مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 شرفات غربية
الإسلام وأوروبا: الجاران الغريبان
بقلم الباحث السويسري: إريك جيسلينج
مقدمة المترجم: ثابت عيد


يعتبر إريك جيسلينج وأرنولد هوتينجر كبيري خبراء سويسرا المتخصصين في شئون الشرق الأوسط. ويتمتع جيسلينج بشعبية جارفة بين أفراد الشعب السويسري. وعندما تلتقي به في وسط مدينة زيورخ يخيل إليك أحياناً أنه ليس باحثاً أكاديمياً، ولكن أحد نجوم هوليورد العظام، حيث تتبعه العيون بنظرات الإعجاب والتقدير، ويتجرأ البعض، فيطلب منه أوتوجرافاً. ومن حسن حظ العرب والمسلمين أن هذه الشخصية السويسرية المحترمة والمحبوبة من الشعب السويسري، هي في نفس الوقت شخصية منصفة للعرب، وللحضارة الإسلامية، والمنصفون اليوم قليل. فجيسلينج يسعى دائماً إلى تصحيح الصورة المشوهة للعرب والإسلام في عقول الغربيين، ولكن ماذا عساه أن يفعل وحده؟ فالتيار الغالب في سويسرا على وسائل الإعلام هو تيار متأثر بمدرسة الصحفيين الألمانيين: كونسلمان وشولاتور، وهما صحفيان يتقنان اللغة الألمانية جيداً، ولكنهما يجهلان تاريخ الإسلام، وبالتالي فقد ساهما جيداً، ولكنهما يجهلان تاريخ الإسلام، وبالتالي فقد ساهما مساهمة فعالة في تشويه صورة العرب والمسلمين في أوروبا الألمانية، ونحمد الله أن مجموعة من الباحثين المجتهدين في جامعة هامبورج بألمانيا قد تصدت لجهالات هذين الصحفيين، وقامت بفضحمها في كتابين يعتبران من أهم الكتب التي صدرت في هذا القرن في حقل الاستشراق. فهؤلاء الباحثون المستشرقون قاموا هنا بدور عظيم في الدفاع عن الإسلام والعرب؛ وهذا يعني أننا الآن أمام ظاهرة تكاد أن تكون جديدة، فالاستشراق هنا لا يشوه، بل يصحح التشويه، وهو لا يطعن في الإسلام، بل يتصدى للطاعنين فيه، ويفضحهم.
أما الكتاب الأول, فعنوانه: (Al_ lahs Plagiator) ومؤلفه هو المستشرق الألماني الشهير (Cernot Rotter)، والكتاب الثاني عنوانه: (Das Schwert des Experten) وشارك في تأليفه مجموعة من الباحثين الألمان، مثل روتر نفسه، والمستشرق الألماني هاينتس هالم (Heinz Halm)، ومعهم الباحث السويسري _ السالف الذكر _ أرنولد هوتينجر. وعنوانا الكتابين يعكسان قمة السخرية والتهكم من هذين الصحفيين الألمانيين، فالعنوان الأول معناه: "المفتري على الله", والمقصود هنا الأكاذيب التي روجها كونسلمان سنوات طويلة باسم الإسلام، أما العنوان الثاني فمعناه: "سيف الخبير"، ولفظ سيف هنا يشير إلى سلسلة الأفلام التي أنتجها شولاتور للتليفزيون الألماني بهدف تشويه الإسلام، وكان عنوانها "سيف الإسلام"، والمقصود من لفظ "الخبير" هنا هو التهكم على شولاتور الذي يدعى أنه خبير في شئون الشرق الأوسط، والأصح أنه خبير في التشويه. ونعود للباحث السويسري _ إريك جيسلينج _ ونقول أنه يحاول دائماً تصحيح الصورة المشوهة للإسلام والعرب في الغرب، ولكن هذا العمل الشريف لا يجد من يقدره من بين العرب، سواء المقيمين منهم هنا في سويسرا، أو في العالم العربي، ربما لانشغال معظمهم بمسرحيات عادل إمام!! وكأن هذا الأمر لا يعنيهم من قريب أو بعيد، وهذا موقف مؤسف، نأمل أن يتغير قريباً.
ينتمي جيسلينج إلى طبقة المثقفين المعتدلين من العقلانيين في الغرب، وهي طبقة تؤمن بقيم التسامح، والتعايش السلمي بين الشعوب، واحترام قيم وعادات الحضارات الأخرى، ونبذ الطعن، والتشويه، والعنف، وإقامة علاقات تعاون بين دول العالم يحكمها الاحترام المتبادل، والاعتراف بوجود حضارات مختلفة، وقيم متباينة. وقد نشر جيسلينج حتى الآن ثلاثة كتب عن الشرق الأوسط، كان آخرها كتابه الذي ألفه مع هوتينجر بعنوان: (بؤرة الصراعات: الشرق الأوسط). ويترأس جيسلينج المنظمة العالمية Intermag التي تضم 42 محطة إرسال تليفزيوني من أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا.
يقول جيسلينج في أحد بحوثه:
الحضارة الإسلامية والحضارة الأوروبية الغربية هما في الواقع جارتان: فلا يفصل المغرب عن طريقة (Tarifa) على الساحل الجنوبي لأسبانيا، إلا عدة كيلومترات؛ وتستغرق الرحلة بالطائرة من مرسيليا إلى الجزائر ساعة واحدة؛ والرحلة من زيورخ أو جنيف إلى تونس تحتاج إلى ساعتين فقط؛ وبالنسبة لباريس، فموسكو أكثر بعداً عنها من طرابلس؛ والقاهرة أقرب إلى روما من ستوكهولم، أو بيترسبورج مثلاً.
وبالإضافة إلى الجوار الجغرافي، فهناك العلاقات التاريخية؛ فاملسيحية والإسلام أصلهما واحد، ولا يفصل نشأة الإسلام عن نشأة المسيحية إلا قرون قليلة، وتعود جذور الديانتين معاً إلى المنطقة التي يسميها الغرب"الشرق". والإسلام والمسيحية يقران بوحدانية الله تعالى، حتى وإن اعتبر ذلك مشكوكاً فيه من وجهة النظر الإسلامية المتشددة، لأن الفكرة المحضة للتوحيد قد تغيرت في المسيحية، في الاجتماع الكنسي الذي عقد في مدينة خلقيدونية سنة 451م، وذلك بتوسيع لفظ الألوهية.
وأخيراً فقد صار للإسلام في أوروبا تاريخ وجذور (وذلك كنتيجة للتوسع التركي في البلقان), والثقافة الإسلامية هي مصدر القيم السائدة والمؤثرة في أقلية مسلمة تتزايد بصورة مستمرة، سواء أكان ذلك يتعلق بمسلمي شمال أفريقيا المقيمين في فرنسا، أو بباكستانيين في بريطانيا، أو بأتراك في ألمانيا أو سويسرا.
كل ذلك قد يغرينا بأن نقول: ينبغي أن يكون هناك علاقة حسن جوار بين حضارة أوروبا الغربية القائمة على التقاليد المسيحية، والعالم الإسلامي؛ والمواطنون في كلا العالمين يجب أن يعرف بعضهم بعضاً معرفة جيدة. ولكن عكس ذلك هو الصحيح: فمواطنو أوروبا الغربية يشعرون أن المسلمين غرباء بالنسبة لهم، كما يشعر المسلمون أن الأوروبيين الغربيين غرباء عنهم؛ وقد أظهرت السنوات الماضية أن الطرفين قد ازدادا تباعداً عن التوصل إلى تفاهم متبادل بينهما. وقد كان هذا التفاهم المتبادل دائماً محدوداً جداً، ومقتصراً على الشكليات والمظاهر.
لماذا هذا الوضع إذن؟
من وجهة نظر الأوروبيين الغربيين، هناك عوامل كثيرة تلعب دورها في ذلك: من ذلك أن هجرة مواطنين من دول غير أوروبية إلى أوروبا قد أصبح مشكلة للكثير من الأوروبيين. صحيح أنه من قبيل المصادفة أن جزءاً كبيراً نسبياً من المهاجرين قد جاء من دول يمثل الإسلام فيها العنصر الثقافي السائد (شمال أفريقيا، جنوب البلقان، تركيا، الشرق الأوسط)؛ ولكن المهاجرين من هذه المناطق يشكلون تحدياً كبيراً لطبقات عريضة في أوروبا. فالأوروبيون يعتقدون أن المهاجرين المسلمين لا يريدون الاحتفاظ بثقافتهم ودينهم فحسب، بل يتطلعون أيضاً لنشر الإسلام في أوروبا، وهذا رأي يناقض الحقائق التاريخية، ولكنه على الرغم من ذلك واسع الانتشار. وهناك فضلاً عن ذلك وجهة نظر شائعة نسبياً، تقول إن المسلمين قد جاءوا إلى غرب أوروبا بهدف إدخال المسيحيين في الإسلام. (انظر مثلاً: Jaeggi, Muslime unter uns, Luzern 1991 C.P. Baumann und C.).
كذلك، فأخبار الاعتداءات والاغتيالات في دول مثل الجزائر ومصر، تؤدي إلى نشر المخاوف في غرب أوروبا من أن التيارات المتطرفة في الإسلام تكسب كل يوم أرضاً جديدة. وإذا أجرينا اليوم استطلاعاً للرأي في أوروبا عن هذا الموضوع، لحصلنا على الأرجح على إجابة من الغالبية العظمى للأوروبيين تقول إن الإسلام يتساوى عندهم مع التطرف. ولا يوجد إلا أقلية صغيرة فقط هي التي تدرك أن مساواة الإسلام بالعنف والتطرف ليست صحيحة.
إنني ألقي محاضرات بصورة مستمرة، في مدن سويسرية كبيرة وصغيرة، عن كتبي التي أعالج فيها الأوضاع السياسية في الشرق الأوسط؛ كما أنني أحاضر في جامعات مختلفة عن موضوع التفاهم بين العالم الإسلامي وأوروبا، ويواجهني _ بصفة مستمرة _ وعلى جميع المستويات الثقافية، السؤال التالي: ألا يجب علينا _ نحن الأوروبيين _ أن ندافع عن أنفسنا أمام هذا الإسلام العنيف؟ فثمة خوف موجود بالفعل، ولا شك أن سوء الفهم قد أدى إلى تزايد هذا الخوف. والواقع أن هذا الخوف ليس له ما يبرره، وهو لا يمنت إلى الحقيقة بصلة، ولكنه موجود ومنتشر, وأعتقد أنه يساهم في تشكيل الوعي العام للأوروبيين بصورة مخيفة.
غير أن بعض السياسيين في العالم العربي يشارك أحياناً في تقوية حالات سوء الفهم هذه. فهنا، في غرب أوروبا، يتذكر كثير من الناس إعلان صدام حسين "الحرب المقدسة" (هكذا يحرف الأوروبيون لفظ "الجهاد" وترجمونه خطأ)، في أثناء أزمة الخليج، في أوائل عام 1991، واخيراً ضرورة الدفاع عن الحضارة الإسلامية ضد الحضارة الغربية. وتعود الآراء المنتشرة عن الحضالرة الإسلامية في أوروبا إلى هذا اللفظ بالذات: "الجهاد" فصدام حسين بدا للأوروبيين الغربيين كمدافع عن الإسلام، وفي نفس الوقت كديكتاتور.
وعند مواجهة جمهور أوروبي، يصعب حقاً (وأقول هذا عن خبرة عملية) توضيح الحقائق التاريخية المعاصرة: إن سياسيين مثل صدام حسين يستخدمون مصطلحات دينية، لتبرير أهداف سياسية؛ وإن التفاعل بين غرب أوروبا المسيحي، والشرق الأوسط الإسلامي، قائم على اعتداء الغرب على الشرق الأوسط، اكثر من العكس؛ وإن الاستعمار الأوروبي قد ترك جروحاً في العالم العربي في هذا القرن، لم تلتئم بعد؛ وإن القومية العربية والسلفية الإسلامية، هما في جوهرهما استراتيجيتان دفاعيتان، هما رد فعل على تحكم الغرب في العالمين العربي والإسلامي (اقتصادياً/ وعسكرياً، وسياسياً)؛ وإنه يمكن إثبات أن سلوك الغرب تجاه غرب أوروبا؛ وإن القوة والعنف قد ارتبطا أساساً بالغرب، وليس بالشرق.
وأخيراً، يتبقى السؤال عما يمكن أن يقوم به الطرفان للقضاء على التوترات والحالات الكثيرة لسوء الفهم. أعتقد أن المعلومات الصحيحة والتنوير يأتيان هنا في المقام الأول، وأعني بذلك: لا ينبغي أن نتصرف هنا في غرب أوروبا، ولا في العالم العربي ذي الثقافة الإسلامية، وكأنه لا توجد خلافات بيننا، وكأننا متفقون في الواقع على كل شيء، لا، فثمة قيم مختلفة، ينبغي علينا أن نحاول توضيحها، وذلك بهدف تكوين احترام متبادل لكل ما يربطنا، ولكن أيضاً لكل ما يفرقنا؛ وإيقاظ الاهتمام المتبادل بالآخر المختلف؛ والتفريق بين الأحكام المبتذلة السطحية، وما يكمن خلفها من حقائق.
----------------------------
المصدر : عن كتاب "الإسلام في عيون غربية"
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة