المسلمون في الغرب
أضواء على تبعات انهيار الإسلام في الأندلس
عبد الجبار الرفاعي
دخلت في الأعوام (92-95ه/ 711-714م) معظم شبه الجزيرة الأندلسية الإسلام طواعية، حتى احتل مساحة لا تقل عن (700000) كيلو متر مربع. وتوطدت الحضارة الإسلامية في الأندلس، فشهدت ازدهاراً في شتى حقول العلم والمعرفة والفنون وخلّدت عباقرة ساهموا بإثراء المعرفة الإنسانية، وأشادوا الأساس للنهضة الأوروبية الحديثة، حيث وصف بعض المفكرين الأسبان المعاصرين دخول الإسلام للأندلس بأنه ثورة إسلامية في الغرب.
فمن الأندلس انبثق التنوير ليعم ديار الغرب قاطبة، إلاّ أن الضعف بدأ يسري في دولة المسلمين في الأندلس بعد وفاة المنصور ابن أبي عامر، حاجب هشام الثاني المؤيد حفيد الناصر، حتى انهارت تلك الدولة عام (422ه/ 1021م) وانقرضت، فتجزأت الأندلس بين ملوك الطوائف، الذين بلغ عددهم (23) ملكاً.
سقوط الأندلس
اغتنمت الدول النصرانية تلك التجزئة، وأخذت تحتل مدن الإسلام الواحدة تلو الأخرى، والتي أهمها: طركونه، وبراغة، وقلمرية، ومجريط، وطليطلة عام (478ه/ 1085م).
فاستنجد الأندلسيون بأمير المسلمين في المغرب يوسف بن تاشفين المرابطي، الذي استجاب لهم، وهزم النصارى في معركة الزلاقة الشهيرة عام (479ه/ 1086م)، ثم قضى على ملوك الطوائف، وضم الأندلس إلى المغرب.
وعندما ضعفت الدولة المرابطية التي كانت آخر حلقة في الصعود الحضاري للمسلمين، تجزأت الأندلس ثانية إلى طوائف.
وبدأ التآكل هذه المرة يظهر جلياً أمام غارات النصارى، فسقطت سرقسطة سنة (512ه/ 1118م)، وبلنسية عام (626ه/ 1238م)، ومرسية عام (640ه/ 1243م).
وتجسدت أفضع حلقات الضعف والتداعي عندما قبل أبن الأحمر أداء الجزية السنوية لملك قشتالة، وسلّم له جيان ومنطقتها، ثم تجلت الذلة والحقارة بإعانته لهم على غزو مدينة إشبيلية (645ه/ 1241م) ومنطقة غربي الأندلس.
وقد تسببت هذه الأحداث المأساوية في تغيير جذري في بنية الأمة بالأندلس، تمثل في هجرة العلماء والمفكرين من المدن التي وقعت تحت الاحتلال النصراني، وتحول اللسان من عربي إلى أعجمي.
وتمثلت الحلقة الأخيرة من المأساة بتسليم السلطان أبو عبد الله غرناطة إلى النصارى، بعد توقيعه معاهدة الاستسلام معهم بتاريخ (21/1/890ه ـ 25/ 11/1491م)، تلك المعاهدة التي تضمنت (27) مادة، تحدد أولاها ضرورة تسليم غرناطة قبل 25/1/1492م للملكين الكاثوليكيين، وتضمن المواد الأخرى حقوق المسلمين في الأندلس بعد دخولهم في حكم النصارى.
وفي يوم 2/1/1492م قام السلطان أبو عبد الله ورجاله بتسليم غرناطة قبل التاريخ المتفق عليه.
واستلم الكاردينال مندوسة مفاتيح الحمراء من يد الوزير ابن كماشة، وكان أول عمل قام به الكاردينال عند دخول الحمراء هو نصب الصليب فوق أعلى أبراجها وترتيل صلاة (الحمد) الكاثوليكية.
من صور التنصير والاضطهاد والتعذيب
تمثلت أول أشكال الغدر ونقض العهد التي قام بها النصارى بتحويل مسجد غرناطة الأعظم إلى كتدرائية، ثم بدأت الكنيسة بتنظيم فرق لتنصير المسلمين.
والضغط بالوعد والوعيد على وجهاء المدينة وفقهائها ليّنصروا، حتى تم تعميد جميع الأهالي بالقوة بين سنتي 1500-1501م.
ثم صدر مرسوم بتحويل جميع المساجد إلى كنائس، وفي يوم 12/10/1501م صدر مرسوم آخر بإحراق جميع الكتب الإسلامية والعربية، فأحرقت آلاف الكتب في ساحة الرملة بغرناطة، ثم تتابع حرق الكتب في جميع مدن وقرى مملكة غرناطة.
ثم صدر أمر بمنع استعمال اللغة العربية، ومصادرة أسلحة الأندلسيين الذين أصبحوا يسمونهم بالموريسكيين، ويعاقب المخالف لأول مرة بالحبس والمصادرة، وفي الثانية بالإعدام.
وفي عام 1508م جددت لائحة ملكية بمنع اللباس الإسلامي، وفي سنة 1510م طبقت على الموريسكيين ضرائب خاصة اسمها (الفارضة)، وفي سنة 1511م جددت الحكومة قرارات بمنع السلاح، وحرق المتبقي من الكتب الإسلامية، ومنع ذبح الحيوانات.
وفي عام 1523م صدر مرسوم جديد يحتم تنصير كل مسلم بقي على دينه وإخراج كل من أبى التنصير، وعقاب كل من خالف الأمرين بالرق مدى الحياة.
أما محاكم التفتيش فقد تعسفت بشكل مذهل في أعمال التعذيب والإعدام، حيث كانت تحرق أحياناً المتهمين بصورة جماعية في مواكب الموت، وأحياناً تحرق عائلات بأكملها بأطفالها، ونسائها.
وكانت هذه المحاكم تحاكم الموتى فتنبش قبورهم، وكان أعضاؤها يتمتعون بالحصانة الكاملة رغم كل ما يفعلونه من فضائع.
طرد بقايا المسلمين من أسبانيا
في 30/1/1608م قرر مجلس الدولة بالإجماع طرد الموريسكيين من الأراضي الأسبانية.
ولم يصل شهر أكتوبر عام 1609م حتى عمت موانئ مملكة وبلنسية من لقنت جنوباً إلى بني عروس شمالاً حركة كبيرة، فرحل بين 9/1906م و1/1610م حوالي 120000 مسلم من موانئ لقنت، ودانية، والجابية، ورصافة، وبلنسية، وبني عروس، وغيرها.
وفي 5/1611م صدر قرار إجرامي للقضاء على المتخلفين من المسلمين في بلنسية، يقضي بإعطاء جائزة ستين ليرة لكل من يأتي بمسلم حي، وله الحق في استعباده، وثلاثين ليرة لمن يأتي برأس مسلم قتل.
وقد بلغ عدد مَنْ طِرَد من المسلمين من أسبانيا في الحقبة بين سنتي 1609ـ 1614م بحوالي 327000 شخص، مات منهم 65000 غرقاً بالبحر، أو قتلاً في الطرقات، أو ضحية المرض، والجوع، والفاقة.
استطاع 32000 شخصاً من المطرودين من العودة إلى ديارهم في الأندلس، بينما بقي بعضهم متستراً في بلاده بعد قرار الطرد العام لهم، وقد استمر الوجود الإسلامي بشكل سري ومحدود في الأندلس في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلادي، فذكر الرحالة الإنكليزي تاوسند:
أن محاكم التفتيش في غرناطة حكمت سنة 1726م على ما لا يقل عن 1800 شخص (360 عائلة) بتهمة اتباع الإسلام سراً.
ونقل كاتب أسباني أخبار محاكمة وقعت في غرناطة سنة 1727م، وفي 9/5/1728م احتفلت غرناطة ب (اوتودافي) ضخم، حيث حكمت محاكم التفتيش على 46 غرناطياً بتهمة الانتماء للإسلام.
وفي 10/10/1728م حكمت محكمة غرناطة مرة أخرى على ثمانية وعشرين شخصاً بتهمة الانتماء للإسلام، وصادرت أموالهم.
وتابعت محاكم غرناطة القبض على المتهمين بالإسلام إلى أن طلبت بلدية المدينة من الملك سنة 1729م طرد كل الموريسكيين حتى تبقى المملكة نقية من الدم الفاسد.
وفي سنة 1769م تلقى ديوان التفتيش معلومات عن وجود مسجد سري في مدينة قرطاجنة (مقاطعة مرسية).
وهكذا احتفظ عدد من أهل الأندلس بدينهم الإسلامي سراً، وبعد سنة 1960م تجرأ بعضهم على إعلانه في أسبانيا نفسها كالمحامي خليل بن أمية الذي كان يعيش في مجريط، وغيره كثير ممن ليست له شهرته.
ومنهم من هاجر إلى خارج الأندلس كالغرناطي الذي التقى الدكتور علي المنتصر الكتاني في كوبنهاجن (الدنمارك) في 5/11/1973م، الذي ولد ونشأ في برشلونة وأسلم سنة 1969م، وقد قال عن سبب إسلامه:
كنت طفلاً صغيراً عند احتضار جدتي، فجذبتني إليها، وهمست في أذني قائلة:
إن الدين النصراني ليس ديننا وليس هو الدين الحق، عندما تكبر حاول أن تعرف دينك.
فلما كبرت درست تاريخ أسبانيا، وفهمت قصد جدتي، فتعلمت الدين الإسلامي، واقتنعت به، وأعلنت إسلامي في باكستان، حيث أمضيت سنتين لأتقن تعليمي.
-----------------------------------------
المصدر: "متابعات ثقافية" تأليف