مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 محمد حسن بريغش
أدب الجاليات الإسلامية في الغرب من خلال مجموعة حكايات


في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ـ الميلادي ـ سافر كثير من أبناء البلاد العربية ـ ولا سيما من بلاد الشام ت إلى القارة الأمريكية طمعاً في جمع المال، وهرباً من الفقر والاضطرابات التي كانت تسود المنطقة آنذاك. وكان لدعاية الغرب في هذه البلدان أثر في ترك الكثيرين لبلدانهم، وسفرهم نحو بلاد الغنى والحرية ـ كما كانوا يقولون ـ وكان للنصارى دور كبير في هذه الهجرة، لصلاتهم في المحافل الكنسية، والمنظمات التبشيرية (التنصيرية) ولعدائهم للدولة العثمانية، وتآمرهم عليها باسم حركات التحرر والإصلاح والقومية والوطنية.
وتسلطت الأضواء على هؤلاء المهاجرين، وخرجت الدراسات والمجلات التي تتناول أوضاعهم وأفكارهم. وكان للجانب الأدبي أهمية خاصة لأنه صور أحوالهم، ونقل أفكارهم، ونشر آراءهم في القضايا السياسية والاجتماعية والفكرية في بلدانهم، وراح يبشر بحياة جديدة باسم الحرية، والإنسانية، والعلم، بعيداً عن الإسلام والدين، وكل القيم الأصيلة لعالمنا العربي والإسلامي.
وكان واضحاً لكل متتبع أن الغرب كان يرعى هؤلاء الأدباء، ويبرز آراءهم، ويفتح المجالات أمامهم من خلال المجلات والروابط الأدبية، والدواوين الشعرية، والكتب الثقافية والفكرية المتنوعة.
وأصبح الأدب المهجري ـ كما أطلقوا عليه ـ حلقة مهمة من حلقات الأدب العربي الحديث، ونال كثيراً من العناية والإبراز، حتى غدا عاملاً من عوامل النهضة، وغاب وسط هذا الضباب الفكري والإعلامي لهذه المرحلة كثير من الحقائق التي تمثلت بتآمر هؤلاء مع الغرب وأمريكا لجلب الاستعمار والحماية الأجنبية والنفوذ الأمريكي للمنطقة، بحجة التحديث والتطوير، والخلاص من الرجعية والظلم، وبرز الذين خانوا أوطانهم، وحالفوا الدول الاستعمارية وحاربوا الخلافة العثمانية، ودعوا للأخذ بمناهج الغرب وأفكارهم وفلسفاتهم في العلم والحياة والحكم، وأصبحوا أبطالاً محررين، ودعاة تقدم وحضارة، ورواد نهضة حديثة، وشهداء في سبيل الوطنية!!
هذه المقدمة السريعة استدعتها قراءتي لكتاب جدير بالاهتمام، لأنه يصور جوانب من حياة الجاليات الإسلامية والعربية في بلاد الغرب ويعرض كثيراً من أوضاعهم، ومجتمعاتهم ومشكلاتهم من خلال حكايات صاغتها مؤلفة هذا الكتاب (يمان السباعي، أم عبدالرحمن) بطريقة القصة، وعضتها من خلال عشر حكايات ما عدا المقدمة والإهداء، ونشرت في جزأين تحت اسم (حكايات) وصدّرتها بالآيات الكريمة:
(ومَن أعرض عن ذكري، فإن له معيشة ضنكاً، ونحشره يوم القيامة أعمى. قال: رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً. قال: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى. وكذلك نجزي مَن أسرف ولم يؤمن بآيات ربه، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى).
والحكايات كما تقول الكاتبة، دون الرواية، وفوق الأقصوصة، ليس في كلماتها من الخيال إلا ما تتطلبه الصياغة الأدبية.
وهي تتوجه في هذه الأقاصيص أو الحكايات إلى الشباب من هذه الأمة الذين يتطلعون إلى السفر والهجرة إلى العالم المتحضر!!
وأحداث هذه الحكايات جرت في إسبانيا وفرنسا، وبعضها، أو طرف منها في البلدان العربية في شمال أفريقيا أو سورية.
ولأن هذه الحكايات، وما جرى فيها من أحداث تعكس حقيقة الحياة في بلاد الغرب، وطبيعة هذه المجتمعات التي ترفع شعارات التقدم والحضارة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، لذلك كان لها أهمية خاصة لأنها نوع من الوثائق، أو الشهادات المعاصرة على هذه المجتمعات، ولقد أشارت المؤلفة لهذا في المقدمة حيث قالت: ((أردت أن يكتشف القارئ الآلام العظيمة التي عانتها كل شخصية من شخصيات هذه الحكايات، وليتعرف على الواقع الإنساني الذي يعيشه المسلم في ديار الغرب)).
فالحكايات صورة ناطقة، ولوحات تعبيرية عن أبناء الجاليات الإسلامية في ديار الغرب، وعن معاناتهم، ومكابداتهم، وضياعهم وسط مجتمع يتعامل معهم بالاحتقار والقسوة، والإذلال، وينظر إليهم كمخلوقات من الدرجة الثالثة أو الرابعة.
وهي في الوقت ذاته تنقل صورة واقعية عن أوروبا، وحقيقة الحضارة الحديثة، وأمريكا، المتألهة في العصر الحديث، في سلوكها ومثلها الواقعية، وفي استغلالها المقيت لشعوب العالم الإسلامي، وامتصاصها لدمائهم، وأموالهم، وبترولهم، وخبراتهم، وعقولهم، ومهاراتهم، لبناء مزيد من التقدم المادي، والترف المعيشي لشعوبهم، ثم رمي هؤلاء المقهورين المستغلَين إلى عالم القهر، وتحميلهم العذاب، والأمراض، والفوضى، والمشكلات التي لا تنتهي.
وفي هذه الحكايات بعض الاهتمام بالمرأة، وعرض لصور المهانة والإذلال التي تعاني منها في بلدان العالم الإسلامي، وفي أوروبا، نتيجة للجهل والبعد عن شرع الله، أو الاحتكام للأنظمة والقوانين الوضعية المادية.
في الجزء الأول من الحكايات عرضت القصص التالية: دبر نفسك، وفي المطار، ورسالة، وأبو طاهر، وشرطي المصرف. واستغرق ذلك 146 صفحة من القطع الصغير. وفي الجزء الثاني عرضت: بائعة النعنع، ورباح القطان، والقابضون على الجمر، وطريق من الشوك، والموت غربة.
وكانت الكاتبة تختار مقطعاً معبراً من كل حكاية لتبدأ به كنشيد رمزي للحكاية، وكمعنى يعطي إضاءة معبرة للقصة التي ستحكيها.
وربما اختارت لقصصها هذه اسم الحكاية، لأنها تريد أن تحكي أحداثاً واقعية تتجاوز فيها أحياناً بعض الأمور الفنية لهذا الجنس الأدبي.
ولأنها ـ أيضاً ـ اختارت طريقة السرد للأحداث من قبلها مع بعض التعليقات لتكون الأمور واضحة، والغاية من القصة قريبة التناول. ومع اختيارها لأسلوب الحكاية فقد استخدمت شيئاً من الرمز، أو الأسلوب الرمزي. واستخدمت طريقة تداعي الأفكار، وطريقة الرسائل ولا سيما في حكاية رسالة.
في قصتها الأولى ((دبر نفسك)) تصور أوضاع الطلبة الذين يفشلون في دراستهم، حيث تمضي السنوات دون الحصول على شيء، وييأس الآباء أو يعجزون عن الاستمرار في إرسال ما يحتاجه أولادهم من نفقات، فيضطرون ـ وقد فاتت عليهم كل الفرص ـ أن يفتشوا عن طريقة يحصلون من خلالها على ما يسد به الرمق. والقصة تثير عدداً من الأخطاء التي تؤدي إلى هذه النتيجة، منها حرص الوالد أو الأهل جميعاً على إرسال الطالب إلى أوروبا طمعاً في دراسة الطب، لكي ينال الشهادة التي تضاهي شهادات غيرهم من الأقارب أو الأصدقاء، ولتكون معلماً لهم على مدى تقدمهم، وعلو شأنهم، ولكن الطالب الذي لا يرغب في مثل هذا التخصص، وليس مؤهلاً له، يفشل في تحقيق الغاية، ويقع في تناقضات كثيرة، ومشكلات متعددة. ويضيع وسط هذا المجتمع المادي البغيض، ويفشله في كل شيء ويصبح عالة على أبيه، ومجتمعه.
والقصة تثير أموراً كثيرة عن تلك المجتمعات، وعن الطلبة المسلمين فتشير إلى احتقار الغربيين للعرب والمسلمين وكل الغرباء، وتطلق عليهم أسماء تدل على الازدراء والتحقير.
وكذلك تشير إلى الصراع النفسي الذي يعيشه الطلاب في المجتمعات الغربية نتيجة فراغهم الفكري من ناحية، والحرية الحيوانية التي يراها في أوروبا، والصور المثيرة التي يعيش معها في الشارع والسينما والجامعة والحديثة والبيت.
والكاتبة تعنى بوصف الأمكنة والطبيعة والبيئة، وترسم لوحات جميلة زاهية معبرة، تنسجم مع الأحداث، بل تضفي عليها مشاعر خاصة تتناسب معها.
تقول في مطلع هذه الحكاية: ((المدينة الصغيرة الناعسة الحالمة، نظيفة لامعة، وأجمل ما فيها صباح شتوي، ومطر ينثر قطراته وعبيره في أرجائها فيزيدها سحراً إلى سحر. الأقواس العربية ما زالت نائمة. هناك تحت العرائش يتمدد الياسمين على جنباتها، والحارات العتيقة ما زالت حجارتها السوداء التي رصفت بها أرضها تئن حنيناً إلى الأيدي صففتها هناك)).
وتمضي في هذا الأسلوب الشاعري الجميل في وصف المدينة، مع شيء من الرمزية المحببة التي تومئ إلى تاريخ المسلمين، وإلى ضياع مجدهم نتيجة تخليهم عن هذا المجد ((الأقواس العربية ما زالت نائمة)) .. ((تئن حنيناً إلى الأيدي التي صففتها هناك)) .. ((شتان ما بين غرناطة المزروعة في عقول الناس في بلاده، تلتمع في قطرات دموع يتباكون بها أيام المسلمين في إسبانيا، وما بين غرناطة اليوم، المدينة الإسبانية، إسلامية الأصل، كافرة الفروع)).
ويتكرر مثل هذا الرمز وهذا الإيحاء في عدد من الحكايات الأخرى.
فضلاً عن ذلك، فقد نجحت المؤلفة في وصف الشخصيات، وإبراز ملامحهم الخلقية، وصفاتهم الداخلية، وكثيراً ما كانت تحرص على انسجام الصورة بين الداخل والخارج، بأسلوب جميل، ووصف دقيق، فمرة تصور هذه الشخصيات وتعطيها ملامحها المميزة بشكل مباشر ـ كما أسلفت ـ وأحياناً تترك الحدث، والحوار يكشف عن ملامح هذه الشخصية، كما في هذه القصة. حيث كانت شخصية عبدالكريم تتوضح شيئاً فشيئاً من خلال حركة الأحداث. فكل حدث يكشف عن جانب من حياته وشخصيته، وتفكيره، وعواطفه ... وفي قصة (في المطار) تعرض صورة من صور الصراع التي يعانيها الطلاب الذين يدرسون في الغرب، ويرون ما فيها من حرية وانطلاق وعادات تختلف عما ألفوه في بلادهم، ويتزودون من تلك البلاد، ويرزقون بالأولاد الذين ينفصلون عن بلادهم الحقيقية، ويصبحون في وضع جديد، وصراع بين جذورهم الشرقية المسلمةن وحياتهم الواقعية الغربية. وكذلك يصبح هؤلاء الآباء، من خلال ذكرياتهم، واتصالهم بذويهم في أزمة داخلية مضنية حيث يعيش الآباء بين ماضيهم، ووشائجهم، وعاداتهم، ومعتقداتهم، وبين حاضرهم في الغرب، واهتماماتهم بالعلم والتخصص، وخضوعهم للعادات والتقاليد الجديدة. وهذا ما تصوره شخصية أمجد، الذي يدرس الطب في إسبانيا ويتزوج إمرأة إسبانية، ثم يقع في هذه الأزمة عندما يصل والداه لزيارته في إسبانيا، بما يحملان من عادات وتقاليد، بعضها إسلامي صحيح، وبعضها بعيد كل البعد عن الدين، أو العقل، أو الكرامة الإنسانية.
وتصف الكاتبة أمجد، فتحدد له ملامحه وحالته الحاضرة ((طبيب ناجح مشهور يشار إليه بالبنان، في بيت هانئ، مع زوجة ودودة متزنة، تقوم بواجباتها داخل البيت وخارجه دون تأفف أو شكوى، ودون ضعف ولا تقصير، وهذا ما لم يره قط في حياته في بلده)).
والتعميم الأخير مبالغ فيه، لأن المرأة في البلدان الإسلامية، تعمل، وتقوم بواجبها، وتصبر، وتطيع بدون ضعف أو تأفف، ولا يمنع ذلك أن يكون لديها جهل بأمور كثيرة، وأخطاء في تصرفاتها نتيجة هذا الجهل. ومع كل ما وصل إليه أمجد فهو ((ما زال يشعر في أعماقه أنه مازال غريباً، وما زال كثير من الناس ومن واد عيادته يعرفونه بقولهم: الطبيب المورو .. وما زال أولاده غرباء .. إنهم لا يحسنون أن يتكلموا حرفاً بالعربية، ولا يعرفون أي شيء عن الإسلام، وأهله، وبلاده، ولم يذكروا قط اسم الله في حياتهم)).
هذه الظاهرة شديدة الخطورة على الجاليات الإسلامية في بلاد الغرب حيث إن الجيل الأول الذي سافر بقصد الدراسة، واقتناص المجد والمكانة والمال، سرعان ما يفقد هويته أمام المغريات والمفارقات الشديدة خاصة وأنه لم يتسلح ـ قبل مغادرته ـ بسلاح العقيدة، والالتزام بشرع الله، سلوكاً وخلقاً وتعاملاً ... بل ذهب وهو يحمل كل أمراض واقعه العربي الإسلامي، في بعده عن دين الله، وتخلفه في العلوم والحياة المادية، وخضوعه لأسر العادات والتقاليد الخاطئة، وهناك يصطدم بواقع جديد، فلا يستطيع المقاومة، وحين يشده الحنين والعاطفة وجذوره الإسلامية إلى بلده لا يجد الوسيلة التي تعيده إلى الحق، بعد أن يرى أولاده يذوبون في المجتمع الغربي، ويحملون كل عاداته ومعتقداته وأوزاره.
إلى جانب هذه المأساة الواقعية التي يعانيها أمثال أمجد، فهناك الشعور بالغربة الذي ما زال يلازمه، من ممارسات الإسبان، ورواد عيادته الذين ما زالوا يطلقون عليه الطبيب المورو بالرغم من ثقتهم بعلمه ومهارته.
وتسلط الكاتبة الأضواء على بعض السلبيات في البلدان العربية، مثل التعامل بين الزوج والزوجة، والمهانة التي تعانيها المرأة من تسلط الزوج الجاهل المتعجرف، وإن كان في هذه الصورة بعض المبالغة، وكذلك تشير إلى معاملة الغريب في سورية، واحترامه وتكريمه، وتضع هذه الصورة، أمام العنصرية الغربية ضد الأجانب. والقصة ـ بشكل عام ـ تضع أمام القارئ وقائع مؤلمة، لأوضاع المسلمين في أوروبا، وما ينتج عن بقائهم هناك من ضياع لأسرهم، وضياع لقيمهم وأخلاقهم، وصراع بين ماضيهم وحاضرهم.
وفيها أيضاً إشارة لفقدان القدوة الحسنة عند الأبوين في تربيتهما لأولادهما، وغياب الهدف الحقيقي لهذه التربية، وانغماسهما في مطالب الحياة العصرية ودواعي المال والشهرة. وهي تحاول في صورة من الصور عقد مقارنة غير مباشرة بين المجتمع الغربي والمجتمع العربي بكل عاداته وتقاليده وجهله، ومن خلال المقارنة تبرز ظاهرة العصبية، بل العنصرية الغربية، والحقد الصليبي في الغرب، إزاء ضاع الهوية، والبعد عن القيم في البلدان العربية.
والكاتبة في قصتها هذه تتخلى كثيراً عن بعض الشروط الفنية، فتستطرد وتعلق على الأحداث، وتناقش بعض الأفكار، فتوقف حركة الأحداث، وتقطع ترابط الحكاية حتى تتأرجح بين فني المقالة والقصة، وكان بإمكانها العودة إلى هذه القصة لنسجها من جديد بطريقة أكثر إحكاماً، وأجود فناً، باستخدام أساليب وعناصر القصة الفنية المختلفة.
في قصة (رسالة) تجرب الكاتبة طريقة الرسالة كأسلوب من أساليب القصة، فتعرض لمأساة شاب من المغرب، يسافر من تطوان إلى غرناطة مع بعض الأصدقاء، وهناك يجد نفسه في جو من الانحراف والخطيئة، فينغمس في هذا الجو، ويشترك في كثير من الآثام والجرائم، ويفشل في دراسته، وتلتف حوله شبكة الإجرام لتسخره في تحقيق أغراضها، ولكنه يصحو بفضل من الله عندما ينبهه أحد أصدقائه القدامى وينصحه، فتترك كلماته المخلصة أثرها، وتبقى تفعل فعلها حتى يبدأ في العودة إلى الله عزوجل والتوبة عما هو فيه، ويقول لصديقه الذي قدم له النصيحة وأراد استنقاذه من هذا الواقع الآثم: ((بعد كل هذا حصل ما لا يمكن تصديقه، ولا التعبير عنه، أحسست أن حرارة العبودية لله تسري في دمي، ولا شيء غير الظمأ تثور به روحي، الظمأ، والظمأ لله وحده عزوجل)).
وكذلك تصور هذه القصة جانباً من الحياة في الغرب، وما يموج في داخله من جرائم وانحرافات، وعصبيات وأحقاد.
وفي قصة (أبو طاهر) تصور حياة العمال العرب في الغرب، الذين يسافرون طمعاً في الحصول على المال، وتحسين أوضاعهم المالية المتردية، ولكنهم يصطدمون في الغرب (فرنسا، وإنجلترا، وإسبانيا وإيطاليا ... ) بواقع مليء بالمآسي ((الغربة والإذلال، والازدراء من الغربيين، وحياة المنبوذين، وما فيها من فساد خلقي وجنسي، وممارسات تدعو إلى القرف والرثاء)).
تقول في هذه القصة: ((خمسة وستون عاماً هو عمر أبي طاهر، وبلوغه هذا العمر يعني إحالته على التقاعد، أعطوه مبلغاً من المال وطردوه من المعمل، هذا المعمل الذي قضى فيه زهرة شبابه، وعصارة حياته غريباً منبوذاً حقيراً، وكيف يكون العامل العربي المسلم في فرنسا إن لم يكن غريباً منبوذاً؟)).
هذه حالة العمال المسلمين والعرب في الغرب، وهذه حقوق الإنسان في نظر الأوروبيين. إنهم يستغلون حاجة هؤلاء العمال وفقرهم، فيستخدمونهم في الأعمال الشاقة، في المصانع التي تقضي على إنسانيتهم قبل أن تمتص كل حيويتهم وشبابهم وسنوات أعمارهم، ولا تعطيهم إلا الأجور الزهيدة التي لا تضمن لهم العيش بكرامة، ولكن اضطرارهم إلى المال، وعوز مَن يعيلونهم في بلدانهم، تجعلهم يرضون بهذا الأجر الزهيد، لسد الرمق، ودفع غائلة الجوع والموت عن أولادهم. وهذه الأوضاع تشير من طرف آخر إلى ما وصلت إليه البلدان العربية من الفقر والعوز، حتى يضطر أمثال هؤلاء للذهاب إلى المجهول، واقتراف المآثم، والرضوخ إلى المذلة والإهانة للحصول على لقمة العيش. هذه الصورة تقف إزاء حرص الغربيين على الرفاه، وجني الربح الوفير، والتنعم بألوان الترف على حساب هؤلاء الأذلاء، وهذه صورة من صور الغرب، ورعايته لحقوق الإنسان. وقصة (أبو طاهر) تصور جانباً من هذه المآسي، من خلال عرض ما لقيه (أبو طاهر) خلال وجوده في فرنسا، التي ترفع شعارات الحرية، وحماية حقوق الإنسان.
وقصة (شرطي المصرف) تصور فيها حياة امرأة مسلمة مات عنها زوجها وترك لها طفلين، مع مرتب ضئيل، فاضطرت للعمل في بيوت الإسبان النصارى هرباً من حياتها في بلدها الخالية من الحب والحنان. وهذه صورة لمأساة المجتمعات الإسلامية التي نأت عن شرع الله، فساد فيها الجهل، والظلم، والقهر، والعادات السيئة، وباتت العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة، أو المجتمع، نوعاً من التسلط والقهر والظلم، وانعدمت روح التآخي والتراحم، والتعاون. وهذا الواقع هو الذي دفع بعض الناس للهرب إلى أوروبا، ومكابدة هذه الأحوال الذليلة، والوقوع في محن قاسية، بدافع الخلاص من الظلم، مع الانخداع بمظاهر الحرية، ودعايات حقوق الإنسان. وهذه القصة تشير إلى صورة مشرقة لهؤلاء الذين يعتنقون الإسلام من الإسبان، فتتحول مشاعرهم المتعصبة، وعنصريتهم الغربية إلى شعور الإخاء والمواساة وحب الخير، وهذا ما جعل شرطي المصرف ينظر إلى هذه المرأة المسلمة نظرة حنو وإعجاب وإكبار لحفاظها على شخصيتها وعقيدتها، وينتهي به المطاف إلى طلب الزواج منها، بعدما يكشف عن شخصيته وإسلامه، وهذا ما يفعله الإسلام بالإنسان.
وفي بقية القصص، تتابع الكاتبة تصوير جوانب مختلفة من حياة الجالية الإسلامية في الغرب: الرجال، والنساء، والأطفال، أو الجيل الجديد، الأسرة، العلم، التعامل مع الغربيين ... إلخ.
فقصة (بائعة النعنع) تصلح نموذجاً لحكايات الكاتبة في الجزأين، وهي تصور حياة امرأة غريبة في مظهرها، تبيع النعنع في سوق الأحد، مع عدد من الأعشاب والورود، وتخدم في بيوت أبناء الجالية، وفي دير الرهبان في بقية أيام الأسبوع. وحياتها الحاضرة تنطوي على مأساة حياتها السابقة في بلدها، مع زوج جاهل، ظالم، آثم، منحرف، مما جعلها تهرب إلى إسبانيا، وتخدم في البيوت لكي تحصل على لقمة العيش، وما يسد حاجتها.
والقصة ـ كما قلت ـ تحمل سمات الأديبة القاصة، صاحبة هذه الحكايات الواقعية، وهذا العرض الأدبي الممتع لحياة الجاليات الإسلامية في أوروبا، ولعلها أفضل حكايات الكاتبة في عناصرها وأسلوبها. فلقد نجحت في عرضها للأحداث، ووصفها للشخصيات والأماكن، وفي استخدام العبارة القصيرة الموحية، أو الوصف الشامل المفصل، أو في طريقة عرض اللقطات ذات الدلالة في رسم الشخصية، أو تحديد صفات المكان أو البيئة، أو تلوين الحدث. ها هي تصف بائعة النعنع، فتبرز كثيراً من ملامحها: ((رأيتها تتهادى مثقلة بملابسها، أو بدانتها، أو بأي شيء آخر، ما خلا السنوات التي تثقل كاهلها، لكنها عرفت كيف تكبح جماحها، ولم تدع خطوط الشيب تتغلب على الحنة في شعرها، ولم تستطع تجاعيد جبينها أن تقهر حمرةً تشوب جبهتها السمراء التي تصافح الشمس كل يوم في مكابدة وجهاد، كلما أشرقت الشمس، وكلما غابت عن هذه الأرض)).
وتصف الحي الذي تسكن فيه المرأة، فيعطي هذا الوصف أبعاداً للحكاية فتقول: ((خليط عجيب من الناس، ما بين عرب وغجر وإسبان، اصطفوا أمام أبواب البيوت، إن صحّ أن تسمى تلك الأشياء بيوتاً، وجلسوا على الرصيف يدخنون السجائر والحشيش، ونساء نصف عاريات جلسن يغسلن ملابس أولادهن ببعض المياه المتجمعة بعد ليلة شديدة المطر، في صيف شديد الحر. وشباب تنطق عيونهم بالبؤسي، وتتكلم وجوههم بلغة الجريمة، يلعبون بالسيارات المحطمة، وأولاد كثيرون جداً، وتتكلم وجوههم بلغة الجريمة، يلعبون بالسيارات المحطمة، وأولاد كثيرون جداً، ما تفتأ أمهاتهم ينجبن الواحد منهم إثر الآخر، حفاة عراة، يركضون وراء بغل كان يجري هناك، يرعى أعشاباً تنبت في أطراف الحي)).
والقصة تصور ـ أيضاً ـ جانباً من المجتمع الإسباني، وطريقة تعامله مع الغرباء مع عرض صور للجاليات الفقيرة التي ألجأتها ظروفها الفقيرة والمضطربة في بلدانها العربية والإسلامية للهجرة إلى هذه الأماكن، وتحمل هذه المآسي، والغرق في حياة بائسة مقيتة خالية من التعامل الإنساني الحقيقي، ومع كل هذه المآسي يعجز الهاربون ـ من فقر بلادهم ـ عن العودة:
((ولماذا أعود يا بنتي؟ ليس لي أحد هناك! أنا هنا آكل وأعمل وأنام، وليس لأحد في الدنيا علي منة، ولدي صديقات ومعارف، فلماذا أعود، وإلى أين؟)).
وقصة ((رباح القطان)) تصور لوناً جديداً من ألوان الهروب من قساوة الأوطان وبؤس الحياة فيها، إنها تصور الوطن الذي لا يحتضن أبناءه من ذوي العلم والخبرة والتخصص، بل يضيق عليهم سبل العيش، ويحرمهم من الفرص المناسبة، ويحول دون الاستفادة من خبراتهم، ويقيد حرياتهم في البحث أو يمنعهم من الاستفادة مما وصلوا إليه في أبحاثهم، فضلاً عن الإهانة والإذلال الذي يلقاه الإنسان نتيجة لرأي شخصي، أو معتقد يعتقده في حياته. فيضطر أمثال رباح القطان للهرب من بلده وبيئته إلى البلدان الغربية التي تستقبلهم، لتأخذ خبراتهم، وتستغل مواهبهم، وتمتص كل قدراتهم وطاقاتهم، دون أن تعطيهم ما يشعرهم بإنسانيتهم.
وحين يستفيق هؤلاء يشعرون أنهم ـ لقاء المال والشهرة ـ خسروا مشاعرهم وقيمهم وإنسانيتهم، وأنهم يعيشون في سجن كبير سوره من الشهرة، والمادة، وهو بعيد جداً عن مشاعر الإنسانية التي نشأ عليها في صغره، وإذا ما فكروا في العودة إلى أوطانهم، تضع البلدان الغربية أمامهم العوائق، بطرق خبيثة ووسائل مختلفة، حتى يظلوا هناك، في حياة خالية من الطمأنينة، بعيدة عن الإنسانية، تملؤها الصراعات النفسية، وشعور الخيبة والإحباط.
وقصة (القابضون على الجمر)، تصور أوضاع الجيل الثاني من أبناء الجالية الإسلامية في الغرب، الذين يبتعدون عن أوطانهم، ومعتقداتهم وأخلاقهم ويغرقون في المجتمعات الغربية، بكل ما فيها من انحرافات وتشوهات ومفاسد ظاهرة وباطنة، والقصة تثير كثيراً من المشكلات، التي ينبغي أن تكون موضع دراسة واهتمام من قبل الجاليات الإسلامية في الغرب، ومن قبل المسلمين في الأقطار الإسلامية، لأنها تشير إلى كثير من الأخطار التي تحيط بالأسر المسلمة، وأبنائها في الغرب، مع العلم بأن كثيراً من العاملين في حقل الدعوة الإسلامية ينشغلون بالمؤتمرات، وترديد الشعارات، وينسون هذه الوقائع المأساوية لأبناء الأسر المسلمة الذين ولدوا هناك وانطبعت في نفوسهم وأخلاقهم وأفكارهم وألسنتهم حياة الغربيين وعاداتهم، وأخلاقهم ومعتقداتهم، حتى ذابوا في تلك المجتمعات.
والقصة توضح أن استنقاذ الأولاد، والمحافظة عليهم يعادل القبض على الجمر، وإذا نجحت هذه الأسرة في المحافظة على أبنائها، فإن غيرها غير قادر على ذلك لطبيعة الحياة هناك، ولفقدان الشروط الضرورية لتحقيق هذه الغاية.
وفي القصة كثير من الأمور التربوية، والأساليب التي تتعامل بها الأسرة مع أولادها، وهي بحاجة إلى نقاش، ولا يمكن اعتمادها قاعدة في استنقاذ الأولاد من الغرق في تلك المجتمعات.
وفي قصة (طريق من الشوك)، تصوير للبيوت الإسلامية في الغرب، ومصير النساء اللواتي هربن من ظلم الأسر الجاهلة في البلدان العربية، أو من الفقر المهيمن فوقعن في مصائد شبكات مجرمة تصدر إلى الغرب هذا الصيد المسكين، وتستعمل هؤلاء النسوة في الجريمة والبغاء.
أما قصة (الموت غربة)، فهي تصوير لمأساة الشباب الذين تضيق بهم سل العيش في بلادهم، وتحرقهم مأساة البطالة والعوز، فيبحثون عن أي سبيل يخرجهم مما هم فيه، ويركبون صهوات الأخطار والأحلام والخيالات، التي قد تصل بهم إلى الهلاك قبل الوصول إلى الغرب، كما حصل للمركب الذي حمل ثمانية من الهاربين من المغرب إلى غسبانيا للحصول على العمل، حيث طوتهم الأمواج في عبابها، وابتلعهم البحر، وأنهى هذه المأساة بطريقته الخاصة.
والقصص ـ جميعها ـ تضع أمام القارئ صورة حقيقية واقعية للغرب الذي تنبهر بأضوائه العيون، وتفتن بدعاياته القلوب والنفوس، وتنخدع بشعاراته الشعوب، فإذا بالكاتبة التي تعرف حقيقة ما يجري داخل تلك البلدان، تكشف الأغطية الخادعة، وتضع أيدينا على صور مأساوية مزرية، حيث تختفي المعاني الإنسانية، والقيم الشريفة وتبرز صور القهر والإذلال للإنسان، والطبقية والعنصرية والتعصب تجاه الآخرين واستغلال ا لمقهورين، لجني الأرباح فوق الأرباح، وترك هؤلاء العمال يعيشون في درك تأباه الكلاب الضالة، أو الحيوانات الشاردة، حتى نهتف جميعاً مع كل ذي ضمير: أين حقوق الإنسان؟
وكذلك تثير هذه الحكايات موضوعات العلم، والتخصصات، والتقدم التقني الذي ينطوي على قهر الشعوب الفقيرة، ونهب ثرواتها المادية والمعنوية، واستنزاف طاقاتها البشرية بطرق مختلفة، لكي تظل مورداً للخامات، ومستهلكاً للصناعات التي تعود من الغرب. والألوان كثيرة، والمآسي لم تعد خافية على أحد، واليقظة الحقيقية ليست في الاتجاه للغرب باسم العلم والتقنية والتخصص، بل بإعداد الإنسان الحر الذي يأبى الخضوع لغير الله عزوجل، وحين يربي هذا الإنسان على بصيرة ينهض ليحوز على العلم، والقوة، والعدل، والحرية، والإنسانية الصحيحة، ينهض ليبشر بحياة إنسانية كريمة.
وهذه الحكايات لون من ألوان الأدب المهاجر إلى الغرب، المصور بصدق حياة هؤلاء الذين يعيشون وسط الغربيين، بمآسيهم، وأفكارهم وعقائدهم.
هذا اللون من الأدب، لا يعرض حياة الغربيين بعيون الغربيين أنفسهم، أو أتباعهم لدينا، وإنما بعيون وبصائر المؤمنين الذين لا ينخدعون بالقشور، ومثل هذا الأدب حري بالاهتمام، والرعاية، وحري بأن يأخذ مكانه في الأدب الإسلامي المعاصر.
لقد أظهرت الكاتبة كثيراً من مميزات الأديبة الموهوبة، وآثرت الصدق على مواصفات الفن، ولكنها لم تخرج عن إطاره المقبول في أضعف حالاتها. أما في حالاتها القوية فقد كانت قاصة ناجحة، قادرة على الوصف، ورسم الشخصية، وربط الأحداث ودفعها نحو الهدف، واستخدام الرمز الخفيف، وتداعي الأفكار والرسالة وغير ذلك من الأساليب التي تستخدم في القصة.
------------------------------------------
* المصدر: في القصة الاسلامية المعاصرة
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة