مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 شرفات غربية
لويس ماسينيون (1883 _ 1963م) النظر من زاوية الاستعمار
فؤاد كاظم المقدادي


من أكبر مستشرقي فرنسا، تسنّم مناصب حسّاسة كان لها الدور الكبير في توجّهاته الاستشراقية، فقد شغل منصب مستشار وزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال إفريقيا. وكذلك الراعي الروحي للجمعيات التبشيرية الفرنسية في مصر، ولعل العمل الذي شغله ماسينيون قد تناسب مع دور فرنسا في تشويه الفكر الإسلامي مقدمّةً وطريقاً لإزالة العقبات عن حركتها الاستعمارية للشرق الإسلامي، ولهذا اشتهرت بأنّها من أبرز دول أوربا الغربية في مجال إعداد جيش من المبشرين والمستشرقين، مدرّبين على أحدث وسائل التنصير والتبشير، انتشروا في إفريقيا ودول الشرق الأوسط.
وهذا هو الذي دفع رئيس المجتمع العلمي العربي بدمشق "محمد كرد علي" للقول: إننا نرى من واجبنا أن يشكّ كل عربي وكلّ مسلم في أكثر ما يصدر من الأحكام عن الفرنسيين بخصوص الإسلام والمسلمين، وذلك لأنه ثبت أن من الفرنسيين من لا ينظرون إلى كل أمر إلاّ بمنظار الاستعمار. ويؤكّد الكاتب الإسلامي "مالك بن نبي" هذه الحقيقة في دور ماسينيون قائلاً: إنّ ماسينيون تفرّغ آخر حياته للتبشير، وقد مدّ وزارة الخارجية الفرنسية بالمعلومات والتوصيات حول البلاد الإسلامية، وتهيئة العملاء والكتّاب. ويساعد على ما ذكرناه الوضع الميداني لماسينيون، فقد زار العالم الإسلامي أكثر من مرة، وخدم بالجيش الفرنسي خمس سنوات في الحرب العالمية الأولى، وكان عضواً بالمجمع اللغوي المصري، وكذلك عضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق، و "تعاون مع النظام الاستعماري الفرنسي في المغرب، وعبّر عن مواقفه الاستعمارية علانية".
أمّا التوجهات العلمية لماسينيون في العلوم الاستشراقية فقد تعلم اللغات العربية والفارسية والتركية والالمانية والانجليزية، وعني بالآثار القديمة، وأدّت مشاركته في التنقيب عنها بالعراق (1907 _ 1908م) إلى اكتشاف قصر الاخيضر. درّس تاريخ الاصطلاحات الفلسفيّة بالعربية في الجامعة المصرية القديمة (1913م) واستهوه التصوّف الإسلامي فكتب عن "مصطلحات الصوفيّة" و "أخبار الحلاّج" ونشر "ديوان الحلاّج" مع ترجمته الى الفرنسية، وكذلك نشر "الطواسين" للحلاج، وكتب عن "ابن سبعين" الصوفي الاندلسي، وعن "سلمان الفارسي" وتظاهر بالدعوة الى فكرة توحيد الديانات الكتابية الثلاث.
نشر "منتخبات من نصوص عربية خاصة بتاريخ الصوفية في الإسلام" وتولّى تحرير "مجلة العالم الإسلامي" الفرنسية التي سميت فيما بعد بـ "مجلة الدراسات الإسلامية" وأصدر بالفرنسية أيضاً "حوليات العالم الإسلامي" من سنة 1923م الى سنة 1954م، وكتب كثيراً في "دائرة المعارف الإسلامية" عن القرامطة والنصيرية والكندي وفلسفة ابن سينا وأمثال ذلك. وكتب كذلك "تاريخ العلم عند العرب" في "دائرة المعارف الممتازة" التي صدرت بباريس (المجلّد الأول سنة 1957م) وممن تأثّر به ماسينيون تأثراً كبيراً المستشرق اليهودي النمساوي "أغناس غولدصيهر" الذي حاول أن يثبت أنّ الحديث النبوي كلّه موضوع في عهود لاحقة لعهد الرسول (ص) وذلك في كتابه "دراسات إسلامية" كما اعتبر الدين الإسلامي نسخة مشوّهة للديانة اليهودية والمسيحية، حيث عبّر عن ذلك بوضوح في قوله: لا يهمّنا من وجهة نظر التاريخ الثقافي أن لا تكون تعاليم محمد ناتجة عن ابداع عبقريته التي جعلته نبياً لدى شعبه، وإنّما المهم أنّه أخذ جميع تعاليمه من اليهودية والمسيحية. وبالتالي فإنّ ماسينيون أخذ كثيراً من تعاليم هذا المستشرق اليهودي، وبدت واضحة على كتاباته وشروحه التي نشرها في أكثر من كتاب، فمثلاً كان ماسينيون يركز على المعارف الفلسفية والصوفية الشاذّة والسيّئة كالتي كتبها في دائرة المعارف الإسلامية تحت مادة (الشطح) كقول البسطامي: (سبحاني، سبحاني، إنّ لوائي أعظم من لواء محمد، طاعتك لي يارب أعظم من طاعتي لك).
إن ماسينيون قد وضع ووظّف جُلّ معارفه الاستشراقية في خدمة الأهداف الاستعمارية وفي مقدّمتها التبشير للنصرانية، ويتّضح هذا في أكثر من دليل، منها زعمه أنّ المسلمين يعتقدون في شأن عيسى بن مريم على ما جاء في القرآن، ومن أجل ذلك يرجو أن توجّه الجهود الى جعلهم يعتقدون بعيسى بن مريم نفسه، ولكن باسمه المسيحي.
ولا شك في أنّ ماسينيون يدرك جيداً أن نظر المسلمين ونظر النصارى الى عيسى بن مريم مختلفان، إلاّ أنّه كان يريد أن يغري المبشّرين لإستثمار أي تشابه يمكن أن يكون مدخلاً للتأثير على المسلمين وتحويلهم الى النصرانية، أو على الأقل القبول ببرامجها التثقيفيّة ومناهجها التعليميّة التي تكون طريقاً لربط المسلمين بالايديولوجية الاستعمارية لأوربا النصرانية. ومما تميّز به ماسينيون هو عدم اكتفائه بطبقة المتعلّمين في التبشير، بل راح يُنظّر لطريقة التبشير في وسط الاُمّيين، ومارس ذلك بنفسه رغم أنه اُستاذ جامعة في باريس ومستشار وزارة المستعمرات الفرنسية، وخلاصة طريقته كانت الاتصال المباشر بالاُميين وطرح الأفكار والمفاهيم المسيحية من خلال الإشارات الكليّة الواردة في القرآن الكريم، أو من خلال مفاهيم الإسلام المرتكزة في الوسط العام للأميين. فمثلاً كان يدعو في إحدى مقالاته أن يعود الاعتقاد الإسلامي في رجوع عيسى بن مريم فيتفق مع الحادث الثاني للمسيح النصراني الذي يعمل المهدي العربي على انتصاره. ويقصد بذلك أنّه مادام لدى المسلمين أخبار برجوع المسيح عيسى بن مريم، فلماذا لا يكون هذا المسيح الراجع هو المسيح الذي يعتقد به النصارى اليوم؟ وبعبارة اخرى أن يعود المسلمون عن قولهم عيسى بن مريم، الى القول عيسى ابن الله، إذن فليؤمن به المسلمون ويتحوّلوا الى عقيدة النصارى. وكانت هذه الطريقة أحد أساليبه التي اعتقد بأنّها ستكون فعّالة لتحويل المسلمين عن دينهم، وبالتالي يسهل استعمارهم على دول أوربا.
ومن أساليب "ماسينيون" التي دبّج لها المقالات الطوال هي ضرورة تشجيع الشرقيّين للدراسة في أوربا وأميركا، وذلك للتأثير عليهم عن طريق ضخّهم في أجواء وأساليب الحياة الأوروبية في التفكير والعلم والسلوك ليكون ذلك أرضية مناسبة لتطويعهم للفكر الاستعماري الأوربي، وبالتالي توظيفهم في خدمة أهدافهم في تطويع بلدانهم الشرقية لأوربا المستعمرة، وفي هذا يقول ماسينيون لنظرائه الوربيين، إنّ الطلاب الشرقيّين الذين يأتون الى فرنسا يجب أن يلوّنوا بالمدنيّة المسيحية.
ومما عُرف عن ماسينيون أنّه كان زعيم الحركة الرامية إلى الكتابة بالعاميّة وبالحرف اللاتيني التي تبنّاها الفرنسيون في الشرق الإسلامي، وركّز بدعوته هذه على المغرب ومصر وسوريا ولبنان، وممن استجاب لدعوته في هذا المجال الأب "رافائيل نخلة" الذي الّف كتاباً تحت عنوان "قواعد اللهجة اللبنانيّة السورية" وهو موضوع باللغة الفرنسية، والنصوص العربية منسوخة بالحرف اللاتيني، واستجاب أيضاً لهذه الدعوة "شكري الخوري" الذي ألّف كتاب "التحفة العاميّة في قصة فنيانوس" التي نشرها الأب لاي اليسوعي، واستجاب كذلك "الخوري مارون غصن" أحد المدرسين في مدرسة "عين طور" في لبنان، وقد ألّف كتاباً ذا عنوانين ومضمون عامي تحت أسم "في متلو هلكتاب؟". أي (هل يوجد مثل هذا الكتاب؟) وأمثال هؤلاء كثيرون. والهدف من هذه الدعوة واضح، حيث أن ضياع اللغة الفصحى وحصر دائرة تداولها سوف يساهم في الحجر على مفاهيم القرآن اللغوية وبياناته البلاغية. وكذا الحديث الشريف وكتب المعارف الإسلامية وتراثنا العلمي الثر، وبدون اللغة العربية الفصحى تُفقد لغة العلم والمعرفة الإسلامية لتحل محلّها تدريجياً اللغة اللاتينيّة التي تكون مدخلاً للمعارف الأوربية نصرانية كانت أم علمانية. وهكذا نجد ومن خلال هذه الإلمامة المختصرة عن المستشرق ماسينيون أنّه بذل جهوداً كبيرة على الصعيدين الفكري والميداني لربط الشرق الإسلامي بالعجلة الاوربية، وأساليب متنوعة كان أبرزها تربية نماذج متميزة من تلامذته في الجامعات الفرنسية، بهدف إعدادهم رجال فكر في الشرق على الطريقة الأوربية. واحد من تلك النماذج هو ميشيل عفلق الذي برز كأحد روّاد فكرة البعث القومي العربي في الشرق.
-----------------------------------
المصدر : الاسلام وشبهات المستشرقين
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة