مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 رياح الاسلام
المخطوطات العربية في بطرسبرغ


صمت نهر (النيفا) -الذي يخترق (بطرسبرغ) عاصمة الشمال الروسي المدينة المليئة بالكنوز التاريخية والثقافية والأدبية والفنية- يخفي حكاية من حكايات هذه المدينة الجميلة تروي كيف غدت (بطرسبرغ) وعاء ثقافيا ونهرًا صبت فيه روافد مختلف الحضارات، ومنها الحضارة العربية.
أراد(بطرس الأكبر)مؤسس بطرسبرغ الانفتاح على الشرق عموما، وعلى العالم العربي خصوصا.ومعروف أنه أمر بترجمة القرآن الكريم الذي نقل في حينه من الإنجليزية والفرنسية إلى اللغة الروسية، كما أمر أيضا بإرسال الاختصاصيين إلى منطقة العالم العربي للتعرف على ثقافة كانت مجهولة بالنسبة للروس.
وقد تمت أول ترجمة للقرآن إلى الروسية عن الفرنسية عام 1616، وتلتها ترجمة ثانية عن الفرنسية أيضًا عام 1790، ثم عن الإنجليزية عام 1792، أما في عهد (كاثرينا الثانية) وبأمر منها فقد تمت طباعة القرآن باللغة العربية عام 1787، في حين صدرت أول ترجمة للقرآن عن العربية عام 1871.
وبطرسبرغ تشكل شاهدًا حيًا على تلاقي الحوارات العميقة بين الشرق والغرب من خلال أوراق صفراء عتيقة كتب فيها من الروائع النفيسة الأدبية والعلمية والفلسفية والفنية ما ظل خالدًا حتى يومنا هذا، إنها المخطوطات العربية.
وقد يكون الاهتمام بالمخطوطات نوعًا من محاولة النبش في السطور البالية المطموسة، بغية التعرف على الحياة الماضية واستعادتها من جديد، بعد أنها كانت مطمورة تحت الأرض أو في الصناديق المنسية مئات السنين.
الدكتورة (أولغا فرالوفا) التي غرقت سنين عديدة في بحر من البحث في المخطوطات العربية، تعتبر شاهدًا حيًّا على كيفية وصول المخطوطات العربية إلى (بطرسبرغ)، وفي ذاكرتها صورة خلابة لتراث عظيم انتشر في كافة أنحاء العالم وفي الاتحاد السوفييتي السابق بشكل خاص، إذ يشغل من حيث عدد المخطوطات العربية المتوفرة فيه، المرتبة الرابعة في العالم بعد تركيا ومصر وإيران، ويستدل من آخر المعطيات أن الاتحاد السوفييتي السابق يحوز ما يربو على أربعة وأربعين ألف مجلدًا، عدا عن بضع عشرات الألوف من المحاضر والوثائق المدونة باللغة العربية.
الأهم في ذكريات (فرالوفا) عشقها لمعلم المعلمين -كما وصفته- وتقصد به الشيخ محمد عياد الطنطاوي أحد شيوخ الأزهر الذي وصل إلى (بطرسبرغ) عام 1840 وفي جعبته العشرات من المخطوطات العربية القيمة. وتشير (فرالوفا) إلى أن الطنطاوي أسهم إسهاما كبيرا في تدريس اللغة العربية لجيل من المثقفين الروس .وتوفي عام 1861 .
تتفتح ذاكرة (فرالوفا) لتلقي الضوء على مؤلَّف للطنطاوي يتمتع بأهمية استثنائية -حسب رأيها- يسمى معجم اللهجة المصرية الذي يحتوي على قصص شعبية، وطرائف، ونصوص أغاني، وأمثال شعبية ، وتشير فرالوفا إلى المخطوطات التي جلبها معه الطنطاوي من مصر، والخاصة بالفيلسوف ابن عربي ناهيك بمؤلفات عديدة عن الصوفية.
الأهم أن مكتبات (بطرسبرغ) تحتفظ بمؤلفات الطنطاوي التي كتب فيها تأملاته وأفكاره عن فترة وجوده ومشاهداته عن عاصمة الشمال الروسي، ومن هذه المؤلفات تاريخ خمسة وعشرين سنة من تتويج قيصر روسيا نيكولاي الأول، وتاريخ قدوم سعادة ولي عهد روسيا الأمير (ألكسندر) مع خطيبته الأميرة (ماريا) وتزوجه بها، وتاريخ رجوع الدوقة ماكسمليان لهتنبرنغ من مصر إلى بطرسبرغ، وتاريخ جلوس القيصر ألكسندر الثاني على عرش روسيا، ناهيك بجزء من تاريخ الخلفاء. كما تحظى المكتبات بآخر ما دونه الطنطاوي قبيل رحيله عن الحياة، وتبدو في الوريقات الصفراء -التي خَطَّ عليها خطوط قلمه- متعثرة وعاجزة عن الكتابة بيسر وحرية.
وفي مكتبات ومعاهد بطرسبرغ تمتلئ الخزائن العتيقة بكنوز الثقافة العربية، حيث تتلهف الأيادي لتلمسها بغية غرف ما بداخلها من معانٍ وقيم فريدة عكست ثقافة العرب وتنوع إسهاماتهم في الطب والفلسفة والعلوم واللغة والجغرافيا والتاريخ وعلوم المنطق والفلك.
أعمال ابن سينا والفارابي والرازي والبخاري وأبو حامد الغزالي والشيرازي وحمزة بن الحسن الأصبهاني وعمرو بن بحر الجاحظ والسمرقندي، تشكل علامات فارقة أسهمت في تعريف الاختصاصيين الروس بمختلف مجالات الحياة التي طرقها العرب في الزمن الغابر.
وتحتل أعمال الذبياني والمتنبي والفيروزآبادي وأبو الفرج علي الأصفهاني والقاسم بن علي الحريري وعبد الرحمن بن خلدون مكانة خاصة في الأمكنة التي تكتظ بها المخطوطات العربية في مكتبات ومعاهد بطرسبرغ، والأثر الذي أحدثته في تلقف محتويات هذه الأعمال بالنسبة للاختصاصيين الروس العاملين في حقول اللغة والأدب والفلسفة.
وتضم المكتبات مخطوطات تعود إلى فترة ما بين القرنين الثاني عشر والتاسع عشر وصلت عبر طرق مختلفة، إما عبر سفر الرحالة الروس إلى أماكن متعددة من منطقة العالم العربي، أو بواسطة شخصيات عربية قدمت إلى روسيا مع بداية القرن التاسع عشر.
وتثير المخطوطات العربية الخاصة بعلم الفلك اهتمامً خاصً لدى الباحثين الروس، ومن أهم المخطوطات في هذا المجال ما كتبه عالم الفلك الفارسي (كوشيار بن لبّان) باللغة العربية كعادة كافة الكتاب المسلمين في ذلك الزمان، واسم المخطوطة: مدخل إلى صناعة أحكام النجوم، وقد كتبت عام 1130ميلادية حيث عرض فيها الكاتب أسس علم الفلك.
وإلى جانب وجود نسخ عديدة للقرآن نجد اهتماما خاصا بالمخطوطات الأدبية الإسلامية، وخاصة الكتاب الذي يعنى بالقصائد عن الأئمة الشيعة لمؤلفه صالح الحسين النجفي تحت عنوان: الدرر الغررية في نعت الأئمة الاثنا عشرية، كما نجد من مخطوطات القرن الثامن عشر مخطوطة تضم مقدمة لكتاب عن الإمام علي، وثمة مؤلفان للكاتب البوصيري الذي كتب قصيدة البردة في القرن الثامن وفيها آيات المديح للنبي محمد.
ومن الأدب المسيحي العربي في القرن الثامن عشر نجد مخطوطة تضم مؤلفات شعرية لا يشار إلى اسم كاتبها، ناهيك بمخطوطة كتاب البستان في نزهات الندمان تتضمن حكما وأمثالا شعبية.
يقول د. ميخائيل بياتروفسكي / مدير متحف الأرميتاج:
أعتقد أن وجود المخطوطات العربية في المكتبات الروسية كان مهما جدا لأن الغرب لا بد أن يفهم أهمية الحضارة العربية، ولكن كان لا بد من الناس الذين قدموا حياتهم -عدة أجيال- في دراسة هذه المخطوطات، ولبناء على هذه المخطوطات كتب ودراسات التي أصبحت مقدمة للغرب وللعالم ككل للحضارة العربية، لأن الآراء بصورة عامة تحتاج إلى ترجمة، ترجمة من حضارة إلى الحضارة، وهذا دور الدراسات الشرقية، والدراسات الشرقية لا يمكن أن يكون ثابتة وقوية وصادقة إلا باستناد على المخطوطات، لأن المخطوطات هي الوثائق، الوثائق الأصلية، والدراسات الشرقية لها أهمية حقيقية، والأهمية الحقيقية هي التي تستند على المخطوطات والوثائق وعلى معرفة جيدة للمخطوطات والوثائق، لأنه لا يمكن الإنسان يكون متخصص في الدراسات العربية بدون أن يكون خبيرًا في المخطوطات، وقادرًا على قراءة المخطوطات، وفهم الارتباط بين المخطوط والمخطوط الآخر، وموضوع النصوص ودراسة النصوص... وإلى آخره.
وفي مكتبات ومعاهد بطرسبرغ نعثر أيضًا على عناوين متنوعة وعديدة تشمل اختراعات العرب ومساهماتهم في مختلف جوانب العلوم اللغوية والفلسفية والرياضيات والطب، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: نبذة من تاريخ العرب، ونبذة من كتب الطب والفلسفة، والمجلد الأول لكتاب المواعظ والاعتبار للمقريزي، ومنتجات من لزوم ما يلزم لأبي العلاء المعري، والمقامات للقاسم بن علي الحريري، ومقالة لأقليمون في الطبائع وعن الحرارة والبرودة والرطوبة والمرارة والحلو والمر وإلى غير ذلك، وكتاب الشفاء في المنطق لابن سينا، وكتاب المفضل [المفصل] في النحو للزمخشري، وأجزاء من كتاب الأغاني لأبي الفرج على الأصفهاني، والمجلد الأخير من الكامل في التاريخ لابن الأثير، وكتاب قصص الأنبياء، والجزء الأول من السيرة النبوية لعلي بن برهان الدين الحلبي، وروضة العلماء ونزهة الفضلاء للبخاري. كما نعثر أيضا على الرسالة الموسومة بحق اليمين في معرفة رب العالمين للتبريزي، والرسالة القدسية في أسرار النقطة الحسية لمحيي الدين بن عربي.
ورغم اهتمام الباحثين والاختصاصيين بالمخطوطات العربية إلا أنها -وبفعل عوامل كثيرة- تتعرض تارة للاهتراء وللتلف تارة أخرى، ناهيك بعدم وضعها وترتيبها في مناخ صحي يساعد في الحفاظ عليها، كما تتعرض أيضا إلى محاولات السرقة من قبل رجال المافيا. ويذكر أن أحدهم أقدم على سرقة مخطوطة نفيسة للقرآن وضعت في أنبوب معدني، وهي قطعة نادرة للغاية حاول بيعها بمائة مليون دولار، لكن السلطات الأمنية قبضت عليه صدفة، وأعادت هذه المخطوطة إلى المكتبة الوطنية التي تزخر أيضا بالعديد من المخطوطات العربية النادرة.
ويعتبر وجود المخطوطات الشرقية في متحف الأرميتاج دليلا آخر على تمازج الثقافة الغربية بالشرقية، وعلى استيعاب الروس لثقافة أغنت العالم بأفانين الأدب والموسيقى والعلوم. ويحظى القسم الشرقي بمكانة خاصة في هذا المتحف الذي يديره المستعرب (بوريس بياتروفسكي) المختص بتاريخ الفن الإسلامي.
والحرص على صون المخطوطات العربية في (بطرسبرغ)، ناهيك بتطوير العلاقة بين روسيا والعالم العربي في المجال الثقافي، يدفع بالمسؤولين والاختصاصيين من الجانبين لعقد لقاءات في عاصمة الشمال الروسي بهدف التشاور وتبادل الآراء حول كيفية الاستفادة من التراثين الثقافيين العربي والروسي، والتباحث في كيفية حفظ تراث عربي أسهم في نقل قيم روحية رفيعة المستوى إلى كافة أصقاع العالم، لكن هذه اللقاءات لا تزال في إطارها الضيق، ولم ترتقِ بعد إلى الدرجة المطلوبة من حيث العمق والغنى.
------------------------------
عن فضائية الجزيرة باختصار
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة