مركز الصدرين لحوار الحضارات والأديان

صدمة الاستشراق في لحظاتها التاريخية الاولى
د0محمد جاسم الموسوي


من حق المثقف العربي في مرحلة الوعي الثانية منذ الستينات ان يكتب بهذه الندية في مواجهة تدفق آخر ضارب في الافكار والاراء والاجتهادات والمناقشات والتأثير , فصدمة الاستشراق حقيقية كصدمة الحضارة ذاتها: وبينما بدت موجة تحليل الاستشراق نشطت أيام وعي عربي اخذ بالازدهار وتحرر الذات فإنها حققت اندفاعها , باعترافها على لسان انور عبد الملك , أيام كان الاستشراق ضعيفاً ومأزوماً0
لكن هذا لا ياغي صدمة الاستشراق, ولا يمكن ان نتجاوز تأثيرها الفعلي في الفكر العربي0 وبغض النظر عن واقع مشاركة المستشرقين في تأليف المناهج الجامعية في مصر, فإن حضورهم أقل شأناً من الساسة في صياغة الافكار, وهي صياغة حملت في داخلها بذور النجاح والاخفاق معاً, وأتت باليات ونظرات مثالية وواقعية كانت لها اصداؤها في الفكر العربي, السياسي والمحض في آن واحد, وكانت لها نتائجها ايضاً في الحياة العربية المعاصرة0 فالفكر العربي كان يتشكل في بعض مصادره من مرجعيات مختلفة, فرنسية وانكلو-سكسونية والمانية, تضيف الى ما لديه او تتفاوت معه , تثيره او تتطابق معه, تتوالد مع الرغبة او ضدها, الا ان هذه المرجعيات ليست وهماً, ولم تكن كذلك في طبيعة ما الت اليه آيضاً0
وبينما كان الجيل الرائد في التحاور مع المستشرقين والرحالة والساسة معنياً بثنائية التقدم والتخلف لصد التهمة الموجهة للديانة كانت الاجيال اللاحقة معنية بأمور أخرى لا علاقة لها بهذا الأمر ضرورة0 اذ أقتصرت أحاديث الجيل الاول على الدفاع عن الديانة في أطار علاقتها بالتقدم والتخلف, أي بثنائية الخطاب الاستشراقي التي كانت ايضاً جوهراً في الخطاب السياسي الذي عبرت عنه مفاهيم هانوتو وغيره0
وادرك الشيخ محمد عبده في حينه ان المعرفة المرافقة للغلبة السياسية لابد من أن تقود ايضاً الى هيمنة حضارية للغرب على العرب والمسلمين ما لم تواجه باحتواء معرفي مقابل وتصد عقلاني لفرضيات الخطاب المضاد في آن واحد0 وتختلف الحال في الثلاثينات لا لجهود طه حسين وعلي عبد الرزاق فحسب, ولكن لأن الوجود الفعلي للاستشراق في الحياة الثقافية العربية كان مؤثراً وممتداً0 ونشرت مجلة المجمع العربي العلمي في دمشق في مجلدهاالسابع (عام 1972) اسماء ثمانية وثلاثين عضواً من المستشرقين كانوا يشاركون في الكتابة والتأليف والنشر وتخطيط المناهج والتعليم الجامعي ويكتبون لمجلات الرسالة والهلال والمكشوف0 وشارك فيليب حتي وكراتشقويفسكي وآربري وارنولد وبرنارد لوس قبل تحولاته التالية منذ الجمسينات ينصح العرب باستعادة ما كان لديهم من اعتماد على العقل بديلاً للنقل, مؤكداً وجود طاقة تركيبية ساهمت في تطوير الفلسفة والعلوم والمعارف لديهم بينما كان فيليب حتي يدعو الى فكر قومي في موضوعي الأمة والقومية , اماا أربري فانه يرى أهمية الاقتداء بالغرب في استحضار الفكر اليوناني ولكن ليس على أساس مركزية أوربية, بل طبقاً لمركزية دولية مقترحة تنطلق من المتوسط0 وستصبح مثل هذه الفكرة أثيرة لدى توفيق الحكيم بعد ان توقف عندها طه حسين دون أشارة لآربري وهو يكتب عن مستقبل الثقافة في مصر 0
في تلك السنوات كان العقيقي ينشر كتابه المستشرقون (1937) وهو كتاب قيل فيه انه ( الاطار المعتدل الاوسع لوجهات نظر المثقفين العرب ), فهو يتصالح مع فكرة سائدة يؤكدها محمد كرد علي ترد على وجهات النظر المتأففة ازاء اختلاف العقائد اذ يقول علي ( ليس من المعقول ان نكلف من لم يتأدبوا بأدبنا, ولم تعمل فيهم أحاسيسنا ولا دانوا بديننا ان يعتقدوا مانعتقد)00وكن محمد كرد علي يشير الى دور عدد من المستشرقين في اعلاء ( مقام المشرقيات في المغرب ) فثمة فصل بين هذه الجهود وبين تلك المطارحات العقائدية التي جاء بهاالايديولوجيون الساسة وبعض المستشرقين والتي صدمت رواد النهضة من قبل , فالغرب مختلف كما يقول أحمد امين في مسعاه لفك الاشتباك في هذا الميدان 0
إذ يرى أحمد امين ان الحضارة المعنوية تقابل بحذر 0لآنها احيانا تصدم العقيدة, واحيانا تخالف التقاليد والأفار الموروثة ) ومثل هذا الرأي يتلقى مدخلاً اوسع يخصه قسطنطين زريق بالاهتمام بالوعي القومي الذي ظهر في ( 1939) اذ يعترف لعلماء المشرقيات بالمشاركة فيتكوين الوعي العربي , على الرغم من أستدراكه في تأكيد (خوصصية الذات القومية ) , فما القومية كما يقول - غير ( توازن بين القوى المختلفة التي تتجاذب أفراد الأمة و جماعاتها ) 0
اذ يقول زريق أن وعي الذات العربية يشترط المعرفة بها, وهي معرفة يشارك في تكوينها دارسو المشرقيات أمثال نولدكه والرحالة المتعلمون امثال شارلز هبر , كما أن (الثقافة العربية) لن يضيرها (أن تتصل بالثقافة الغربية وتأخذ عنها ) لاسيما في المجالات الاقتصادية والعلمية والمنهجية0
وبينما كانت مثل هذه الافكار تتكرر في المحيط الثقافي العربي, كان بعض الكتاب العرب يستعيدون أفكار رينان ويناقشونهاعلى انها جزء من فكر غربي مغاير معني بالمشرق, هكذا فعل صادق برسوم مطر عند ترجمته لهذه الافكار والتي أختصرهاايضاً محمد روحي فيصل بقصد المناقشة, وهو اختصار يتيح التنفيذ, كما انه اختزال يولد اختزالات مقابلة في الفكر العربي 0 اذ طرح فيصل ثنائيات رينان على أنها معنية ب(شرق وغرب) وعالم زراعي واخر صناعي, ودين وفكر , وروحانية عربية اسلامية واخرى هندية والمانية, وبديهة حاضرة واخرى متوقدة, وجفاف ودهشة وجمود وتنوع وانانية يقابلها التسامح والشعور العالي بالمسؤولية !
وعلى هامش مثل هذا الاسترجاع للفكر العرقي كان اخرون يترجمون مباشرة, ما كتبه برنارد لوس أيام حماسه للعرب وللحياة العربية عندما بدت له كتابات Blunt, Palmer محببة ورشيقة, بينما تناول كراتشقويفسكي مباشرة موضوع التفريق بين فريقين متصارعين فكرياً في الحياة العربية, " فثمة فريق للتحديث المحجم وثمة فريق ملتزم بالمهمة القومية0 قاد الى النهضة من جانب والى النزعة الاقليمية من جانب اخر "0 وليس عسيراً اعادة تسمية الفريقين بين (ليبرالي) و(قومي) و(اقليمي) وهو ما يتأكد ايضاَ في مقالات عدد مجلة الهلال (1938) المعني بالعلاقة بالغرب وبالاستشراق: اذ كان العدد معنياً بقضية العقل والحداثة تحديداً, لدرجة ان بعض المشاركين من امثال طه حسين حسموا الناقشة الجارية على انها بين عقلين قديم وجديد0
لكن هذهالناقشات جرت في سياق مرجعيات جديدة لم تعد محددة كتلك التي شهدتها النهضة, فكان عازوري ونجيم يشيران الى مرجعية فرنسية ينقسم الوطن بموجبها الى سامي وآري, يراه نجيم بصورة متفاوتة مع سلامة موسى, بينما كان اخرون من امثال جرجي زيدان وادمون رباط وابراهيم اليازجي مثلا, يستعينون بمرجعية انكلو-سكسونية يرون بموجبها ما يراه Blunt في ان العرب قادوا النهضة الاسلامية, وهو رأي يكتسب رواجاً كبيراً بين المثقفين العرب منذ ان ظهر كتاب Stoddard حاضر العالم الاسلامي الذي ذيله شكيب ارسلان بعشرات الملاحظات والشروح التي ستصبح مؤثرة فعلية في الكتابات القومية لاحقاً اذ كان ارسلان يلتقط فكرة استودارد ليمضي في تطوير فكرة (النهضة والتراجع) وجدليتها في التاريخ الاسلامي حسب ماجاء به ستودارد0 ولم تغب الفكرة على المثقفين القوميين الاخرين الذين رأوا التاريخ العربي وحاضر العرب على هذا الاساس0
اذ كان ستودارد يتحدث عن جيشان العوامل الروحية والاجتماعية في (الجاهلية) والتي أدت الى (الاستحالة الكبرى والانقلاب العظيم) في ظل الرسالة الاسلامية التي انتشرت في ( روح العرب المتجسدة) بالرسول الكريم محمد(ص) في حياة كانتقد خبت فيها قوة الروح وشاعت الاباطيل وساد الظلم : وعندما يعرض ستودارد لجدلية الانتشار والتقهقر يرى ان قوة الرسالة وظروفها وطبيعة انفتاحها وسماحتها هيأت الانتشار, بينما حل التقهقهر ووالانحطاط جراء كثرة الفتن والشروخ وسيادة الملك والاستبداد0 ويختزل ستودارد رأيه بقوله, بينما كان الاجتهاد سبيل العرب الى الحضارة كان النقل جادة الانخذال والتراجع0 ومن السهل قراءة بعض مفردات ستودارد وارسلان في الكتابات التالية الساعية الى تفسير الحاضر العربي من خلال علاقته التاريخية , اذ كانت جدلية النشأة والانتشار والتقهقر مثار اهتمام المفكرين القوميين, والذين عنوا ايضاً بانتقاء ما يريدونه من المناقشة, او الاستعانة عليهابما يقرأون كما فعل ارسلان مثلاً وهو يأخذ عن مؤرخ ودارس لا علاقة حميمة له بالاستشراق يقول ان الاندحار يتحقق في ظل غياب الدولة ومؤسساتها عند العرب0 اذ وجد رأي ولز المذكور استجابة حسنة لدى المثقفين العرب الذين رأوا اهمية ظهور الدولة والمؤسسة منذ زمن0
وبينما كان ارسلان يدعو الىى محاورة المستشرقين ودارسي الشرق في الانسانيات, لم ير ما يستوجب الحوار في العلوم الصرفة والتطبيقية التي يحتاج اليها المجتمع العربي, أما اطار المناقشة في الانسانيات فإنه يستعين بمستشرق على آخر , بDient في الرد على لامنس, وبديغو بينو في الرد على الاخرين0 لكنه أهمل افكار الاخير الخاصة بما يسميه ب (العالم العربي الاسلامي السكوني) وهي أفكار تتطابق مع افكار اخرين رأوا في هذا العالم حياة مغايرة ونمطاً فكرياً متبايناً مع الغرب, ف(السكوني) هو جوهر هذه الحياة في رأي هورغرونيه, ولا يعني التجديد غير هدم هذا الجوهر, وبالتالي تعريضها الى مجرى التغيير0 اذ يسرت الاختزالات تصورات محدودة ساذجة لدى بعض الدرسين الغربيين, ولدت هي الأخرى وأثارت اختزالات مماثلة في تحليلات الكتاب العرب للحاضر العربي عندما سعوا لتقديم مشروع للنظريةالقومية يتناول القومية والأمة والدولة واللغة , كما فعل قسطنطين زريق وساطع الحصري وعبد اللطيف شرارة وآخرون0 وكان الجانب المعقد لسيولوجيا التاريخ والمجتمع غائباً في هذه الكتابة 0
------------------------
المصدر: الاستشراق في الفكر العربي
 

الرئيسية  | موسوعة الصدرين لحوار الأديان |  العودة للصفحة السابقة