المسلمون في الغرب
ماذا حلَّ بالتراث العلمي في الأندلس بعد اندحار مسلميها؟
عبد الجبار الرفاعي
ازدهرت حركة التأليف، ونسخ الكتب، وصناعة الكتاب، في الأندلس ازدهاراً عظيماً، فوصل عدد المكتبات، زهاء سبعين مكتبة، قدّر البعض موجودات واحدة منها بستمائة ألف مجلد.
وقد تعرض جزء كبير من التراث لعملية إبادة بربرية، بعد سقوط غرناطة عام 1492م، حيث أمر الكاردينال خمنيس، بجمع كل ما يستطاع جمعه من الكتب العربية، من أهالي غرناطة وأرباضها، ونُظمت أكداساً هائلة في ميدان باب الرملة، أعظم ساحات المدينة، وفيها كثير من المصاحف البديعة الزخرف، وآلاف من كتب الآداب والعلوم، وأضرمت فيها النار جميعاً، ولم يُستثن منها سوى ثلاثمائة من كتب الطب والعلوم، حُمِلت إلى الجامعة التي أنشأها في "قلعة هنارس"، وذهب ضحية هذا الإجراء الهمجي عشرات الألوف من الكتب العربية، هي خلاصة ما تبقى من التفكير الإسلامي في الأندلس(1).
وفي النصف الأول من القرن السادس عشر، جُمعت مقادير عظيمة أخرى، من التراث الأندلسي، من غرناطة ومن مختلف القواعد الأندلسية القديمة، ولاسيما بلنسية ومرسية، حيث كانت لدى الموريسكيين منه مجموعات كبيرة، ثم وضعت في المكتبة الملكية في الاسكوريال أيام الملك فيليب الثاني.
وقد ضوعفت المجموعة العربية في الاسكوريال عام 1612م، بعد أن ضُم إليها نحو ثلاثة آلاف سفر من كتب الفلسفة والأدب والدين، من محتويات المكتبة الزيدانية "مكتبة مولاي زيدان الحسني" عندما كانت مشحونة في سفينة برفقة مولاي زيدان الحسني الذي اضطر تحت ضغوط خصومه أن يغادر مراكش، فاستلبها أسطول أسباني بقيادة دون بيدرودي لاارا، وحُملت غنيمة إلى قصر الاسكوريال، وبذلك بلغت المجموعة العربية في الاسكوريال في أوائل القرن السابع عشر، نحو آلاف مجلد، ولبثت هذه الآلاف العشرة من المخطوطات الأندلسية والمغربية، في قصر الاسكوريال زهاء نصف قرن، وكانت أغنى وأنفس مجموعة من نوعها في أسبانيا، وفي أوروبا كلها، ولكن محنة جديدة أصابت هذه البقية الباقية من تراث الأندلس الفكري، ففي سنة 1671م شبت النار في قصر الاسكوريال، والتهمت معظم هذا الكنز الفريد، ولم ينقذ منه سوى زهاء ألفين، هي التي تثوي اليوم في أقبية الاسكوريال(2).
***
هذه لمحة مقتضبة تعرفنا فيها على طبيعة الروح العدوانية الصليبية التي أجهزت على مسلمي الأندلس وتراثهم، كجزاء لما أتحف به أولئك الفاتحون العالم الغربي من علوم ومعارف، ولما تمتعوا به من رأفة ورحمة وعدل إزاء أهل البلاد الأصليين كما شهد بذلك المستشرق استانلي لين بول، قائلاً:
(لم تنعم الأندلس طول تاريخها بحكم رحيم عادل كما نعمت به في أيام الفاتحين العرب)، وقد أوضح المؤرخ ديورانت هذه الحقيقة بقوله:
(وعامل الفاتحون على أهل البلاد معاملة لينة طيبة، لم يصادروا إلا أراضي الذين قاوموهم بالقوة، ولم يفرضوا على الأهالي من الضرائب أكثر مما كان يفرضها عليهم ملوك القوط الغربيون، وأطلقوا لهم من الحرية الدينية ما لم تتمتع به أسبانيا إلاّ في أوقات قليلة نادرة... وفي وسعنا أن نحكم على ما كان للدين الإسلامي من جاذبية للمسيحيين، من رسالة كتبت عام 1311م، تقدِّر عدد سكان غرناطة المسلمين في ذلك الوقت بمائتي ألف، كلهم ما عدا 500 منهم من أبناء المسيحيين الذين اعتنقوا الإسلام، وكثيراً ما كان المسيحيون يفضلون حكم المسلمين على حكم المسيحيين)(3).
وبلغ التسامح الديني الذي أشاعه المسلمون إلى حدٍ، جعل بعض النصارى المتعصبين، يستهترون في انتهاك مقدسات المسلمين، فألفوا عصابة بزعامة يولجيوس، كان هدفها سب النبي (ص) علناً(4).
الهوامش
ــــــــ
(1) عنان، محمد عبد الله، "أندلسيات"، ص 168-169.
(2) ن.م، ص 169-170.
(3) ديورانت. "قصة الحضارة". 13: 282،297.
(4) ن.م، ص 229-300.
------------------------
المصدر : "متابعات ثقافية"