شرفات غربية
"توماس كارلايل يكتب عن بطولة نبي الإسلام"
نبذة عن حياة صاحب نظرية الأبطال
توماس كارلايل فيلسوف ومؤرخ غني عن التعريف. فهو من أشهر الكتّاب الذين تمّيزوا بنظريات خاصة، إذ عرف بتفسيره التاريخ والانبعاثات الحضارية على أساس جهود الأبطال، فهو يؤكد أن تقدّم الأمم انعكاس وتطور للهمّة العالية لدى بطل يظهر في تلك الأمة.
كما عرف عن كارلايل موقفه الإيجابي المنصف عن الدين الإسلامي والنبي محمد (ص) الذي يعده من أبرز الأبطال في التاريخ ويخصص له ثاني فصول كتابه الذائع الصيت "الأبطال".
ولد هذا المفكر المتعمق في قرية اكلفكان أناندال بجنوب اسكتلندا عام 1795، وعاش ستة وثمانين عاماً قضاها في وضع التآليف القيّمة بين فلسفة وتاريخ وترجمة ومواعظ وحكمة. وأشهر مؤلفاته كتاب "الأبطال" أو "في الأبطال وتقديس البطل وعنصر البطولة في التاريخ "الذي وضعه سنة 1841 وكتاب "الثورة الفرنسية" 1837 وكتاب "الماضي والحاضر" وكتاب "سارتور رزارتوس" أو "فلسفة الملابس" و"سيرة كرومويل" و"تاريخ فريدريك ملك بروسيا".
يصنف كارلايل الأبطال في كتابه إلى صور مختلفة يظهرون بها وحييون بها أممهم فمنهم البطل في صورة إله ومثاله المسيح، والبطل في صورة نبي ونموذجه الرسول محمد (ص) وهنالك الأبطال في صورة شعراء كشكسبير ودانتي.
* إعجابه ورأيه بالنبي محمد (ص)
إبنهر كارلايل أشد الانبهار بشخصيته نبي الإسلام واعتبره مثالاً متكاملاً لعلو الهمة والطبع الإنساني الرؤوف وتجسيداً لكل الفضائل الأخلاقية. ودافع عند دفاع عارف بدقائق التاريخ منتقداً بشدة المفترين الغربيين الذين لم يألوا جهداً في تسقيط هذا الصرح المنيف ووصمه بما يعاكس الواقع تماماً.
يقول في فصل "البطل في صورة رسول": "لقد أصبح من اكبر العار على أي فرد متمدين من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى ما يُظن من أن دين الإسلام كذب وان محمداً خدّاع مزوّر. وآن لنا أن نحارب ما يُشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة، فأن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا".
* ردوده ضد المفترين على النبي
ويحمل ببسالة على متهمي النبي (ص) بالكذب فيقول: "أسفاه ما أسوأ مثل هذا الزعم وما أضعف أهله وأحقهم بالرثاء والمرحمة. فعلى من أراد أن يبلغ منزلةً ما في علوم الكائنات أن لا يصدق شيئاً البته من أقوال أولئك السفهاء. فإنها نتائج جيل كفر وعصر جحود وإلحاد، وهي دليل على خشب القلوب وفساد الضمائر وموت الأرواح في حياة الأبدان ولعل العالم لم يرقط رأياً أكفر من هذا وألأم، وهل رأيتم قط معشر الأخوان أن رجلاً كاذباً يستطيع أن يوجد ديناً عجباً. والله إن الرجل الكاذب لا يقدر أن يبني بيتاً من الطوب".
ويؤكد دفاعه في موضع آخر: "وعلى هذا فلسنا نعد محمداً هذا قط رجلاً كاذباً متصنعاً يتذرع بالحيل والوسائل إلى بغية أو يطمح إلى درجة ملك أو سلطان أو غير ذلك من الحقائر والصغائر. وما الرسالة التي أداها إلاّ حق صراحاً وما كلمته إلاّ صوت صادر من العالم المجهول. كلاّ ما محمد بالكاذب ولا الملفق وإنما هو قطعة من الحياة قد تفطر عنها قلب الطبيعة فإذا هي شهاب قد أضاء العالم أجمع. ذلك أمر الله وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وهذه حقيقة تدفع كل باطل وتدحض حجة القوم الكافرين".
* جوانب من حياة الرسول
ويستعرض في كتابه مراحل حياته الرسول الأكرم، وبعد جملة ما يسجله: "ولوحظ عليه منذ فتائه أنه كان شاباً مفكراً وقد سماه رفاقه الأمين ـ رجل الصدق والوفاء ـ الصدق في أفعاله وأقواله وأفكاره وقد لاحظوا أن ما من كلمة تخرج من فيه إلاّ وفيها حكمة بليغة و أني لا أعرف عنه أنه كان كثير الصمت يسكت حيث لا موجب للكلام فإذا نطق فما شئت من لب وفضل وإخلاص وحكمة لا يتناول غرضاً فيتركه إلاّ وقد أنار شبهته وكشف ظلمته وأبان حجته واستثار دفينته، وهكذا يكون الكلام وإلاّ فلا. وقد رأيناه طول حياته رجلاً راسخ المبدأ صارم العزم بعيد الهم كريماً براً رؤوفاً تقياً فاضلاً حراً، رجلاً شديد الجد مخلصاً، وهو مع ذلك سهل الجانب ليّن العريكة جم البِشر والطلاقة حميد العشرة حلو الإيناس، بل ربما مازج وداعب وكان على العموم يضئ وجهه ابتسامة مشرقة من فؤاد صادق".
ويستدل على صدق هذا الرسول الكريم وأصالة دعوته بمختلف الأدلة والأساليب، ومن ذلك قوله: "ومما يبطل دعوى القائلين أن محمداً لم يكن صادقاً في رسالته، بل كان ملفقاً مزوراً، إنه قضى عنفوان شبابه وحرارة صباه في تلك العيشة الهادئة المطمئنة لم يحاول أثناءها إحداث ضجة ولا دوياً مما يكون وراءه ذكر وشهرة وجاه وسلطة. ولمّا يك إلاّ بعد الأربعين أن تحدث برسالة سماوية".
ويستطرد المؤرخ الكبير في استعراض مشاهد حياة الرسول الحافلة بالكفاح والضنى والدعوة إلى الحق، ويشير إلى اجتماع عشيرته في بيته ومصارحتهم إياهم بالرسالة التي بُعث بها ودعوتهم إلى تصديق والإيمان به والدخول في الدين الجديد وعدم استجابتهم له إلاّ ربيبه الأثير علي بن أبي طالب: "وبينما القوم صامتون حيرةً ودهشةً وثب عليٌّ وكان غلاماً في السادسة عشرة، وكان قد غاظه سكوت الجماعة، فصاح في أحدِّ لهجة أنه ذاك النصير والظهير. ولا يحتمل أن القوم كانوا منابذين محمداً ومعاوية وكلهم قرابته وفيهم أبو طالب عم محمد ووالد علي، ولكن رؤية رجل كهل أمي يعينه غلام في السادسة عشر يقومان في وجه العالم بأسره كانت فما يدعو إلى العجب المضحك، فانفضَّ القوم ضاحكين، ولكن الأمر لم يك بالمضحك بل كان نهاية في الجد والخطر".
* إشادته بالإمام علي (ع)
ويعرّج كارلايل إلى شيء من سيرة علي بن أبي طالب (ع) وخصاله فيقول مشيداً بهذا البطل الإسلامي الفذ: "أما عليّ فلا يسعنا إلاّ أن نحبه ونتعشقه فإنه فتىً شريف القدر كبير النفس يفيض وجدانه رحمة وبراً ويتلظّى فؤاده نجدة وحماسة، وكان أشجع من ليث، ولكنها شجاعة مخروجة برقة ولطف ورأفة وحنان جدير بها فرسان الصليب في القرون الوسطى. وقد قُتِلَ بالكوفة غيلة، وإنما جنى ذلك على نفسه بشدة عدله حتى حسب كل إنسان عادلاً مثله، وقال قبل موته حينما أومر في قاتله: "إن أعيش فالأمر إليَّ وإن متُّ فالأمر لكم فإن آثرتم أن تقتصوا فضربه بضربة وإن تعفوا أقرب إلى التقوى".
* اتهامات أخرى يرد عليها كارلايل
ويواصل منافحته عن دينٍ وجد فيه مجمعاً للقيم الخيّرة، ورأى تحاملاً شرساً عليه من الغربيين بكل ما يجافي الواقع والموضوعية، فكتب: "قيل وكتب كثيراً في شهوانية الدين الإسلامي وأرى أن كل ما قيل وكتب جوراً وظلماً فإن الذي أباحه محمد مما تحرمه المسيحية لم يكن من تلقاء نفسه وإنما كان جارياً متبعاً لدى العرب من قديم الأزل، وقد قلل محمد هذه الأشياء جهده وجعل عليها من الحدود ما كان في إمكانه أن يجعل الدين المحمدي بع ذلك ليس بالسهل ولا بالهيّن وكيف ومعه كل ما تعلمون من الصوم والوضوء والقواعد الصعبة الشديدة وإقامة الصلاة خمساً في اليوم والحرمان من الخمر وليس كما يزعمون كان نجاح الإسلام وقبول الناس إياه لسهولته لأنه من أفحش الطعن على بني آدم والقدح في أعراضهم أن يتهموا بأن الباعث لهم على محاولة الجلائل وإتيان الجسائم هو طلب الراحة واللذة".
ويتابع قوله: "ما كان محمد أخا شهوات برغم ما أتهم به ظلماً وعدواناً. وشد ما نجور ونخطئ إذا حسبناه رجلاً شهوياً لا همَّ إلاّ قضاء مآربه من الملاذ، كلاّ من أبعد ما كان بينه وبين الملاذ أية كانت لقد كان زاهداً متقشفاً في مسكنه ومأكله ومشربه وسائر أموره وأحواله".
وتتفجر العاطفة من يراعه حيث يكتب: "وإني لأحب محمداً لبراءة طبعه من الرياء والتصنع، ولقد كان ابن القفار هذا رجلاً مستقل الرأي لا يعوّل إلاّ على نفسه ولا يدعي ما ليس فيه، ولم يكن متكبراً ولكنه لم يكن ذليلاً ضرعاً. فهو قائم في ثوبه المرقع كما أوجده الله وكما أراد. يخاطب بقوله الحر المبين قياصرة الروم وأكاسرة العجم يرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة وللحياة الآخرة".
ويعبرّ عن صادق رأيه في جانب من جوانب الدين الإسلامي فيقول: "وفي الإسلام خلّة أراها من أشرف الخلال وأجلّها وهي التسوية بين الناس. وهذا يدل على صدق النظر وأصوب الرأي. فنفس المؤمن راجحة بجميع دول الأرض والناس في الإسلام سواء".
* تحليله النهضة الإسلامية الكبرى حسب نظرية الأبطال
ويختتم كارلايل فصله هذا بنظرة إجمالية للنهضة الإسلامية العالمية التي انطلقت من شبه الجزيرة العربية ونقلت العرب نقلة حضارية هائلة يعزوها حسب نظريته إلى بطل اسمه النبي محمد (ص) لو كان قد ظهر في أي مجتمع آخر لحقق من النجاح ما حققه المجتمع العربي:
"ولقد أخرج الله العرب بالإسلام من الظلمات إلى النور، وأحيل به من العرب أمة هامدة وأرضاها مدة، وهل كانت إلاّ فئة جوّالة الأعراب خاملة فقيرة تجوب الغلاة منذ بدء العالم لا يسمع لها صوت ولا تحس منها حركة فأرسل الله لهم نبياً بكلمة من لدنه ورسالة من قبله فإذا الخمول قد استحال شهرة والغموض نباهة والضعة رفعة والضعف قوة والشرارة حريقاً وسع نوره الأنحاء وعم ضوءه الأرجاء وعقد شعاعه الشمال بالجنوب والمشرق بالمغرب وما هو إلاّ قرن بعد هذا الحادث حتى أصبح لدولة العرب رِجل في الهند وأخرى في الأندلس وأشرقت دولة الإسلام حقباً عديدة ودهوراً مديدة بنور الفضل والنبل والمروءة والبأس والنجدة ورونق الحق والهدى على نصف المعمورة وكذلك الإيمان عظيم وهو مبعث الحياة ومنبع القوة وما زال للأمة رقي في درج الفضل وتعريج إلى ذوي المجد ما دام مذهبها اليقين ومنهاجها الإيمان، ألستم ترون في حالة أولئك الأعراب ومحمد هم وعصرهم كأنما قد وقعت من السماء شرارة على تلك الرمال التي كان لا يبصر بها فضل ولا يرجى فيها خير فإذا هي بارود سريع الانفجار وما هي برمل ميت وإذا هي قد تأججت واشتعلت واتصلت نارها بين غرناطة والهي ولطالما قلتُ أن الرجل العظيم كالشهاب من السماء وسائر الناس في انتظاره كالحطب، فما هو إلاّ أن يسقط حتى يتأججوا ويلتهبوا".
مانشيتات:
** يعتبر كارلايل التهم التي قذف بها الإسلام ونبيه ثمار جيل كافر وعصر يتسم بالجحود والإلحاد، وأنها دليل خبث القلوب وفساد الضمائر وموت الأرواح**
** يشدد مؤلف كتاب الأبطال على أن النبي محمد (ص) كان منذ شبابه مفكراً يتحلّى بأسمى الخصال الحميدة حتى سماه أقرانه الصادق الأمين ويقول "وقد رأيناه طول حياته رجلاً راسخ المبدأ صارم العزم بعيد الهم كريماً براً رؤوفاً تقياً فاضلاً حراً، رجلاً شديد الجد مخلصاً"**
** يستشهد كارلايل على نزاهة الرسول الأكرم (ص) من أدر أن حب الشهرة والظهور بأنه قضى عمره حتى الأربعين لم يصدر عنه أي نشاط سلبي يشي برغبته في الظهور والرأسة وإنما آثر حياة العزلة والهدوء، وحقق بمكارم أخلاقه سمعةً جد محمودة بين من عرفوه**
** يكتب في فصل "البطل في صورة رسول" من كتاب "الأبطال": "في الإسلام خلّة أراها من أشرف الخلال وأجلها وهي التسوية بين الناس. وهذا يدل على صدق النظر وأصوب الرأي. فنفس المؤمن راجحة بجميع دول الأرض والناس في الإسلام سواء**