مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 نظرة الغربيين للاسلام
شبهتان في المنهج الاستشراقي لدراسة القرآن الكريم
عبد الجبار الرفاعي


اللاهوت النصراني الذي تراكم فيه الحقد، واختزن الروح العدوانية الثأرية تجاه الشرق وانسانه المسلم، كان الرافد الاول لتشكيل رؤية الغرب أزاء الشرق، ثم ألهمت الاساطير المترجمة عن الشرق الانسان الغربي، صوراً خيالية أخرى عن ذلك العالم.
من هنا توحدت هذه الرؤية أزاء الشرق، وان اختلفت بالنسبة لأشياء أخرى، ولم يتمكن انتاج المستشرقين ان يخترق جدار المرآة التي يرى الشرق بواسطتها، الا استثناءاً، ولذلك لم يطرأ أي تحول أساسي في منهج البحث لديهم بالرغم من تغاير الأزمان، واختلاف البلدان التي ينتسبون اليها.
في ضوء ذلك لا يصح ان نقر التقسيم الذي ذهب اليه بعض الدارسين، بتصنيف الاستشراق الى مدارس، بحيث نسمي بعضه استشراقاً انجليزياً، وبعضه الآخر فرنسياً، أو المانياً، أو هولندياً، صحيح أن الدارسين يسمون بأسماء البلدان التي ينتمون اليها، غير أن النتيجة الصحيحة كما يشير الى ذلك عمر لطفي العالم في كتابه "المستشرقون والقرآن" المتأتية عن استعراض طرق البحث والتفكير والمحصلات، تنفي صحة هذا التقسيم، وإذا كان لابد من وجود اختلاف، فليس مرده الى الجغرافية، بل الى التناوب في تسيير عجلة الاستشراق، وبعبارة أخرى فانه ما إن وقفت مدرسة المستشرق دي ساسيه في باريس عن العطاء، حتى استأنفته مدرسة تيودورنولدكه في شتراسبورج، أو مدرسة هورجرونه في هولندا(1)، أما الموضوعات فتوشك ان تكون متطابقة مكملة، فاذا عرفنا أن الاتصال عبر المؤتمرات السنوية والدوريات المنتظمة لم ينقطع أبداً، جاز لنا القول:
إن سحنة الاستشراق واحدة، ولا سيما في وسائلها وغاياتها المتجهة نحو القرآن الكريم(2).
من المناسب هنا ان نشير الى شبهتين تكررت اثارتهما بأساليب مختلفة، من قبل المستشرقين أزاء النبي الأمين (ص) والقرآن الكريم، ومن يراجع آثارهم يجد صياغات متنوعة لهاتين الشبهتين، فقد تذكر الشبهة في مؤلف أحد المستشرقين الأوائل بنحو ما، ثم يلتقطها الآخر الذي يأتي بعده، فيعيد انتاجها ويحاول اثارتها بكيفية جديدة وكذلك يفعل الثالث المتأخر عنهما، بيد أن محور تلك الشبهة هو هو، وإن تنوعت أساليب التعبير عنها
* الشبهة الاولى: وتتخلص في القول:
ان للبيئة الفضل في افراز روح وفكر الرسالة الاسلامية، كما صرح بذلك أحد المستشرقين بقوله:
(يخيل اليَّ أنه من العبث فهم محمد بعيداً عن زمنه وبيئته).
ومن الغريب ان يتجاهل هذا الزعم، ان الاسلام كان ثورة حقيقية على الجاهلية، وان الاسلام عبّرَ عن مشروع حضاري يتناقض من الديانات الوثنية التي كانت سائدة في عصر البعثة، وبالذات في الجزيرة العربية _مهبط الرسالة الاسلامية _، ولذلك دخل الاسلام مرحلة الصراع مع الوثنية السائدة آنذاك في مكة المكرمة، هذا الصراع الذي اشتد بعد سنوات قليلة من عمر الرسالة، حتى اضطر المسلمون معه الى اللجوء الى أرض أخرى جديدة لتكون قاعدةً ومنطلقاً للدعوة الجديدة، ومع ذلك لم تتخل الوثنية عن عدوانها وكيدها لهذه الدعوة الوليدة، الى ان بلغ الصراع ذروته في المعارك الضارية التي خاضها المسلمون مع الوثنيي، واستمرت طيلة فترة حياة الرسول (ص)، ولم تتوقف بعد وفاته.
ان هذا الصراع الدموي الذي تواصل لسنوات عديدة، بين الاسلام والوثنية، هو الدليل الأكيد على ان الاسلام هو النقيض الطبيعي للبيئة الوثنية المعروفة وليس من الصحيح ان يولد النقيض من رحم نقيضه، بمعنى انه لايمكن ان نفهم، بأن البيئة العقائدية الوثنية يمكن ان تثمر عقيدة توحيدية خالصة، هذه العقيدة التي عبرت عن نفي تام للوثنية.
أليس هذا القول أشبه بمن يدعي بأن مصدر النور هو الظلام؟!
قال تعالى:
(قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين يهدي به الله مَن اتَّبع رضوانه سُبل السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور باذنه ويهديهم الى صراطٍ مستقيم).
اما الشبهة الثانية فتتلخص في: حرص المستشرقين على تصيد النظائر والمتشابهات بين القرآن والكتب الاخرى، واتخاذها ذريعة للقول بتلقي الرسول الامين (ص) مادة القرآن الكريم من تلك الكتب، كما نلاحظ ذلك في الكثير من مؤلفات المستشرقين حول القصص القرآني، فقد اشار المستشرق الألماني "هاينز شبييار" في كتابه الصادر عام 1931 تحت عنوان "القصص التوراتي في القرآن"، أشار في مقدمة هذا الكتاب الى ما سمّاه أعمالاً أصولية ومرتكزات علمية على مدار السنوات المائة الاخيرة _وهي مؤلفات المستشرقين: شبر نجر، موير، جريم، نولدكه، بوهل، شفاللي _، وعلل شبييار حكمه هذا بأن أصحاب هذه الأعمال خصصوا النصيب الأوفر من تلك الدراسات للحديث عن شخصية الرسول، كما قال:
(إن هذه الدراسات دلت صراحة على التصورات غير العربية التي "اقتبسها" الرسول من غيره، سواء في مواجهاته التشريعية أو السياسية، وذلك في ضوء الدراسات النقدية التي وضع أسسها المستشرق المعروف اجناس جولدزيهر من خلال دراسته للسيرة) (3).
ان هذه القراءة الارجاعية لما تضمنه القرآن الكريم، ومحاولة اكتشاف الأصول في موروث كتابي آخر، هي أحد أبرز ملامح الرؤية التقليدية للاستشراق في تعامله مع التراث الاسلامي، بل التراث الشرقي عامة، فمثلاً الفلسفة الاسلامية تغدو فلسفة يونانية مكتوبة بحروف عربية (بحسب زعم المستشرق الفرنسي ارنست رينان _، والتشريع الاسلامي هو القانون الروماني، و... الخ.
لقد كانت هذه القراءة مظهراً واضحاً لتجلي الوعي الاستشراقي، الذي ولد في أحضان اللاهوت الكنيسي، والذي عمد الى تبني خطاباً تضليلياً في الحديث عن القرآن الكريم والتراث الاسلامي، لأنه مما لاشك فيه ان تاريخ الانسانية تاريخ مشترك، والمنعطفات الكبرى في هذا التاريخ شملت كل أفراد النوع الانساني آنذاك، حيث كانت الأرض هي المسرح الطبيعي لتلك الحوادث، كحادث الطوفان الذي عمَّ الأرض في عصر النبي نوح (ع).
ومن هنا تكرر ذكر الطوفان مثلاً، في الكتب القديمة، بل في الألواح الطينية التي عُثر عليها في آثار الأمم القديمة كالسومريين وغيرهم، فلماذا أضحى ذكر هذا الحادث في القرآن اقتباساً من التوراة؟!
ــــــــــــــ
1_ كان دي ساسيه المستشرق الفرنسي اللغوي على رأس المدرسة الفرنسية في باريس، بينما كان نولدكه في مدينة سترا سبورج على رأس المدرسة الألمانية، وطبع حركة الاستشراق سبعين سنة بشخصه، وكان المستشرق هورجرونيه في مدينة لايدن بهولندا كذلك بالنسبة للاستشراق الهولندي.
2_ العالم، عمر لطفي. المستشرقون والقرآن، ص 26.
3_ ن . م، ص 85 و 118.
------------------------------------
المصدر: متابعات ثقافية
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة