مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 شرفات غربية
الفكر المتشدد في الإسلام
بقلم العالم السويسري: إرنست تسبيندن
تقديم المترجم: ثابت عيد


كاتب هذا المقال هو العالم السويسري الصديق إرنست تسبيندن أحد كبار علماء الدين في سويسرا، ومن أكثرهم فهماً للتاريخ الإسلامي، وينتمي تسبيندن إلى طبقة المفكرين السويسريين الذين ينادون بقيم التسامح، والحوار بين الأديان, ونبذ العنف, وعدم إساءة استخدام الدين.
وقد استخدم الأستاذ تسبيندن في مقاله هذا اللفظ الألماني (Funda mentalismus) بمعان مختلفة، فهذا اللفظ الذي يترجمه معظم الكتاب ترجمة عشوائية بكلمة "الأصولية" هو لفظ لا علاقة له بالإسلام, أو كما تقول المستشرقة الألمانية الشهيرة "أنا ماري شيمل" في مقدمتها لكتاب الديبلوماسي الألماني المسلم مراد هوفمان (الإسلام كبديل): "هذا التعبير لا يصت إلى الإسلام بصلة، فهذه الكلمة تطلق في المسيحية على اتجاه معين في أميريكا، ويقصد الإعلام الغربي بهذه الكلمة: المتطرفين المسلمين". غير أن الأستاذ تسبيندن عند استخدامه للفظ (Fundamenta Iismus) لا يعني المتطرفين فحسب، بل إنه يقصد به أحياناً الإسلاميين ككل، وأحياناً أخرى يعني المتعصبين، أو المتشددين، ومرة رابعة يكون المقصود هو الحركة السلفية.
والواقع أن شيوع لفظ الإسلاميين (die Islamisten) اليوم بين أساتذة الدراسات الإسلامية في الغرب يحتاج أيضاَ إلى مراجعة وتدقيق. إذ أن هذا اللفظ كما ورد في المراجع العربية القديمة _ كاستخدام الأشعري له في كتابه "مقالات الإسلاميين" _ لا يعني المتطرفين، ولكنه يعني مفكري الإسلام. فكل من عمل في حقل الدراسات الإسلامية، وعبر عن رأيه في الموضوعات الدينية المثارة، فهو إسلامي، وليس بالضرورة متطرفاً. وبناء على ذلك فلفظ إسلامي يشمل المتطرف والمعتدل، المسالم والعنيف، المتسامح والمتشدد، جميعاً. ولهذا فاستخدام الغربيين له لوصف المتطرفين المسلمين هو استخدام غير دقيق، فيه الكثير من التعميم والتسطيح, وقد أحسن جيلز كيبل عندما تحاشى استخدام هذا اللفظ، في كتابه عن الحركة الإسلامية في مصر، الذي أسماه (النبي والفرعون) حيث يقول فيه:
"... إن لفظ fundamentalism بالإنجليزية, ولفظ integrisme musulman بالفرنسية, ينتقلان إلى العالم الإسلامي أدوات فكرية صيغت لتفسير لحظات تاريخية معينة في تاريخ الكاثوليكية والبروتستانتية على التوالي, وليس هناك ما يبرر هذا النقل ".
ويشير العالم تسبيندن في مقاله هذا إلى ملاحظة هامة, وهي أن الصحوة الإسلامية لم تبعث الشباب المسلم على التفقه في الإسلام, والتعمق في التاريخ الإسلامي والفقه والشريعة, ولكنها " أدت إلى تقوية أحاسيس ساذجة ومتطرفة ". ولعل أحد أهم أسباب ذلك هو الفكر الإسلامي العقلاني. فمعظم الكتب المتداولة في الأسواق العربية اليوم هي كتب تحارب العقل, وتدعو إلى التقليد والجمود, ولن تتمكن الحركة الإسلامية من تصحيح مسارها, إلا بالتفتح على الثقافات الأخرى, ونبذ العنف, والتسلح بعلوم العصر.
ومن المفيد أيضاً أن نذكر قولاً آخر لتسبيندن, ونقابله بتعليق للعالم المصري الكبير محمد منصور (زيورخ). يقول تسبيندن: " لم يعرف الإسلام حركة تنوير مثلما حدث في أوروبا ". ويرى العالم محمد منصور أن التنوير كان موجوداً في الإسلام منذ بدايته, ثم حلت عصور الانحطاط, فحجبت هذا التنوير, وهذا يعني أن التطور الذي حدث في الإسلام كان معاكساً لما حدث في أوروبا. ففي الإسلام جاء التنوير قبل الانحطاط, وفي أوروبا انبثق التنوير بعد الانحطاط, ولنرَ الآن ماذا يقول العالم السويسري إرنست تسبيندن في مقاله هذا:
1 - أصول الإسلام الإسلام هو دين نبوي وتشريعي, يشمل جميع ميادين الحياة, وينظمها بشرائعه, ويعتبر الإسلام _ من وجهة النظر الإسلامية _ آخر دين سماوي منزل, وبالتالي فهو الدين الحقيقي النهائي للبشر, واليهودية والمسيحية ليستا, إلا ديانتين سبقتا الإسلام. وبخلاف المسيحية فأساس الإسلام ليس فقط القرآن الكريم, ولكن أيضاً الشريعة القائمة على سنة الرسول (ص), وكتب الفقه. والقرآن في كل حرف من حروفه هو كلام الله المنزل, وتكاد لا توجد محاولات للتأويل التاريخي للقرآن, والدراسات النقدية غير ممكنة. أما السنة والفقه, فهما قابلان للتغيير إلى حد ما, وبالتالي يمكن تأويلهما من قِبَل أفراد لديهم خلفية دينية. هذه الأصول الَمقدسة تجعل من الإسلام في الواقع ديناً ذا والسلفية الإسلامية ما هي إلا العودة إلى جميع الأصول والأسس الإسلامية. وبخلاف المسيحية الهادفة إلى العودة إلى أصول الدين المسيحي تشمل الأصول التي تسعى السلفية الإسلامية للعودة إليها الشريعة أيضاً. ويهدف القانون الإسلامي إلى إرجاع كل البشر في حياتهم المشتركة تبعاً لأوامر الله, إلى الوضع الأصلي الصحيح الذي كانوا جميعاً أمة واحدة تحكمها شرائع الله وسلطته.
2 _ تطور الحركة السلفية في الإسلام
امتلك الإسلام لعالمه نظامًا خاصّاً وشاملاً للقيم, وهو نظام شعر فيه بالراحة والطمأنينة, حتى بداية العالم الغربي الحديث. ولم يسعَ لتغيير هذه القيم الإسلامية إلى حد ما إلا القليل من الحركات الإصلاحية, ولكنها ظلت حركات سلفية جدّاً, مثل الحركة الوهابية في القرن الثامن عشر في شبه الجزيرة العربية على سبيل المثال . ولم يعرف الإسلام حركة تنوير مثلما حدث في أوروبا. إلا أن القوى الأوروبية بدأت في القرن الماضي تفرض وصايتها على المناطق الإسلامية, وقد أدى ذلك إلى صدمة كبيرة للمسلمين, وكان لابد من اقتباس الكثير من الحضارة الغربية في مجال التكنولوجيا, وتنظيم شئون الدولة, والقانون, وهي خطوة لم تكن في حسبان الفكر الإسلامي, ولكنها كانت خطوة عملية جدّاً, لدرجة أن الفكر الغربي اكتسب مكانة خاصة لدى الأوساط الراقية في العالم الإسلامي, وكان هناك طبقات أخرى حاولت أن تتحاشى كل جديد بقدر الإمكان. فالتنظيم والتخطيط, وأوقات العمل الثابتة, والأجور المحددة, والإدارة, والديمقراطية البرلمانية, هي في الواقع أمور ليست إسلامية, فهي أمور يقررها الإنسان, وليس الله من خلال شريعته. وقد أبعدت القواعد الجديدة للمجتمع الحديث رجال الأعمال, والعلماء, والعلماء المسلمين, عن الإسلام إلى حد بعيد, ومن الواضح أن العالم الحديث عندما يتعرض لأزمات يقوى في الحال الرأى القائل بأن ذلك هو نتيجة للاستهانة بشريعة ا لله, ويشعر كثير من المسلمين المتدينين في الدول الإسلامية المتحضرة اليوم بالاغتراب أحياناً, وهم ينظرون إلى عصر فجر الإسلام بمشاعر من الدفء والشوق, ويتوقون إلى وحدة جميع الشعوب الإسلامية في المستقبل. وقد ظهر في القرن التاسع عشر من يُطلق عليهم لفظ " المجددين " الذين ارادوا تطهير الإسلام مما لحقه م شوائب وخرافات, ولكنهم سعوا أيضاً إلى نصرة الإسلام, ومنحه مزيداً من القوة والاعتداد بالنفس. وكانوا يرون أن الإسلام, باعتباره دين العقل, فهو يصلح أكثر من المسيحية, لأن يكون دين الإسلام العصري.
ثم تأسست في مصر جماعة الإخوان المسلمين سنة 1928, ولم يكن الإخوان في البداية ضد منجزات المدنية الحديثة على الإطلاق, بل اقتصر هدفهم على تربية المسلمين المفترض أنهم نشأوا على الأخلاق الإسلامية, وتشكلوا بها, ولكن جماعة الإخوان المسلمين تطرفت فيما بعد, فقد أعلنت أن الإسلام نظام شامل, قائم على القرآن والسنة, ولا ينبغي أن تراعى أو تقتبس أي عناصر أخرى, وأنه صالح للتطبيق والاستعمال في كل زمان ومكان, أي في عصرنا هذا ايضاً. وبسرعة أصبحت جماعة الإخوان المسلمين حزبًا شعبيّاً, بيد أن السلطات فرضت عليها الحظر أحيانًا, بسبب ما مارسته من أحداث عنف, وتكونت منظمات للإخوان المسلمين أيضاً في الأردن, والعراق, ولبنان, وسوريا, وفي فترات المواجهة بين الشرق والغرب, استطاع الإخوان أن يكتسبوا شهرة كبيرة, كأصحاب إيديولوجية ثالثة للعالم الإسلامي, دون أن يكونوا ملزمين بتقديم برنامج محدد. وفي باكستان تأسست جماعة أخرى ذات صلة وقرابة بالإخوان المسلمين سنة 1941, تسمى " الجماعة الإسلامية ". ودعت هذه الجماعة إلى إنشاء دولة إسلامية على الطريقة الإسلامية القديمة, ويحكمها أمير مسلم. كما أنها نادت بإعادة تطبيق الشريعة الإسلامية من جديد على مراحل. وقد امتدت هذه الحركة ايضاً إلىِ الدول المجاورة, وأدت إلى قيام أحزاب في المنطقة العربية برمتها, تدعو إلى الصحوة الإسلامية, والإحياء الديني. وعاشت بعض هذه الأحزاب تحت الأرض, وكانت تعمل ضد السلطة, وضد الغرب, وضد الكفرة. ودفع تأييد الغرب لإسرائيل الكثيرين إلى أحضان هذه الأحزاب.
وقد أعطت الثورة الإيرانية إشارة الظهور لكل هذه الحركات, أنه
( 1 ) شمول الإسلام ليس تطرفًا, وإنما هو حقيقته.. وشمول الإسلام رؤية منهجية, لا تمنع اقتباسه لما لا يتعارض مع منهاجه _ فالحكمة ضالة المؤمن _ وجمع التجديد الإسلامي بين الثوابت والمنهج, مع التطور في المتغيرات _ وخاصة المعاملات الدنيوية _ هو سر صلاح الإسلام لكل زمان ومكان _ المشرف على الكتاب د. محمد عمارة.
من الممكن إعادة تقوية العالم الإسلامي في عصرنا هذا, على أسس إسلامية أيضاً. وقد أعد آية الله الخميني في منفاه مشروع جمهورية إسلامية, تم تطبيقه الآن, وتجلت عملية أسلمة كل شيء بصورة أساسية في المجالات الإدارية, والقانونية, والاجتماعية, وبصورة خاصة بالنسبة لنا في الغرب, بدا ذلك واضحاً في أحكام الملابس كذلك فقد شجعت الثورة الإيرانية الحركات السلفية في الدول الإسلامية الأخرى, إلى حد بعيد. واتضح الآن أن الإسلام ليس مجرد دين نظري فحسب, ولكنه أكثر من ذلك: إنه حضارة مؤثرة في المجتمع, وإيديولوجيا مخالفة للإيديولوجيات الغربية, وحضارة مضادة مبنية على الدين. وازدهرت حركة الإخوان المسلمين, والجماعة الإسلامية, والحركات المتشددة الأخرى. وانتاب المسلمين جميعاً شعور جديد من الاعتداد بالنفس, حتى في تلك الدول التي لا يمثلون فيها إلا اقليات محدودة. وقد شاع الآن استخدام لفظ " الإسلاميين" للإشارة إلى كل هذه الجماعات والتيارات, وكذلك لفظ " الحركة الإسلامية " كمصطلح شامل.
3 _ تقييم
لا تعنى السلفية الإسلامية مجرد التمسك بحرفية القرآن, ورفض أي نقد موجه للقرآن, فهذا موقف إسلامي عام. أما هدف السلفية الإسلامية الرئيسي فهو تطبيق الشريعة الإسلامية في المجتمع, وشئون الدولة, والسياسة, والقضاء, وأيضاً في فكر كل فرد من أفراد المجتمع. والسلفية الإسلامية هي قبل كل شيء موقف مضاد, ورد فعل للعلمانية والتغريب. ولا يوجد في الإسلام فكر سلفي موحد ومشروح بتفصيل وإسهاب. والسلفية الإسلامية ليست أيضاً مجرد حركة محافظة للإحياء الديني, ولكنها تعنى أيضاً بالمستقبل, وذلك بسعيها لتحقيق مستقبل جديد, تحكمه شريعة الله, يتمث في الأمة الإسلامية المباركة التي تجمع كل المؤمنين داخل حدودها. ومن المؤسف له أن الصحوة الإسلامية التي تلقى كل التشجيع من السلفية لم تثمر عن تعمق حقيقي في الإسلام عند جميع الطبقات, ولكنها أدت إلى تقوية أحاسيس ساذجة ومتطرفة وقد سارع بعض السياسيين إلى استغلال ذلك. فالإسلام نفسه لن يستطيع أن يحل كل مشاكل الشعوب الإسلامية بالسرعة التي ينتظرها الإسلاميون, ذلك أن الفقر, والبطالة, والمتاعب الاقتصادية, والتخلف, وعدم الاستقرار السياسي, كل هذه المشاكل لن تحل بالسرعة التي يتخيلها الإسلاميون. وبعض المكاسب التي تم تحقيقها في عصر الوصاية الغربية المرفوض لم يعد من الممكن إلغاؤها على الإطلاق, كذلك فهناك بعض المسائل في الشريعة تحتاج إلى تنقيح, مثل مسألة الطلاق, ووضع المرأة, على سبيل المثال, ولكن أيضاً بعض أحكام القانون الجنائي. والواقع أن العصور الوسطى قد انتهت أيضاً بالنسبة للإسلام, وسوف يتحتم على الإسلاميين أيضاً أن يراجعوا أفكارهم في الوقت المناسب.
وكثيراً ما يسبب التطرف الإسلامي لنا _ في الغرب _ قلقًا, ويخشى البعض من أسلمة أوروبا مرة أخرى. ولكن الصحوة الإسلامية ينبغي أن تقودنا قبل كل شيء تنقيح موقفنا من الإسلام, هذا الموقف الذي ما زالت تحكمه في أوساط غربية واسعة الأحكام المشوهة والخاطئة, وعلى المسلمين والمسيحيين أن يتعلموا أن يفهم بعضهم بعضاً بصورة أفضل, وأن يكونوا جميعًا أكثر تسامحًا. ولابد أن يتحول التطرف عند الفريقين, من الموقف المتشدد إلى الحب, والإخلاص للمبادئ والأصول الذاتية, ولكن بلا وصاية على الآخر, المختلف دينيّاً وفكريّاً.
---------------------------------
المصدر: "الإسلام في عيون عربية"
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة