موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الأدب والفنون

كيف مات الإبداع وكيف انبعث؟ ما هي نظريته، ولِمَ لم تُفهم وسيطاً؟
 أبو يعرب المرزوقي



نعتمد الاستقراء والوصف السريع لكون هذه الدراسة لا تزال في مرحلتها البرمجية ولم تصل بعد إلى مستوى المعرفة العلمية المتأكدة. ولعلها تكون منطلق دراسات علمية قد تساعد على فهم الإبداع العربي الإسلامي عامة وسيطه وحديثه دون الاستناد إلى القراءات الخارجية التي يمكن، إن لم يتقدم عليها فهم النظام الذاتي لعقد الإبداع عندنا، أن تصبح مجرد إسقاط لمعايير غير مستمدة من الظاهرة المدروسة نفسها فتكون من ثم مصطنعة وغير مجدية للفهم بل وحائلة دونه، كما حصل عند فلاسفتنا خلال شرحهم لكتابَي أرسطو في الشعر وفي ((أسرار المنطق)) وبسبب إهمالهم شرح كتابَي الجرجاني في إعجاز القرآن وفي أسرار البلاغة. وهي أعمال سنعود إليها لفهم نظرية الشعر بعد إعادة النظر في طبيعة أفعال العقل بما هي فعل السعي إلى تحقيق التطابق المستحيل بين آليات الدالية وآليات المدلولية.
فما يمكن ملاحظته بالاستقراء هو التالي:
لم يبقَ من جنسي الإبداع العربيين المتقدمين على الإسلام إلا الأمران التالين: فمن الشعر بالمعنى التقني للكلمة (الأدب المنظوم) لم يبق إلا البُعد الشكلي من ماهيته المنحطة، إذا ما استثنينا النَفَس الجاهلي الذي ظل فاعلاً في الجيل الأول من الحضارة الإسلامية لعدم اكتمال تأثير التربية الجديدة بدءاً ببديع المحدثين وختماً بالقصيد الموزون والمقفى أو منظوم الكلام في مضمونات لم تعد ذات طبيعة أدبية لكونها عديمة العلاقة مع المطلق كما يحدسه الوعي الجماعي. ولهذا ظن نقاد الشعر في الحضارة الإسلامية أن المضمون لا علاقة له بالشعر. ومن خبر أيام العرب (الأدب المنثور) بالمعنى التقني للكلمة لم يبقَ إلا البعد المضموني من ماهيته المنحطة: التاريخ المعنعن المسجع أو مقصوص الكلام في أشكال لم تعد ذات طبيعة أدبية لكونا عديمة العلاقة مع المطلق. ولهذا ظن نقاد الخبر في الحضارة الإسلامية أن الشكل لا علاقة لَهُ بالخبر. ونكاد نقول بأن شكل الخبر مرمي على حافة الطريق مثلما يقول نقاد الشعر في مضمونه.
ولم يكن النقاد بنوعيهما مدركين بأن الأدبية، شعرية كانت أو روائية، قد انتقلت إلى شكلين جديدين لم يتحددا بعد ولم يكن أحد مدركاً لأميتهما بحكم طابعهما شبه المحظور: القصّ القرآني الذي شغل منزلة الشعر الجاهلي فوسّع حياة الأمة الروحية إلى حياتين لا تتقابلان تقابل الروح المادة بل تقابل الخلود والفناء لنفس غير قابلة للانفصال عن جسدها، والقصّ الشعبي الذي حاز محل أيام العرب فوسع حياتها التاريخية إلى أيام لا تتقابل تقابل الصلات الدموية بل تقابل الصلات العقدية في الداخل (صراع الفِرَق) وفي الخارج (الفتوحات). وما لم يفهم مؤرخو الإبداع العربي هذين البعدين فإنهم لن يدركوا شيئاً من تردي منزلة الشاعر والراوية إلى مجرد موظفين حقيرين يتساقطان تساقط الذباب على أعتاب الأمراء والسلاطين بحكم عدم ارتفاعهم إلى بعدي الثورة اللذين ذكرنا.
فجنسا الإبداع الجديدان: المقامة والمقام وأفضل المقام على الموقف للجناس ولكون المقام فيه المشاركة الوجدانية أكثر من الموقف) الناتجان عن الثورة الإسلامية والمتجاوزان للجنسين اللذين أصابهما العقم بحكم عدم التناسب بين المضمونات الجديدة والأشكال القديمة قد تولدا عن امتزاج الجنسين الممنوعين (القص القرآني بحكم تقديس المضمون والقص الشعبي بحكم استرذال الشكل). وهما لا يُفهمان ولا يُفهم موتهما في عصر الانحطاط إلا عندما نحلل تأليفهما الناتج عن الامتزاج بين هذين الممنوعين امتزاجاً يداور المنع فيمكن من إدراك بُعدي الشكل وبُعدي المضمون ويميز بينهما ليؤسس الجنسين الجديدين. ولعل تاريخ الأدب العربي كله لم يُفهم إلى حد الآن لكن الثورة التي نصفها الآن لم تُعتبر في أي تحليل لتطور الأجناس الأدبية فيه. والعجيب ألاّ أحد استغرب تصورات الأدب العربي التاريخية التي تغفل كون الأدب ـ وهو أهم تمظهرات التطور الروحي للأمم أعني ضروب حدسها لعلاقتها بالمطلق في بعديه الروحي والتاريخي ـ لا يمكن أن يبقى بعد الإسلام كما كان قبله، خاصة والقرآن قد جعل المقارنة والمنافسة بينه وبين الأدب بجميع أشكاله أمراً لا يمكن إهماله، وأن الشعر في شكله البديعي لا يمكن نكران تأثره بأساليب القرآن البلاغية تأثره الناتج عن الردّ على تحدي الشكل القرآني دون المضمون.
وفي الحقيقة، فإنه إذا ما استثنينا البُعد العابث والماجن من الأدب عند الخاصة ووظيفة المدح والهجاء عند الساسة (وبعض التجارب الصادقة عند مَن لهم معدن شعري حقيقي مقصور على الغنائية في القليل النادر من الأبيات) لم يبقَ من الإبداع الرمزي ذا دلالة أدبية حقيقية في الوعي الجمعي إلا القصص القرآني والقصص الشعبي، وخاصة في الحضر حيث انتهى الوعي الجاهلي حتى منذ ما قبل مجيء الإسلام. وحتى الشعر الجاهلي في أرقى أشكاله، فهو قد فقد دوره الأدبي الروحي لكي يصبح مجرد مآثر تاريخية للتفاخر بين القبائل أو لتأسيس منازل القبائل العربية في التنافس الحاصل بينها أو بينها وبين الشعوبيين. أما الإبداع الأدبي الحي، فلم يعد موجوداً إلا في ضربَي القصّ اللذين أشرنا إليهما، إذ فيهما وحدهما تتحقق الصفة الجوهرية للإبداع الأدبي، أعني الإبداع الحرّ بإطلاق الإبداع الذي لا تحده ضوابط الشكل (اللغة العامية) ولا ضوابط المضمون (القدرة المطلقة للخالق إعطاءً أو منعاً). والشعر الجاهلي بما هو جنس لم يبقَ منه أدبياً إلا الدور التوشيحي (دور الحلي الذي مطلقه جيد المرأة) في هذا القص أحياناً عند تضمنه لبعض مظاهر أغراضه كالفصاحة أو البطولة أو الفخر أو الغزل ... الخ، مما جعله لا يمثل إلا إحدى وسائل التعبير القصصي في الجنسي الجديدين.
ويمكن أن نحلل هذا التأليف الناتج عن الامتزاج إذا تجاوزنا نظرية المقابلة غير الدقيقة بين الشكل والمضمون إلى مقابلة ألطف نشرح أسسها ومدلولها لاحقاً هي المقابلة بين صورة الدال ومادته وصورة المدلول ومادته. فالقول يكون إبداعاً إذا حصل فيه تناسب بين آليات الدالية أو صورة الدال وآليات المدلولية أو صورة المدلول اللتين تكونان كلتاهما حصيلة فعل الإبداع لا متقدمتين عليه. فتكون صورة الدال خبراً عن صورة المدلول. وبذلك يكون الإبداع فعل خبر عن فعل إنشاء كلاهما من صنع المبدع، الأدب ليس إنشاء وليس خبراً بل هو خبر عن إنشاء دال عن إنشاء خبر مدلول.
إذا طبّقنا هذا الفهم كان القص القرآني والقص الشعبي كلاهما مؤلفاً من صورتين قابلتين للمحاكاة ومادتين ممنوعتين. فـ جنس المقامة الجنيني يتركب من صورة مدلول القص الشعبي (الطابع العجائبي في ألف ليلة وليلة مثلاً) لا من مادته (مضمون حكايات ألف ليلة وليلة) ومن صورة دال القص القرآني (آليات القص القرآني شبه المسرحية والحوارية) لا من مادته (مضمون المواقف الموصوفة في القرآن).
صورة الدال القرآني + صورة المدلول الشعبي = جنس المقامة (الهمذاني نموذجاً)
أما جنس المقام الجنيني فليس إلا حصيلة التخليص المقابل: فهو يُبقي من القص القرني على صورة مدلوله (الطابع الماورائي للفعل الإنساني) ومن القص الشعبي على صورة داله (الكرامات والأفعال السحرية في الحياة الدنيوية):
صورة المدلول القرآني + صورة الدال الشعبي = المقام (النفري نموذجاً)
فالقاص الشعبي صار بطل المقامة وبديلاً من راوية أيام العرب التاريخية وأشعارها، والقاص القرآني صار بطل المقام بديلاً من شاعر شعائر العرب الروحية. وينبغي ألا نعتبر أدباً صوفياً الشعر الصوفي المتأخر الذي يستعمل الشعر العربي العادي بمعناه الجاهلي أو بهذا المعنى كما تواصل في العصر الإسلامي بمضمونات غير ملائمة أداة تعبير نظمي. فالشعر عندئذ ليس شعراً، وإنما هو نظم تعليمي من جنس الألفية في النحو. فهذا الشعر أقصى ما يمكن أن يصل إليه يبقى دون الشعر العربي التقليدي من حيث الفنيات الشكلية لكونه يستمدها منه باعتباره ليس معيناً فحسب بل وكذلك نموذجاً، ويبقى دون القرآن من حيث الفنيات المضمونية لأنه يستمدها منه بنفس المعنيين. وإنما نعني بالأدب الصوفي ما تقدم على هذا الشعر الركيك والمصطنع (ركاكة شعر ابن عربي وابن الفارض واصطناعه نموذجاً، والأول أدناه والثاني أرقاه) وكان بالعربية الفصحى بصفته شعراً حراً (المحاسبي والنفري نموذجاً، والأول أدناه والثاني أرقاه) أما تأخر عنه وكان بالعربية العامية. وكلاهما مرتبط بالقص القرآني أو الشعبي. ولا ينبغي كذلك أن نعتبر أدب مقامة المقامات التعليمية التي ليست إلا أداة حفظ للزاد اللغوي أو مجرد محاكاة ركيكة لجنس المقامات الحي.
لذلك أصبح العالم الرمزي العربي في عصر الانحطاط مؤلفاً من:
1 ـ الشعر الميت الذي صار مجرد نظم موزون ومقفى لكون مضمونه لم يعد يعني أحداً.
2 ـ الخبر الميت الذي صار مجرد رواية معنعنة ومسجوعة لكون شكله لم يعد يعني أحداً.
3 ـ المقامة الميتة التي صارت أداة تعليم معجمي لفقدانها الشكل والمضمون الحيين.
4 ـ المقام الميت الذي صار أداة تعليم مذهبي لفقدانه المضمون والشكل الحيين.
5 ـ ويجمع بين هذه الأجناس الميتة الأربعة مقبرتها: أعني تاريخ الأدب العربي كما كان يُدرّس في عهد الانحطاط، مجرد علم أداة لبعدي الحياة السياسية والدينية الميتين هما بدورهما.
هذه الجثث الأربع مع جبانتها هي التي حاولت النهضة العربية الإسلامية إحياءها. وطبعاً فإن الأحياء كان يستهدف إحياء ما تمّ التأكد من موته في هذه الأجناس الأربعة وفي جبانتها دون إدراكٍ واعٍ لما كان يحدث رغم كونه بيِّن الدلالة لمن يحاول الفهم:
1 ـ فمحاولة إحياء الشعر بدأت بتجديد المضامين، أعني بالعودة إلى تناسق الشكل والمضمون كما في الشعر الجاهلي: بعث الشعر تمثل في جعل مادة حياة الأمة (بديلاً من حياة القبيلة) مضموناً للشعر بدلاً من الشعر الماجن والأداتي: غلبة الشعر النضالي والوطني على محاولات التجديد النهضوي في الشعر. وهذا غنيّ عن التمثيل.
2 ـ ومحاولة إحياء الخبر بدأت بتجديد الأشكال، أعني بالعودة إلى تناسق المضمون والشكل في قصّ أيام العرب: بعث الخبر تمثل في جعل صورة حياة الأمة بديلاً من حياة القبيلة شكلاً للخبر بدلاً من الخبر المعنعن والأداتي: غلبة القص الحي للملاحم الإسلامية على محاولات التجديد في القص: الرواية التاريخية في أيام الإسلام بديلاً من التعالم الأدبي الذي كان حكايات ماجنة لعلماء فاشلين يرفهون عن أمراء عاجزين. وهذا غني عن التمثيل.
3 ـ محاولة إحياء المقامة بالجمع بين التجديدين السابقين طرداً: بعث المقامة في معناها عند الهمذاني: حديث ابن هشام (لاحظ دور المقبرة).
4 ـ محاولة إحياء المقام بالجمع بين التجديدين السابقين عكساً: بعث المقام في معناه عند النفري: لم أجد مثالاً عربياً (جبران كان يمكن أن يؤدي هذه الوظيفة لولا المحاكاة الواضحة لنيتشه، وكذلك الشابي لولا عدم النضوج)، لكن شعر محمد إقبال يُمكن أن يُعتبر مثالاً رغم كونه ليس عربياً إذ ما يصفه يعمّ المسلمين جميعاً. ويمكن أن نعتبر بعض الشعر العربي الحر الحالي من جنسه (وهو أندر مما نتصور، لأن السرقات المفضوحة عن الشعر الغربي ليست شعراً فضلاً عن كونها مقاماً).
5 ـ محاولة تجديد تاريخ الأدب العربي: بعث صلته غير الأداتية بالتاريخ الحي للحياة المدنية والدينية وبتخليصه من الصلة الأداتية بالسياسة والدين. وهذا لم يتم لأن محاولات طه حسين، وهي أرقى ما حصل، ذات منطلق سلبي لعله هو أيضاً ديني وسياسي لغلبة الطابع النضالي عليه. أما تواريخ المستشرقين فلا معنى لها أهلياً لأنها تعتمد ميعاً على معايير خارجية.
لكن ذلك لم يكن ممكناً ولا قابلاً لأن يتطور إلى استئناف حيّ وثابت للإبداع الحقيقي إلا بآليات الإحياء التاريخي والحضاري التي حصلت في وجود الأمة الفعلي. وهذا الاستئناف هو الذي اعتبره الآن في مرحلة خطرة شبيهة بالتي حصلت في العصر الوسيط (أعني مرحلة الوصولية الناتجة عن الحلولية) فأدت إلى قتل الشعر العربي عندما حالت دون تجاوز الشكل الجاهلي الذي حققت الثورة الإسلامية شروط تجاوزه (تجاوزاً لا يستند إلى المقابلة بين الروحي والمادي)، ومنعت الجنسين الجديدين من التطور الحقيقي بالبديلين الميتين منهما: المقامة المعجمية والنظم الصوفي المذهبي اللذين تولدا بمجرد أن أدت محاولات المعري إلى تحنيط الشكلين الجديدين قبل أن يشتد عودهما، فأعطت منهما مثالين جامعين للجنسين شعراً وخبراً، فكانت الغاية القاتلة إذ هو قد أخضع الشكلين الجديدين إلى نظرية الحقيقة المطابقة والتصوف الحلولي. وما هزؤه من البعث إلا نتيجة لتردده بين القول بالبعث الروحي الخالص والقول بالتناسخ.
ولعل فشل المعري هذا علته محاولة الجمع بين الرد البديعي (الرد على تحدي الشكل القرآني) والموقف التأويلي اللاهوتي الفلسفي الصوفي القائل بالحقيقة المطابقة التي يتصور نفسه حاصلاً عليها بعقله الكليل والذي جعله يحوِّل عملية الإبداع المزعومة إلى عملية دحض للعقائد بدلاً من الإبداع الذي هو محاولة التعبير المدرك لقصوره عن إدراك المطلق: إن التوظيف العقدي الصريح هو الذي قتل محاولتي المعري فضلاً عن سخافة الإعجاز بالبديع المتكلف الذي هو نقيض البلاغة فضلاً عن كونه شعراً. وحتى لو عُلّم إبداعه آلاف السنين فإنه لن يبلغ أدنى تأثير روحي. كذلك فمن يتوسل سيطرة المافيتين الإعلامية والحزبية يظن أنه سيصبح ذا تأثير بمجرد فرضه مصنفاته في التعليم والساحة الثقافية. لكنهم جميعاً زبد يذهب جفاءً.
إن ما يتهدد الشعر العربي الحالي ومعه كل النهضة العربية لا يختلف كثيراً عما أدى إلى تهديم كل الاقتصاديات العربية وإهدار كل الثروات الوطنية باسم الثورة الاجتماعية والصناعية والديموقراطية الشعبية .. الخ. إنه الفكر الميت الذي يعتبر الشعارات غير المفهومة وسلالم القيم المشوهة إبداعاً أو فعلاً أو فكراً: هو اجتماع آثار الحلولية والوصولية في الوضعية النظرية والوضعية العملية أخذاً أو رفضاً دون فهم كما حدث وسيطاً أخذاً للفلسفة أو رفضاً لها مع عدم الفهم عند الآخذ والراد، وذلك بحكم التبني غير النقدي الحالي للفلاسفة والمتصوفة العرب والمسلمين الوسيطين وبحكم تبني الفكر الغربي الحالي دون فهم، بحيث إن م ا يعد في الغرب آفاقاً مسدودة يعتبره شعراؤنا ونقادنا حلولاً وثورة، مثل الإنسوية والذاتوية والانطوائية .. الخ.
وبذلك، فإن نظرياتهم الفاسدة وغير المفهومة في الإبداع سيكون دورها القاتل من جنس نظرياتهم الفاسدة وغير المفهومة في التاريخ والاجتماع. فمثلما تحولت الآليات النظرية الكاذبة إلى آليات إدارية قاتلة أفقدت المجتمع حيويته الطبيعية وحوّلته إلى آلية بيروقراطية تطحن الفراغ ومن ثم إلى آليات قمعية وقائية هي البوليس السري وعلاجية هي ((الغولاغات)) المشهورة، نجد تلك النسبة نفسها في الجهاز الذي يدير الإبداع الفني والعلمي: مافيا من الإعلاميين والجامعيين والنقّاد المزيفين ينصّبون شعراء وعلماء وكتّاباً مزيفين في عالم كله تزييف. وهذا العالم ليس هو في الحقيقة إلا من توابع ذلك العالم: إنه نسيب عالم المافيا الحزبية والبيروقراطية وربيبها، المافيا الممسكة بآليات القمع الوقائي والعلاجي الحائل دون كل حياة، ومن ثم دون كل إبداع حقيقي في كل المجالات التي أرجعناها إلى ما يناسب مجالات القيم الخمسة. وليس الفرق بين هذه المرحلة والسابقة إلا في كون هذه قد صارت بالفعل وفي الواقع المؤسسي والاجتماعي ما كانت تلك بالقوة وفي الواقع الرمزي والذهني. لذلك فهي أخطر من الأولى لأنها تجمع أدواءها إلى أدوائها. ومن ثم فليس من الصدفة ألا تصمد النهضة الحالية صمود النهضة الأولى: فهي تتهاوى ولم يمض عليها ما ينيف على القرن.
وقد تحددت آليات الإحياء التاريخي والحضاري التي يتهددها هذا الخطر المزدوج في عمل النخب التي باشرت استئناف وظائف الإبداع الوجودية بعد الانحطاط استئناساً ببعث أنماط مباشرية في الحضارة العربية الإسلامية قبل الانحطاط: فالإبداع الرمزي اعتبر مؤثراً بما هو أداة تنوير بالقول وذلك هو تصور المتكلم الحديث، أو أداة تثوير بالفعل وذلك هو تصور المتصوف الحديث، أو جمعاً للتنوير والتثوير بالقول وذلك هو تصور الشاعر الحديث، أو بالفعل وذلك هو تصور المتفلسف الحديث. ولهذه النماذج الأربعة من النخب أسماء ممثلة معلومة للجميع لا نذكرها بحسب الترتيب الزماني بل بحسب درجات الفاعلية من الأدنى إلى الأسمى. فالأول يمثله المجاهد الفقيه الأديب المتكلم محمد عبده دون منازع، والثاني يمثله المجاهد المتصوف الشاعر الأمير عبدالقادر دون منازع، والثالث يمثله المجاهد الشاعر الحكيم المتصوف محمد إقبال دون منازع، والأخير يمثله المجاهد الأمير المتصوف الحكيم جمال الدين دون منازع. وقبل أن نواصل البحث في المسألة فلنلاحظ ما طبع هذه المحاولات من خصائص ذات دلالة في التاريخ العربي الإسلامي الحالي والاستقبالي:
الأولى هي أن التثوير والتنوير المفصولين كانا من نصيب الإسلام العربي البربري الإفريقي (تثوير دون تنوير وتنوير دون تثوير)، وإن الجمع بينهما كان من نصيب الإسلام الفارسي الهندي الآسيوي (تثوير تنويري وتنوير تثويري). لكن التوحيد بين الفاصلَين والجامعَين تمّ بفضل تبادل المقام والفاعلية الحقيقية: فعبدالقادر كان دوره المؤثر بوجوده في آسيا (دمشق: بعث الصلة بين المغرب والمشرق) أكثر مما كان بفعله في إفريقيا، وجمال الدين كان دوره المؤثر بفعله في إفريقيا (القاهرة: إحياء العلاقة بين الإسلامين العربي والفارسي) أكثر مما كان بوجوده في آسيا. وبذلك أمكن لفكر محمد عبده أن يذهب إلى الإسلام الهندي ولفكر محمد إقبال أن يذهب إلى الإسلام العربي، فكان الأول صاحب التنوير العقلي الكلامي، وكان الثاني صاحب التنوير الروحي الفلسفي.
الثانية هي أن فكر صاحبَي الرمز التثويري كان على صلة وطيدة بالغرب، صلة فاعلة في ما حدد مصيره عندئذٍ ويحدده الآن ومستقبلاً، لكون جمال الدين الأفغاني قد ألف الردّ على الدهريين في انحطاطي الفكر الغربي أعني تأليه التاريخ (المادية الماركسية) وتأليه الطبيعة (المادية الداروينية) ولكون عبدالقادر الجزائري قد أسس طريقته في قلب أوروبا نفسها وأصبح له أتباع يُمثلون اليوم أهمّ أساس للإسلام الفرنسي والغربي عامة.
الثالثة هي أن فكر صاحبي الرمز التنويري كانا على صلة وطيدة بالغرب تعلماً منه لا تعليماً له في ما حدد مصيرنا عندئذٍ ويحدده الآن ومستقبلاً، لكون محمد عبده آمن بالتربية التحررية بما هي مؤسسات مدنية (أساليب التدريس)، والثاني آمن بالتربية التحررية بما هي مؤسسات تعبيرية (أساليب التفكير). أحدهما جمع بين التنوير الفرنسي والتنوير الإنجليزي، والثاني جمع بين التنوير الألماني والتنوير الإنجليزي.
الرابعة هي أن هؤلاء الأبطال الأربعة قد أدوا جميعاً الوظيفة التي تغلب عليها صفتهم الرابعة الموجودة مباشرة قبل أسمائهم: المتكلم والأمير والشاعر والحكيم. وإذن فقد غاب بطل خامس وغيابه هو علة كل الأدواء: ليس بينهم مجاهد متكلم أمير شاعر حكيم عالم. ذلك أن الأول قد مثّل نخبة القيم الخلقية الدينية، والثاني نخبة القيم العملية السياسية، والثالث نخبة القيم الجمالية الفنية، والرابع نخبة القيم الشهودية الوجودية. أما نخبة القيم النظرية العلمية فإنها ظلت غائبة: وبدون مرآة التعاكس المحرق والمحفز بين هذه القيم والتأثير المتبادل بين هذه النخب يبقى كل شيء جارياً بصورة عفوية فلا يبلغ الفعل التاريخي الحيّ المدرك لذاته.
الخامسة هي عدم إحياء البعد الخامس، أعني ما صار جبانة وبقي جبانة، أي تاريخ الإبداع العربي الإسلامي أو فلسفة التاريخ من منظور الثورة العربية الأولى. فالكلام والتصوف والشعر والفلسفة لم تتمكن من الانبعاث الحقيقي لغياب مابعدها النظري، أعني مابعد الكلام ومابعد التصوف ومابعد الشعر وما بعد الفلسفة أو فلسفة التاريخ المحددة للإبداع العربي الإسلامي فلسفته التي تُمكّن من فهم الموقف القاتل الأول الناتج عن عدم فهم اللقاء بالغرب في العصور الوسيطة وتُمكِّن من الفهم الذي يخلص من الموقف القاتل الثاني الناتج عن عدم فهم اللقاء الثاني بالغرب الحديث. وهو قد بدأ يبرز منذ هذه المحاولات. فهؤلاء الأبطال كانوا جميعاً على بيِّنة من أنهم ليسوا فقط بصدد الإحياء بل وكذلك بصدد الصراع مع عدم فهم اللقاء الثاني بالغرب. وهم لم يكونوا بمنأى عن بعض الإسهام في عدم الفهم القاتل الذي حصل بعدهم وذلك للعلّتين التاليتين:
الأولى هي استعمال عدم الفهم الأول أعني الفكر الفلسفي والصوفي الإسلامي السابق وتبنيه دون نقد، ومن ثم دون فهم ظناً منهم أن كونه قد كان ذا دور في نهضة الغرب التي صارت مثالاً أعلى يشفع له وقد يجعله وسيلة نحو تحقيق ما تجاوزنا به الغرب أعني الثورة العلمية والتقنية والسياسية التي ظنوها قابلة للاستيراد المعزول عن أسهها. لم يدركوا أن هذا الاستيراد سيزعزع كل الكيان الحضاري إن لم يسبقه الاستعداد الرمزي لهذه الثورات.
الثانية هي عدم فهم الأزمة التي ينسبونها إلى الغرب لحصرهم إياها في تهمة كاذبة هي المادية بالمقابل مع الشرق الذي يصفونه وصفاً كاذباً كذلك بـ الروحانية. لم يفهموا أن مرض الغرب ليس المادية بل هو الروحانية الحلولية التي تبنوها من حيث لا يعلمون عندما تبنوا عدم الفهم الأول أعني الفكرين الفلسفي والصوفي العربيين الوسيطين دون نقد، فأعدوا لتبني عدم الفهم الثاني أعني الوضعيتين النظرية والعملية ورفضها المشارك لتبنيها في عدم الفهم لظن فعل العقل قابلاً للرد إلى ثمراته بعد أن يتركها أصدافاً ميتة.
ولا يمكن أن نفهم مسألة موت الشعر وانبعاثه وما يتهدده الآن إلا بدراسة المسائل الخمس التالية دراسة عاجلة نستخرج منها مقومات مفهوم الشعر المطلق بما هو توجه شطر شهود الإعجاز الإلهي ووظائفه التوجيهية وعلة عدم فهم الثورة الإبداعية التي حدثت في تاريخ المسلمين:
1 ـ مفهوم الشعر بالمعنى الاصطلاحي.
2 ـ مفهوم الشعر عند أرسطو.
3 ـ مفهوم الشعر بحسب المعجم العربي عامة.
4 ـ مفهوم الشعر والنظم عند الجرجاني.
5 ـ وأخيراً علاقة الشعر المطلق بطبيعة الأمر المعجز في القرآن.
وقد رتبنا هذه المسائل بحسب التدرّج نحو مفهوم الشعر المطلق الذي لن يتم تحديده وتحقيقه إلا في ما نفترضه مرقاة إلى سر الإعجاز في القرآن، أعني الشعر المطلق الذي يوجهنا نحو شهود الإعجاز، دون أن نصل إلى إدراكه الإدراك التام كما نحاول تحليله مذكرين بأن شيلينغ قد اقترب في مشروعه الفلسفي من المعنى الوظيفي الذي يُمكن لهذا الشعر أن يؤديه، رغم كونه لم يتفطن إلى مقومات الشعر المطلق الذي كان ابن سينا ينوي تأليف كتاب فيه ولم ينجز وعده. وربما كانت علة قصور الأول هي عدم اطلاعه على القرآن، مما جعله يربط المعنى الوظيفي الذي لم يتحقق في أي شعر مطلق بالمدلول المقوم الذي استمده من الميثولوجيا اليونانية لعلمه بآلياتها. كما أن عدم إيفاء الثاني بوعده ربما كان بسبب ما سنصف من حوائل علتها عدم التخلص من تأثير نظرية الحقيقة بما هي تطابق بين العلم والمعلوم مع تصور المعلوم هو عين المرجع الموجود، رغم كون نظرية ابن سينا في إدراك الإدراك ونظرية الجرجاني في معنى المعنى لهما الدلالة نفسها.
ومعنى ذلك أن التعريف الاصطلاحي ـ الذي لا يصح إلا على الشعر الميت ـ كان أبعد شيء عن مفهوم الشعر المطلق، وأن تعريف الشعر المطلق هو أقرب التعريفات للإعجاز وأكثرها مساعدة على فهمه، وأن الحد الأوسط بين هذين الطرفين الأقصيين هو مدلول الشعر في المعجم العربي مما يعلل كون مادة دال القرآن كانت العربية، وأن ما يأتي مباشرة دون الحد الأقصى هو نظرية الجرجاني في معنى المعنى، إذا أخذت كما يقتضيها أساسها فكانت تعاكساً بلا نهاية، في حين أن تعريف أرسو يأتي مباشرة فوق الحد الأدنى. ولأن الحد الأقصى يتضمن كل المعاني المتقدمة عليه ويفوقها بما ليس فيها، فإن كل النظريات التي تفسر ما دونه ليست كافية لتفسر ما به كان هو فوقها: وذلك هو مصدر صفة الإطلاق التي ستضفى على نظرياتها المنظور إليها في ضوء نظريته لكونها ليست إلا حالات خاصة من أبعاده عندما لا ينظر إليها بإطلاق. لذلك فلابد من وضع النظرية الملائمة له وفهم النظريات الملائمة لما هو دونه في ضوئها: أي فهم نظريات النظم العروضي المطلق والنظم المنطقي المطلق والنظم النحوي المطلق والنظم العلمي المطلق في ضوء النظرية الموجهة شطر الإعجاز المطلق دون الوصول إلى تحديد طبيعته، لكونه يبقى فوق كل إدراك.
وبيّن أن مثل هذا العمل لا يمكن أن تستوفيه هذه المحاولة مهما اتسعت. لكن الإشارة إلى المبادئ العامة ممكنة وواجبة. فليس غرضنا هنا أن نستنفد كل المسائل فنفرغ من حلها دفعة واحدة، بل القصد أن نحدد منها نظام العقد الهادي فنتمكن فيما بعد، نحن أو غيرنا، من دراسة الفرضيات التي نقدمها لحل أزمة الشعر العربي بما هي أهم أعراض أزمة الوجود العربي الذي تعينت فيه أزمات الوجود الإنساني جميعاً: أعني أزمات أنواع القيم الخمس، قيم الحياة والعمل والنظر وشرطها (التوجيه) وشرط شرطها (الشهود)، أي القيم الفنية (جمال/ قبح) والقيم الخلقية (خير/ شر) والقيم المعرفية (صدق/ كذب) والقيم الجهوية (اختيار/ اضطرار) والقيم الشهودية (شهود/ جحود).
ويمكن أن نشير من الآن إلى أن ما به كان القرآن إعجازاً أعني فوق ما دونه من الإبداعات التي غايتها الشعر المطلق بما هو التوجه شطر الشهود هو إضافة الدرجة الخامسة من القيم وإضفاء الطابع القيمي على الدرجة الرابعة التي كانت لا تُعد من القيم لكونها كانت تظن جهات للوجود وليست قيماً تؤسس ما قبلها من قيم حُصرت في التثليث الذي لم يتجاوزه ما يحتذيه فنانونا ونقادنا من إبداع والذي ساد بحكم سواد نظرية الوجود الحلولية والوصولية واستبعاد نظريته الاستخلافية. فبفضل هذه الثورة القيمية حدد القرآن فوق الضرورة المنطقية الرياضية درجتين ودونها درجتين كلها تصبح قابلة للتقويم بفضل إضافة التوجيه والشهود تقويماً جديداً لم يسبق إليه في تاريخ العقل الإنساني. فالضرورة المنطقية الرياضية تحدد قوانين إمكان المَعِيّة بالنسبة إلى الماهيات الوضعية وهي قوانين العقل بالمعنى التقليدي للكلمة (عدم التناقض والهوية والثالث المرفوع). ودونها درجتان هما درجة الضرورة الشرطية الطبيعية ودرجة الضرورة الشرطية الخلقية. وهما درجتان تقتضيان مبادئ تنقلنا من قوانين إمكان المعيّة بالنسبة إلى الماهيات الوضعية إلى إمكانها بالنسبة إلى الإنّيات الطبيعية والوجودات الخلقية أو أفعال الإنسان التي ليست وضعية حتى وإن كانت لا تعلم إلا في صياغة وضعية.
ولا يُمكن أن نفهم النقلة من الضرورة المطلقة إلى الضرورتين الشرطيتين دونها من دون افتراض حرية مطلقة فوقها هي حرية المشروع الربوبي. وإذا فرضنا هذه الحرية فقدت الضرورة المطلقة إطلاقها فباتت هي بدورها ضرورة شرطية. لذلك فالأشاعرة على حق عندما وضعوا فوق الضرورة المنطقية الرياضية التحكم الإلهي: مبادئ العقل نفسها وضعية تحكمية، إذ يُمكن تصور الوجد من دونها. فتصبح هذه المبادئ الجديدة وسيطاً بين الله والمستويات الثلاثة السابقة التي أشرنا إليها. فإذا أضفنا أنها تناظر الحقائق الخلقية التي هي فوق الحقائق الطبيعية ومن ثم فنسبتها إلى الحقائق الخلقية هي نسبة الحقائق الرياضية إلى الحقائق الطبيعية وجدنا مبادئ الإرادة فوق مبادئ العلم. ثم يأتي الله فوق ذلك كله، إذ لا يمكن لأي من هذه المبادئ أن ينطبق عليه دون تشبيه ومن ثم من دون شرك. فتكون لنا خمسة مستويات: ذات الله التي هي عين وجوده والتي لا نعلم عنها إلا كونها موجود لكونها هي شرط الشهود، ثم مبادئ الإرادة وهي شرط التوجيه، ثم مبادئ العلم وهي شرط التقويم المعرفي، ثم مبادئ القدرة وهي شرط التقويم الخلقي، ثم مبادئ الحياة هي شرط التقويم الجمالي. وليس بعد ذلك من مبادئ يحتاج إليها الإنسان. لذلك كان الإعلام بها مضمون الرسالة الخاتمة.
1 ـ تعريف الشعر الاصطلاحي:
يمثل تعريف السكاكي الغاية التي انتهى إليها التعريف الاصطلاحي للشعر عندما بلغ ذروة موته: (فالشعر إذن هو القول الموزون وزناً عن تعمد))، إذ هو مقصور على مجرد الشكل الخالي من كل مضمون مخصوص. وهو ما قصدنا بموت الشعر العربي بُعيد النهضة الأولى إلى حدود الانحطاط. فجنس الحدّ هنا مؤلف من كلمتي القول والموزون والفرق النوعي من كلمات وزناً عن تعمد. فيكون الجنس هو الكلام الموزون، ويكون الفرق النوعي هو كون الوزن صناعياً ونسقياً وليس طبيعياً ومتفرقاً. وإذن، فليس للمضمون أدنى تدخل في هذا التعريف: إذ اقتصر على الإفادة القولية عامة مضموناً للشعر، ومن ثم فليس لصناعة الشعر أدنى صلة بصورة المدلول ولا حتى بصورة الدال بل هي تقتصر على كمّه القصدي، إذ القول الموزون هو المادة والوزن العمد هو الصورة. وبهذا التعريف فلا فرق بين صناعة الشعر وصناعة النظم.
فهل يمكن أن نعد الألفية في النحو مثلاً بهذا الحد شعراً، إذ هي قول موزون وموزون عن تعمد؟ وهل الشعري مقصور على موضوع علم العروض؟ أم أن آليات تصوير الدال وتصوير المدلول أعني البلاغة التي تشترط في كل كلام أدبي، شعراً كان أو نثراً، تمثل كذلك جزءاً من الشعري، فيكون القصد بالقول عندئذ القول البليغ ولا يكون للشعر آليات بلاغية خاصة به بل فرقه النوعي هو آلياته العروضية؟
2 ـ تعريف أرسطو للشعر:
والجواب نجده عند أرسطو. فالشعر عنده لا يمكن تعريفه بهذه الفنيات الشكلية وحدها بحكم الفرق الواضح بين الشعر والنظم التعليمي. وإنما الشعرية مصدرها تصوير المضمون الذي هو إبداع الأسطورة بشروط محددة تتعلق بأمرين:
الأول هو جهات الفعل الموصوف فيه: فالفعل الذي يصفه الشعر ينبغي أن يتصف بكل الجهات التي يمكن أن يوصف بها القول الخبري بعد إرجاعها إلى ممكن فوق جهات الخبر. فهو لا يتوقف عند الممكن بمعنى الحاصل الواقع (التاريخ) بل يتجاوزه إلى ممكن لا يستثني الواجب (العلم) والممتنع (ما قد يُعدّ جهلاً). لذلك فهو يختلف عن التاريخ بتضمن مضمونه ما يعلو على الحاصل إلى ممكن الحصول بإطلاق. وهو دون الفلسفة لكون مضمونه يضفي الإمكان على الامتناع بحكم مجراه في عالم غير عالم الضرورة والمنطق: عالم الخيال.
الثاني هو ضرب إنتاج الفعل لا نوع المفعولات: فالإنتاج الشعري ينبغي أن يتوفر فيه شروط الإنتاج الطبيعي، أعني أن منتوج الشعر ليس كائناً طبيعياً ولا محاكياً لكائن طبيعي أو تاريخي حاصلين فعلاً (إذ لو كان ذلك كذلك لكانت الطبيعة والتاريخ هما الشعر ولأغنيا عنه) بل هو يحاكي كيفية إنتاج الطبيعة لمنتوجاتها باتباع قوانين التناسق الوجودي. والمعلوم أن هذا التمييز الأرسطي دوري لأن أرسطو يعرف آليات فعل الطبيعة بقيسها على آليات عمل الفنان. وينبغي أن يكون المنتوج الفني مثل المنتوج الطبيعي متصفاً بالمقومات التي تناسب مدارك الإنسان، أعني صفات المحسوس، بحيث تكون نسبة هذا المنتوج إلى الشعور الإنساني من جنس نسبة منتوج الطبيعة إلى الشعور الإنساني. هذا هو معنى المحاكاة عند أرسطو. فليس هو محاكاة المنتوجات بل هو محاكاة كيفية الإنتاج وقوانينه. وفي الحقيقة فإن التعريف الدوري بين آليات عمل الفن وآليات عمل الطبيعة عند أرسطو ليس دوراً كما يتبادر: فالآليتان تعودان في الحقيقة إلى آلية تتجاوزهما هي آلية الضرورة الشرطية أو الإنجاز التحقيقي اللاحق للرؤية التصورية، دون أن يكون هناك متصور فعلي بل هو مفروض لفهم التناسق الغاني أو غير الاتفاقي في المنتوجين. والحَكَم في الحالتين هو شروط المناسبة في الإدراكات الإنسانية.
وعندئذٍ نطرح السؤال الذي سيرفعنا إلى المستوى الثالث: هل الشعر هو طبيعة ثانية وظيفتها أن تنتج مثل الطبيعة الأولى عالماً يخصها يكون أثره في الشعور الإنساني من جنس أثر العالم الذي أنتجته الطبيعة ودون أن يكون ذاك العالم مؤلفاً مما يتألف منه هذا العالم؟ هل يكون العالم الذي أنتجته الطبيعة عالماً يؤثر بالذهاب من الحسّ إلى العقل ويكون العالم الذي أنتجه الفن عالماً يؤثر بالذهاب من العقل إلى الحسّ؟ فيكون دور الفن هو أن ينتج عالماً يؤدي بإدراكه العقلي المتقدم على إدراكه الحسي إلى ما يؤدي إليه العالم الذي أنتجته الطبيعة بإدراكه الحسي المتقدم على إدراكه العقلي؟ ومعنى ذلك أن الشعر لا يمكن أن يكون فناً إلا إذا كان مسرحياً: ليس بالضرورة في المسرح الفعلي بل في مسرح النفس أو الإدراك الباطن الذي يبدع بخياله ما يفهم بعقله ليدرك بحسه ما أبدع بخياله، فيكون متقبل الفن هو المحدد الحقيقي لفنيته باعتباره يصبح قادراً على جعله عالماً فاعلاً مثل العالم الطبيعي بشبه تأثر ذاتي ناتج عن إسقاط خارجي يصبح مؤثراً تأثير المدركات الحسية؟
ألا يكون عالم الفن عندئذٍ متناهياً لكونه يعود إلى عالم الطبيعة بما هي مسرح حاصل، والطبيعة متناهية لكونها تؤول إلى العقل بما هو مخرج مسرحي حاصل؟ ألا ينبني هذا الحلّ على تصورين ممتنعين نتجا عن الرد على حل أفلاطوني حائل دون وجود الفن ووجود الطبيعة معاً لكونه يُرجعهما إلى مجرد وهم؟ فعند أفلاطون ما ليس بعقلي هو اللامتناهي (اللامحدَّد) والعقل هو المتناهي (المحدَّد). والتحرر من الأول لا يكون إلا بالثاني. ومصدر الأول الحس ومصدر الثاني العقل. لذلك فالفن انحطاط صناعي (المنتوجات الفنية المحسوسة) محاكٍ لانحطاط وجودي (منتوجات الطبيعة المحسوسة). والعلم بما هو ارتفاع عقلي ينبغي أن يخلص الإنسان من الانحطاطين معاً. لذلك حاول أرسطو رفض حل الانفصال بين المبدأ الصوري والمبدأ المادي بمبدأ الاتصال، فأرجع العالمين أحدهما إلى الآخر وظن أنه بذلك قد تخلص من التعارض بين المتناهي الصوري (المحدَّد) واللامتناهي المادي (اللامحدَّد). فأصبح العلم قابلاً لاستنفاد الطبيعة مُرجعاً المادة إلى صورتها العلمية بالتجريد التصويري، وأصبح الفن قابلاً لاستنفاد العلم مُرجعاً الصورة إلى مادتها بالتعيين التمثيلي. الكلي العلمي المستمد من الطبيعة يستنفدها، لأن الطبيعة تستنفد فيها الصورة المادة. والجزئي الفني المستمد من العلم يستنفده، لأن الفن تستنفد فيه المادةُ الصورةَ.
ويتم التطابق بحكم وحدة آليات الصنع، رغم تقابل الاتجاه: فالطبيعة تصنع بالصياغة التصويرية التي يدركها العلم بتجريد صورتها من مادتها، والفن يصنع بالصياغة التمديدية التي يدركها الفن بتعيين صورته في مادته. لذلك يكون الفن ضرورةً دون العلم مثلما تكون الطبيعة (ما دون القمر) دون السماء (ما فوق القمر). والتجريد والتعيين كلاهما يستنفد التفاضل بين الصورة والمادة ذهاباً وإياباً بينهما. وذلك هو أصل نظرية المطابقة في الحقيقة وأصل قابلية تطبيق المعايير المنطقية على الشعر، حتى عندما يتجاوز الممتنع بالخيال. لكن ذلك كله مبني على إهمال ما لا يقبل الإرجاعين: اللامتناهي المادي الذي لا يستنفده التصوير المعرفي واللامتناهي الصوري الذي لا يستنفده التعيين. وإهمالاً هذين اللامتناهيين هما علة التطابق الوهمي الذي عاشت عليه الفلسفة والتصوف في مرحلتيهما التأويلية والتحويلية. ليس من الوجود ما يستحق الإهمال. العلم والفن اللذان يهملان شيئاً من الوجود بالتأويل أو بالتحويل يبقيان دائماً دونه وهما يشوهانه بالرد المتبادل عندما يزعمان أنها صارا معياره.
3 ـ تعريف الشعر في المعجم العربي:
ليس الشعر في لسان العرب إلا العلم مطلقاً. وله بهذه الصفة أبعاد خمسة تتفرع على النحو التالي. فكلمة الشعر، مادة وبصرف النظر عن تغير شكلها، تبقى ذات صلة بمعنى العلم مطلقاً وتنقسم إلى خمسة معان: أولها يحدد مدلول هذا العلم في علاقته بأدوات الإدراك، إذ المشاعر هي الحواس، وثانيها يحدد مدلوله في علاقته بالإفادة التعبيرية، إذ الشعار هو العلامة المائزة للشيء والدالة عليه، وثالثها يحدد مدلوله في صلته بفعل الجنس ومن ثم بالفعل المتصل ببداية الحياة، إذ مشاعرة المرأة هي ملابسة الرجل لها فيكون الشعار الذي بينها وبين الدثار، ورابعها يحد مدلوله في صلته بالقتل، إذ الإشعار هو الإدماء المؤدي إلى القتل أي الفعل المتصل بنهاية الحياة، والأخير هو المشعر والشعيرة في الدين ويتعلق بالعبادة مكاناً وتمكناً. فيكون مجمل هذه المعاني إذا ربطناها بكون كلمة شاعر هي صيغة مبالغة مطلقة لكونها حاصرة (شعر شاعر أي أشعر ما يكون) كان المدلول: الشعر هو ضرب إدراك الشاعر (الشعور) بما هو علم مطلق لكونه عبادة دائمة المراوحة بين المعرفة الذوقية التي تحصل بفعل جنيس لفعل بداية الحياة الإنسانية بداية اختيارية (المشاعرة أو تجربة اللقاء الجنسي) والمعرفة الذوقية التي تحصل بفعل جنيس للفعل الذي به تنتهي به الحياة الإنسانية انتهاء اختيارياً (الإشعار أو تجربة اللقاء الحربي) وذلك بتوسط الحواس الخمس ظاهرها وباطنها ومن ثم بالجسد كله ضرورة من حيث هو متلق للوجود كله بما فيه ذاته وباث لصدى الوجود كله بما فيه ذاته لذاته.
4 ـ تعريف الشعر عند الجرجاني:
لكن التفاضل بين المادة والصورة الذي لا يقبل الاستنفاد حتى لو رضينا بالحل الأرسطي والذي صار علماً وعبادة مطلقين مراوحين بين فعل بداية الحياة وفعل نهايتها الطوعيين، بين الحب والحرب، ينبغي أن يفهم بصورة ملائمة للثورة الإسلامية التي نشأت بالاستخلاف الذي بدأ بالحب وظل مهدداً بالنسيان أو سفك الدماء حجة لنفي استئهاله الاستخلاف. فهو ليس ناتجاً عن كون اللاتناهي صفة للمادة كما توهم أفلاطون. ولا يمكن تصور الفعل المطلق أو العقل الإلهي حاصلاً في التمام المتناهي. وإذن فينبغي أن يحصل التمييز بين اللامحدد Das Unbestimmte في الفلسفة العربية ليكون تعريف الشعر بمعناه عند الجرجاني أمراً ممكناً. وذلك ما بلغ ذروته عند ابن سينا حيث أصبح اللاتناهي بالفعل الذي هو خاصية ذاتية للصفات الإلهية له نظير هو اللاتناهي بالقوة بما هو صفة ذاتية للفكر الإنساني. فالتطابق التام الذي يوقف التعاكس اللاتناهي في إدراك الإدراك لذاته والذي ليس هو ممكناً للإنسان هو اللاتناهي بالفعل أعني استنفاد الفضل المطلق في وعي الإله بذاته، وإلا لصحت النظرة التثليثية (عاقل، عقل، معقول) بل والتخميسية للذات الإلهية (عاقل، معقول، عاقلية، معقوية، عقل). وتتالي الإدراك اللامتناهي بالقوة عند الإنسان هو جوهر الإدراك الإنساني المتعين بالفعل تعين قدرة في قيامه الجسدي وليس هو مجرد تفاضل بين الصورة والمادة الخارجيتين: إذ كل علم سابق هو مادة لعلم لاحق لا إلى نهاية. ذلك ما أدركه ابن سينا فنقلنا من نسبة التمام إلى التناهي عند اليونان إلى نسبته إلى اللاتناهي عند المسلمين، إذ إن فضل المدلول على الدال هو عينه مفهوم الآية، وعدم قابلية هذا الفضل للاستنفاد هو المحرّك الأساسي للوجود وللشهود وللتعبير عن شهود الوجود أي الفن عامة والشعر خاصة.
فكيف سيؤثر هذا الانقلاب الذي حصل في تعريف أفعال العقل في التعبير عن أفعاله (وهو كذلك أحد الأفعال العقلية) التي يعد التعبير الشعري أسماها عند الإنسان لكونه الفن الذي أداته الفصل النوعي للإنسان أعني الشهادة بالشهود أو النطق الذي كان علّة الاستخلاف ومن ثم البينة الوحيدة للوحي الخاتم؟ ينبغي أن نضيف هنا أمراً جوهرياً. فتصوير الدال وتصوير المدلول اللذان تدرس البلاغة آلياتهما واللذان استند إليهما التعريف الاصطلاحي للشعر عند موته، كلاهما يتعلق بشكل التعبير وليس بمضمونه. وإذن فللمضمون الفني بما هو تعبير كذلك آليات تصوير لبعدين آخرين: هما تصوير دال الأفعال العقلية التي تقيمها أصناف القيم الخمسة التي سبق فذكرناها وتصوير مدلولها بوصفها ما يخبر عنه الشكل الفني الذي هو واحد منها، إذ هو قد يخبر عن ذاته.
ولا يمكن أن نفهم هذا الأمر الذي اصبح إدراكه ممتنعاً بالحل الأرسطي القاصر إلا إذا وجدنا ما يساعدنا على فهم الثورة السينوية بوصفها صياغة فلسفية لما يمكن أن يكون مرقاة لفهم الإعجاز: فالقرآن بما هو كلام الله أو أثر صفات الله جميعاً يذكر باللاتناهي الذي بالفعل فيكون آية الآيات بالنسبة إلى العقل الإنساني الذي يجد في إدراك ذاته لذاته نموذجاً منها بالقوة لا بالفعل. ذلك أن التعاكس اللامتناهي في القرآن متحدثاً عن نفسه تذكيراً بمصدره اللامتناهي بالفعل يجد ترجمته في التعاكس الإدراكي اللامتناهي عند ابن سينا: ((ولأن في قوة النفس أن تعقل وتعقل أنها عقلت وتعقل إنها عقلت أنها عقلت وأن تركب إضافات في إضافات وتجعل للشيء الواحد أحوالاً مختلفة من المناسبات إلى غير النهاية بالقوة، فيجب أن لا يكون لهذه الصور العقلية المترتب بعضها على بعض وقوف ويلزم أن تذهب إلى غير النهاية لكن تكون بالقوة لا بالفعل (عند الإنسان) ]لأنها لا تكون بالفعل إلا عند الله وحده وهي علة الإعجاز القرآني لأن الله ضمنه آثار صفاته جميعاً وأعطى الإنسان هذا اللاتناهي بالقوة لتكون علاقة الدلالة علاقة آية: علّمه البيان[ )).
وتعاكس المعاني عند الجرجاني كان ينبغي كذلك أن يكون لا متناهياً وإلا امتنع عليه أن يتوسله للحديث في الإعجاز القرآني. وما اقتصر الجرجاني على درجتين دون سواهما إلا لكونه يتحدث عما هو بالفعل في العبارة الإنسانية لا عما هو بالقوة في الشعر. فدرجة المعنى الحقيقي (المعنى الأول) بالفعل ودرجة المعنى الذي لهذا المعنى الحاصل بالفعل (المعنى الثاني) إما بطريق الاستعارة والتمثيل أو بطريق الكناية لا تكونان إلا متناهيتين عندما يكون القول ليس شعراً: أما معنى المعنى الممكن بالكناية أو بالاستعارة والتمثيل فهمها مما لا نهاية له بالقوة في الشعر ومما لا نهاية له بالفعل في القرآن. فالكناية التي تستند إلى علاقة التبعية بين المعاني لامتناهية بالقوة لكون سلسلة الموجودات كلها مترابطة فينعكس ترابطها بين أسمائها والمجاز بفرعيه (الاستعارة والتمثيل) لامتناه بالقوة لكون كل موجود من جماعة الموجودات له مع جميعها وجه شبه وهو ما ينعكس كذلك بين أسمائها.
واللاتناهي الذي غاب في نظرية معنى المعنى عند الجرجاني حضر في عرضه لأساسها، أعني في كون معنى المعنى عنده لا يتعلق بحقائق الأشياء بل بضروب الحكم عليها في فعل التعبير غير المباشر عنها: ((فليس تأثير الاستعارة إذن في ذات المعنى وحقيقته بل في إيجابه والحكم به ]إنها إذن في فعل القصد العنائي[. وهكذا قياس التمثيل ترى المزية أبداً في ذلك تقع في طريق إثبات المعنى دون نفسه ... هذا ما ينبغي للعاقل أن يجعله على ذكر منه أبداً وأن يعلم أن ليس لنا إذا نحن تكلمنا في البلاغة والفصاحة مع معاني الكلم المفردة شغل ولا هي منا بسبيل، وإنما نعمد إلى الأحكام التي تحدث بالتأليف والتركيب. وإذ قد عرفت مكان هذه لامزية والمبالغة التي لا تزال تسمع بها وأنها في الإثبات دون المثبت فإن لها في كل واحد من هذه الأجناس سبباً وعلة. أما الكناية فإن السبب في أن كان للإثبات بها مزية لا تكون للتصريح أن كل عاقل يعلم ـ إذا رجع إلى نفسه ـ أن إثبات الصفة بإثبات دليلها وإيجابها بما هو شاهد على وجودها آكد وأبلغ في الدعوة من أن تجيء إليها هكذا ساذجاً غفلاً)). فمعنى المعنى هو عينه مدرَك المدرَك. وكلاهما لا يكون إلا متناهياً عند حصوله بالفعل ولامتناهياً بالقوة لكون حصوله لا يستنفده. والاقتصار على الرتبتين في الوجود بالفعل هو الذي يجعل العلم والقول قابلين للوجد رغم كونهما مستحيلي التوقف لتعذر استنفاد موضوعهما، إلا إذا قُلنا بنظرية المطابقة الكاذبة المبنية على استنفاد الإدراك للوجود، معتبرين ما لم يستنفد قابلاً للإهمال.
وقد ظن الفارابي، في كتاب الحروب، أن المعقولات الثواني يمكن أن ترجع كلها إلى الرتبة الثانية وتقف عندها وكذلك بالنسبة إلى القول، دون أن يفهم أن ذلك مقصور على الحاصل منهما الذي نرضى به لأسباب عملية، نظير ما نفعل عندما نريد أن نخرج من التسلسل والدور في تأسيس الأنساق المعرفية: فنوقفهما تحكماً. فإذا ظننا ذلك التوقف الذريعي للشروع في تأسيس الأنساق مطلقاً مات العلم وامتنع استئناف النظر في الأسس: وتلك هي مفارقة نظرية الحقيقة المطابقة إذا لم تؤخذ بمعنى المطابقة الشرطية والمؤقتة. ولو أدرك الفلاسفة هذه الحقيقة لما ذهب بهم الظن إلى أن القول العلمي أكثر مناسبة لقول الحقيقة من القول الشعري ولأمكنهم فهم الطابع التحكمي لحصر المقومات في جوهرين ثانيين هما الجنس والنوع لتعريف الجوهر الصوري ولما قالوا بثبات الصور النوعية لكون كون الصور بين كل اثنتين نتوهمهما متواليتين لامتناهية العدد هو أساس نظرية التطور في علم الاحياء الحديث وأساس كون كل نوع يتضمن في ذاته محصلة كل الأنواع المتقدمة عليه تضمناً بالفعل وكل الأنواع المتأخرة عنه تضمناً بالقوة.
وهم لو فعلوا لاستحيوا من ظنهم القرن خطاباً جمهورياً مستنداً إلى آليات الجدل والخطابة لظنهم الكلام البياني دون القياس البرهاني المزعوم: البرهان وهم أساسه القول بالمطابقة الممتنعة. فالدليل لا يمكن أن يطابق المدلول إلا إذا زال الفرق بينهما بإطلاق. ولما كان هذا مستحيلاً فالبرهان وهم لا ينبغي أن يسمو على قدرة الشرطي والتحكمي لوضع الأنساق الذريعية في المعرفة العلمية. وإذا كان الأمر بيناً بالنسبة إلى مدرِك المدرِك لأن كلاً منا يجده من نفسه، إذ يحاول الإمساك بذاته موضوعاً لذاته في فعل الإدراك، فإن الأمر يحتاج إلى دليل بالنسبة إلى معنى المعنى الذي هو مدرَك المدرَك. واللاتناهي هنا واحد رغم كونه في الاتجاه المقابل، إذ في عملية التعقل يكون الذهاب من المدرِك إلى مدرِك المدرِك بلا تناهٍ، وفي عملية التأويل يكن الذِهاب من المدرَك إلى مدرَك المدرَك بلا تناهٍ. ويمكن أن نثبت ذلك من وجهين:
أولهما أن كل كلام صدر منا يمكن أن يُترجم معناه بكلام حوله لا إلى نهاية: فيكون للمدلول مدلول بلا نهاية ويوازيه دال الدال بلا نهاية في الاتجاه المقابل مما يجعله مطابقاً لإدراك الإدراك. وبذلك يكون كل تعبير متضمناً اللاتناهيين في الوقت نفسه. فهو بداله من جنس إدراك الإدراك اللامتناهي بمعناه عند ابن سينا طرداً، وهو بمدلوله من جنسه عكساً: فيكون مدلول المدلول في نحوِّه اللامتناهي ذا غاية هي المرجع المطلق أو العين الوجودية أو الشخص المادي الذي لا يمكن للإدراك أن ينفذ إليه وإن كان لا يوجد إلا بالتوجه شطره باعتباره غاية المضمون. ويكون دال الدال في نحوِّه اللامتناهي ذا غاية هي الرمز المطلق أو الكلي الوجودي أو الشخص الصوري الذي لا يمكن للإدراك أن يصل إليه وإن كان لا يمكن أن يوجد إلا بالتوجه شطره باعتباره غاية الشكل. ويكون مدلول المدلول في تضايقه عند الاتجاه نحو العين الوجودية أعني مرجع المضمون هو مدى الماصدق. ويكون دال الدال في تواسعه عند الاتجاه نحو الكلي الوجودي أعني مرجع الشكل هو مدى المفهوم. والأول هو مضامين الشعور أو المشهود والثاني هو إشكال الشعور أو الشاهد. وهذا الثاني هو الماهيات المفصولة عن الوجود، وتلك هي الوجودات أو الأنيات اللاحقة بها عند حصول الفعل الإدراكي أو التعبيري.
ثانيهما أن الكناية والمجاز (استعارةً كان أو تمثيلاً) لامتناهيات بحكم أن كل شيء له من التوابع في الوجود ما لا يتناهى (من هنا لاتناهي الكناية)، وأن كل تشبيه يمكن أن يشبه هو بدوره لا إلى نهاية (من هنا لاتناهي المجاز بضربيه): فعندما استعمل الكناية (نؤوم الصباح) أو الاستعارة (لقيت الأسد) أو التمثيل (ما لك تُقدم رجلاً وتؤخر أخرى) للإفادة أكون قد جعلت الدلالة الأولى دالاً على دلالة ثانية أريدها. ولأني اريدها أتصورها الثانية والأخيرة. لكن الدلالة الثانية يُمكن أن أجعلها دالاً على دلالة ثالثة وهكذا لا إلى نهاية. ويتبين ذلك بوضوح تام عندما لا تكون الدلالة الغاية معطاة مسبقاً خلافاً لما هو الشأن في حالة اتحاد الباث والمتقبل اتحاداً يفرض مطلقاً: وهو فرض ممتنع التحقيق حتى بالنسبة إلى الفرد الواحد إلا توهماً عندما يظن المرء نفسه تام الشفيف مع ذاته. لكن ذلك لو كان صحيحاً لاستغنى المرء عن مجاثثة نفسه، إذ لا حاجة له عندئذ للوساطة بين ذاته الباثّة وذاته المتلقية. ولولا ذلك لامتنع كل سوء تفاهم بين البشر. فالقصد من هذه التعابير غير المباشرة يُعدّ متناهياً إذا سلمنا بأننا نعلم المعنى المقصود منها في الكلام العادي.
أما في الشعر ـ ومن باب أولى في القرآن الكريم ـ فإن المعنى المقصود بالتعبير اللامباشر ليس محدداً مسبقاً وليس قابلاً لأن يكن واحداً بعينه بل هو لامتناه بذاته وليس فقط بحسب المؤوّلين: فعندما أقول: ((الرحمن على العرش استوى)) فإنني أعلم أولاً بأن ذلك تعبير غير مباشر لكوني أتكلم في مَن لا يمكن أن يوصف بما يوصف به البشر. ولا يمكن أن أعتبر ذلك مجازاً بمعنى أول يستنفده معنى ثان واحد يقف عنده التأويل ـ كما ظنّ الفلاسفة عندما اعتبروا علمهم الخاصي هو هذه الحقيقة الباطنة أو كنا ظنّ المتصوفة عندما أعطوا لأساطيرهم التي لا تبعد كثيراً عن التي اعتبرها الفلاسفة الحقيقة الباطنة والمطلقة المنزلة نفسها ـ بل إن المعاني الثانية لامتناهية بذاتها وكذلك بحسب المؤوّلين. فكل معنى ثان يقبل معنى ثالثاً فرابعاً وهكذا إلى لا نهاية، لكون كل معنى يصبح إدراكاً يمكن أن يكون مادة لإدراك وهكذا إلى لا نهاية. والآية الفنية هي التي تتضمن ما يثبت هذا اللاتناهي وليس ما ينفيه. والقرآن ليس معجزاً إلا بكون تضمنه لهذا اللاتناهي لا يُستنفد ولا يُضاهى، أي إن الفنون مهما سمت لن يتوفر فيها شرط الآية المطلقة: تحقيق شهود المطلق المذكّر باللامتناهي بالفعل من خلال اللامتناهي بالقوة الذي يوقظه فينا القرآن الكريم، وذلك هو معنى الاعتبار.
5 ـ تعريف الشعر المطلق:
وعندئذٍ يمكن أن نفهم ذلك اللاتناهي المزدوج في مستوى الإدراك وإدراك الإدراك وفي مستوى العبارة عنهما دالاً ومدلولاً وعبارة العبارة دالاً ومدلولاً لا إلى نهاية. فعندما نتلقى أي فعل مبثوث، ننطلق من صورة دال الفعل المتعين في جسد الفاعل لنصل إلى إحدى صور مدلوله الممكنة وراءه. لكن صورة المدلول التي نصل إليها ونتوقف عندها تحكماً تصبح صورة دال نؤولها بتطبيقها على صورة مدلول مناظر نعتبرها قائمة في مرجع مشار إليه نتوهمه خارجنا أو في ذاتنا ونعتبره الحامل العيني لهذه العلاقة المربعة بوصفه بعداً خامساً لا نصل إليه أبداً ولا نعلم منه إلا تساوق الوجود معنا لحظة التقبل قبالتنا أو فينا في صلة العلم أو العبادة أو في صلة الجنس أو الحرب وكل منهما لا يخلو من الأخرى. وعندما نبثّ أي فعل نذهب من مرجع خارجي أو داخلي لا ندرك منه إلا الوجود المساوق لوجودنا قبالتنا أو فينا لحظة البثّ ونتصوره من خلال مدلول نتصور له دالاً نتوقف عنده تحكماً ونحاول قول مدلوله بدال نصنعه في تلك الصلات نفسها: وفي كل هذه الأحوال يحصل متناه بالفعل هو فعل ((البث ـ التلقي ـ التلقي ـ البث)) متضمناً لامتناهياً بالقوة هو تواليه على ذاته وانعكاسه عليها لا إلى نهاية فيذكر باللامتناهي بالفعل. ذلك هو اصل الترميز الحيّ كله أو الشهود.
ومعنى ذلك أننا لا نبثّ ما نبثّه إلا بتلقيه حين بثه ولا نتلقى ما نتلقاه إلا ببثه حين تلقيه: فيكون الأمران متضمنين الفعل والانفعال معاً وبذلك تتخمس ذاتنا التي تكون باثة وبثاً وتلقياً ومتلقية ووحدة ذلك بما هي شهود آيات المطلق. وبثنا عند التلقي الشارط له وتلقينا عند البث الشارط له كلاهما خارج البثّ والتلقي والمتعلقين بصورة الشكل ومادته اللذين يخبران عن المضمون صورةً ومادةً. ولكون الصورة والمادة في الشكل والمضمون متداورتين، فإنهما لا تتوقفان لذلك فهما متواليتان إلى لا نهاية في حركتين متداورتين إلى لانهاية. إنهما الجمع بين التداورين اللذين اكتشف ابن سينا أحدهما دون نتائجه في مستوى العبارة ولم يتجاوز الجرجاني اكتشاف أساس ثانيهما لكونه لم يربط العبارة بالإدراك رغم توكيده على وجوب تقديم المعنى على اللفظ: إدراك الإدراك المتوالي إلى لا نهاية وأساس معنى المعنى المتوالي إلى لا نهاية.
ويولّد كلا التواليين (الدوار الإدراكي) الناتج عن بعد شهود المطلق باطنه وظاهره شهوداً يكون هو عينه الالتقاء الوجودي بين الشاهد والمشهد ولا يمكن فهمه إلا من خلال تصنيف الفنون جميعاً: إنهما يتعلقان بالتفاضل الدائم الذي لا يمكن أن يستنفد بين صورة المضمون مادته وبين صورة الشكل ومادته، أي بين فعل البث والتلقي نفسيهما، أياً كانت طبيعة هذا الفعل ذوقاً أو عملاً أو نظراً أو توجيهاً أو شهوداً، والإخبار عنهما بأداة التعبير أياً كانت بصورتها ومادتها. مضمون البث والتلقي صورة ومادة بما هو مقول هو إذن فعل البث والتلقي بما هو أفعال الإنسان الخمسة التي تترجم إلى قول يحاكيها فيكون شعراً إذا كانت صورته مناسبة لصورتها وعلامة المناسبة هي صيرورة ذلك القول مولداً لذلك الفعل عند متلقيه أي أنه يجعل المتلقي يذوق أو يعلم أو ينظر أو يوجه أو يشهد. وهذا الأمر بمجرد أن يحصل يصبح الموقف من القرآن موقف إدراك الإعجاز، ومن ثم العجز عن الانتقال من اللاتناهي بالقوة إلى اللاتناهي بالفعل في مبدع الكونين الطبيعي (العالم) والشريعي (القرآن) بما هما آية ربوبية من اللامتناهي بالفعل وآية مربوبية من اللامتناهي بالقوة. فيصبح فعل الشعر عين العبادة أو الشهادة بشهود واجب الوجود. لذلك كان الوحي المستند إلى هذه الحقائق وحياً خاتماً وذا صياغة فنية يبقى دونها الشعر المطلق. فهو قد بيَّن أن طبيعة الاتصال بالمطلق هي عينها جوهر الإنسان بما هو شاهد بوجود الرحمن لكون ذلك هو عينه الدين الفطري أو الإسلام الذي يتحد فيه الديني بما هو طبيعي وبما هو منزل فلا يكون له من مرقاة تعبد إلا العبارة الفنية بما هي تحقيق قيم رمزية وأسماها الشعر، أو بما هي تحقيق قيم خلقية وأسماها الإسهام الفعلي في التشريع للوجود الإنساني. ولا يمكن أن نفهم ذلك إلا بشرطين أحدهما يتعلق بتصنيف الفنون المبين لطابعها المتعاكس لا إلى نهاية والثاني يتعلق بتعريف المتشابه في القرآن باعتباره مصدر الاعتبار في الوجود الإنساني ومنطلق كل تعبير فني عن المطلق.
ولعل تصنيف الفنون (الذي نقترحه هنا مؤقتاً دون تعليل) هو الذي يساعدنا على فهم هذين التواليين اللامتناهيين، رغم كونه لا يفهم هو بدوره إلا بهما. فالإبداع الفني ـ وهو أصل الإبداعات الخمسة التي أسسها القرآن (بوصفها ما يناظر الصفات الإلهية الخمسة ـ صفة الحياة للجمال وصفة القدرة للعمل وصفة العلم للمعرفة وصفة الارادة للجهة وصفة الوجود للشهود ـ أعني الخلقي والنظري والعملي والجهوي والشهودي) وأولهما جميعاً ـ يتعلق بقيم الجمال وله درجتان أصليتان ـ لكل منها صلة بصورة المضمون ومادته وبصورة الشكل ومادته أي بوحدة العملي الفني الذي هو أصلها ـ تتلوهما تراكيب لا إلى نهاية. ولكل منها أصناف خمسة بسيطة وعدد لا يتناهى من التواليف.
فالدرجة الأولى، أعني درجة المعين الذي تستمد منه صورة وحدة الشكل والمضمون ومادتها في كل الفنون، بل وفي كل الأفعال العقلية الإنسانية، وأصنافها البسيطة هي درجة الفن المعيش أو الإدراك الحسي نفسه عندما يصبح فعلاً فينتقل من كونه مجرد انفعال إلى فعل، بحيث تصبح الحواس حوادس، أي القدرة الإنسانية اللامتناهية بالقوة ـ لعدم إمكانية الاستنفاد ـ على تلقي ما يُبث وبث ما يُتلقى لا إلى نهاية في ذلك التوالي الذي لا يتوقف: جمال الإبصار وسنسميه رسماً أياً كانت المادة ومقدار النقش فيها، وجمال السمع وسنسميه نغماً أياً كانت المادة ودرجة الأنغام، وجمال اللمس وسنسميه لباساً أياً كانت المادة ودرجة الملابسة مع البشرة، وجمال الذوق وسنسميه طعماً أياً كانت المادة ودرجة التذوق، وجمال الشم وسنسميه طيباً أياً كانت المادة ودرجة التشمم. وتلك هي بسائط الفنون في درجتها الأولى باعتبارها معين المضمون المطلق بما هو ((تلق ـ بث ـ بث ـ تلق)) إدراكي مطلق دائم الدور والدوار لا إلى نهاية وهو عيه انفعال الحواس الخمس: البصر والسمع واللمس والذوق والشم، إذ يصبح فعلاً للحوادس الخمس، أي الإدراك الفني أو إدراك العلاقة باللامتناهي المصاحب للحواس الخمس. وهذه الحوادس هي البصيرة والسميعة واللميسة والذويقة والشميمة. وتتدرج الفنون في التمام بالتواليف الممكنة. فالبسيط ما كان منها مقصوراً على ((إحساس ـ حدس)) واحد ثم يأتي التعقيد إلى الأتم الذي يتضمن ((الإحساسات ـ الحدوس)) الخمسة. وقد تكون المادة التي يشكلها الفن جسماً خارجياً أو أفعاله أو جسداً إنسانياً أو أفعاله. وقد يشكل المكان (الجغرافيا المعينة) أو الزمان (التاريخ المعين) أو السلم (سلم اجتماعي ووظيفي معين) أو الدورة الاجتماعية (مجتمع معين)، وتلك هي الاحياز الأربعة التي تتحد في أصلها الذي هو بعدها الخامس أعني حضارة معينة: فهذه جميعاً هي الأعمال الفنية التي تُحدد وجود أمة من الأمم وذلك بتنضيد المواد أو الأشخاص أو أفاعيلها فيها. وجملة هذه الفنون هي الفنون التشكيلية.
أما الدرجة الثانية فهي التي تنتج عن جعل هذه التشكيلات مادة لقول فني فيحصل عندئذٍ الفن الذي هو من الدرجة الثانية، الفن الذي صار موضوعاً لتعبير فني بواسطة اللغة الإنسانية: وتلك هي الدرجة الأولى من الآداب بجميع أجناسها وأرقاها الشعر، لكون الآداب يمكن أن تكون دائماً مابعداً لكل الفنون مهما تعقدت لكون الترميز اللساني هو دائماً مابعداً لكل أفعال العقل الإنساني ترجمة لها في التبادل التواصلي الجمعي. وإذا عكسنا فأعدنا الآداب إلى صياغة تشكيلية جمالية كانت الفنون الاستعراضية التي منها المسرح والسينما. وتلك هي الدرجة الثالثة. وإذا أدخلنا هذه في التشكيلية كانت الدرجة الرابعة. وإذا أدخلناها في العبارة الأدبية كانت الدرجة الخامسة. وتتوالى الدرجات لا إلى نهاية. وكل موجود لامتناه، كما أسلفنا. ويبقى الشعر دائماً أصل هذه السلسلة اللامتناهية بداية وغاية. فكيف يمكن أن تكون هذه التعاكسات التي لا نهاية لها مرقاة البلوغ إلى الشعر المطلق بما هو سبيلنا إلى الاشرئباب إلى شهود الإعجاز؟ لا يمكن أن نفهم ذلك من دون أن نفهم آية التأويل التي كانت منطلق كل مجانبة للصواب في فهم أبعاد الأعجاز القرآني، وذلك لتحديد منزلة المتشابه ووظيفته في القرآن الكريم.
قال الإمام السكاكي: (( (إن المعترضين على الإعجاز القرآني) يقولون فيا لآيات المتشابهة: قدروا أنها تستحسن فيما بين البلغاء لمجازاتها واستعاراتها وتلويحاتها وإيماءاتها وغير ذلك. ولكن جهاتها في الحسن هناك إذا استتبعت مضادة للمطلوب بتنزيله إغواء الخلق بدل الإرشاد. أفلا يكون هذا عيباً واستتباعها للإغواء ظاهراً؟ وذلك أنكم تقولون: إن القرآن كلام مع الثقلين وتعلمون أن فيهم المحقّ والمبطل والذكي والغبي فيقولون: إذا سمع المجسم: الرحمن على العرش استوى أليس يتخذه عكازة يعتمد عليها في باطله فينقلب الإرشاد المطلوب به معونة على الغواية ومدداً للضلال ونصرة للباطل؟ وكذا غير المجسم إذا صادف ما يوافق بظاهره باطله؟ فيقال لمثل هذا القائل: حبك الشيء يعمي ويصم. أليس إذا أخذه المجسم يستدلّ به لمذهبه فقيل له: لعل الله كذب يقول: كيف يجوز أن يكذب الله تعالى؟ فيقال لحاجة من الحاجات تدعوه إلى الكذب، فيقول: كيف تجوز الحاجة على الله تعالى؟ فيقال له: أليس الله بجسم عندك؟ وهل من جسم لا حاجة له؟ فينتبه لخطئه ويعود ألطف إرشاداً وأبلغ هداية كما ترى هذا في حق المبطل. وأما المحق فمن سمعه (المتشابه) دعاه إلى النظر فأخذ في اكتساب المثوبة بنظره ثم إذا لم يف نظره دعاه إلى العلماء فيتسبب ذلك لفوائد لا تعد ولا تحدّ)).
إن تأويل الآية الكريمة (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات. فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله. والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكّر إلا أولوا الألباب)، بالاستناد إلى نظرية الحقيقة المطابقة قد كان أساس بداية النهاية لكل شعر ممكن، إذ الإعجاز الشعري يكون قد زال ولم يبق مقبولاً إلا الحقيقة المزعومة التي يدركها خاصة المتصوفة والمتفلسفة ومن ثم أساس عودة السُلط الروحية عند القائلين بتأويلَيها المشهورَين. فسواء وقفنا قبل (والراسخون في العلم) أو بعدها فإن النتيجة واحدة، إذ أصبح الخلاف كله يدور حول قدرة العقل على تأويل المتشابه تأويلاً مستوفياً يستغرق المدلول فيحقق التطابق التام بين المدلول المنظور والدال المذكور. فمن قال بقدرته أوجد سلطة روحية هي علم العلماء بالباطن علماً مساوياً لعلم الله به (الفيلسوف والمتصوف). ومن نفاه أوجدها كذلك وهي علم العلماء بالظاهر (المتكلم والفقيه).
لكن الآية بيِّنة الدلالة لذوي البصائر. فلا يمكن أن تتعلق بإثبات التساوي أو نفيه بين العقل الإنساني والعقل الإلهي من خلال التوحيد بين العلمين الإنساني والإلهي. فهذا ليس مما يُمكن أن يقصده القرآن لكونه من المفروغ منه. ما أهمله العلماء هو معيار تحديد المتشابه الذي هو جوهر الخلاف. فمشكل التأويل يأتي في الدرجة الثاني، إذ لابد قبله من فرز المتشابه من المحكم. ولكون ذلك ل يحصل بات لكل فريق متشابهه ومحكمه. فقلبت العلاقة وأصبح التأويل هو الذي يحدد المحكم والمتشابه وليس هو الذي يتحدد بهما. لذلك فإن الآية تعني أمرين:
الأول هو أن تأويل المتشابه مقصور على الله، وذلك أمر مفروغ منه ولا يمكن لأي تحيل بلاغي أن يفهمنا نص الآية بصورة أخرى.
والثاني هو تحديد معيارَي التعرف على هذا المتشابه الذي يعي العقول. إنه في الآية ما يعترف الراسخون في العلم بعدم قدرتهم على فهمه فيدَّكرون لأنهم من ذوي الألباب وما يدعي الجاهلون القدرة على تأويله فينسبون لأن قلوبهم غلف: المتشابه هو كل ما يتوقف فيه الراسخون في العلم ويتبعه مَن في قلوبهم زيغ. علامتان كلتاهما معرفية خلقية: حذر العالِم أو الإدراك الشهودي، وتهور الجاهل أو الإدراك الجحودي. الأول يعلم أه لا يعلم كل شيء وأن جلّ الأمور لا يعلمها غلا الله. فيكون ذلك هو إدراك عدم الإدراك الذي هو أسمى درجا الإدراك لكونه إدراك الفرق بين اللامتناهيين اللذين أشرنا إليهما. والثاني يجهل أنه يجهل فيحصر الوجود في ما يعلم أي في إدراكه الجحودي فلا يدرك حدود الإدراك فيحصر اللامتناهي في المتناهي إذ هو بذلك يفقد اللاتناهي بالقوة بمجرد زعمه حلول اللامتناهي بالفعل فيه.
وإنه لمن السخف الردّ على هذا الفهم بالزعم أن الدين الإسلامي عقلي بمعنى كونه خالياً من الأسرار التي يحار فيها العقل القائل بالمطابقة، العقل التصوري. فلو صحّ ذلك لكان العقل التصوري بهذا المعنى وحده كافياً، ولاستغنينا استغناءً مطلقاً ليس عن الوحي فحسب بل وكذلك عن كل الفنون، فلا تكون لنا حاجة بأي منهما. الدين الإسلامي عقلي ليس بالمعنى التصوري للعقل بل بمعنى كونه يجعل من هذه الأسرار التي يتعلق بها المتشابه مصدر كل الفنون التي تمثل المحفز الدائم للعقل لئلا تأخذه السنات القاتلة، فيكون دائم التيقظ والبحث: وذلك هو طور ما وراء العقل التصوري. فالعقل الإنساني يبقى دون العلم الإلهي. وأنه لعجيب أن يزعم أحد أن رسوخه في العلم ليس هو إدراكه لحدود العلم الإنساني بل هو ادعاء مضاهاة العلم الإلهي الذي من دونه لا يمكن أن يكون للقول بالمطابقة أدنى معنى (فمطابقة العلم الإنساني للوجود ينبغي أن تستند إلى مطابقته للعلم الإلهي أو أن تؤدي إليها لكون علاقة المطابقة المنطقية علاقة متعدية: مطابق المطابق مطابق).
والعجيب أن الآية قد فُهمت فهماً يجعلها تتعلق بـ قدرات العقل التأويلية في حين أنها لا تتعلق إلا بالتمييز بين الإدراك الشهودي المؤدي إلى الإبداع الفني أو الناتج عنه والإدراك الجحودي القاتل لكل فن أو الناتج عن قتله لقوله بالمطابقة بين الدال والمدلول ومن ثم بعدم حركة استنفاد الفضل اللامتناهية بين اللامتناهين. فالآية تقول إن ابتغاء تأويل المتشابه دليل على مرض القلوب، وإن الإحجام عن تأويله دليل على الرسوخ في العلم. لكنها لا تنفي الحق في التعبير عن الشهود الذي ينتج عن حيرة العقل في صلته باللامتناهي، بل إنما القرآن تضمن المتشابه لهذا الفرض، لذلك ختمت الآية بعبارة ((وما يذكّر إلا أولوا الألباب)). لأن المتشابه هو أساس الاعتبار الذي هو علامة أولي الألباب وطريق التذكر.
ما هو المتشابه إذن بعد أن بيَّن لنا القرآن علامتيه؟ إنه كل ما يكون ادعاء فهمه المستوفي دليلاً على فقدان الشاعرية التي هي الزيغ الذي في القلب أو الجحود. ومزية تحديد المتشابه الوارد في الآية أنه لم يخول أي سلطة تحديد هذا الحد الذي لا ينبغي أن يعدوه المرء. فالدافع إلى العدوان لتأويل المتشابه والحائل دونه كلاهما في ذات المكلف بما هو جاهل جاحد أو شاعر شاهد. والراسخ في العلم يعلم متى لا يعلم فيقف ويؤمن وعندئذٍ يذوق التجربة الشعرية المتاحة للإنسان انفعالاً لا يمكن إلا أن يصبح فعلاً لكون ذوقها الانفعالي بما هو تلق رأينا أنه لا يكون إلا بوصفه بثاً في الوقت نفسه. والدعيّ في العلم لا يعلم متى لا يعلم فيدّعي العلم كذباً فلا يقف ومن ثم فهو يبقى أعمى القلب فلا يذوق التجربة الشعرية لا تقبلاً ولا بثاً. وذلك هو الزيغ الذي في القلب، أو عمى البصيرة، بل عمى كل الحواس لتبلد الحواس. وغاية هذا الزيغ هي الحلولية أو القول بالمطابقة، إذ المطابقة بين العلمين (الإنساني والإلهي) تشترط القول بالتطابق بين الدال والمدلول، تنسب اللاتناهي الفعلي للإنسان ومن ثم تقول بوحدة الذاتين الآلهة والمألوهة فلا تبقى أدنى إمكانية للفن إذ كل ما عدا هذه الوحدة التطابقية عنده وهم ورسم لا حقيقة له: لا يكون الفن إن وجد إلا مجرد أضغاث أو هو مجرد تعويض عن عدم المطابقة الفعلية في نظرية الإعلاء التعويضي.
والسؤال الاعتراضي هو: كيف تُفهم الآية هذا الفهم وتصنف الفنون ذلك التصنيف فتجعل الرسم أولها وأساس كل شعر، في حين أن الإسلام الذي تنسب إلى متشابه كتابه منبع الاعتبار المبدع للفنون جميعاً يحرّم الرسم؟ إليك الجواب الذي يدعم هذا الفهم بدلاً من أن يناقضه: فما يزعم منت حريم للرسم في الإسلام لم يفهم حق فهمه. فالأمر لا يتعلق بتحريم الرسم والتصوير، وإنما بالنهي عن الخداع الناتج عنهما. فالإسلام لم ينهِ عن التصوير خوفاً من محاكاة المصور لله. فهذا من السذاجة بحدٍ لا يصدقه عاقل. وإنما هو نهي عما قد يؤدي إليه من موقف حلولي لا يفصل بين الموجود والمدرك، بزعم استنفاد الفضل بين الدال والمدلول. فالرسم المحاكي تعبير مغالط لأنه قد يوحي بأن الصورة تعبير مستوفٍ للمعبر عنه. لذلك لم يُنه عن الرسم المجرد في الإسلام ولم تخل منه الحضارة الإسلامية وإنما مُنع الرسم الممثل حيث قد يجعل التطابق الظاهر بين الدليل والمدلول وهم التطابق بينهما وبين المرجع. والدليل القاطع في ذلك هو التعبير التجسيمي الذي ينبني عليه التعبير القرآني حيث يمتنع مثل هذا الوهم. ولو كان الرسم هو المنهي عنه، بل المنهي عنه هو الرسم التجسيمي الذي قد يبدو نافياً عن نفسه كونه تجسيماً وتمثيلاً. فالرسم التجسيمي قد يغني عن فعل الإدراك الشهودي الذي يجعل المدرك نفسه هو الذي ينشئ التجسيم فيدرك من ثم أنه مجرد تجسيم من إنشائه في عملية الإدراك وله ما وراءه الذي لا يردّ إليه أبداً.
وما يبيّن أن القصد هو ذلك، اعتماد الأديان البدائية المستندة إلى الإدراك الجحودي على المجسّمات الوثنية لإضفاء ((الواقعية)) على التصورات الدينية. ما هو محرم هو التعبير الذي يدعي أن تطابق الدال والمدلول (وذلك هو الرسم التمثيلي) دليل على تطابقهما مع ما لا يمكن أن يحصل معه التطابق إطلاقاً. فالمرجع الوجودي، مهما كان نسبياً ومهما كان جزئياً ومهما كان ضئيلاً، لا يرد أبداً إلى المدلول فضلاً عن الدليل. فإذا اعتمدت اللغة التي هي بطبعها مجردة للتعبير المجسّم كان ذلك أفضل أدوات التعبير: لذلك اختارها القرآن الكريم. وإذا اعتمد الرسم الذي هو بطبعه مجسم على التعبير المجرد كان ذلك كذلك أفضل أدوات التعبير. ويبلغ هذا الأمر الذروة عندما يجمع بين الأداتين جمعاً يقابل ما ينسب إليهما بالطبع: فتصبح الكتابة، وهي الدرجة الأسمى من التجريد اللغوي، أداة التعبير الرسمي المجرد. وما لم نفهم ذلك امتنع علينا أن ننفذ إلى أبعاد الفنون الإسلامية.
ويصحّ هذا كذلك على الشعر العربي، قبل موت شكله الجاهلي وفي قممه بعد ذلك بشرط حصر ذلك في آليات الدلالة لا في الشاعرية التي فقدها بمجرد أن صارت مضامينه لا تشد الوعي الجماعي بعد استحواذ القصّين القرآني والشعبي عليه. فهو الشعر الذي يعبر شكلاً عن أكثر الأمور تجسيماً (وهو ما لم يفهمه الشابي في خياله الشعري عند العرب) ثم تصبح هذه المعاني التجسيمية دوال لأكثر المعاني تجريداً (المعاني الصوفية) التي تصاغ بالمعاني الأكثر تعيناً وتجسيماً (المعاني الغزلية والخمرية منه). وعندئذٍ فلا خوف من التجسيم لكونه ليس تجسيماً يدّعي أنه مطابق بل هو بطبعه اعتراف بعدم المطابقة. التجسيم يعتمد هنا مدلولاً ـ دالاً: إنه معنى دال على معنى لا إلى نهاية، وهو ما قصدناه عندما عمّمنا نظرية الجرجاني في معنى المعنى فأطلقناها لا إلى نهاية بالاستناد إلى أساسها وإلى نظرية ابن سينا في التوالي اللامتناهي بالقوة في أفعال العقل. وذلك هو جوهر الأسلوب القرآني.
ولم يكن من اليسير على الفنون الغربية أن تدرك بعض هذه المعاني إلا بعد جهد جهيد وبعد إدراكها سخافة النظرة الحلولية ليس في الفن فقط بل وكذلك في جميع ضروب التعبير عن الإدراك الشهودي. ولعلها قد بدأت تدرك أن المذهب الإنسوي من أهمّ المذاهب المستعبدة للإنسان فضلاً عن كفره بالله.
*المصدر : في العلاقة بين الشعر المطلق والاعجاز القراني

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الأدب والفنون