مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

"برسيفال".. الأوبرا ذات الأصول الشرقية الاسلامية
عبد الرحمن بدوي


من القصص التي خلّدها الموسيقار الالماني الشهير فجنر، قصة برسيفال التي صاغها أوبرا بنفس الإسم وقصة برسيفال من أطول قصص دورة المنضدة المستديرة التي ألفت في القرن الثاني عشر. وتوجد منها روايات عديدة: إحداها غير كاملة نظمها شعراً كرتيان دي تروا، والثانية بالنثر، لا تنسب إلى أحد، وترجع إلى القرن الخامس عشر، والثالثة ألمانية بالشعر الألماني، وتنسب إلى فلفرام فون ايشنباخ. وخلاصة القصة أن برسيفال كان ابن فارس شهير، وقتل أبوه وعماه في مبارزات. فربته أمه في أعماق الغابة، بعيداً عن الناس، ابتغاء أن تبعد عنه حياة الفروسية وواجباتها.. لكنه لم يكد يبلغ الشباب حتى التقى في الغابة بخمسة فرسان مسلحين يركبون أفراساً مطهمة، وأنبأوه بحقيقة شأنهم، وبثوا في نفسه الرغبة الحارة في التجوال في الدنيا. فترك أمه، وقد زودته بالسلاح وهي تبكي، ومضى إلى بلاد الملك آرثر وجرب أول تجربة في مبارزة فقتل الفارس القرمزي، وهو العدو الشخصي اللدود للملك العجوز آرثر، وكان خصماً عنيداً لم يستطع قهره أحد قبل الآن. فأخذه أحد النبلاء إلى قصره وتمم تربيته، ومن هناك ذهب لتخليص الأميرة المسكينة الملقبة بالزهرة البيضاء، وكان يحاصرها في قصرها جيش من الأعداء. ثم تعرف إلى الملك بشيور (أو الصياد) عمه. وكان عمه هذا يملك الحرال المقدس، والرمح الذي تقطر سنه دماً باستمرار، وكان محاصراً هو الآخر، فأنقذه بسيفه، ثم مات هذا الملك، وعرفت القرابة بينه وبين برسيفال، فصار وريثه. وقدم الملك آرثر لتنصيبه في قصره بكل مظاهر الحفاوة، وبهذا أصبح هو مالك الجرال المقدس والرمح العجيب.
ومن خصائص هاتين الذخيرتين أنه كان يكفي أن تمشي بهما فتاة حول قاعة فاذا بمائدة حافلة بأطايب الطعام تظهر. ثم برم برسيفال بعد سنوات من مظاهر الحياة الدنيوية، فترهب. ولما مات ارتفع الجرال المقدس والرمح العجيب إلى السماء بمعجزة. ومنذ هذه اللحظة لم يشاهدهما أحد على ظهر الأرض. والسان جرال اسم أطلق على الإناء المقدس الذي تزعم الأسطورة أن يوسف الرامي، أحد تلاميذ المسيح، قد التقط فيه دم المسيح وهو على الصليب. وهو نفس الإناء الذي شرب منه يسوع المسيح وهو في العشاء الأخير. ويقال أن يوسف الرامي احتفظ به عنده، ثم نقل بعد ذلك إلى اقليم بريتاني في غربي فرنسا وزعم أن له خواص خارقة عديدة. ولهذا تهافت الفرسان في ملاحم العصور الوسطى، التي تندرج في دورة الملك آرثر، من اجل السعي والتجوال للظفر به.
والقصة (أو الملحمة) الشعرية التي نظمها فولفرام فون ايشنباخ تتابع تقريبا الرواية التي نظمها كرتيان دى تروا، وتحتوي على أكثر من خمسة وعشرين ألف بيت من الشعر ولكن فولفرام يقول أنه استعان برواية بروفنصالية منظومة ينسبها إلى من يدعى "كيوت" (جويو)، ولكن لم يتبين أحد حتى الآن من هو كيوت Kyot البروفنصالي هذا. وإنما يقول فولفرام أن كيوت قرأ "برسيفال" التي نظمها كرتيان دى تروا، ولم يرض عنها، فلما كان في طليطلة بأسبانيا عرف كتاباً لفلكي يسمى فلجتانس plegetanis من ذرية النبي سليمان من ناحية أمه، لكن أباه كان من "الكفار"، وكان واسع الاطلاع على العلوم المستورة ويقرأ طوالع الناس في النجوم، وقرأ فيها أيضاً اسم الجرال المقدس، واكتشف أن الملائكة أتوا من السماء بالإناء المقدس، وأودعوه عند جماعة مختارة هم أفضل الناس. ووجد كيوت هذه التفاصيل في كتاب عربي كتبه فلجتانس، واستعان على فك رموزه بمدد من الروح المقدس، ورغب في أن يعرف من هو الشعب الذي أوثر بشرف حفظ الكأس المقدسة.
فقام بالبحث في تواريخ ايرلندة ويريتانى وفرنسا، وأكتشف أخيراً أنساب ملوك الجرال في أخبار أسرة أنجو.
ويلوح أن هذه الإشارة إلى مؤلف اسلامي عالم بالنجوم قد وجهت الباحثين إلى البحث عن مصدر عربي لهذه القصة المشهورة. فوجدوا فعلاً أن فيها آثارا شرقية إسلامية غير منكورة. ففي نص فولفرام فون ايشنباخ معلومات جغرافية ومادية تشير إلى مصادر شرقية، فاسم المؤلف المنجم "فلحتانس" هو تحريف لكلمة "فلكي".
وتبين التشابه الكبير بين الفصول الثمانية الأولى من "برسيفال" والملحمة الفارسية العظيمة المسماة "برزونامة". وبين فرنتس فون سوتشك المعلومات الجغرافية والتاريخية والمادية ذات المصدر الفارسي. وحتى الأسماء قرأ فيها أصولا فارسية. فكلمة Dolet "دولة"، و spame هي أصبهان ولكنتشور وجبله المسحور في كبس هو جندشل في كبسيا بمملكة لاهور. واستمر يتابع استخراج الأصول الفارسية حتى وصل إلى التقديرات التالية:1/26 % من عند فلفرام، 61% مأخوذ من أساطير الأبطال في الشاهنامة للفردوسي و 1/232% مأخوذ من الأساطير البارسية المجوسية. ورأى باول هاجن في بحث له بعنوان "الجرال" (اشتراسبورج سنة 1900) أن كتاب كيوت المفقود يرجع إلى كتاب عربي.
واسم برسيفال (أو بارسيفال) نفسه حاول الباحثون أن يرجعوه إلى أصل شرقي. فقال يرجمان إنه من الكلمتين: بارس ( = فارس) وفال (= جاهل) أي الفارس الجاهل. واقترح أوبرت أن تكون من باريس (= فارس)، وفل (= زهرة)، أي زهـرة فارس (إيران)، أو من بارسا (= طاهر، مقدس، تقي) أو مـن بارش (= نمر) الفارسيتين.
أما كلمة "جرال" Cral فكانت في الفرنسية القديمة Graal و Greal. وتدل على الإناء من الحجر، ولقد قام الباحثون بالفحص عن أصلها وضربوا في ذلك الفروض تلو الفروض. لكن لم يخطر ببال أحد منهم أن يكون أصلها عربياً ونميل نحن إلى افتراض أن أصلها عربي، ونقول أنها من الكلمة العربية جرل. والجرل (بالتحريك) الحجارة، ويقال مكان جرل أي صلب غليظ، والجمع أجرال. قال جرير:
من كل مشترف، وأن بعد المدى،
صرم الرقاق مناقل الأجرال
فاستعملت الكلمة في الأندلس للدلالة على الأواني من الحجر، كما حدث في الفرنسية نفسها لكلمة terre إذ أصبحت terrine وهذه معناها الإناء من الحجر.
فإن صح هذا كله يصبح من المعقول أن يكون اسم Kiot اسما حقيقيا، وليس مجرد اسم مستعار أو قناع كحيلة أدبية من نوع "سيدي حامد بن الإيل" القصصي المسلم المزعوم الذي زعم مترفانتس أنه مؤلف دون كيخوته.
--------------------------------------
المصدر : "دور العرب في تكوين الفكر الاوربي"
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة