مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 رياح الاسلام
نظرية العمل والقيمة بين ابن خلدون وماركس
عبد الرحمن بدوي


من الأفكار الأصيلة التي عرضها ابن خلدون في «مقدمته» نظريته في العمل والقيمة، وهي قريبة جداً من نظرية ماركس التي تردّ القيمة الى العمل المبذول في إنتاج السلعة.
فقد عقد ابن خلدون فصلاً ممتازاً «في حقيقة الرزق والكسب وشرحهما، وإن الكسب هو قيمة الأعمال البشرية» فبيّن افتقار الإنسان الى العمل لإنتاج السلع التي تشبع حاجات نفسه إما مباشرة باستهلاكها والإنتفاع المباشر بها، واما بالمعاوضة عنها بما أنتجه الآخرون مما هو في حاجة اليه. إذ لا سبيل الى تحصيل ما أنتجه الغير إلا بإعطائه بديلاً عنه. ولهذا يقول: «أيدي البَشَر منتشرة فهي مشتركة في ذلك (أعنى في إنتاج السلع) وما حصلت عليه يد هذا امتنع عن الآخر إلا بعوض. فالإنسان متى أقتدر على نفسه وتجاوز دور الضعف سعى في أقتناء المكاسب ينفق ما أتاه اللّه منها في تحصيل حاجاته وضروراته بدفع الإعواض عنها».
ويمضي ابن خلدون في بيان نظريته فيقول تماما كما يقول ماركس إن قيمة العمل انما تقاس بكميته، فيقرر بصريح العبارة: «وقد يكون مع الصنائع في بعضها غيرُها مثل النجارة والحياكة معهما الخشب والغزل، الاّ إن العمل فيهما (أي في النجارة والحياكة) أكثر، فقيمتُه أكثر» : وعلى هذا فإن العبرة في تقويم الإنتاج هي بكمية العمل التي بذلت لتحصيلها. ذلك أن العمل المبذول في صناعة قطع الأثاث أكبر من العمل الذي بذل في قطع الأشجار، والعمل المبذول في النسيج أكبر منه في الغزل؛ ولهذا يجب أن يجري تقويم كل نوع منهما وفقاً لذلك، فيكون الأول أغلى من الثاني. لكن يلاحظ ان ابن خلدون هنا قد اقتصر على ضرب المثل بصناعات متكاملة حتى يسهل عليه التخلص من الاعتراض الذي يثار دائماً ضد نظرية القيمة بحسب العمل، وهو: كيف تقوم السلع المتباينة وليس ثم أساس مشترك لتقدير العمل بينها؟ وبهذا نرى ابن خلدون بعيداً عن التفكير في مواجهة كل الإعتراضات المشهورة على هذه النظرية. وأهمها أولاً أنه قد يحدث مراراً أن يكون ثمّ قيمة حيث لا عمل أصلاً، مثل اكتشاف نبع أو بئر بترول أو عروق معدن بالصدفة لا بالبحث والتنقيب. وثانياً أننا لو قارنّا بين عمل نحات وعمل قاطع أحجار، لوجدنا أن الأول ينتج في ساعتين ما لا ينتجه الآخر في عشر الساعات من حيث قيمة الناتج. وثالثاً دعوى أن التبادل تكافؤ وهذا باطل لأن استبدال عشرة قناطير من القطن مقابل ثلاجة ليس فيه تكافؤ، بل يتوقف الأمر على المنفعة بالنسبة الى المتقايضين. ورابعاً نرى هذه النظرية تغفل التمييز بين نوعين من الخيرات: نوع لايدخله عمل انساني . ونوع آخر يقوم به العمل الإنساني، وكلاهما ذو قيمة. فالأحراش ومساقط المياه والينابيع وما إليها لا يدخلها عمل إنساني، ومع ذلك فلها كل قيمتها.
على أن ابن خلدون - وهذا من حصافته ولو ذعيته - أدرك هذا الإعتراض الأخير فبدأ كلامه بالتمييز بين كلا النوعين من الخيرات ، ولم يتجاهله كما صنع ماركس . فقال ابن خلدون : «وقد يحصل له ذلك (أي المنافع) بغير سعى كالمطر المصلح للزراعة وأمثاله، إلا أنها أينما تكون مُعينة ولابد من سعيه معها» ( ص 186) - ومعنى هذا أنه يرى أن الخيرات الخالية من العمل الإنساني ليست إلاّ وسائل مساعدة ولا تكفي بنفسها لسد حاجة الإنسان وهذا ما لوحظ فعلاً في الرد على الإعتراض الرابع. فإن الأحراش ومساقط المياه ومواطن المعادن لاتقوم لنفسها بإعطاء السلع الصالحة للاستهلاك، بل لابد من إقامة المنشآت واستخدام الآلات وبذل الجهود البشرية والآنية لتقطيع الأشجار وتحويلها الى أخشاب صالحة بعد ذلك لصناعة الأثاث والبناء - بالنسبة الى الأحراش؛ ولابد من المنشآت والآلات والجهود البشرية والآلية لاستغلال مساقط المياه باستنباط الكهرباء منها وتوزيعها بعد ذلك للانتفاع منها في التحريك والإنارة وما الى ذلك ... وهكذا يصدق مالاحظه ابن خلدون من أن النوع الأول من السلع وهو الذي يبدو في الظاهر خالياً من العمل يتضمن في الواقع عملا ضخماً من أجل أن يكون كفيلاً باشباع الحاجات الإنسانية. ولهذا يقول ابن خلدون مشيراً الى هذا المعنى: «وقد تكون ملاحظة العمل ظاهرة في الكثير منها فتُجعل له حصة من القيمة - عظمت أو صغرت؛ وقد تخفى ملاحظة العمل كما في أسعار الأقوات بين الناس، فإن اعتبار الأعمال والنفقات فيها ملاحظ في أسعار الحبوب... لكنه خفى في الأقطار التي علاج الفلح فيها ومؤونته يسيرة فلا يشعر به إلا القليل من الفَلح».
ولهذا يختم ابن خلدون بحثه ها بعبارة حاسمة فيها يصوغ نظريته كلها وهي «أن المفادات والمكتسبات كلها، أو أكثرها، إنما هي قيم الأعمال الانسانية» ويلاحظ هنا تحفظه حين قال: «أو أكثرها» - فهو لم يندفع اندفاع ماركس الذي ردّ كل قيمة الى العمل ولم يراعِ الفوارق والأحوال الاستثنائية.
ويلحَّ ابن خلدون في توكيد معنى استمداد القيمة من العمل عدة مرات طوال هذا الفصل والفصل الذي يليه « في وجوه المعاش وأصنافه ومذاهبه»، فيقرر أن «مايفيده الإنسان ويقتنيه من المتمولات إن كان من الصنائع فالمفاد المقتنى منه قيمة عمله، وهو القصد بالقنية، إذ ليس هناك إلاّ العمل».
ويرتفع في تمجيد العمل الى حد يجعله وحده مصدراً لكل قيمة وانتاج فيقول: «لابد من الاعمال الانسانية في كل مكسوب ومتموَّل، لأنه إن كان عملا بنفسه مثل الصنائع - فظاهر؛ وإن كان مقتى، من الحيوان والنبات والمعدن، فلا بد فيه من العمل الانساني... والاّ لم يحصل ولم يقع به انتفاع». وليس ثم أصرح من هذا في توكيد ضرورة العمل الإنساني... ولهذا نراه أيضاً في الفصل الذي عقد بعنوان «ان الخدمة ليست من المعاش الطبيعي» يقرر أن على كل إنسان أن يباشر حاجاته بنفسه والاّ يدع للغير مهّمة العمل ويكتفى هو بالربع، وهو ما يلجأ اليه بعض المترفين. قال ابن خلدون «إن أكثر المترفين يترفع عن مباشرة حاجاته، أو يكون عاجزاً عنها لما ربّى عليه من خلق التنعم والترف، فيتخذ من يتولى ذلك له، ويقطعه عليه أجراً من ماله. وهذه الحالة غير محمودة بحسب الرجولية الطبيعة للانسان».
وإذن فابن خلدون يرى أن ترفع بعض الناس عن مباشرة الأعمال وترك ذلك لمن يستأجرهم الإنسان لذلك ويقطعهم عليه أجراً من ماله - يرى أن هذا ليس من الرجولية الطبيعية للإنسان، بل الطبيعة تقتضي من الإنسان أن يباشر استثمار أمواله وتوفير حاجاته، وهذا لا يكون إلا بالعمل المباشر لتثمير المال وتحصيل الحاجات والضرورات، فالكسب، كما يقول في الفصل الخاص بالكسب، إنما يكمن بالسعي في الإقتناء والقصد الى التحصيل. «فلاُبد في الرزق من سعىَّ وعمل».
ولهذا نراه يستبعد الوسائل الأخرى في تحصيل المعاش، أعني كل وسيلة لاتبنى على عمل، لانها وسائل غير طبيعية، فيعتقد فصلاً خاصاً يبين فيه «أن ابتغاء الاموال من الدفائن والكنوز ليس بمعاش طبيعي»، فضلاً عن أنه في جميع الأحوال إلا النادر جداً لايؤدي الى شيء، ولهذا لم يحصل الذين سلكوا هذا السبيل «إلا على الخيبة في جميع مساعيهم... فيحتاج من وقع له شيء من هذا الوسواس وابتلى به أن يتعوذ باللّه من العجز والكسل في طلب معاشه... وينصرف عن طريق الشيطان ووسواسه ولا يشغل نفسه بالمحالات» (ص 190).
وهكذا نرى في نظرية ابن خلدون في العمل والقيمة المستعدة من العمل أصالة عميقة سبق بها ماركس بخمسة قرون وأجاب مقدماً على بعض ماوجه الى نظرية ماركس في القيمة بحسب العمل من إعتراضات، و كشفت عن جانب رائع من عبقرية هذا المفكر المسلم الفذّ.
-------------------------
المصدر : دور العرب في تكوين الفكر الاوروبي
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة