محمد حسين علي الصغير
دوافع الاستشراق
أ ـ الدوافع التبشيرية:
ذهب ((رودي بارت)) إلى أن الهدف الرئيسي من جهود المستشرقين في بدايات الاستشراق في القرن الثاني عشر الميلادي وفي القرون التالية له: هو التبشير، وعرفه بأنه: إقناع المسلمين بلغتهم ببطلان الإسلام، واجتذابهم إلى الدين المسيحي.
لا يمكننا أن نزيف جميع الجهود الاستشراقية ونصمها بالتبشير ففي هذا بعض الغلو والتطرف، ولكننا نستطيع أن ننزه السطحي، والمستشرقون مجتهدون، وقد يخطئ المجتهد وقد يصيب.
يلحظ أن جماعة من المستشرقين قد دأبوا منذ زمن حتى عصرنا الحاضر على وصف القرآن بأنه نسيج من السخافات، وبأن الإسلام مجموعة من البدع، وبأن المسلمين وحوش، وكان نموذج ذلك من المشترقين: ((نيكولا دكيز، وفيفش، وفراتشي، وهوتنجر، ويلياندر، وبريدو))، وغيرهم.
وهذا النوع من المستشرقين قد دفع تبشيرياً إلى الغض من مكانة القرآن والإسلام، لتقليل أهميتهما وزعزعة النفوس عنهما، وإسدال ظلال كثيفة قاتمة حول التأريخ الإسلامي لخدع البُسطاء والمترددين، تبعاً لهوى في نفوس القوم. ولكن الحديث المتأطر بهذا القناع لا يمكن أن يوافق قبولاً لدى الباحثين لأنه حديث عاطفي.
وقد عمد قسم من المستشرقين الألمان واليهود أمثال، ((فيل، وجولد سهير، وبول))، وغيرهم إلى القول بأن القرآن حُرف وبُدل بعد وفاة النبي (ص) وفي صدر الإسلام الأول، وأن النبي كان يصاب بالصرع! وأن ما كان يسميه الوحي الذي ينزل عليه إنما كان أثراً لنوبات الصرع! فكان يغيب عن صوابه، وتعتريه التشنجات، وتخرج من فيه الرغوة، فإذا أفاق من نوبته ذكر أنه أُوحي إليه، وتلا على المؤمنين ما يزعم أنه من وحي ربه.
وقد تكفل بالرد على هذه المزاعم الكاذبة جملة من المستشرقين المنصفين لا سيما ((السير وليام موير)) في كتاب ((حياة محمد)): فكان ما تحدث فيه عن منزلة القرآن ودقة وصوله سالماً، خير رد على التجني والحقد الأعمى، واعتبر ذلك تهرباً عن البحث العلمي الرصين.
وعقب على ظاهرة الوحي، فنفى ما افتراه الجاهلون على النبي (ص) من حالات الصرع المدعاة، لأن نوبة الصرع لا تذر عند من تصيبه أي ذكر لما مر به أثناءها، ذلك لأن حركة الشعور والتفكير تتعطل فيه تمام العطل.
وهذا ما نشاهده عياناً في حالات الإغماء وقد أيد كل من ((الأب هنري لامنس))، و ((فون هامر)) مذهب ((موير)) في التفريق بين حالة الصرع والوحي.
بينما زعم آخرون: بأن النبي (ص) كان في القرآن ساحراً، وأنه لم ينجح في الوصول إلى كرسي البابوية فاخترع ديناً جديداً لينتقم من زملائه.
وقد هز هذا التحدي السافر المستشرق ((آميل درمنجهام))، ففند أباطيل هؤلاء الدعاة وحمل عليهم، ورد هذه التهم الرخيصة التي خالفت الواقع.
ب ـ الدوافع الاستعمارية:
وقد يكون دافع الاستشراق دافعاً استعمارياً تمليه طبيعة عمل المستشرقين في البلدان العربية والإسلامية، من ضرورة إتقان اللغة، والتخصص بجملة من فنون الشرق، ومن ثم يتولد لدى المستشرق ولع خاص يحدو به إلى الاضطلاع بمهماته، ولكنه لا يخضع هذا الولع على سجيته، بل يخضعه لمفاهيم استعمارية قد خطط لها من ذي قبل، كأن يشكك المسلمين بعقيدتهم، أو يسفه أحلامهم، أو ينحو باللائمة على أئمتهم، أو يقلل من أهمية تراثهم.
وقد لا تملي هذا طبيعة العمل بل يكون هو الهدف الأول والأخير للاستعمار من عمل المستشرق في هذا المحيط أو ذاك.
ومن هنا قد يكون المنهج الاستعماري فاضاً للاستشراق بالطريقة التي برمجها للمستشرق من تشتيت أمر الأمة، والدعوة إلى تفريق الكلمة، وإبراز وُجهات الاختلاف، أو تعدد المذاهب، فيدعى المستشرق من قبل دوائره إلى تضخيم هذه النزعات، وتكثيف تلك الدعاوي، فيبث سمومه م خلال هذه الثغرات، ويمثل الاسلام بأنه: دين فرقة وخصومة وتصدع، والأغلب أن يضيف من عندياته ما لم يكن، فيصور ما لم يحدث، ويناقش ما لم يقع. لا سيما إذا كانت كتابته تتعلق بدين أو تراث أو تاريخ تخطيط للبلدان، أو تصوير للاجتماع، أو دراسة نفسية لطبيعة الشعوب المستعمرة.
وقد يكون الدافع الاقتصادي الذي أوجده الجهد الاستعماري مرتبطاً بالهدف العلمي اعتبار الاستشراق مهنة عملية يوظف لها الأكفاء والمتخصصون، ((فأساتذة اللغات الشرقية في العصر الوسيط وتراجمته عملوا لقاء أجر، وأوائل المستشرقين وعلماء الجدل والموسرون نالوا جزاءهم بإرساء النهضة الأوروبية على التراث العربي)).
ج ـ الدوافع العلمية:
إن الهدف العلمي من وراء دراسة القرآن الكريم والتراث العربي قد يشكل أسلم الدوافع وأنبل الأهداف، فكثير من هؤلاء المستشرقين لمسوا في اللغة العربية لغة ثقافة وأدب وحضارة، ووجدوا القرآن في الذروة من هذه اللغة، فحدبوا على دراسته بدافع علمي محض تحدو به المعرفة، وتصاحبه اللذة، فأبقوا لنا جهوداً عظيمة مشكورة.
وهذا الحكم لا يؤخذ على عمومه، ولكنه الأعم الأغلب، وسواه شاذ، والشاذ لا يقاس عليه. ولكن الهدف العلمي ـ مهما كانت الضمائم ـ هو الهدف الأسمى لأغلبية هؤلاء المستشرقين.
ومع كل ما تقدم، فالمروض أن نثقف موقف الحذر والحيطة من جملة جهود المستشرقين واجتهاداتهم بالنسبة للدراسات القرآنية، فهم يخضعون القرآن ـ عادةً ـ إلى مناهج وطرائق واستنتاجات قد تكون بعيدة عن الفهم القرآني الأصيل، لا سيما في مجالي التفسير والترجمة، فالتفسير مهما كان دقيقاً، قد لا يتوافر منه المراد في اللغات الأخرى كما يتوافر في اللغة العربية، والترجمة مهما كانت حرفية فقد تشذ عن الأصول البلاغية والأساليب الجمالية التي جاء بها القرآن الكريم.
إن هذا الملحظ لا يعني أننا نغض من قيمة وأصالة الجهود الاستشراقية، ولكننا ندعو إلى تقويمها ورصدها للوصول إلى الحقيقة العلمية الخالصة.
----------------------------
* المصدر:دراسات قرانية