مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 التحديات الجديدة
حتى لا تفرض علينا التهم
د.سليمان إبراهيم العسكري


في الرواية الشهيرة (المحاكمة) التي كتبها الروائي التشيكي (فرانز كافكا)، يهاجم رجال مجهولون منزل المواطن (س) الذي لانعرف أي شيء عن أوصافه أو انتماءاته السياسية أو حتى اسمه كاملاً، يهاجمونه في منتصف الليل ويتولون التحقيق معه على الفور، يحاصرونه ويوجهون له تهماً غامضة لايعرف عنها شيئاً، ثم يطالبونه بعد ذلك بالذهاب للتحقيق معه في دار الهدالة ويتعرض للمحاكمة ورغم كل ذلك لاتتضح التهمة بل تزداد غموضاً، ومع أن المواطن (س) لايفهم شيئاً مما يدور حوله فإنه في كل مرة يحس أنه مدان وأنه لن يستطيع الإفلات من هذه التهمة الغامضة التي تلاحقه، وبالتدريج يتقبل كل الاتهامات الموجهة إليه رغم أنها لاتتضح له أو لنا مطلقاً، وتزداد درجة السخرية المريرة في نهاية الرواية عندما يأخذه الرجال المجهولون إلى مكان ما خارج المدينة وينفذون فيه ببساطة حكم الإعدام. لقد كانت (المحاكمة) بغموضها وعبثيتها رواية مثيرة وغريبة في ذلك المناخ القلق الذي كان يسود أوربا ما قبل الحرب العالمية الثانية، ولكن هذا الكابوس تحول إلى رؤية شديدة الصدق لعالمنا المعاصر، وأصبح (كافكا) كاتباً واقعياً رغم كل الذين اتهموه بالتغريب ولعل التهم التي يوجهها الغرب للعرب بشكل خاص وللمسلمين بشكل عام بأنهم رعاة وممارسون للإرهاب هي من نفس فصيلة التهم التي وجهت إلى المواطن 0س) والتي لاقى حتفه بسببها، فالأمر لايتعلق بما حدث في الحادي عشر من سبتمبر 2001 فقط وما ترتب عليه من تفجيرات نيويورك وواشنطن، ولكنها تهم قديمة الجذور لايني الغرب يلصقها بنا ويضعها على عاتقنا كعرب وكمسلمين في كل مرحلة من مراحل الصراع معه، وياله من تاريخ للصراع يمتد من الحروب الصليبية حتى لحظتنا الراهنة، وهو يقوم بذلك في محاولة دائمة منه لحصار الثقافة العربية الإسلامية ووصم الدين الإسلامي بالعدوانية والعنف، والغرب في ذلك لايرى العنف الفعلي الذي اقترفته حضارته في حق الملايين من سكان العالم، ولا يتذكر المذابح الاستعمارية التي قام بها في كل مكان وطأته أقدام الرجل الأبيض، بل إن مفكرين من أمثال (صمويل هنتنجتون) سعوا إلى تأصيل تلك النظرة العدائية عندما صاغ نظرية (صدام الحضارات) ووضع خطوطاً حول نقاط التماس الحضاري أشهرها وأكثرها التهاباً هو الصراع بين الحضارتين الإسلامية والغربية، ويبدو أن الإلحاح على هذا الأمر قد جعلنا ـ مثل بطل كافكا ـ مذنبين بالفعل حتى قبل أن نعرف حيثيات التهم الموجهة إلينا، وأصبح همنا الوحيد هو تقديم الاتهامات والاعتذارات عن أشياء لاندري إن كنا قد قمنا بها أم لا.
وإذا كان القرن العشرون، هو قرن الحرب الباردة التي استمرت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة حتى بدايات التسعينات، فيبدوا أن القرن الحادي والعشرين سوف يكون شعاره (محاربة الإرهاب) وإذا كان العدو واضحاً وجلياً في الحرب الأولى فإنه في الحرب الثانية خفي ومجهول، فهو يأتي من المنطقة المظلمة من العالم ليضرب ضربته ويعود إليها من جديد، والنتيجة أن الغرب يبحث عن عدو جاهز من السهل التربص به، ولأن الصراع بين العالم العربي والغرب له جذوره التاريخية البارزة منذ الحروب الصليبية فالعدو الحاضر هو نحن دائماً، والغرب لم ينس بعد هزيمته في الحروب الصليبية، ولعل سعيه لإقامة دولة إسرائيل ودعمه المتواصل لها هو ثأره من هزيمته القديمة على نفس هذه البقعة من الأرض.
ما نسعى لإيضاحه من خلال صفحات هذا الكتاب الذي جمعت العربي مادتته من خلال طروحات العشرات من المفكرين العرب امتدت على مدى سنوات. حتى قبل طروحات هنتنجتون وتفجيرات نيويورك ـ هو أننا أصحاب مشروع حضاري مختلف ـ وليس إرهابياً ـ هذا المشروع لايتصادم بالضرورة مع الغرب ولكنه يسعى للتعايش معه، دون هيمنة أو سيطرة طرف على آخر، لقد أفاق العالم العربي من كوابيس الظلام العثماني، ولم يلبث إلا قليلاً حتى وجد نفسه بسبب ما فيه من ضعف ووهن تحت سيطرة قوى الاستعمار الغربي، ولم يكد يتعافى من آثار هذه المرحلة ويجدد قوته الوطنية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين حتى فوجئ بذلك الاستنزاف الصهيوني الذي طال أجله. إن ما نطلق عليه تعبير (العجز العربي) ما هو إلا محصلة سنوات طويلة من الإنهاك العثماني إلى الغربي المتواصل لقوانا الذاتية.
إن عالمنا العربي يريد أن يدخل في إطار النظام العالمي الجديد مشاركاً وليس تابعاً، عضواً فعالاً وليس متهماً، قادراً على اتخاذ القرار الذي يناسبه وليس خائفاً أو شاعراً بالذنب. والأمر في كل هذا لايخص الغرب بقدر ما يخص قوانا الذاتية وصورتنا عند أنفسنا.
لا نريد أن نكون مثل السيد (س) شاعرين بالذنب قابلين لحكم الإعدام عن تهم لم نقم بها، بل لم نفهمها أصلاً.
----------------------------------------------
المصدر: الاسلام والغرب

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة