مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

محمد علي التسخيري
العلاقة بين الاسلام والغرب وواجب المسلمين في أوروبا


الحديث حول العلاقة بين الاسلام والغرب كمفهوم حضاري، وكذلك العلاقة بين المسلمين والغرب كرابطة تعاملية تاريخية، حديث متشعب الجوانب، إلا أنه يبقى حديثاً شيقاً متطلباً للبحث العلمي والاستعراض الموضوعي دائماً.
انه حديث العلاقة بين مجموعتين فكريتين أثرتا أكبر الأثر في المسيرة الحضارية الانسانية، بغض النظر عن الجوانب الايجابية أو السلبية لذلك..
كما انه حديث العلاقة بين أمتين كبيرتين وحّتهما ظروف ورؤى، وقفتا في وجه بعضهما البعض حيناً وتعاونتا حيناً آخر.. تشابهتا في المسير والمصير، واختلفتا في تبادل الأدوار القيادية عبر التاريخ.
ومن هنا، فان العلاقة الحاضرة لا يمكن فصلها عن التاريخ الماضي.. بل لا يمكن فهمها إلا في اطار المسيرة ككل.. وهل فصل مكونات النظرة الغربية للمسلمين أو الأتراك (كما يسميهم الأوروبيون لما للدور التركي من أثر في نشر الاسلام) وكذلك فصل النظرة الاسلامية للغرب عن تاريخ التعامل المتبادل أمر ممكن؟
إلا أن الذي يقف عقبة أمام الباحثين الموضوعيين، هو الابهام الذي يواجههم، وهم يحاولون تفهم حقيقة التعامل بل وحقيقة المصطلحات التاريخية ومدى عمقها وعموميتها ومصداقيتها وخلفياتها الحضارية! فهل كانت العصور الوسطى عصوراً مظلمة حقاً لكل أوروبا أم كانت كذلك فقط لأوروبا الجنوبية، أما أوروبا المركزية والشمالية فلم تكن تعيش ظلام القرون الوسطى؟
وهل كانت المسيحية سبباً لهذا الظلام أم كانت عنصر قوة، وقف بوجه هذا الظلام؟ وهل جاءت المصائب بعد سيطرة الجرمان على حواضر اليونان والروم بعد أن ذوت وخوت هاتان الحضارتان ولم تزدها السيطرة الجرمانية إلا خوءاً واضمحلالاً؟
وما هي تأثيرات تلك الثورة الكبرى التي أحدثها الاسلام، وتلك المسيرة الفتية التي انطلقت من الجزيرة العربية.. هذا المكان النائي والقابع تحت هدوءٍ موحٍ خلال قرون طويلة؟
وهل صحيح ما يقال من ان الحركة الاسلامية الفتية بعد أن ترعرعت ونشرت أضواءها على أرجاء العالم المعروف آنذاك ومدت الجسور الفكرية والحضارية مع أوروبا، خلقت ردة فعل ضخمة في الجو العالمي، ومنه الجو الأوروبي الذي كان مبتلىً بالتحجر والظلام وجلبت إليها كل أولئك المتنورين أو المثقفين الذين راحوا يقاومون ذلك التحجر الحضاري بشكل قسوي دون أن يتحولوا إلى مسلمين، ولكنهم لم يبقوا مسيحيين تقليديين الأمر الذي جرهم خلال عملية صراع مريرة إلى الأومانية والتي سارت بهم إلى مرحلة علمية فريدة شكلت مقدمات لعصر النهضة، وهكذا قامت أسس أوروبا المتدمنة اليوم؟
كل هذه تساؤلات وغيرها أخرى، تشكل مجموعة ضخمة لابد أن يلحظها الباحث حتى يصل إلى الحقيقة.
إلا انه يصطدم بشتى النظريات، منها المتعصب المتعصب، ومنها الحاقد الحاقد، ومنها الذي يقرب إلى الموضوعية منهجاً ويعتمد العمق فهماً، ولذلك فهو يقرب من الواقع المطلوب وهو قليل جداً حسبما نفهم من مقاييس الموضوعية والفهم.
والذي يبدو من المسلمات أن الحضارتين تبادلتا الأدوار في المسيرة والتأثير بلا ريب، فبعد سقوط معظم شبه القارة الايبرية في أيدي المسلمين عام (711م) وسقوط صقلية ومالطا وسويسرا بعد نحو قرنين من الزمان تحت السيطرة الاسلامية على مناطق أوروبية مهمة، تمت عملية تلاق كبرى على الصعيد الحضاري تركت أثرها الكبير في ايجاد التحولات الغربية الكبرى، بعد ذلك، وفي عام (1060م) بدأت حرب استرجاع صقلية ثم اسبانيا (1085م) ثم الحروب الصليبية ما يعني انحسار السيطرة الاسلامية.
ثم عاد المسلمون وانكفأ الصليبيون عن الشرق عام (1291م) واحتل محمد الفاتح القسطنطينية وحاصر فينا عام (1519م) ثم (1682م) وشاع في أوروبا الخوف والحقد فهي فترة امتداد اسلامي. ثم اتجهت أوروبا إلى أفريقيا وشرق آسيا وكان هناك صراع أوروبي اسلامي على أرض أفريقيا وجنوب شرق آسيا وانتصر الاسلام هناك.
ثم بدأ الهجوم الغربي بنزول نابليون في الاسكندرية عام (1798م)، وسيطر الهولنديون على أندونيسيا عام (1800م)، واحتل الفرنسيون الجزائر عام (1830م)، واحتلت القوات الروسية القوقاز وتركستان في أواسط القرن التاسع عشر، واحتل الانجليز الهند في الفترة نفسها (1857م)، ونجح الغرب في السيطرة على المحيطين الأطلسي والهندي والبحر المتوسط ومداخل البحر الأحمر، واحتل الانجليز مصر (1897م) والسودان، وفي (1917م) دخل الحلفاء بيت المقدس، وفي عام (1948م) أنشئت آخر قلعة غربية في قلب العالم الاسلامي بقيام دولة (إسرائيل) على يد الانجليز، وإن كان الحضور الغربي انحسر عن معظم المناطق الشرقية والأفريقية في الظاهر على الأقل.
وهكذا كانت الأيام تتداول ولا ريب في ان في هذا التداول الخير والشر والتلاقح الفكري، والظلم والنهب والسلب ومن ثم الحقد والعداء المستمر حتى يومنا هذا.
وحينئذٍ فاذا شئنا أن ندرس العلاقة بين الغربيين والمسلمين المعايشين لهم او الغرب والاسلام عموماً، كان علينا أن نلاحظ هذه الاسقاطات التاريخية على النظرة التقييمية للآخر عند كل من الفريقين.
- نظرة الغرب للاسلام والمسلمين:
وعندما ننسب هذه النظرة إلى الغرب، فان ذلك لا يعني اننا لا نستثني أحداً وإنما نتحدث عن الظواهر العامة التي تجد مستثنياتها أحياناً.
وهذه النظرة موروثة ومستحدثة أيضاً:
1 ـ الصعيد العقائدي:
فعلى الصعيد العقائدي نجد الهجوم الصاعق على النظرة الاسلامية للصفات الالهية باعتبار ان الاسلام يركز على صفات الجبروت والانتقام والعقاب، وعلى القدسية التي يملكها الوحي لدى المسلمين، ومن هنا نأتي الدعوة إلى عقلنة الوحي، وهي دعوة تأثر بها حتى بعض مفكري المسلمين، ثم نجد الهجوم على الرسول الكريم (ص) ونعته بشتى النعوت من قبيل الشاعرية الرومانطيقية، والغريزيةن مع تغيير لكثير من الحقائق واستفادة من بعض الأحاديث الموهومة، كحديث الغرانيق العلى، فاذا شاءوا الموضوعية في رأيهم جعلوا الاسلام حصيلة الروح العربية كما يقول عفلق.
وعندما تحرك المرتد رشدي ليطلق سبابه وهذره ضد الرسول الكريم وجد مع الأسف في ذهن الغربيين الاستقبال الحسن والدفاع الأعمى عن شخصه الحقير.
ناهيك عن الصفات الأخرى التي اتهم بها الاسلام، كالقول بالجبرية والقول بالجمود الفكري وأمثال ذلك من الافتراءات.
2 ـ الصعيد الحضاري:
وعلى الصعيد الحضاري نجد التصوير الاستشراقي يتحدث عن الخواء الاسلامي ويعتبر التراث الاسلامي حصيلة للتراث اليوناني والمسيحي واليهودي وحتى العلوم الاسلامية جعلوها مستمدة من الرومان والساسانيين وغاية ما فعله المسلمون هو نقل التراث اليوناني إلى الغرب.
أما تخلف المسلمين فهو نقطة الضعف التي ينبزهم الغربيون بها كلما شاءوا، ناسبين إياها إلى العقيدة الجبرية، وعناصر التوكل والقناعة والنظام الدكتاتوري الحاكم ونقض حقوق الانسان بما فيها حقوق المرأة إلى آخر ذلك من القائمة الطويلة من التهم والافتراءات الصادرة عن حقد دفين.
3 ـ الصعيد السياسي:
ونجد على الصعيد السياسي التهم تتوالى ضد المسلمين بل ضد الاسلام بأنه بؤرة الارهاب، والصحوة الاسلامية هي في الواقع ـ كما يقولون ـ الأرضية المساعدة للارهاب، ومن هنا فان من الواجب الوقوف بوجه هذه الصحوة بكل امتداداتها.
- نظرة المسلمين للغرب:
ولا نقصد هنا أولئك الذين فقدوا هويتهم الاسلامية وانبهروا بالأضواء وتغربوا بالتالي، فان هؤلاء لا يمثلون الهوية الاسلامية كما لا يمثلون الظواهر الاسلامية العامة وإنما نريد أولئك الذين يمثلون التيار العام الملتزم عموماً بالاسلام.
وهنا أيضاً نجد التقييم يتم على عدة أصعدة:
1 ـ الصعيد العقائدي:
يتصور المسلمون أن الغربيين بعيدون عن الاعتقاد بعالم الغيب، وحتى الإيمان بالمسيحية كدين فردي، ويرون ان الأومانية القديمة نسبياً جعلت الفرد ومصالحه بدلاً من الإله وصفاته.
2 ـ الصعيد الحضاري:
يتم تصور الغرب بأنه رغم تقدمه المادي يستغل امكاناته للقضاء على كل صفة انسانية، والاستيلاء على المكاسب الحضارية للآخرين وفرض القيمومة على كل الثقافات عبر امكاناته الواسعة في مختلف الحقول.
ولا أدل على ذلك من استغلاله تصوراته هو عن حقوق الانسان لفرض قيمومته التصورية على كل شؤون بلدان العالم الثالث، ومنها شؤون العلاقة العائلية بل وحتى العمل على تغيير تعريفها وهي تعني ـ في تصور المسلمين تفتيت البناء العائلي ـ في تصور المسلمين تفتيت البناء العائلي ـ ولما كانت العائلة أساساً للبناء الاجتماعي، فان ذلك يؤدي لتفتيت كل العلاقات الاجتماعية.
وهذا بالضبط ما حدث خلال طرح وثيقة مؤتمر السكان والتنمية عام (1995م) في القاهرة ووثيقة بكين عام (1996م)، حيث كان الغرب يصرّ على نشر ما أسماه بالحقوق الجنسية واعتبارها وثيقة دولية يتم بموجبها ملاحقة الدول النامية في تقنينها وعلاقاتها.
كما يتصور المسلمون أن الغرب بتركيزه على النزعة الفردية أكد الجشع ورفض الأخلاق الانسانية، وأدى ذلك للويلات الاستعمارية المعروفة.
3 ـ الصعيد السياسي:
يتذكر المسلمون الويلات التي لاقوها من الاستعمار الغربي ويرون ان السياسات الغربية ما زالت مستمرة رغم التبجح بالصداقة والتعاون.
ويزيد هذه النظرة عمقاً سياسة الكيل بمكيالينتجاه قضايا العالم الاسلامي، وهي سياسة معروفة المصاديق.
ويدرك المسلمون ان الغرب اليوم يعمل على صياغة عدو موهوم له هو الاسلام ويحاول أن يغذي في نفوس أتباعه هذا الحقد والاستعداد لمواجهة هذا العدو بعد سقوط العدو السابق الشيوعية.
- نظريتان غربيتان:
ولابد أن نشير هنا إلى نظريتين غربيتين تعنيان بهذا الأمر:
النظرية الأولى:
نظرية (هاينتغتون) القائلة بضرورة الصراع بين الحضارتين، وقد أكدت نظريته التي نشرها في صيف 1993م في مجلة (فارين افرر) الأمريكية ان النزاع ضروري بين الحضارات، ورغم انه عد ثماني حضارات إلا أن التأمل في تحليله يحصر النزاع في أطراف ثلاثة في الواقع هي:
الطرف الغربي- الأمريكي: والذي هو نتيجة الرنيسانس والاصلاح الذي أنتج الرأسمالية والديمقراطية الحديثة.
الطرق الكنفوشيوسي: وأفكاره مجموعة رؤى اجتماعية تسود الصين.
الطرف الثالث الاسلام: وهو الطرف الأصيل في النزاع في تصوره، ورغم تراجع (هايتنغتون) في بعض أحاديثه عن هذه الرؤية العدائية القاتمة، فان السياسات الغربية ما زالت تؤكد هذا المنحى العدواني.
النظرية الثانية:
نظرية (برايان) التي نشرها في (الاكونوميست) في الشهر الثامن من عام 1994م ويؤكد فيها ان الديمقراطية، هي وليدة الاصلاح في المسيحية في أوائل القرن السادس عشر والذي ركز علىم سؤولية الفرد أمام الله، مستبعداً دور الكنيسة، وتحول هذا بعد ثلاثة قرون إلى الفكرة الديمقراطية على الصعيد السياسي والتي سادت جزءاً كبيراً من العالم، ثم عادت بلا منازع بعد انهيار الماركسية، ويرى ان القرآن أيضاً يؤكد المسؤولية الفردية ولكن في اطار جبري!!
ولكي يوقع صلحاً بين العالمين الاسلامي والغربي، يركز على ضرورة نفي دور العلماء الذين ـ يحتكرون ـ في رأيه الفهم الاسلامي بعد طرحهم مبدأ (الاجتهاد) وهو عملية تخصصية يهاجمها برايان بشدة.
ولكي يصل إلى مصالحة مطلوبة، يعقد مقارنة بين القرنين الخامس عشر الميلادي والخامس عشر الهجري، قائلاً بأن كل ظروف الاصلاح في العالم الغربي آنذاك متوافرة في العالم الاسلامي اليوم وعناصر هذه الظروف هي:
1 ـ اليأس من النظام السياسي العسكري الحاكم.
2 ـ اليأس العالمي العام.
3 ـ الشوق نحو الاصلاح.
4 ـ التحريك الخارجي.
وكما وجدت حركة الاصلاح آنذاكن فانها ستوجد اليوم في العالم الاسلامي.
ويرى ان القادة المعتدلين في الحركة الاسلامية يمكنهم بطرد عنصر الاجتهاد من الساحة واعتماد الحوار الصحيح، ان يوجدوا الجو الديمقراطي المطلوب.
وهنا يدعو الغرب للتعامل معهم، شريطة أن ينبذ النظرة الفردية في السلوك والعمل.
- التصحيح المطلوب:
ومهما قيل عن الصراع، فان الحوار سيبقى هو السبيل الأقوم والحل الأنجح، ولن يتحقق التفاهم إلا بتحقق التفهم والوعي للآخر، ومن هنا ينبثق واجب التصحيح، فعلى كل من الفريقين أن يصحح صورته لدى الآخر، فيؤكد على عناصر الصحة وينفي عناصر التزييف ومن الطبيعي أن لا ينتظر منا ـ نحن المسلمين ـ أن ندافع عن الغرب وصورته في أذهاننا، ذلك اننا نعتقد صحة ما نتصور، والوقائع يوماً بعد يوم تزيدنا وضوحاً وتأكداً، بل وكلما تعمقنا في كتابات المنظّرين والمؤرخين الغربيين اليوم لتاريخ الصراع، نجد الأمر يتأزم أكثر مما نحن عليه من تصور.
وإلا فماذا يؤدي التأمل في نظرية (هايتنغتون) غير الالحاح في تعميق الصراع ضد (الآخر)، وهل يؤدي التأمل في مقارنة (برايان) بين القرنين الخامس عشر الميلادي والهجري إلا إلى السخرية من هذا الهذر التحليلي، بعد أن نلاحظ الفارق الكبير بين التصورين المسيحي والاسلامي عموماً، ونوع الارتباط الاجتماعي بهذين التصورين ونمط الشعارات التي تطرحها الحركة الاصلاحية هنا والحركة الاصلاحية هناك وأساليب التحلل التي طرحت هناك والاصلاح الذي يطرح هنا، ومن هنا نؤكد ان الصورة المكونة في ذهن الغرب عن الاسلام والمسلمين صورة مغلوطة، سواء على صعيد الواقع القائم، أو على المستوى التاريخي، فالصورة الاسلامية لله تعالى هي أكمل الصور واليها تنتهي رغبة الراغبين، ذلك انه تعالى هو الكمال المطلق بصفاته الثبوتية والسلبية، وان الاسلام لم يطرح هذه الصفات ليكرّس الذات الإلهية (فالذات الإلهية غنية عن كل شيء) وإنما طرحها للانسجام مع مقتضيات البرهان العقلي والفطري، والعمل على الارتفاع بالمستوى الانساني إلى عالم الكمال، وتحقيق التوازن المطلوب في مجال موقف الانسان من الواقع بعد أن يتركز في الذهنية الاسلامية التعادل بين كونه تعالى الغفور والرحيم وكونه شديد العقاب.
ويبقى الوحي المقدس أقدس رابطة بين عالم الغيب وعالم الشهادة، ولذلك لا يتحمله إلا الأنبياء (ع) وما قيل عن عقلنة الوحي، إنما هو محاولة يائسة لمحو الوحي نفسه وجعل النتيجة تابعة لأخس المقدمات.
ويبقى الرسول الأكرم (ص) أقدس انسان وأكمله، وتبقى سيرته الرائعة أروع نموذج للانسان المتكامل بما حوته من صفات لو تجرد الانسان عن عصبيته ولاحظها، لغرق في بحر جمالها.
أما مقولة الجبرية فهي المقولة التي يتنزه عنها الاسلام تماماً، ولا تستطيع المادية المغرقة في العلل المادية أن تنجو منها، وهكذا مقولة الجمود الفكري لا مجال لها في دين يعتمد العقل أساساً للتقييم في شتى المجالات ويفتح الباب للعلم على مصراعيه، السبب الذي نجّى الغرب نفسه في مطلع تعامله مع الاسلام من جموده الفكري على العهد الجرماني وبعده.
وعلى الصعيد الحضاري نجد الاسلام والمسلمين قد قاموا بنقلة حضارية ضخمة لا يمكن أن تقاس بمن سبقوهم، وعندما أخذوا من سابقيهم احتفظوا بالفضل لهم وذكروهم، ولكنهم طرحوا الأمور بشكل جوهري فلا يمكننا مطلقاً أن نقول ان المسلمين كانوا مجرد حملة لعلوم اليونان إلى الغرب وعندهم أمثال ابن سينا والفارابي والبيروني والملا صدرا الشيرازي وغيرهم.
والحديث عن تخلف المسلمين ذو شجون، وحقيقة الأمر ان سيطرة العقليات البعيدة عن الاسلام، سواء على مستوى الدول الوسطى كالمغولية والعثمانية والصفوية، أو على الصعيد الفردي لبعض المتحجرين أو بعض المتميعين هي السبب المهم في التخلف.
على إنا يجب أن لا ننسى أن الكثير من التقدم الغربي كان نتيجة النهب الاستعماري لثروات لاشعوب، لا الكد الحلال من خلال العمل العلمي والانساني.
- تهمة الارهاب:
فهو أمر غريب، انه التهمة التي اخترعت غربياً لمحاربة كل عملية صحوة ضد المصالح الغربية، فاذا قام بها الغرب تحولت إلى عملية مشروعة ويتحقق بذلك مصداق الكيل بمكيالين.
وهكذا تحولت عمليات جهاد الفلسطينيين ضد الغزاة الصهاينة إلى عمليات ارهابية، في حين بقيت عمليات الإبادة الجماعية في فلسطين جهاداً مشروعاً في سبيل عودة الشعب المشرد إلى وطنه الأم.
ان تهمة الارهاب تصدق أكثر من أي مكان على الارهاب الدولي الذي يقوده الغرب مع الأسف الشديد، ثم يلصقه بالصحوة الاسلامية التي ما نشأت إلا لتدعو إلى تعميم حقوق الانسان المسلم وانصافه.
وتقف إلى جانب الارهاب تهمة الأصولية، كل ذلك للعمل على تفكك الشخصية الاسلامية المقاومة في كل مكان.
- المسلمون في أوروبا:
إننا عندما نتحدث عن الغرب لا نتحدث عن منطقة جغرافية مطلقاً، وإنما نتحدث عن حضارة معينة لها خصائصها، وربما تكون قد اكتسبت اسمها من موقعها الجغرافي.
ان الجغرافيا ليست حكراً على أحد أو عقيدة أو حضارة، إنها تتمشى مع طبيعة الانسان بما له من خصائص.
ولذلك نتنحدث هنا عن الاسلام في أوروبا، فهذا الدين عريق في هذه المساحة رغم حوادث الأيام، وقد أصبح بمرور الزمان الدين الثاني في المنطقة بعد الدين المسيحي.. وهي حقيقة لا يستطيع الكثيرون هضمها، أو حتى تصورها ولكنها حقيقة على أي حال.
انهم جزء لا يتجزأ من المجتمع الأوروبي.. يحملون الدم نفسه والذهن نفسه والهم نفسه الذي يحمله المواطن الآخر، والفرق بينهم وبين غيرهم أنهم يعتقدون بالاسلام بما له من الخصوصيات التي يختلف بها عن سائر الأديان والاتجاهات الفكرية ومن هذه الخصوصيات انه دين ينفذ إلى كل شؤون الحياة وينظم مختلف أنماط السلوك الانساني ومن هنا تبرز المشكلة.
فالمواطنون الآخرون والدول الحاكمة قد لا يرغبون في أن يروا للاسلام أي مظهر مهما كان شكلياً فيعملون على صب هذه المظاهر بشكل ظواهر أصولية تتناقض مع أصول العلمانية الحاكمة في الغرب، وبهذا يتناقضون حتى مع ما تبنوه بالذات من مبادئ الديمقراطية والحرية الفردية في السلوك والعبادة والرأي والفكر
قد لا يروق لهذه الجهات أن تحتفظ العائلة الاسلامية بعفافها وطهرها وحجابها الاسلامي وسلوكها المحافظ والملتزم بأصول الاحترام للوالدين والقيم العائلية.
وقد لا يروق للبعض أن يلتزم المسلمون بأحكام الطعام والشراب ومقتضيات العبادة، والمعاملات المالية المشروعة وأمثال ذلك.
وقد لا يعجب هؤلاء أن يؤكد المسلمون هويتهم المتميزة، معتبرين ذلك طعناً في الهوية الوطنية، فضلاً عن كونه طعناً في الهوية الأوروبية.
وربما وجد هؤلاء مهمزاً فيما لو طالب المسلمون يوماً بالتعامل الحكومي مع القضايا الاسلامية كقضية فلسطين ولبنان وقضية سلمان رشدي وقضية أفغانستان وغيرها تعاملاً انسانياً منصفاً فاعتبروه نوعاً من التضامن مع الارهاب، وربما اعتبر بعض المتعصبين ان الوجود الاسلامي كله غريب على الطبيعة الاوروبية، فنظم حملات الارهاب ضد المسلمين ومساجدهم.
- ماذا يجب أن يفعل المسلمون؟
أعتقد إننا نستطيع أن نجمل واجبات الانسان المسلم في أوروبا إزاء هذه المواقف في النقاط التالية:
أولاً: السعي الحثيث للحفاظ على الهوية والشخصية الاسلامية الفردية والجماعية.
ولا ريب في أن الهوية الاسلامية تشمل الجانب العقائدي، كما تشمل المنهج الاسلامي في التعامل مع المواقف الفكرية بالاضافة إلى شمولها الطبيعي للعبادات وأنماط السلوك وكذلك الجانب العاطفي.
ثانياً: السعي لتقديم النموذج الأكمل للانسان الواعي المدرك لواجبه تجاه مجتمعه وعقيدته.
ثالثاً: العمل على تفهم الموقف الاسلامي الصحيح وإعلانه للآخرين وتوضيح الموقف الاسلامي أمام الشبهات المثارة ضده.
رابعاً: تحقيق التواصل الاسلام بين كل المجموعات الاسلامية، والاحساس الكامل بآلامها وآمالها وملء الفراغات الاقتصادية والاجتماعية قدر الامكان.
خامساً: السعي لايجاد التوازن المطلوب بين مقتضيات الهوية ومتطلبات المواطنة بالشكل الذي يحقق الاستجابة لكليهما، ولن يعدم المسلم السبل الكفيلة بذلك.
بالاضافة إلى أن هناك القواعد الاسلامية الاضطرارية التي تحل الأمر لو تعقد من قبيل قواعد (الحرتج والضرر والضرورة) وغيرها.
سادساً: المساهمة الجادة في كل الخطوات الاجتماعية الايجابية، سواء على لاصعيد الوطني أو الاقليمي أو العالمي، والحذر من الخطوات السلبية التي يرفضها الاسلام، وللمسلم متسع في تجنبها.
سابعاً: المطالبة التامة والملحة بالحقوق الاجتماعية والسياسية الطبيعية، واتخاذ مختلف السبل لإعلان الصوت الاسلامي الحق.
ثامناً: الوقوف الصلب مع القضايا الاسلامية الحقة في شتى أنحاء العالم الاسلامي والانسجام الكامل مع المسؤولية الاسلامية العامة.
تاسعاً: التركيز على عملية التوعية الداخلية بأحكام الاسلام ومفاهيمه، وهذا يعني القيام بمختلف النشاطات التي تؤمن استمرار التدفق المعنوي للمعلومات إلى العقول والأذهان، مع التركيز في هذا الجانب على الناشئة والشباب، لأنهم في معرض الخطر الإعلامي المضل أو اللاأخلاقي المحطم للخشصية.
عاشراً: تأكيد حضور الاجتماعات العبادية العامة كالجمعة والعيدين والحج وأمثال ذلك.
حادي عشر: السعي الجاد والحثيث لكسب التقدم العلمي والاجتماعي المطلوب.
*المصدر :مجلة التوحيد/العدد90/السنة1997م
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة