مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

 نظرة الغربيين للاسلام
الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم وإشكاليات المستشرق نولدكه
فؤاد كاظم المقدادي


حول ظاهرة الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم كانت عبارات المستشرقين صريحة ومباشرة في ادّعاء التناقض بين آيات القرآن حيث يقول الالماني المعروف نولدكه تحت مادة "اصول" في دائرة المعارف الاسلامية التي ساهم فيها: "وكان همّ المفسرين المتأخّرين التخلّص من المتناقضات العديدة الواردة في القرآن والتي تصوّر لنا تدرّج محمد في نبوته، إمّا بما عمدوا اليه من التوفيق فيما بينها، واما بالاعتراف بأن الآيات المتأخرة تنسخ ما قبلها، وذلك في الآيات التي يشتدُّ فيها التناقض".
أن "نولدكه" ونظائره نتيجة قصورهم عن فهم كثير من مسائل علوم القرآن ومنها مسألة الناسخ والمنسوخ هي التي دفعتهم لادّعاء وجود تناقض في آيات القرآن الكريم دون تأمّل ورجوع الى المتخصصين في علم تفسير القرآن الكريم، بل ذهبوا كثيراً في الافتراء والتهمة عند صياغتهم لهذا الادعاء باتهامهم المفسرين المتأخرين بأن همّهم كان التخلّص من المتناقضات العديدة الواردة في القرآن، وكأن هذه التناقضات حقيقة واقعة لا مفرّ منها. وعليه فلا بد لنا من ايضاح مختصر لحقيقة النسخ في القرآن الكريم.
النسخ في القرآن الكريم:
النسخ لغةً: النقل والإزالة والإبطال، وأنسب المعاني اللغوية التي تنسجم مع فكرة النسخ هي الإزالة لقول أهل اللغة: نسخ الشيب الشباب اذا أزاله وحلّ محله، ويدعم ذلك قوله تعالى: (ما نًنسخ مِن آيةٍ أو نُنسِها نأتِ بخيرٍ منها أو مِثلها)، وقوله تعالى: (يَمحُو اللهُ ما يشاءُ ويُثبتُ وعندَهُ أمُّ الكتابِ)، وقوله تعالى: (وإذا بدَّلنا آيةً مكانَ آيةٍ واللهُ أعلمُ بِما يُنزِّلُ قالوا إنَّما أنتَ مُفترٍ بل أكثرُهُم لا يَعلمُون).
والذي ينسجم مع المحو والتبديل الوارد في هذه الآيات الكريمة هو معنى الإزالة. اما اصطلاحاً فقد عرّفه السيد الخوئي (قدس) بأنه: "رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة بارتفاع أمده وزمانه، سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الاحكام التكليفية _كالوجوب والحرمة _ أم من الاحكام الوضعية كالصحة والبطلان، وسواء أكان من المناصب الإلهية أم من غيرها من الامور التي ترجع الى الله تعالى بما انه شارع". وهذا التعريف يخرج من النسخ كل صور المخالفة في الظهور اللفظي بين الآيات سواء أكانت على نحو العموم والخصوص من وجه أو العموم المطلق، أو كانت إحداها مطلقة والأخرى مقيدة، التي تقوم بدور تفسير بعضها البعض الآخر. وقد كان المفسرون المتقدمون يدخلونها تحت عنوان النسخ مجازاً. وبيان جواز النسخ عقلاً ووقوعه شرعاً هو أن العقلاء من المسلمين وغيرهم اثبتوا جواز النسخ عقلاً، وخالفهم في ذلك بعض اليهود والنصارى محاولة منهم للطعن بإلهية الدين الاسلامي، وتمسكاً بدوام الديانتين اليهودية والمسيحية، والشبهة التي يدّعيها المستشرق "نولدكه" وأمثاله تتأسس على نفس الرؤية والشبهة التي طرحها البعض من اليهود والنصارى، وجامع صياغتهم للشبهة هو قولهم إن التناقض في القرآن ثابت لعدم جواز النسخ عقلاً وعدم وقوعه شرعاً. فعدم جوازه عقلاً قائم على أساس استلزامه أحد أمرين باطلين: الاول البداء المستلزم للجهل والنقص، والثاني العبث. لأن النسخ إما أن يكون بسبب حكمة ظهرت للناسخ بعد أن كانت خفية لديه، أو أن يكون لغير مصلحة وحكمة. وكلا هذين الأمرين باطل بالنسبة الى الله سبحانه، ذلك أن تشريع الحكم من الحكيم المطلق وهو الله سبحانه لابد ان يكون بسبب مصلحة يستهدفها ذلك الحكم فتقضي تشريعه، حيث أن تشريع الحكم بشكل جزافي يتنافى وحكمة الشارع، وحينئذ فرفع هذا الحكم الثابت لموضوعه بسبب المصلحة إمّا ان يكون مع بقاء حاله على ما هو عليه من وجه المصلحة وعلم ناسخه بها، وهذا ينافي حكمة الجاعل وهو العبث نفسه، وإمّا ان يكون من جهة جهله بواقع المصلحة والحكمة وانكشاف الخلاف لديه على ما هو الغالب في الاحكام والقوانين الوضعية، وعلى كلا الفرضين يكون وقوع النسخ في الشريعة محالاً لأنه يستلزم المحال، إما الجهل أو العبث وهما محالان على الله سبحانه لأنهما نقص ولا يتصف بهما.
وفي الجواب عن هذه الشبهة لابد لنا من بيان مقدمة وهي أن الحكم المجعول من قبل الشارع ينقسم الى قسمين:
الأول: الحكم المجعول الذي لا يكون وراءه بعث وزجر حقيقيّان، كالأوامر والنواهي التي تُجعل ويقصد بها الامتحان ودرجة الاستجابة. وهذا ما نسمّيه بالحكم الامتحاني.
الثاني: الحكم المجعول الذي يكون بداعٍ حقيقي من البعث والزجر حيث يقصد منه تحقيق متعلّقه بحسب الخارج، وهذا ما نسميه بالحكم الحقيقي. ونجد من السهل الالتزام بالنسخ في القسم الاول من الحكم، إذ لا مانع من رفع هذا الحكم بعد إثباته بعد أن كانت الحكمة في نفس إتيانه ورفعه، لأن دوره ينتهي بالامتحان نفسه، فيرتفع حين ينتهي الامتحان ولحصول فائدته وغرضه. والنسخ في هذا النوع من الحكم لا يلزم منه العبث ولا ينشأ منه الجهل والنقص الذي يستحيل في حقه تعالى.
وأما القسم الثاني من الحكم فإننا يمكن ان نلتزم بالنسخ فيه دون ان يستلزم ذلك شيئاً من الجهل أو العبث، حيث يمكن أن نضيف فرضاً ثالثاً الى الفرضين اللذين ذكرتهما الشبهة. وهذا الفرض هو ان يكون النسخ لحكمة كانت معلومة لله سبحانه من أوّل الامر ولم تكن خافية عليه، وإن كانت مجهولة عند الناس غير معلومة لديهم، فلا يكون هناك بداء بالمعنى الذي يستلزم الجهل والنقص لأنه ليس في النسخ من جديد على الله لعلمه سبحانه بالحكمة مسبقاً، كما انه لا يكون عبثاً لوجود الحكمة في متعلّق الحكم الناسخ وزوالها في متعلّق الحكم المنسوخ، وليس هناك ما يشكل عقبة في طريق تعقّل النسخ هذا إلاّ الوهم الذي يأبى تصور ارتباط مصلحة الحكم بزمان معين بحيث تنتهي عنده، وإلاّ الوهم الذي يرى في كتمان هذا الزمان المعين عن الناس جهلاً من الله بذلك الزمان. وهذا الوهم يزول حين نلاحظ بعض النظائر الاجتماعية التي نرى فيها شيئاً اعتيادياً ليس فيه من المحال أثر ولا من العبث والجهل.
فالطبيب حين يعالج مريضاً ويرى أن مرحلة من مراحل المرض التي يجتازها المريض يصلح لها دواء معين فيصف له هذا الدواء لمدة معينة ثم يستبدله بدواء آخر يصلح لمرحلة اُخرى لا يوصف عمله بالعبث والجهل، مع أنه قام بوضع أحكام معينة لهذا المريض في زمان محدود ثم رفعها عنه بعد مدة من الزمن. وحين وضع الحكم كانت هناك مصلحة تقتضيه، كما انه حين رفع الحكم كانت هناك مصلحة تقتضي هذا الرفع، وهو في كل من الحالين كان يعلم المدة التي يستمر بها الحكم والحكمة التي تقتضي رفعه. ونظير هذا يمكن ان نتصوره في النسخ، فإن الله سبحانه حين وضع الحكم المنسوخ وضعه من أجل مصلحة تقتضيه، وهو سبحانه يعلم الزمان الذي سوف ينتهي فيه الحكم، وتتحقق المصلحة التي من أجلها شرع، كما انه حين يستبدل الحكم المنسوخ بالحكم الناسخ يستبدله من أجل مصلحة معينة تقتضيه، فكلّ من وضع الحكم ورفعه كان من اجل حكمة هي معلومة عند جعل الحكم المنسوخ. فليس هناك جهل، كما أنه ليس هناك عبث لتوفّر عنصر العلم والحكمة في الجعل والرفع.
نعم هناك جهل الناس بواقع جعل الحكم المنسوخ، حيث كان يبدو استمرار الحكم نتيجة للاطلاق في البيان الذي وضع الحكم فيه، ولكن النسخ إنما يكون كشفاً عن هذا الواقع الذي كان معلوماً لله سبحانه من أول الأمر. أما وقوع النسخ شرعاً فانه يتحقق في موارد عديدة سواء في الشريعة الموسوية أو الشريعة المسيحية أو الشريعة الاسلامية. فقد جاءت نصوص في التوراة والانجيل وفي الشريعة الاسلامية تتضمن النسخ ورفع ما هو ثابت في نفس الشريعة أو في غيرها من الشرائع السابقة، منها:
1_ تحريم اليهود العمل الدنيوي يوم السبت مع الاعتراف بأن هذا الحكم لم يكن ثابتاً في الشرائع السابقة، وإنما كان يجوز العمل في يوم السبت كغيره من أيام الاسبوع.
2_ أمر الله سبحانه بني اسرائيل قتل انفسهم بعد عبادتهم العجل ثم رفعه لهذا الحكم عنهم بعد ذلك.
3_ الأمر ببدء الخدمة في خيمة الاجتماع في سن الثلاثين ثم رفع هذا الحكم وإبداله بسن خمس وعشرين سنة ثم رفعه بعد ذلك وإبداله بسن العشرين.
4_ النهي عن الحلف بالله في الشريعة المسيحية مع ثبوته في الشريعة الموسوية والالزام بما التزم به في النذر او اليمين.
5_ الامر بالقصاص في الشريعة الموسوية. ثم نسخ هذا الحكم في الشريعة المسيحية ونهي عن القصاص.
6_ تحليل الطلاق في الشريعة الموسوية. ونسخ هذا الحكم في الشريعة المسيحية.
أما النسخ في الشريعة الاسلامية فهو أمر ثابت لا يكاد يشكّ فيه أحد من علماء المسلمين سواء في ذلك ما كان نسخاً لأحكام الشرائع السابقة أو ما كان نسخاً لبعض احكام الشريعة الاسلامية نفسها. ومن هذا النسخ ما صرح به القرآن الكريم كنسخه حكم التوجه في الصلاة الى القبلة الاولى "المسجد الأقصى"، القبلة الثانية في الشريعة الموسوية، وأمره بالتوجه شطر المسجد الحرام.
ان قول "نولدكه"، في تفسير المتناقضات التي يدعي ورودها في القرآن من أنها تصوّر لنا تدرّج محمد في نبوته، تشويه فاضح يفتقر الى المنطق السليم والموضوعية العلمية ويكشف عن روح التحامل، إذ انه لا يستفرغ الوسع في البحث العلمي عن الحقائق، انما يطويه سريعاً لينتقل الى ما يحكيه اليه ميلهُ من تفسير وتعليل فيغمز في نبوة محمد ابتداءً ويصورها على انها كانت متدرجة، بدليل ان الآيات القرآنية بدأت متناقضة لان نبوة محمد بدواً لم تتحقق، وهكذا يترك قارئه في دوّامة الشك والتردد. وقد أوضحنا في الفقرة السابقة ما هو ثابت من حقيقة النسخ في القرآن الكريم كما هو في الشرائع السماوية السابقة، وما هي المصلحة فيه، فلا متناقضات في القرآن، وبالتالي تبطل شبهة "نولدكه" واحتمالاته في تدرّج نبوة محمد (ص).
----------------------------------
المصدر : "الاسلام وشبهات المستشرقين"
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة