مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

الاسـلام والغرب رياح الاسلام
من المصادر الإسلامية للكوميديا الإلهية لِدانته
عبد الرحمن بدوي


كانت قنبلة هائلة تلك التي ألقاها المستشرق الأسباني العظيم أسين بلاثيوس وهو يلقي خطاب استقباله في الأكاديمية الملكية الأسبانية في جلسة 26 يناير سنة 1919 لما أن أعلن أن دانته في "الكوميديا الإلهية" قد تأثر بالإسلام، تأثراً عميقاً واسع المدى يتغلغل حتى في تفاصيل تصويره للجحيم والجنة. إذ تبين له أن ثمت مشابهات وثيقة بين ما ورد في بعض الكتب الإسلامية عن معراج النبي (ص) وما في "رسالة الغفران" للمعري وبعض كتب محيي الدين ابن عربي من ناحية، وبين ما ورد في "الكوميديا الإلهية". وفي هذه المشابهات من الدقة والتفصيل ما يجعل من المؤكد أن التشابه هنا لم يكن أمراً عرضياً وتوارد خواطر، بل كان من تأثر مباشر بالتصويرات الإسلامية للآخرة. وراح أسين يعدد نقط التشابه هذه استناداً إلى المصادر الإسلامية، مقارناً إياها بما ورد في "الكوميديا الإلهية"، وكل ذلك بعلم غزير ومنهج دقيق.
وكما هو طبيعي، قوبل هذا الرأي بهجوم شديد من مختلف الباحثين، وبخاصة الإيطاليين الذين عزّ عليهم أن يفجعوا في عَلَمهم الأكبر ومناط فخارهم. وقام أسين بالرد على هؤلاء جميعاً رداً مفحماً وضعه ملحقاً بالطبعة الثانية التي ظهرت في مدريد سنة 1943، بعنوان: "الأخرويات الإسلامية في الكوميديا الإلهية _ يتلوها: تاريخ ونقد لمساجلات" (في 609 صفحة من القطع الكبير).
لكن كان يعوز أسين الدليل المباشر على وصول هذه الكتب الإسلامية إلى الغرب بلغة يفهمها الأوروبيون، وخصوصاً في فيرنتسه في نهاية القرن الثالث عشر حيث عاش دانته. وكانت الحجة المحتملة التي ساقها أسين لهذا الانتقال المباشر هي رحلة برونتو لاتيني، أستاذ دانته وصديقه، إلى اسبانيا سنة 1260 لما أن كان سفيراً من قبل بلدية فيرنتسه لدى بلاط الملك ألفونسو العاشر المعروف بالفونسو الحكيم.
وجاء الدليل الحاسم في سنة 1949، أي بعد وفاة أسين بلاثيوس بخمس سنوات، بفضل باحثين عمل كل منهما مستقلا عن الآخر: أحدهما إيطالي هو أنريكو اتشرولي Enrico Cerulli الذي نشر في سنة 1949 الترجمتين اللاتينية والفرنسية لكتاب عربي في "المعراج"، كان إبراهام الحكيم قد ترجمه من العربية الى اللغة الأسبانية القشتالية من أجل الفونسو العاشر، الحكيم، ملك قشتالة وليون (الذي حكم من سنة 1252 إلى 1284، وقد ولد في 22/11/1221، وتوفى في 4/4/1284م)، وعن هذه الترجمة الأسبانية القشتالية نقله بونافنتورا داسيينا إلى اللغتين اللاتينية والفرنسية، وكان بونافنتورا هذا كاتباً في بلاط الفونسو العاشر في سنة 1264. وقد نشر اتشرولي الترجمتين الفرنسية واللاتينية فقط عن نسختين إحداهما في مكتبة بودلى بأكسفورد، والثانية في المكتبة الأهلية بباريس. ثم أضاف إلى الترجمتين اللتين وضعتا في صفحتين متقابلتين الشواهد الدالة على معرفة وانتشار "كتاب المعراج" هذا في الآداب الأوروبية حتى القرن الخامس عشر وفي القسم الثاني من النشرة جمع النصوص _وأغلبها لم ينشر من قبل _ التي تتضمن معلومات عن الآخرويات الإسلامية في كتب المؤلفين الأوروبيين من القرن التاسع حتى القرن الرابع عشر، وذلك ابتغاء تزويد القارىء بصورة عما عرفه الأوروبيون من الأفكار الإسلامية المتعلقة بالجنة والنار مستقلة عن قصة "المعراج"، وبهذا قدم أداة ثمينة في البحث عن العلاقات الثقافية بين أوروبا والإسلام في العصر الوسيط، وقد تمت خصوصاً على حدود الإسلام في أسبانيا: أي بين القشتاليين والقطالونيين من ناحية، والمسلمين في سائر بلاد أسبانيا من ناحية أخرى.
أما الباحث الآخر فهو خ. منيوث سندينو الذي نشر في نفس السنة _سنة 1949 _ الترجمات الثلاث: الأسبانية واللاتينية والفرنسية، مع مقدمة وتعليقات. فزادت هذه النشرة إذن على نشرة اتشرولي بنشر الترجمة الأسبانية، ولكنها لا تحتوي تلك الشواهد والنصوص الخطيرة التي نشرها اتشرولي.
وقد تمت هذه الترجمات الثلاث في سنة 1264م أي قبل ميلاد دانته بسنة (ولد دانته في سنة 1265 وتوفي في رافنا في 14 سبتمبر سنة 1321).
وانتشرت ترجمة كتاب المعراج هذه انتشاراً واسعاً تشهد عليه شواهد عديدة. فقد لخصه بدرو بسكوال الذي قتل في غرناطة في 6 ديسمبر 1300 وذلك في كتيب صغير له بعنوان Sober la secta mahometana (وقد نشره اتشرولي في نشرته ص 265 _ 303).
ومن ناحية أخرى كانت المعلومات عن معراج الرسول (ص) قد انتشرت قبيل ذاك في أسبانيا، كما يظهر من كتابين: الأول هو تاريخ العرب تأليف رودريجو خيمينث الذي كان أسقفاً لطليطلة (ولد سنة 1170 وتوفي سنة 1247)؛ والثاني هو "التاريخ العام" الذي ألف بأمر من الفونسو العاشر، الحكيم (1221_1284)، ويظهر أن مصدره هو "تاريخ العرب" المذكور، لأن الاختلاف ضئيل جداً بينهما على أن مصدر هذين الكتابين واضح أنه ليس كتاب "المعراج".
وفي نهاية كتاب اتشرولي يتساءل: هل عرف دانته كتاب "المعراج"؟ ويلاحظ ما يلي:
1_ فاتسيو ديلي اوبرتي، وكان يعيش بعد دانته بعشرات من السنين، عرف كتاب "المعراج" واقتبس منه؛
2_ إحدى وقائع رحلة النبي (ص) في الجنة تظهر في أسطورة انتشرت في بيزا في القرن الرابع عشر؛
3_ انتشر كتاب "المعراج" لمدة طويلة في إيطاليا، حتى إننا لنجد روبرتو كرتشيولو Caracciolo في القرن الخامس عشر يشير إليه بصراحة ويقتبس منه طويلا.
4_ والمخطوطات التي استند إليها أتشرولي في نشرته: أحدها نسخ في بريطانيا، والثاني في أفنيون، والثالث أنجلو نورماندى. وهذا يدل على سعة انتشار هذا الكتاب في خارج أسبانيا، بعد ترجمته بقليل من السنوات.
5_ ويدل على مدى اهتمام الملك الفونسو العاشر، الحكيم، بهذا الكتاب أنه لم يكتف بالأمر بترجمته إلى الأسبانية، بل كلّف كما رأينا بونافنتورا داسيينا بترجمته إلى الفرنسية واللاتينية تمكيناً له من الذيوع.
وهكذا كان كتاب "المعراج" منتشراً في فرنسا وإيطاليا وأسبانيا في العقود الأخيرة من القرن الثالث عشر والعقود الأولى من القرن الرابع عشر، وهي الفترة التي عاش فيها دانته.
-------------------------------
المصدر : "دور العرب في تكوين الفكر الاوربي"

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة