مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

الاسـلام والغرب تأثيرات المسلمين في الحضارة الغربية
نتاجات قصصية إسلامية أثرت في الأدب الغربي
عبد الرحمن بدوي


من التأثيرات البالغة العمق في الأدب الأوربي الحديث تأثير القصص الإسلامي، وكان انتقالها إلى أوروبا إما شفاها، وإما كتابة. أما شفاهاً فكان نتيجة حركة التبادل التجاري النشيطة كل النشاط على مسرح البحر الأبيض المتوسط بين شواطئه الشمالية في أوروبا وشواطئه الجنوبية في العالم العربي والإسلامي. إذ كانت أساطيل البندقية ولوقا وجنوة وبيزا دائبة الإبحار إلى سواحل سوريا والإسكندرية وتونس والجزائر وآسيا الصغرى، ثم في إبان الحروب الصليبية حين كان الأسرى تتبادلهم الأطراف المتنازعة، ومنهم من بقى حيث رحل أسيراً سواء في العالم الإسلامي وفي أوروبا، وكان لهؤلاء دورهم في هذا التبادل الشفاهي للأخبار والقصص. أضف إلى ذلك توغل العثمانيين في أوروبا حتى استولوا على المجر بعد معركة موها كس سنة 1526 وحاصروا فينا بعد ذلك بثلاث سنوات، وتوالت هجماتهم في اتجاهها إلى أن كان حصارهم الأخير لها بقيادة الوزير الأعظم قره مصطفى سنة 1683. وامتدت سيطرة العثمانيين على دول البلقان عدة قرون، مما بث الكثير من الأدب الإسلامي في هذه البلاد.
أما كتابةً فقد تم الانتقال بترجمة قصص أو كتب أمثال وحكايات إلى اللغات الأوروبية الحديثة. وأهمها على الترتيب التاريخي:
1- كتاب كليلة ودمنة، الذي ترجم إلى الأسبانية سنة 1251م، ثم إلى اللاتينية عن الترجمة العبرية التي قام بها ربى يوئل. وذلك في الترجمة التي قام بها يوهانس دى كبوا اليهودي المتنصر في سنة 1263ـ 1278 بعنوان "المرشد إلى الحياة الإنسانية" ومن ثم انتشرت في أوروبا انتشاراً واسعاً.
2- ورحلات السندباد ترجمت إلى العبرية بعنوان "مشليه سندباد" وانتشرت في أوروبا بعنوان: "الرؤساء الحكماء السبعة" وقد ترجمت إلى اللاتينية ترجمة لا تزال محفوظة في العديد من المخطوطات، وقد نشرها هلكا Hilka.
3- ثم قام بطرس ألفونسو في أوائل الثاني عشر الميلادي بترجمة مجموعة من القصص العربية وضمنها كتابه "تعليم الكتاب" باللاتينية، ويتضمن أربعاً وثلاثين قصة، أصبحت فيما بعد تدرج في كتب القصص اللطيف في أوروبا كلها. وقد ثبت من بحث الباحثين أن ثلث هذه القصص مترجم عن العربية، وجامعها نفسه بطرس ألفونسو يقرر أنه استمد شطراً منها من العربية لكنه لم يحدده. فقام الباحثون بتحديد ذلك. فجوزف بدييه اهتدى إلى الأصول العربية لأربع منها: "حكاية الصديق غير الصدوق"، و"حكاية صاحب الكروم"، و"حكاية الكلبة الباكية"، و"الفلاح والطائر". وجاء باسيه في كتاب حافل بعنوان "ألف قصة وحكاية وأسطورة" (في ثلاثة أجزاء سنة 1924ـ 1927)، فأرجع عدداً كبيراً من قصص "تعليم الكتاب" هذا إلى أصول عربية، وهي "الشاعر"، "الأحدب" "الينبوع"، "الأعمى وزوجته ومنافسه"، "الصناديق العشرة"، "كيس النقود المفقود"، "اللص وضوء القمر".
وقصة الكلبة الباكية خلاصتها أن عجوزاً أقنعت سيدة كريمة أن كلبتها ـ وكانت تجعلها تبكي بواسطة فطائر محشوة بتوابل حريفة ـ إن هي إلا بنتها وقد تحولت إلى كلبة لأنها هجرت حبيبها. واعتقدت السيدة صدق ذلك. وقد ترجم هذه القصة اشتيهوفل (المتوفى حوالي سنة 1482) وباولي (المتوفى حوالي سنة 1530)، وجاء الشاعر الألماني هانز ساكس (1494ـ1576) فوضع قصة على قالبها.
4- وفي القرن الرابع عشر في أسبانيا وضع خوان مانويل (1282ـ1349) ابن أخي ألفونسو الحكيم مجموعة من القصص القصيرة بعنوان "كتاب بترونيو أو كوند لوكانور" الذي فرغ منه في سنة 1335، وصلة الوصل بينها هي شخصية لوكانور، وهو كونت شاب غير مجرب، ثم معلمه بترونيو الذي كان يلقى بالشكوك، ويقوم هذا بحلها بواسطة حكاية قصيرة. والحكايات، وعدتها أربع وخمسون، متنوعة أشد التنوع، ومصادرها عديدة، وصار لها فيما بعد تأثير واسع، ليس فقط في الأدب الأسباني، بل الأوروبي كله، خصوصاً عند بوكاتشيو في "الديكاميرون" (العشرة أيام) الذي بدأ تأليف قصصه سنة 1348.
والأثر الإسلامي في هذه المجموعة واضح جداً حتى في اسم الكونت وهو "لوكانور"، إذ أن هذا الاسم تحريف لاسم "لقمان" الحكيم الذي تنسب إليه حكايات عديدة جداً في الأدب القصصي العربي. ومن بين الحكايات المأخوذة عن العربية فيها حكاية "التاجر الذي عاد من الغربة" وتتضمن مغزى حكاية عطيل، الذي استوحاها شكسبير فيما بعد في مسرحية "عطيل" المشهورة. غير أنه يلاحظ أن خوان مانويل كان ينهى الحكايات بنهايات سعيدة، في حين أن أصولها العربية كانت تنتهي بخواتم فاجعة.
5- وهناك مجموعة أخرى بعنوان "أعمال الرومان" لا يعرف لها جامع ولا مكان تأليف، على وجه التحقيق. والكثير من الحكايات والأساطير الواردة بها من أصل عربي: من "كليلة ودمنة" ومن حكايات أصلها عربي في مجموعة "تعليم الكتاب" الذي أشرنا إليه من قبل.
6- وفي إيطاليا إلى جانب الأصول العربية للقصص الواردة في "الديكاميرون" لبوكاتشيو، والتي لم تنل حتى الآن حظها من عناية الباحثين، نجد أولاً مجموعة قصصية عنوانها "الليالي الممتعة" من تصنيف استربرولا وفيها مشابه عديدة مع قصص عربية، خصوصاً قصص "ألف ليلة وليلة". كذلك ألف بازيل مجموعة قصص بعنوان "الأيام الخمسة" فيها يروى قصصاً كانت تتناقل شفاهاً في إقليم نابلي وأخرى في أقريطش، وهي قصص تركية الأصول، وهذه بدورها عربية الأصل.
وبعض الأساطير التي حيكت حول الكبار الملوك في أوروبا ترجع في تركيبها إلى أصول إسلامية. ونذكر هنا مثالين. الأول الأسطورة التي حيكت حول الإمبراطور فردريك الثاني، ملك صقلية، وخلاصتها أنه لم يمت، بل هو ينعس في جبل أتنا، والذي يوجد في البركان المشهور. وهذه الحكاية مأخوذة عن اعتقاد فرقة الكيسانية التي تزعم أن محمد بن الحنفية، "حي بجبال رضوى، أسد عن يمينه، ونمر عن شماله، يحفظانه، يأتيه رزقه غدوة وعشية إلى وقت خروجه" (مقالات الإسلاميين للأشعرى، ج‍1 ص90، القاهرة سنة 1950) وفيه يقول الشاعر كثير صاحب عزة:
وسبط لا يذوق الموت حتى
يقود الخيل يقدمها اللواء
تغيب لا يرى فيهم زمانا
برضوى، عنده عسل وماء
والثاني هو فردريك الأكبر والأسطورة التي صيغت حول ما جرى له مع صاحب طاحونة صان سوسي. فقد ثبت من البحث الذي قام به ل. شنيدر أن الحكاية المشهورة التي تقول إن فريدريك الأكبر ملك بروسيا في القرن الثامن عشر لما أراد أن يبني قصره المشهور في بوتسدام سنة 1745 وجد في المكان الذي عنده سيبني القصر طاحونة. فأراد شراءها وهدمها ليوسع في المكان. فرفض صاحبها الطحان جريفنتس ولم يستطع الإمبراطور الإستيلاء عليها عنوة ـ نقول إن شنيدر أثبت أن الواقع لم يكن كذلك. وإنما الصحيح هو أن الطحان لم يرث الطاحونة عن أجداده، وإنما بنى الطاحونة قبل البدء في بناء قصر الإمبراطور بوقت قصير، ولما تم بناء القصر رأى الطحان أن ينقل الطاحونة من مكانها لأن القصر حجب عنها الرياح وهي تدار بالرياح، فهو إذن صاحب المصلحة في نقلها لا الإمبراطور الذي كان على العكس من ذلك من ذلك يريد الإبقاء عليها تزيينا للمنظر المحيط بالقصر.
ولكن الأسطورة التي تألفت حول هذا الموضوع صورت الأمر بخلاف ذلك لتدل على المغزى المقصود وهو العدالة وأنها فوق الحكام والأباطرة مهما علا سلطانهم. والأسطورة بهذه الصورة أصلها شرقي. إذ تروى الكتب الإسلامية حكاية مماثلة تماماً عن كسرى انوشروان وبيت امرأة عجوز ملاصق لقصره لم يستطع الإستيلاء عليه لأن صاحبته رفضت أن تبيعه، فاضطر كسرى إلى جعل قاعة عرشه ملتوية البناء تجنباً لبيت هذه المرأة العجوز، وأبى عليه عدله أن يستولي على بيتها، وهو صاحب السلطان الأعظم وهي امرأة فقيرة لا حول لها ولا طول. وقد روى هذه الحكاية ياقوت الحموي في "معجم البلدان" (ج‍1 ص426 نشرة فستنفلد) والقزويني في "آثار البلاد وأخبار العباد" (ج‍2 ص304).
ورواها الأبشيهى في كتاب "المستطرف" فقال إن قيصر الروم أرسل رسولاً إلى كسرى أنوشروان. وكانت له قاعة للعرش شهيرة بعظمة بنائها. ولما تأمل الرسول هذه القاعة لاحظ أن فيها انحناء. فسأل الترجمان عن ذلك فقال المترجم أنه يوجد بيت تملكه امرأة عجوز لم تشأ بيعه، وهنالك لم يشأ الملك إرغامها على بيعه. وأمر بترك البيت على حاله، وبناء قاعة العرش ملتوية لتجنب البيت، وأن هذا هو السبب في الإلتواء البارز فيها. فقال رسول قيصر: أن هذا الإلتواء أجمل مما لو كان الجدار مستقيماً، وما صنعه الملك أمر عظيم لم يسمع بمثله من قبل ولن يسمع بمثله من بعد.
وهذه الحكاية نقلها على هذه الصورة كرستوفورس ليمان (المتوفى سنة 1638). ومن هنا عرفت في أوروبا، وكانت الأساس في أسطورة فريدرك الأكبر وطاحونة صان سوسي.
---------------------------
المصدر : "دور العرب في تكوين الفكر الغربي"

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة