الاسـلام والغرب
شرفات غربية
لامارتين.. فؤاد هوى الى قبس الاسلام
المطلع على اراء المفكرين والادباء الغربيين حول الدين الاسلامي واتباعه ورسوله، يلاحظ انها في غالبيتها سلبية تؤشر الى مواطن الخلل فتهولها مسفرة أحياناً عن جهل وقلة معلومات فاضحة، وعن تجاهل وتنكر للحقيقة في احيان اخرى. وطبعا ثمة اراء يمكن نعتها بانها وصفية محايدة رمت الى وصف الواقع الاسلامي ورصد سلبياته وايجابياته بعيداً عن روح التحامل المشهودة في كتابات أخرى. وتبقى الآراء الايجابية المنصفة اقل من هذه وتلك، وهي آراء نأى اصحابها عن اجواء الحروب الصليبية والواقع الاستعماري والتحدي الحضاري الذي لم يفارق العالمين الغربي والاسلامي على طول الخط تقريباً فلم يكتموا انبهارهم بالحسنات الكثار التي ازدانت بها الثقافة الاسلامية.
ومن هؤلاء القلائل الشاعر الفرنسي المعروف لامارتين الذي خالف العديد من الشخصيات اللامعة التي عاصرته في النظر الى الاسلام نظرة موضوعية محايدة هدته الى مواطن القوة في هذا الدين.
يقول في كتابه "رحلة في الشرق": "مبادىء القرآن ليست إلا مبادىء المسيحية مبدلة، ولكن هذا التغيير لم يفقدها طبيعتها، إن هذه العبادة لمليئة بالفضائل واحب هذا الشعب لانه شعب صلاة"
وهو يغبط العرب حتى على بيئتهم الصعبة التي استغلضها الكثيرون وربما شمتوا بالعرب لاجلها:
يحافظ القدر بين العربي وبيننا على التوازن
مصائبنا متساوية.. لكن مصيبته حريته
فمن بين الاقامة البشرية في الخيمة أو الدار
الاولى رقعة من السماء والثانية ركن من السجن
قيد انسان الجدران نفسه باحجار المنزل
واما من يجد الصحراء الشاسعة موطناً له،
فلن تجد له ظلاً غير ظله الضخم
ولن يفلح الاستبداد في مطاردته
أن تكون وحيداً يعني أن تسيطر أن تكون حراً يعني أن تحيا
(الصحراء، 1856)
ويخالف السائد الغربي تارةً اخرى ليقرر أن فكرة القضاء والقدر حركت المسلمين وفجرت طاقاتهم، فهم المؤمنون بضرورة اقتحام المخاطر غير عابئين بالموت والخسائر، لانه لن يصيبهم إلاّ ما كتب الله لهم:
"جعل منه مبدأ القدرية الشعب الاكثر شجاعة في العالم. ورغم ان حياته ناعمة لا ثقل فيها، فإن الحياة التي يعده بها القرآن كجزاء على تلك التي وهب من اجلها الروح أكثر اغراء الى درجة انه يكفي ان يقوم بمجهود طفيف ليقفز من هذا العالم الى العالم السماوي الذي يراه امامه مشعاً بالجمال. إنه دين الابطال".
(رحلة الى الشرق، 1835)
ويفسر الانتشار السريع للدين الاسلامي بما ينطوي عليه من ايجابيات واتساق مع الفطرة، فيقول:
"يمكن ان تدخل الديانة المحمدية دون مجهود ولا عناء في نظام ديني وطني يتميز بالحرية، وأن يشكل أحد عناصر تكتل كبير بآسيا. فهي ديانة سمتها الاخلاق والصبر والاستسلام والاحسان، ومن طبيعتها التسامح، فكل هذه الاوصاف تجعلها صالحة لانصهار ضروري داخل البلدان التي تحتلها. فالواجب إذن تنوير هذا الدين بدل ابادته، لقد تعود على العيش بسلام وانسجام بجانب مدنه الاكثر قدسية ومنها دمشق والقدس، فالامبراطورية لاتهمه في شيء طالما تقام الصلاة وتوجد العدالة والسلام، فهذا يكفي بالنسبة اليه".
ويعرب عن اعجابه بشخصية الرسول محمد (ص) وما يتمتع به من سجايا فريدة مكنت الاسلام من النجاح والانتشار بسرعة مذهلة ويصف الخصال الجسمية والروحية لهذا النبي الكبير بكلمات تشع اعجاباً وانبهاراً:
"كان جسمه سليما مثل ذكائه، وهيبة وجهه اللطيفة تنشر حوله سمواً على عامة الناس في الطبيعة، وفي الاصطفاء الرباني. كانت قامته طويلة مهيبة، نفس القوام الذي أعطاه مقص الملاك ميكائيل لموسى، كان أقل من إله وأكثر من إنسان، كان نبيا كانت يداه ورجلاه العاريتان على الدوام عريضتين، حاسئة المفاصل؛ ولهذا كان شديد الوطأة فوق الأرض، والقبضة على السيف. تطل شبكة العروق المملوءة بالدم الهادىء رغم سخائه من وراء الجلد الأبيض الرقيق المورد على مستوى الخدين، وصدره الخالي من الشعر يستنشق الهواء بنفس طويل، أما صوته الخفيض المتذبذب فيرن داخل صدره كما يرن داخل قبة مملوءة بالاصداء، وكانت عيناه سوداوتين مخترقتين مبللتين غالبا من المباهج، وأغلب الأحيان من شدة الحماس، أما لحيته فكانت سوداء كذلك قليلة الشعر والتموج كشعر رأسه، ويبدو أن فمه الكبير المغلق عادة قد رسم ليرسخ العجائب ويلهم الشعب. وكسائر أولئك الذين يحاورون العالم العلوي، والذين يحترمون في أنفسهم أداة الإلهام، كان يتخلل ابتسامته التسامح أكثر من المرح، كما كان يبدو على هيئته وقار ملؤه الرأفة، ولكنه كان يحب كما رأينا الشباب، النساء، الأطفال، وكل ما هو جميل وبريء في الطبيعة. كان الجمال يهيمن على أحاسيسه، ولم يكن يتصور المباهج الخالدة إلا على شكل امرأة، فحتى ملائكة الجنة التي تحدث عنها لم تكن إلا رؤى نسوية". (عظماء الشرق، 1856)
ويقول في "رحلة الى الشرق":
"لم يقدم محمد نفسه بصفته إلهاً، وانما بصفته إنساناً تملؤه روح الله، ولم يوص إلا بوحدة الله، وبالاحسان للناس".
ولعله في هذه العبارة يعرض بالفكرة الرئيسية في الديانة النصرانية القاضية بألوهية النبي عيسى (ع) مفضلاً النمط الاسلامي عليها باعتباره اقرب الى العقل والروح. انه يمتدح نبي الاسلام لتقديمه نفسه كرسول لا أكثر، ويؤكد أن هذا لا ينتقص من عبقريته شيئاً فيقول عنه في (عظماء الشرق): "فيلسوف، خطيب، مبشر مشرع محارب، غازي افكار، مصلح للفكر الانساني، موح لاركان عبادة عقلانية دون صور، مؤسس لعشرين امبراطورية دنيوية ولامبراطورية روحية، هذا هو محمد".
ويعرج الى جوانب من الحضارة الاسلامية احتلت مكانة واسعة من مسيرة التطور البشري على الارض، وهي جوانب ارتبطت ارتباطاً عضوياً بالمنحى الروحي للحضارة الاسلامية وتوالدت عنه طوال التاريخ: "نشعر بأن ديانة محمد كان لها فنها الخاص بها، فن جاهز ومطابق لنور فكرته التي تبسط كل شيء، نشعر بهذا في اقامة المعابد البسيطة المعتدلة الجميلة دون ظلال تخفي الغازه ولا مذابح لضحاياه". (رحلة الى الشرق)
هذا هو لامارتين في بعض صور من انبهاره بالديانة والحضارة الاسلامية التي يرى لها نصيباً وافراً من الصحة والدور الاخلاقي البناء، والمساهمة الفاعلة في الرقي الانساني.