مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 نظرة الغربيين للإسلام
دعوى تذبذب التعاليم القرآنية في موسوعة إستشراقية ضخمة
فؤاد كاظم المقدادي


يسوق المستشرق "كارادي فو B. Carrade Vaux " دعوى تناقض القرآن بصياغة وجود تردد فيه كما في المقطع التالي تحت مادة "جهنم" في دائرة المعارف الإسلامية: "الظاهر أن القرآن قد تردد بعض التردد في مسألة خلود العذاب في جهنم، فالآيات التي تشير إلى ذلك لا تتفق تمام الاتفاق، ولعل هذا التردد إنما يرجع إلى أن النبي محمداً لم يكن من الفلاسفة المتفكرين، فلم يستطع أن يعرض بوضوح المشكلة كمشكلةِ الخلود يدخل فيها مثل هذا التصوّر المجرّد".
كما تأتي دعوى التردد على سبيل الملازمة بين القرآن والتغييرات التي تحصل في توجّهات النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يقول "فنسنك" تحت مادة "الخمر": "ولم يكن تحريم الخمر في برنامج النبي منذ البداية، بل نحن نجد في الآية 67 من سورة النحل مدحاً للخمر بوصفها آية من آيات الله للناس وهذا نصها: (وَمِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنابِ تَتَّخذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ...) بيد أنه قيل أن عواقب السكر قد ظهرت على الصورة التي بيّنا، فدفع ذلك النبي إلى أن يغيّر من اتجاهه. وأول ما نزل من الوحي مبيّناً هذا الاتجاه هو الآية 219 من سورة البقرة ونصها: (يَسْألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهمَا ...) على أن هذه الآية لم تعد تحريماً. ولم يغيّر الناس من عاداتهم وحدث أن اضطرب نظام الصلاة فنزلت الآية أُخرى هي الآية 43 من سورة النساء: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ أَمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ...) ومع ذلك فإن هذه الآية أيضاً لم تعد تحريماً مطلقاً للخمر حتى نزلت الآية 90 من سورة المائدة فوضعت حدّاً للخمر: (يَا أَيُّها الَّذينَ أَمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجسُ مِّنْ عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)".
أن الدس والتشويه الذي يوحي بشبهة أن في القرآن تناقضاً وفي بعض آياته تردداً وتذبذباً فيه مغالطة فاضحة من جهة وجهل أو تجاهل بطبيعة القرآن الكريم من جهة أُخرى، وتوضيح ذلك بما يأتي:
1- إن التطوّر المدّعى أو بتعبير أدق التدرج الذي نجده في القرآن الكريم، سواء في آيات الإرشاد العقلي للجانب العقائدي أو آيات الأحكام الخاصة بالتشريع الإسلامي أو آيات الأخلاق والتربية لإعداد الفرد المؤمن والأمة المؤمنة إنما هو أمر طبيعي اقتضته طبيعة الحكمة في الطرح الرسالي الهادف إلى توفير وإعداد عوامل الدعوة والبناء للإنسان والمجتمع، وليس كتاباً أكاديمياً مدرسياً يصنّف موضوعاته بفصول وأبواب تستوعب موضوعاتها مرة واحدة، وحتى الكتب المدرسية تخضع لمنهج التدرّج في طرح الحقائق والمعلومات، فتبدأ بالأوّليات والإجماليات وتترقى إلى الرتب الأعلى في العمق والتفصيل العلمي، فهذه الشبهة المدعاة مغالطة فاضحة مردودة على أصحابها من رجال الاستشراق ومَنْ سار على نهجهم ورأيهم المتهافت.
2- أن القرآن الكريم نزل نجوماً فهو إضافة لكونه كتاب تربية وإعداد للرسول صلى الله عليه وسلم والأمة المؤمنة كما ذكرنا أعلاه، هو أيضاً كتاب حركة وإرشاد وإحكام لقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم لدعوته الناس للإسلام، فجاءت آياته بشكل يرتبط بالزمان والمكان طبقاً للظروف والأحوال والمستجدات التي تفرزها طبيعة حركة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته سواء في الموضوع أو المنهج أو الأسلوب، لهذا نجد أن لكل آية من آيات القرآن الكريم شأناً وسبباً للنزول له مدخليّة اساسيّة في تحديد ما تتضمنه الآية من طبيعة للموضوع ومنهجيّة لعرضه وأُسلوب لبيانه، كما أن له دوراً أساسياً في تأويل معاني الآيات ومداليلها، فأصحاب الشبهة من المستشرقين وأربّائهم يتجاهلون هذه الحقيقة أو يجهلونها على أقل تقدير لو أحسنا الظن بهم. وهكذا نميّز بين المركوز لديهم عن الكتاب الأكاديمي المدرسي وبين القرآن الكريم باعتباره كتاب تربية ودعوة وحركة ارتبط بالزمان والمكان لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وحركته في المجتمع آنذاك.
3- على ضوء الحقيقتين الآنفتين، فمن الطبيعي أن تجد قصص الأنبياء عليهم السلام والأمم السالفة خاضعة لتلكما الحقيقتين، فالأطوار التي أشار لها المستشرق "سبرنجر" وأمثاله في عرض ما يتعلق بالنبي إبراهيم عليه السلام والنبي إسماعيل عليه السلام ومكة المكرمة مرتبط بتلكما الحقيقتين، حيث يجمل تارة ويفصّل أخرى، ويعرض الحقائق من زاوية معينة مرةً وبتفاصيل جديدة مرةً أخرى، وهكذا حسب مناسبات الموضوع وارتباطه بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وحركته التغييرية في الأمة آنذاك.
إن قول "كارادي فو B. Carrade Vaux" تحت مادة "جهنم": "الظاهر أن القرآن قد تردد بعض التردد في مسألة خلود العذاب في جهنم، فالآيات التي تشير إلى ذلك لا تتفق تمام الاتفاق، ولعلّ هذا التردد إنما إلى أن النبي محمداً لم يكن من الفلاسفة المتفكرين ... الخ" فيه ما يلي:
أ ـ أن المقطع الأول الذي يشير إلى دعوى تردد بعض آيات القرآن الكريم في مسألة خلود العذاب في جهنم جاء ناقصاً لا يتضمن دليلاً أو مثالاً على التردد المدعى فهو قول جزافي لا قيمة علمية له.
ب ـ أن ا لعذاب الإلهي في الآخرة له درجات تتناسب ومستوى الجريمة التي ارتكبها الإنسان في الدنيا، فهي تتدرج من المعاصي والمفاسد على اختلاف خطرها وعظمها، إلى الشرك والكفر والطغيان جحوداً بالله وإنكاراً لاُلوهيته والاستكبار والعلو في الأرض دونه سبحانه وتعالى.
ولهذا جاءت آيات القرآن الكريم لتؤكد الخلود والشدّة في العذاب لدرجات القسم الثاني ودون ذلك في القسم الأول، وهنا يأتي دور تفسير بعض الآيات للبعض الآخر تخصيصاً لعمومها وتقييداً لإطلاقها إنْ كان هناك مخصص أو مقيّد لموردها، فيمتاز بعضها بالقول بالخلود في العذاب وبعضها الآخر بما دون ذلك، فلا تردد ولا تناقض عند أولي الألباب.
ج ـ أن تعليل "كارادي فو" دعواه بتردد القرآن في مسألة خلود العذاب في جهنم بأنه يرجع إلى أن النبي محمداً لم يكن من الفلاسفة المتفكّرين، فيه أن القرآن الكريم ليس كتاباً مدرسياً ولا مؤلفاً أكاديمياً يعرض المسائل بطريقة تحليلية متسلسلة وبلغة مدرسية ومنهج أكاديمي مقرر، إنما هو كتاب دعوة وتربية للإنسان والأُمة وإرشاد وقيادة لحركة الرسول صلى الله عليه وسلم الميدانية عند بعثته وطيلة حياته الرسالية وفهم القرآن واستنباط الحقائق والأحكام والتعليمات منه يحتاج إلى الإحاطة بجملة مقدمات وقواعد تسمى بعلم تفسير القرآن الكريم، الذي يتناول علوماً فرعية متعددة تحقق القدرة على التفسير والتأويل للقرآن، منها علوم اللغة وعلوم القرآن، وعلم الحديث، وأمثال ذلك، وإنما اضطررنا لهذه العلوم لابتعادنا عن زمن التنزيل، حيث أن وجود الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام كان يغني المسلمين آنذاك عن الإحاطة التفصيليّة بهذه العلوم؛ فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته عليهم السلام تراجمة القرآن وعلماء حقائقه ودقائقه، ثم أن بلاغة القرآن وبيانه كانت واضحة لدى المسلمين في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم لتذوّقهم الفطري لها، كما أن معاصرتهم للحوادث والوقائع التي تشكل شأن وأسباب النزول كانت تغنيهم عن البحث والاستقصاء عنها لمعرفة مدلول الآيات النازلة بشأنها، وهذا أمرٌ يدركه العقلاء ويلتزمون بلوازمه. فيبطل التعليل كما تبطل الدعوى.
أما قول "فنسنك" تحت مادة "الخمر": "ولم يكن تحريم الخمر في برنامج النبي منذ البداية، بل نحن نجد في الآية 67 من سورة النحل مدحاً في الخمر بوصفها آية من آيات الله للناس ... الخ"، وفيه ما يلي:
أ ـ غمزٌ بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبصدق الوحي الإلهي له، وإلاّ فليس القرآن الكريم كلام النبي صلى الله عليه وسلم ليبرمجه حسب رأيه، إنما هو كلام الله أنزله نجوماً على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة الوحي حسب مقتضيات الحكمة الإلهية ومناسبات حركة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته للإسلام، فبرنامج التحريم للخمر ـ حسب قول "فنسنك" ـ ليس إلاّ تدرجاً في طريقة ومستوى البيان للحكم الشرعي، من تقبيح وتحريم له مرّةً وبيان لاشتماله على الإثم ـ وهو محرّم ـ أخرى، والزجر عن تناوله لحرمته ثالثة ...، ولا تعارض بين الآيات التي تناولت الخمر، فكلّها تحرّمه بصيغ بيانية متنوعة اقتضتها تلك الحكمة الإلهية والمناسبات الواقعية، شأنها في ذلك شأن كثير من الظواهر الاجتماعية الفاسدة التي تستلزم تدرّجاً زمنياً في طريقة ومستوى بيان الموقف الشرعي الكامل منها، وبالشكل الذي يتناسب وقابلية التلقّي الذهني والنفسي لمجتمع الدعوة والرسالة لهذا التشريع أو ذاك، ليتحقق الهدف الإلهي في إدراك الناس له وتحصيل الاستعداد للتسليم به، وهذه سنّة الله في رسالاته وشرائعه للأمم السالفة "كاليهودية والنصرانية".
ب ـ أمّا قوله: "أن في الآية 67 من سورة النحل مدحاً في الخمر بوصفها آية من آيات الله للناس ..." فليس كذلك، ولعل السبب في سوء الفهم هذا هو روح التحامل على الإسلام من جهة ـ خصوصاً عند "فنسنك" المعروف بذلك ـ وعدم الإحاطة باللغة العربية من جهة أخرى. فالآية الكريمة مكيّة وهي تخاطب المشركين وتجيبهم في سياق الظواهر الطبيعية التي يعايشونها في حياتهم الاعتيادية، عن سؤالهم المقدّر وهو: ما هي ثمرات إنزال الماء من السماء؟ فكون اتخاذ المشركين السُكْر من ثمرات النخيل والأعناب لا يعني تحسينه لهم، خصوصاً وأن الآية الكريمة تنسب السكر إليهم وأنه من صنعهم، وليس هو إلاّ إشارة إلى ثمرة طبيعية مألوفة لديهم، بل هناك قرينة واضحة في الآية تدل على نوع من تقبيح السُكْر من جهة مقابلته بالرزق الحسن، فلو كان السكر حسناً لما ميّزته الآية الكريمة عن الرزق الحسن.
-----------------------------
المصدر : "الإسلام وشبهات المستشرقين"
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة