رياح الاسلام
صعد حضارية مختلفة إستلهم فيها الاوربيون منجزات المسلمين
عبد الرحمن بدوي
فضل المسلمين في تكوين المعارف العملية في أوروبا كان يسير جنباً إلى جنب مع تأثيرهم في تكوين العلوم النظرية ولنبدأ بالحديث عن أثرهم في الصناعة، فنقول: إن المسلمين هم الذين صنعوا الصابون لأول مرة، وكانوا يعملون منه صنفين، صنفاً من الصودا، وصنفا آخر أبيض اللون من البوتاس، وقد ذكره ابن دريد سنة 933 ميلادية، وقبل المسلمين كان المصريون واليونانيون القدماء والرومان يستعملون رماد النباتات، بعد ترشيحه، من أجل غسيل الملابس.
والمسلمون هم الذين أدخلوا السكر المصنوع من القصب في أوروبا. وكان الهنود هم أول من زرع قصب السكر واستنبطوا منه السكر، ومن الهند انتقل إلى فارس في القرن السابع، ومن ثم عرفه المسلمون لما استولوا على فارس في القرن السابع، فقاموا بالتوسع في زراعته في جميع المناطق المعتدلة المناخ في أنحاء الدولة الاسلامية المترامية الأطراف.
والورق: اكتشفه الصينيون، لكنه لم يدخل الغرب ولم تعرفه أوروبا إلا عن طريق المسلمين. ذلك أن زياد بن صالح حاكم سمرقند من قِبَل العباسيين وجد أن القبائل التركستانية على الحدود الشرقية للدولة الإسلامية، كانت تغير على هذه الحدود مستندة إلى مساعدة الصين، فكان لابد من إخضاعها فأرسل حملة انتصرت انتصاراً عظيماً في شهر يوليو سنة 751 ميلادية، وأخذ كثير من الأسرى الصينيين الذي نقلوا من حدود الصين إلى داخل البلاد الإسلامية. وهؤلاء أدخلوا الورق وصناعته في البلاد الإسلامية. وازدهرت هذه الصناعة خصوصاً في خراسان في عهد الفضل بن يحيى البرمكي، عامل الخليفة هارون الرشيد على خراسان. وعنى هارون الرشيد بصناعة الورق، وأمر بكتابة المصاحف على هذا الورق بدلا من الرق والبرشمان. وانتشرت صناعة الورق انتشاراً هائلاً في البلاد الاسلامية كلها منذ القرن الثاني للهجرة أي الثامن للميلاد، وعن طريق مسلمي الأندلس دخل الورق أوروبا، وكان في شاطبة خصوصا مصانع كبيرة للورق في القرن الرابع الهجري، أي العاشر الميلادي، وانتقل إلى طليطلة منذ القرن الحادي عشر الميلادي، ولا يزال لدينا وثائق حتى اليوم كتبت على هذا الورق ترجع إلى القرن الحادي عشر. وبلغت شهرة شاطبة في الأندلس بصناعة الورق حداً جعلها تصدر الورق إلى المشرق أيضاً كما نص على ذلك الأدريسي، ولم تعرف أوروبا الورق إلا في القرن الثالث عشر: استوردته من الأندلس، ودخلت صناعة الورق إلى فرنسا حوالي سنة 1300 عن طريق أسبانيا.
كذلك برع المسلمون في كثير من الصناعات القائمة على الكيمياء فاستخرجوا الذهب بطريق الغسل، وقطروا الزئبق من الزنجفر، وصنعوا الطلب، واستخلصوا العطور بتقطير الورد، وصنعوا أنواع الحبر المختلفة: الحبر العادي، والحبر السري، والحبر الذهبي، وأنتجوا مختلف الألوان والأصباغ، فاستخرجوا الأزرق السماوي من حجر اللازورد، والأصفر الفارسي، واللون القرمزي من دودة القز، بل مهر المسلمون أيضا في صناعة الأحجار الكريمة المزيفة، واللآليء الصناعية.
ونستطيع أيضا أن نضيف إلى هذا أن المسلمين هم الذين عرفوا القهوة، لأول مرة في التاريخ، وكانت الشراب الشائع عند أصحاب الطرق الصوفية المسلمين في القرن التاسع الهجري أي الخامس عشر الميلادي. ثم انتشرت في جزيرة العرب وفي اليمن، ومن ثم إلى القسطنطينية حيث انتشرت في جزيرة العرب انتشاراً واسعاً قضى على معارضة الفقهاء في شربها. ومن القسطنطينية انتقلت إلى فرنسا، فاستوردها التجار في مرسليا، وهنا لقيت معارضة من الأطباء الذي ظنوا أن القهوة مشروب ضار، وسرعان ما انتشرت حتى كانت شائعة الاستعمال في أوروبا كلها في القرن السابع عشر، وبدأ الهولنديون يزرعونها في مستعمراتهم وراء البحار، وزرعها الفرنسيون في جزيرة سان دومنجو، ومن هذه الجزيرة انتشرت في أمريكا كلها حتى صارت أمريكا الجنوبية اليوم أشهر بلاد إنتاج البن. ولقد كان الصوفية أول من استعملوا القهوة شراباً حتى تعينهم على السهر للتهجد في الليل وإنعاش حيويتهم المنهوكة من مجاهداتهم ورياضاتهم الروحية.
فإذا انتقلنا من الصناعة إلى الزراعة رأينا للمسلمين أبحاثاً عظيمة في هذا الميدان خصوصاً في الأندلس. ويتناول هذا الميدان الفلاحة، ثم النباتات الطبية. ومن أشهر من ألفوا في الفلاحة من الأندلسيين يحيى بن محمد بن العوام صاحب كتاب "الفلاحة" ثم ابن بصال الذي اعتمد في الفلاحة على تجاربه الخاصة، ثم ابن الخير الأشبيلي، والحاج الغرناطي، وفي هذه الكتب تحدثوا عن صنعة فلاحة الأرض، وكيفية العمل في الزراعة والغراسة، واهتموا اهتماماً خاصاً بأشجار الفاكهة، فبينوا أنواع الغرس، وطريقة حفر الحفر استعداداً للغرس، ومواعيد الغراس. أما في النبات، وخصوصاً الطبية، فقد ظهر في الأندلس خصوصاً أبو جعفر الغافقي وابن البيطار.
ومن هنا نجد في اللغة الأسبانية عدداً ضخماً من الألفاظ العربية المتعلقة بالنباتات خصوصا الفواكه والأزهار والأعشاب، مثل الكلمات التالية: الدفلي Adelfas والسوسن Azucenas والياسمين Jasmines والريحان Arrayan والحبقة Alhabaca، والحسيناء Alhucena وكلها من الأزهار والنباتات العطرية، ثم كلمات تدل على الخضروات مثل الباذنجان Berenjenas اللوبيا Alubias والخرشوف Alcachofa وأخرى تدل على الفاكهة مثل البرقوق وهو المشمش Albaricoquas والفرسق Alberchigo ثم الخروب Algarrobas والحلفا Alhalfa والترمس Altramuz.
وكان لكتب المسلمين هذه في الفلاحة والنباتات أثر هائل في تقدم الزراعة في أوروبا. فضلا عن انتقال معارفهم الزراعية والنباتية بطريق الاتصال المباشر بين الفلاحين في أسبانيا، وبين نظرائهم في جنوب فرنسا، ومن ثم إلى كل أوروبا، فزهرة التوليب أصلها من القسطنطينية ثم انتقلت إلى أوروبا سنة 1590، والنرجس انتقل من القسطنطينية أيضاً، والليلاك من فارس والياسمين من بلاد العرب، والورد من شيراز وأصفهان والخوخ من فارس والبرقوق أي المشمش من أرمينية وكانت تحت حكم الإسلام والتين من أزمير والبلح من المشرق وإفريقية، والفستق من فارس، والقطن من مصر.
والآن وقد أوضحنا دور المسلمين في قيام صناعات وزراعات في أوروبا، فلنذكر أثرهم في الفن المعماري. وهنا نجد للمسلمين تأثيراً منقطع النظير، ولا تزال الآثار الرائعة في الأندلس، بل وفي سائر أسبانيا وجنوبي فرنسا تشهد بما بلغه الفن الاسلامي في المعمار من مكانة سامية في أوروبا. ولقد بقى المسلمون هم كبار المعماريين حتى بعد سقوط دولتهم في أسبانيا، فما يسمى بالفن المدجن Arte Mudejar هو في الواقع من عمل المسلمين الذين بقوا في البلاد بعد استرداد النصارى لها، ولهذا كان أثره عظيماً ليس فقط في القصور المدنية بل وفي الأبنية الدينية من كنائس وأديرة، كما هو مشاهد في كنيسة San Juan dela penitencia في طليطلة وكنيسة San Pablo en Penafiel، وكنيسة Ordor في قلعة هنارس وكنيسة la Sav في سرقسطة، وأبراج كنيستي سان مرتيني والسلفادور في ترويل، هذا فضلا عن المساجد التي تحولت إلى كنائس في قرطبة وأشبيلية وعشرات غيرها من المدن الأسبانية.
وانتقل تأثير الفن الاسلامي إلى إيطاليا، فتأثر به فنانو مدرسة توسكانيا، في فيرنتسه وبيزا وسينا ولوكا، ومنذ القرن الثاني عشر ونحن نجد في إيطاليا، خصوصاً في أقليم توسكانيا، صحائف النحاس المشغولة في الموصل، وصناديق العاج العربية، والسجاجيد العجمية والتركستانية، والأقمشة المخططة المصنوعة في الشام، والمخطوطات المزينة بالمصغرات، والنحاس الدمشقي، والزجاج والأواني الدمشقية. وانتشرت الأقمشة الإسلامية انتشاراً هائلاً في إيطاليا ومن ثم انتقلت إلى فرنسا. كذلك نرى النماذج الإسلامية للخزف تؤثر في الخزف التوسكاني منذ القرن الثالث عشر، والأقمشة الفاخرة والحريرية والديباج بل والملابس العادية تظهر فيها رسوم مأخوذة عن الرسوم المعمولة عن الأقمشة الإسلامية، بل إن صناديق الزفاف نفسها كانت تزين برسوم إسلامية.
والمسلمون كذلك هم الذين أدخلوا في أوروبا كثيراً من الألعاب المشهورة أولها الشطرنج وأصله من الهند ثم عرفته فارس، والمسلمين هم الذين أدخلوه إلى أوروبا عن طريق إيطاليا وأسبانيا قبل قيام الحروب الصليبية، ولهذا ظلت الكلمات العربية والفارسية مستخدمة في الألفاظ الخاصة بهذه اللعبة، مما يدل على أن أوروبا قد عرفت الشطرنج عن طريق المسلمين _وكذلك عرف المسلمون لعبة البولو، وانتقلت من المسلمين في أسبانيا إلى نورمنديا وبريتانيا في فرنسا وعرفها الإنجليز أثناء حرب المائة عام، ومن ثم نقلوها. وكانت الأصل في لعبة كرة القدم.
ويتصل بهذه الألعاب ألعاب الصيد، وقد مهر فيها المسلمون خصوصاً في الصيد بالبزاة. ومنهم انتقل الصيد إلى بلاط فردريك الثاني في ألمانيا، ودوق دنيفر Duc de Nevers وفيليب الجسور.
وهكذا نرى أن العرب كان لهم أثر بالغ واسع المدى في أوروبا في العصر الوسيط في كل ما يتصل بالصناعة والزراعة والبناء ومظاهر الحياة اليومية.
--------------------------------------------------
المصدر : دور العرب في تكوين الفكر الغربي