مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 شرفات غربية
ردود على إثارات المستشرقين حول غموض بعض المفردات القرآنية
فؤاد كاظم المقدادي


رام فريق من المستشرقين عبر وصف مفردات قرآنية بالغرابة والغموض إلى تكوين دليل على نفي الوحي بالقرآن، وأنّه إما من مخترعات النبي محمد (ص) أو أنّه اقتبسه من الغير.
وتتركز هذه الصياغة للشبهة على مجموعة من الصفات الإلهية والأسماء والمصطلحات الخاصة الواردة في القرآن الكريم، منها ما ادّعاه المستشرق الامريكي ماكدونالد تحت مادة ("الله" ج _ الله في ذاته ولذاته) من دائرة المعارف الاسلامية قائلاً: "وصفة القدّوس وحدها من أسماء الله الحسنى، ولكنها لا ترد إلاّ مع كلمة ملك، ولسنا نعرف على وجه التحقيق المعنى الذي يريده محمد من كلمة قدّوس...".
ويقول أيضاً في المادة نفسها: "ومن اسمائه أيضاً السلام (سورة الحشر، الآية 23). وهذه الصفة لم ترد إلاّ في الآية 23 من سورة الحشر. ومعناها شديد الغموض، ونكاد نقطع بأنها لا تعني "السلم". ويرى المفسّرون أن معناها "السلامة" أي البراءة من النقائص والعيوب، وهو تفسير محتمل، وقد تكون هذه الصفة كلمة بقيت في ذاكرة محمد من العبارات التي تتلى في صلوات النصارى".
ويقول أيضاً: (... أمّا صفاته المعنوية فقد وردت في قلّة يشوبها الغموض، فانه يصعب علينا معرفة ما يقصده محمد من صفات "القدوس" و "السلام" و "النور". وهناك مجال للشك فيما إذا كان محمد قد رأى من المناسب أن يطلق على الله صفة "العدل").
أمّا تحت مادة ("الله" د _ صلة الخالق بخلقه) فيقول: "ومن الواضح أن صفة البارىء قد أخذها محمد من العبرية واستعملت دون أن يُقصد منها معنىً خاص".
وتحت مادة "بَعْل" يقول ماكدونالد: "ولا يزال بين كلمة "بَعْل" التي تدل على إله وبين "بَعِل" معناها دهِش أو فَرِق ومشتقاتها صلة ضئيلة، وليس لهذين الاشتقاقين الآن وجود... ودخلت [بعل] إلى العربية تفسيراً لآية في القرآن، وقد أشار القرآن (سورة الصافات، الآيات 123_132) إلى قصة إلياس وقال على لسانه: (أتدعُونَ بعلاً وتَذَرونَ أحسنَ الخالِقين)، ومن المرجّح أن محمداً قصد بـ (بَعْل) "بَعَل" كما سمعها في قصة من قصص التوراة (سفر الملوك الأول، الاصحاح18).
أمّا المستشرق الدنماركي فيقول تحت مادة "سورة": "أما من أين أتى النبي بهذه الكلمة فأمرٌ لا يزال غير ثابت على الرغم من المحاولات التي بذلت لتتبع أصلها. ويذهب "نولدكه" إلى أن "سورة" هي الكلمة العبرية الحديثة "شورا" ومعناها الترتيب أو السلسلة، ولو قد أمكن تفسيرها بأنها "السطر" لما قادنا ذلك إلى المعنى الأصلي للكلمة...".
إنّ جميع مفردات هذه الشبهة تعود في الحقيقة إلى جهل المستشرقين أو تجاهلهم لمعاني الفاظ عربية وردت في القرآن الكريم، فافترضوا، بعد تشكيل مقدمة باطلة من معانٍ وهمية ادّعوها لتلك الألفاظ، أنها استعيرت من صلوات النصارى مرة أو اُخذت من العبرية مرةً أخرى، أو أنها من الاسماء الجاهلية ثالثة، أو استقيت من قصص التوراة رابعة، أو أنها ألفاظ شديدة الغموض، أو لا معنى لها خامسة، وهكذا... ويبقى الهدف الحقيقي وراء هذه التمحّلات هو إنكار الوحي الإلهي للرسول محمد(ص).
ويمكن الرد على ماسقناه من إشكاليات بالترتيب الآتي:
1_ قدوس: على وزن فُعُّول من القُدْس. وفي التهذيب: القُدْسُ تنزيه الله تعالى، والقدّوس: من أسماء الله تعالى قال الأزهري: القدّوس هو الطاهر المنزّه عن العيوب والنقائص، وقال ابن الكلبي: القدّوس الطاهر، وحكى ابن الاعرابي: والمقدّس المبارك.
ويقال أرض مقدّسة أي مباركة، وهو قول العجاج:
قد عَلِمَ القُدُّوس مولى القُدْس أنَّ أبا العباس أولى نفسِ
بِمَعدن الملك القديم الكرسي
يعني بالقدّوس هنا الله سبحانه وتعالى وبالقُدْس الأرض المباركة.
وقد طابق قول المفسرين المعنى اللغوي في تفسير كلمة "قدّوس"، فذكر الطباطبائي في تفسير الميزان أن القدوس مبالغة في القدس وهو النزاهة والطهارة.
وقال الطوسي في تفسير التبيان: "القدوس" معناه المطهر فتطهر صفاته عن ان يدخل فيها صفة نقص.
فكيف يدّعي "ماكدونالد" بعد هذا عدم معرفة المعنى المراد من هذه الكلمة في القرآن الكريم؟!
2_ السَّلام: ورد في معنى السَّلام والسلامة: البراءة. وتسلّمَ منه: تبرأ. وقال ابن الاعرابي: السلامة العافية. والتسليم: مشتق من السلام اسم الله تعالى لسلامته من العيب والنقص. والسلامُ: البراءة من العيوب في قول اُمية:
سَلامك رَبَّنا في كل فجرٍ بريئاً ما تعنّتكَ الذُّمُـوم
والذُّموم: العيوب، أي ما تَلزقُ بك ولا تُنسب اليك.
وهنا أيضاً جاء قول المفسرين مطابقاً للمعنى اللغوي من أن السلام هو الذي يسلم عباده من ظلمه، وأن السلام من يلاقيك بالسلامة والعافية من غير شرٍّ وضرّ.
فأين شدة الغموض الذي يدّعيه "ماكدونالد" في المعنى الواضح لهذه الكلمة القرآنية؟!
3_ النور: جاء في قواميس اللغة أن من أسماء الله تعالى النور؛ قال ابن الاثير: هو الذي يُبصر بنوره ذو العماية ويَرْشدُ بهداه ذو الغَوايةِ، وقيل: هو الظاهر الذي به كل ظهور، والظاهر في نفسه المظهِر لغيره يسمى نوراً. قال أبو منصور: والنور من صفات الله عز وجل، قال عز وجل: (الله نور السماوات والأرض). وقد ورد في تفسير هذه الآية الكريمة: ان النور معروف وهو ظاهر مكشوف لنا بنفس ذاته فهو الظاهر بذاته المظهر لغيره من المحسوسات للبصر، هذا أوّل ما وضع عليه لفظ النور ثم عُمّم لكل ما ينكشف به شيء من المحسوسات على نحو الاستعارة أو الحقيقة الثانية، فعُدَّ كل من الحواس نوراً أو ذا نور يظهر به محسوساته كالسمع والشم والذوق واللمس. ثم عمم لغير المحسوس فعدّ العقل نوراً يظهر به المعقولات كل ذلك بتحليل معنى النور المبصر إلى الظاهر بذاته المظهر لغيره... فقد تحصّل ان المراد بالنور في الآية الكريمة الذي يستنير به كل شيء وهو مساوٍ لوجود كلّ شيء وظهوره في نفسه ولغيره وهي الرحمة العامة.
بعد هذا البيان كيف يصح إدعاء "ماكدونالد" صعوبة معرفة المقصود من وصف الله تعالى بالنور؟!
4_ العدل: ما قام في النفوس أنه مستقيم، وهو ضد الجور. وفي اسماء الله سبحانه: العَدْل، هو الذي لا يميلُ به الهوى فيجور في الحكم، وهو في الأصل مصدر سُمِّي به فوضِعَ موضع العادل، وهو أبلغ منه لأنه جُعِلَ المُسمّى نفسه عدلاً.
وكلمة العدل وان لم ترد كصفة أو اسم من اسماء الله سبحانه في القرآن الكريم إلاّ انها جاءت كذلك في حديث الرسول (ص).
5_ البارىء: من برأ، وهي من أسماء الله عز وجلّ، والله البارىء: الذي خَلَقَ لا عن مثال. وبهذا المعنى جاءت في الآية الكريمة: (هو الله الخالق البارىء المصوّر) أي المحدث المُنشىء للاشياء ممتازاً بعضها عن بعض.
فكلمة البارىء لفظ عربي أصيل استعمل في المعنى الخاص الذي أشرنا إليه خلافاً لما ادّعاه "ماكدونالد" من أنها استقيت من العبرية ولم يقصد من استعمالها معنىً خاصاً.
6_ بَعْل: يقال للرجل، هو بَعْلُ المرأة، ويقال للمرأة، هي بَعْلُه وبَعْلتُه. وباعلت المرأةُ: اتخذت بعلاً، وباعل القوم قوماً آخرين مُباعلة وبِعالاً: تزوّج بعضهم إلى بعض، والانثى بَعْل وبَعْلة مثل زوج وزوجة؛ قال الراجز:
شَرُّ قرينٍ للكبير بَعلتُـه تُولغ كلباً سُؤرَه أو تكْفِتُه
وبَعَل يَبعَل بُعولة وهو بَعْل: صار بَعْلاً وقال: يا رُبَّ بَعْل ساء ما كان بَعَل.
وبَعْلُ الشيء: رَبُّه ومالكه. وفي حديث الايمان: وأن تَلِدَ الأمة بَعْلَها؛ المراد بالبعل ههنا المالك يعني كثرة السبي والتسرّي، فإذا استولد المسلم جارية كان ولدها بمنزلة ربها.
وبَعْلٌ والبَعْل جميعاً: صَنَم: سمي بذلك لعبادتهم إياه كأنه ربهم. وقوله عز وجل: (أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين) يقال: أنا بَعْلُ هذا الشيء، أي رَبُّه ومالكه، كأنه يقول: أتدعون ربّاً سوى الله؟ وروي عن ابن عباس: أن ضالّة انشدت فجاء صاحبها فقال: أنا بعلُها، يريد ربها، فقال ابن عباس: هو من قوله أتدعون بعلاً أي رَبّاً. وورد أن ابن عباس مرَّ برجلين يختصمان في ناقة واحدهما يقول: أنا والله بعلُها، أي مالكها وربّها. وقولهم: مَنْ بعلُ هذه الناقة؟ أي مَنْ رَبُّها وصاحبها.
وجاء في كتب التفسير ما يطابق المعاني اللغوية التي ذكرناها، منها في تفسير الآية (أتدعون بَعْلاً...)، قال الحسن والضحّاك وابن زيد: المراد بالبعل _ههنا _ صنم كانوا يعبدونه، والبعل في لغة أهل اليمن هو الرب، يقولون: مَنْ بَعْل هذا الثوب أي مَنْ ربّه _وهو قول عكرمة ومجاهد وقتادة والسدي _ ويقولون: هو بعل هذه الدابة أي ربها.
وعليه فكيف يدّعي "ماكدونالد" أن هذه الكلمة دخلت الى العربية تفسيراً لآية في القرآن الكريم؟
7_ سورة. السورة: المَنزِلة، والجمع سُورٌ، والسُّورةُ من البناء: ما حَسُنَ وطال. قال الجوهري: والسُّورُ جمع سُورة مثل بُسرَة وبُسرٍ، وهي كل منزلة من البناء؛ ومنه سُورة القرآن لأنها منزلةٌ بعد منزلة مقطوعة عن الاخرى، والجمع سُورٌ بفتح الواو قال الراعي:
هُنَّ الحرائرُ لا رَبّاتُ أَخْمِرةٍ سُودُ المحاجِرِ لا يقرأنَ بالسُّورِ
وقال ابن سيده: سميت السُّورَةُ من القرآن سُورةً لأنها درجة إلى غيرها، وروى الأزهري بسنده عن أبي الهيثم قال: أمّا سورة القرآن فان الله جلَّ ثناؤه جعلها سُوراً مثل غُرفَةٍ وغُرَفٍ ورُتبةٍ ورُتَبٍ وزُلفةٍ وزُلفٍ.
بعد هذا البيان للمعنى اللغوي الأصل لكلمة "سورة" في اللغة العربية واستعمالها بهذا المعنى في القرآن الكريم، كيف يصح أن يوجه "بول" استفهامه عن مصدر هذه الكلمة وأصالتها؟ وكيف يدّعي "نولدكه" انها عبارة عن الكلمة العبرية الحديثة "شورا"؟!
-----------------------------
المصدر : "الاسلام وشبهات المستشرقين"
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة