى السماء لأنه لا يوجد ذكر للسماء بإزاء قوله تعالى: (ورافعك إليّ) وكل ما تدل عليه هذه العبارة أن الله مبعده عنهم إلى مكان لا سلطة لهم يه، وإنما السلطان فيه ظاهرا وباطناً لله تعالى، فقول تعالى (إليّ) هو كقول الله عن لوط (إني مهاجر إلى ربي) العنكبوت/ 26. فليس معناه أني مهاجر إلى السماء بل هو على حد قوله تعالى (ومَن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله..) النساء/ 100.
ويقول الأستاذ الشهيد سيد قطب عند تفسير الآية الأولى من الآيات الثلاث السابقة: لقد أرادوا قتل عيسى وصلبه، وأراد الله أن يتوفاه وفاة عادية ففعل، ورفع روحه كما رفع أرواح الصالحين من عباده، وطهره من مخالطة الذين كفروا، ومن البقاء بينهم وهم رجس ودنس.
ونجيء الآن إلى الباحث الأستاذ محمد الغزالي وله في هذا الموضوع دراسة مستفيضة نقتبس منها بعض فقرات بنصوصها:
ـ أميل إلى أن عيسى مات، وأنه كسائر ا لأنبياء مات ورفع بروحه فقط، وأن جسمه في مصيره كأجساد الأنبياء كلها: وتنطبق عليه الآية (إنك ميت وإنهم ميتون) الزمر/ 30، والآية (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) آل عمران/ 144، وبهذا يتحقق أن عيسى مات.
ـ ومن رأيي أنه خير لنا نحن المسلمين وكتابنا (القرآن الكريم) لم يقل قولاً حاسماً أبداً أن عيسى حي بجسده، خير لنا منعاً للاشتباه من أنه ولد من غير أب، وأنه باق على الدوام مما يروج لفكرة شائبة الألوهية فيه، خير لنا أن نرى الرأي الذي يقول إن عيسى مات، وإنه انتهى، وإنه كغيره من الأنبياء لا يحيا إلا بروحه فقط، حياة كرامة وحياة رفعة الدرجة.
ـ وانتهى من هذا الكلام إلى أني أرى من الآيات التي أقرؤها في الكتاب أن عيسى مات، وأن موته حق، وأنه كموت سائر النبيين.
ويثير الأستاذ صلاح أبو إسماعيل نقاطاً دقيقة تتصل بالرفع فيقول: إن الله ليس له مكان حسي محدود حتى يكون الرفع حسياً، وعلى هذا ينبغي تفسير الرفع على أنه رفع القدر وإعلاء المكانة، ثم إن رفع الجسد قد يستلزم أن هذا الجسد يمكن أن يَرى الآن وأنه يحتاج إلى ما تحتاج إليه الأجسام من طعام وشراب ومن خواص الأجسام على العموم، وهو ما لا يتناسب في هذا المجال.
وأحب أن أجيب على مَن قال إن في مقدور الله أن يوقف خواص الجسم في عيسى، بأن إيقاف خواص الجسم بحيث لا يُرى ولا يأكل ولا يشرب ولا يهرم .. معناه العودة إلى الروحانية أو شيء قريب منها، وذلك قريب أو متفق مع الرأي الذي يعارض رفع عيسى بجسمه.
وبعض الناس يقولون إن عيسى رفع بجسمه وروحه، فإذا سئلوا: إلى أين؟ وما العمل في خواص الجسم؟ قالوا لا نتعرض لهذا. وهو رد ليس ـ فيما نرى ـ شافياً.
ونعود إلى الأستاذ صلاح أبو إسماعيل الذي يتساءل قائلاً: إذا كان رفع عيسى رفعاً حسياً معجزة، فما فائدة وقوعها غير واضحة أمام معاندي المسيح (ع) وجاحدي رسالته؟ وأنا أعتقد (الأستاذ صلاح أبو إسماعيل) أن كلمة (متوفيك) تعني وعداً من الله بنجاة عيسى من الصلب ومن القتل كما وعد محمداً عليه الصلاة والسلام بأن يعصمه من الناس.
المصدر : مقارنة الاديان

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة