موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الأدب والفنون

فقه المصطلحات
حسنين محمد تقي



يُشكل المصطلح الإسلامي أحد الرموز الثقافية المهمة الدالة على خصوصية الأمة الإسلامية. وهو أحد المكونات الأساسية لهويتها الحضارية. بل ان بعض الباحثين يعتبر المصطلح جزءاً من النظرية السياسية في الإسلام، وجرى التعامل مع المصطلح الإسلامي بأسلوبين متناقضين، احدهما التفريط، والآخر الإفراط.
البعض يتخلى عن المصطلح الاسلامي ويميل الى المصطلحات الاجنبية بحجة الحداثة والعصرية والسير في طريق الغرب او التغرب، وهناك من يتجمد عند الموروث من الاصطلاحات الاسلامية بلا تمييز بين ما هو من الثوابت الشرعية وما هو من المتغيرات القابلة للمرونة والتطور، وعدم التمييز بين ما هو شرعي وما هو بشري، وبلا استعداد للاخذ بما يصح الاخذ به من المصطلحات المعاصرة.
واذا كان الموقف الاول ينتصر للتغرب الثقافي ويرفض الاصالة والخصوصية، فان الموقف الثاني يتجاهل التطور المستمر في حركة الحياة، وبهذا يحمل كلا الموقفين في داخله بذور الخطأ والبُعد عن الصواب.
فما هو المصطلح؟ وهل يوجد مصطلح اسلامي؟
وما هو الموقف من المصطلحات الآتية من خارج المجال الفكري الاسلامي؟
تحمل الالفاظ دلالات معينة هي عبارة عن الاقتران بين تصوّر اللفظ وتصور المعنى الذي يدل عليه، وانتقال الذهن من أحدهما الى الآخر. وهذا الاقتران هو الذي يطلق عليه اسم الدلالة، في حين يسمى اللفظ دالاً والمعنى مدلولاً.
ونحن هنا لا نريد الخوض في مباحث الالفاظ ومعنى اللفظ عموماً. وانما نبحث عن اللفظ الذي صار مصطلحاً عندما اقترن ببعد تاريخي او حضاري او علمي او اجتماعي... الخ.
وصلة اللفظ بمعناه الجديد يُساعدنا على فهم طبيعة المصطلح وعلاقته بحمولته الفكرية والمفهومية.
والمصطلح هو اللفظ الذي يضعه أهل عرف او اختصاص معين ليدل على معنى معين يتبادر الى الذهن عند اطلاق ذلك اللفظ ويغلب هذا في الامور الفكرية والسياسية والاقتصادية والدينية والقانونية، وليس في الحديث اليومي لبني البشر(1).
ان قيمة الكلمة تتمثل في عطائها الفكري وفي تجسيدها للمعنى الذي يراد التعبير عنه بها، ولا تحمل أية قيمة ذاتية، والكلمات تفقد رصيدها الفكري وتذبل وقد تموت كما يموت كثير من الناس، وقد تحيا بعض الكلمات او المصطلحات فتبعث الى الحياة من جديد.
وعليه فان البحث هذا يلاحق الكلمة أو المصطلح في نشأته ونموه وتطوره وحياته وموته وشبابه وهرمه، لتُبنى منه الكلمة الهادفة والاستقلال الفكري، ونرفض الكلمة التي تعرّضت للتشويه وتحوّلت الى مدلول مُضاد للمعنى الذي وُضع لها.
الكلمة تحمل الحياة في حروفها وتجسد الفكر والتاريخ. وتحمل عُصارة العقل البشري من جيل الى جيل.
ومن الاهمية بمكان التنبه الى خطورة الكلمة عندما تتحول الى مصطلح يراد به معنى آخر قد يؤدي الى احتضار الكلمة او دفنها او تحويلها الى سلاح يغزو العقول ويدمر كيان الانسان.
والمصطلحات الحديثة كثيراً ما شوّهت حقائق التاريخ والمجتمع، وحُمّلت شحنات لنسق الحقائق او تزييفها.
الاسلام مستهدف من كثير من أعدائه والمسلمون مستهدفون ايضاً، ولعل أخطر شيء يواجه الاسلام حاليا، ويُشكل عداء شديدا له، ويريد اثارة اللغط حول ما يمكن ان يقال عنه هي (المصطلحات) التي بدأت تغزو مجتمعاتنا الاسلامية، وهي كلمات تشبه السموم هدفها تدمير القيم، وقتل الاحكام التي شرعها الله سبحانه وتعالى. لتحدث البلبلة في العقيدة والدين.
وللاسف يوجد بيننا من يُردد هذه الاسماء والمصطلحات بدون وعي، وبلا ادراك رغم اختلاف مقاصدها ومدلولاتها في المجتمعات المختلفة عنا في الدين والعقيدة واللغة.
فما حقيقة هذه المصطلحات؟
وهل يمكن ان تكون حملة منظمة لتفتيت الفكر الاسلامي؟
وما هو مدى خطرها على الاسلام؟ وكيف تكون المواجهة؟
المواجهة تكون بالحوار. والحوار يعتمد على الكلمة، والمصطلح وعاء للفكر من المهم جدا تحديد معاني المصطلحات بما يتلاءم مع الحياة المعاصرة والتوفيق بينها وبين الفكر الاسلامي.
يعرف (المصطلح) بانه الكلمة او الكلمات التي يتفق اهل الاختصاص على ضرورتها لأداء مدلول معين في بنية النسق المعرفي المميز لعلم من العلوم او ثقافة من الثقافات.
ويكون المصطلح اسلاميا اذا كان مستمدا في لفظه ومعناه من الاصول الاسلامية، او كان لا يتعارض في فكره ومعناه مع الفكر الاسلامي.
واذا كان دور الفكر الاسلامي هو الاضطلاع بقضايا عصره ومواجهتها بموقف نقدي، فان الخطوة الاولى هي التصدي بالتحليل والنقد للقضايا الاساسية في الفكر المعاصر من موقع الالتزام بالعقيدة الاسلامية، وانطلاقاً من ضرورة مواجهة التحديات التي يفرضها النظام العالمي الجديد على المسلمين وشعوب العالم اجمع.
وانطلاقاً من هذا الدور فان البحث يعرض بالنقد والتحليل مجموعة من المصطلحات السائدة في العلوم الاجتماعية.
ان الغرب يهدف الى سلخ المسلمين عن دينهم، واحكام طوق التبعية الفكرية على رقابهم والى الابد، وعلى المسلمين ان يواجهوا الغرب بالحوار والكلمة المعبرة، وان ينتقلوا من موقف الاعتذار والدفاع الى موقف التصدي والهجوم، واتباع المنهج العلمي في النقد والدراسة والتحليل.
ومن موقع المسؤولية الملقاة على عاتق كل صاحب قلم ينبغي على ذوي الاختصاص في العلوم الاجتماعية ان يساهموا في بناء المنهج الاسلامي وذلك برفض التبعية الفكرية للغرب، وتناول المنهج الغربي بروح نقدية، ثم وضع البديل.
البديل لا يمكن وضعه بين ليلة وضحاها.
فالارضية الثقافية الغربية هي التي تُغذي الدراسات الاجتماعية وترفدها بالمصطلحات الغربية في الجامعات العربية والاسلامية.
الخطوة الهامة الاولى لوضع منهج جديد في الفكر الاجتماعي يبدأ من الكلمة او المصطلح. فالمصطلح هو اللبنة الاولى للصرح العلمي، وهو النواة والبذرة للمنهج.
نحن نعيش في عصر تداخلت فيه المفاهيم، واختلطت فيه معاني المصطلحات باسم العلم، وبمقتضى تشعب فروعه.
ان العلم منهج قبل أن يكون نتاجا او مضمونا. وأهمية المنهج في مجال العلوم الاجتماعية انه يساهم في التنظير للفكر، اي انه الاساس للبناء النظري.
لقد آن الاوان ان نأخذ بزمام أمرنا، ونعقد العزم على ان نأخذ بالمنهج العلمي لنسهم بنصيبنا نحن في الاضافة الى مضمون ومحتوى العلوم الانسانية المعاصرة من منطلق خبراتنا الذاتية، وتمايزنا الحضاري، هذا فضلا عن مبادئنا.
من واجبنا ان نثبت أقدامنا، ونعمل عقولنا في التحقق من ذاتنا، وادراك حقيقة كياننا، لننتقل بذلك من حال الى حال، نحن الآن في موقع المتلقي فقط، وينظر الينا بشفقة وازدراء وتارة في حذر ورهبة.
من المهم جدا ان نكون قادرين على الفعل والحركة. بان نضع المنهج الملائم لرصد الظواهر الاجتماعية ودراستها، باسلوب علمي، وبمفاهيم ومصطلحات تلائم وتناسب مجتمعاتنا واهدافنا، وبروح الاستقلال الفكري ورفض كل اشكال التبعية والاستسلام للآخر.
ان التأثير الثقافي الاجنبي والامريكي بعبارة أدق في المنطقة العربية وما احدثه من تخريب فكري لم يخلق ازمة وانما زاد من حدة الازمات ومنها التخلف والتبعية، وانه سخر علم الاجتماع لتزييف وعي الناس، بدلا من تنويره، ونشر المسايرة والانصياع، بدلا من الاستقلال والمبادرة، واوجد التبرير الرخيص في حالات كثيرة بدلاً من النقد المسؤول البناء، ونشر مصطلحات تهدف الى تشويه الحقائق باسم الحداثة والعصرنة والعلمنة.
ويلاحظ ان جانبا من علم الاجتماع والبحث الاجتماعي نشأ كرأس حربة للاستعمار وتطور في خدمته وعمل على تكريس التبعية للمناهج الغربية بطرق غير صريحة في الغالب.
والتبعية ليست في الخضوع السياسي. انما تكمن التبعية في ان نترك انفسنا صيدا سهلاً لعمليات الغزو الثقافي المباشر وغير المباشر ونتوقف عن الابداع. ونستعمل ما انجزته الحضارة الغربية من علم وفن، وقد انجز في ظروف تختلف عن ظروفنا وفي سياق مغاير ولاغراض لا تتمشى مع ما نهدف اليه بالضرورة وهي استخدامات تسعى لخدمة مصالح العناصر الطفيلية المحلية المتسلطة ومصالح المراكز على نحو ما يجري الآن. ولقد بلغ اعتماد بعض المشتغلين بعلم الاجتماع في الوطن العربي على علم الاجتماع الاوروبي الغربي المثالي الى حد التوحد معه سواء في مرحلة اعدادهم الاكاديمي او في مرحلة ممارستهم لنشاطهم في التدريس والبحث والكتابة، لا عن تقدير موضوعي لقيمته وافادة واعية منه، وانما عن شعور بالنقص حياله; ناتج عن الوعي الزائف بامكاناته.
المطلوب منا نظرة نقدية لمسلمات علم الاجتماع الغربي أو مصادراته، ورفض الادعاء بعالمية العلوم الاجتماعية الاوروبية الغربية. ورفض الاساس الخاطئ الذي تقوم عليه وهو (العلمانية). ان موقف العلوم الاجتماعية الغربية منا يقوم على اساس تفوق الغرب وتخلفنا الأبدي. ومن ثم تُبرر تحكّمه فينا وتسلطه علينا والوصفة (الجاهزة) التي يقدمها لنا للخلاص من التخلف هي (التحديث) على النمط الغربي وهي عديمة الفائدة، فليس من الممكن ان يؤدي التحديث الاقتصادي الى تقدم حقيقي اصيل في حالة بقاء كل شيء على حاله.
غير ان اخطر ما في النظريات الاجتماعية الغربية، وأخطر ما يتسرب الينا منها هو قيم العلمانية التي سادت مع ذيوع مذاهب اللذة والمنفعة.
وادعاء الغرب ان سمة حضارته المميزة هي العقلانية ليس صحيحا. فالعقلانية ليست ابداعا للحضارة الغربية واذا كان ذلك صحيحا نسبيا في الوقوف امـام جبروت الكنيسة التي جمدت العقـل، فانه ليس صحيحا بشكل مطلق(2).
ان الباحث الاسلامي يجد نفسه محاصرا بارث فكري معاكس لمنظومة الفكر الاسلامي، وبواقع عملي لا يكرس الا التبعية العلمية والثقافية.
ولكن بالرغم من هذا الحصار الفكري والعلمي، فقد بادر بعض رجال الفكر في العالم الاسلامي الى الانعتاق من الاسر والوصول الى منابع واسس الفكر الاسلامي.
ولكي يتم لأي باحث وسط هذ الركام الهائل من المصطلحات ان يوضح الفرق بين المنظور الاسلامي والآراء الاخرى، فانه سيضطر الى توضيح المرتكزات الاساسية لكل منها والاسس التي يدور حولها النظر في الانظمة والانساق الاخرى.
ومن شأن هذا الجهد ان يُعين القارئ والدارس على التمييز بين مواقف يبدو عليها التشابه الظاهري، وهي في حقيقتها متعارضة، ومواقف اخرى تبدو متباعدة ظاهريا، وهي في الحقيقة قريبة من بعضها وتحمل بذور الالتقاء والمعايشة.
العلم:
عندما نذكر كلمة العلم ينصرف الذهن الى دلالاتها وايحاءاتها المعروفة في الثقافة الغربية، حيث انها تعني عادة تلك المباحث المعرفية التي تعتمد على الملاحظة والتجربة والاستقراء وصولا الى نظريات وقوانين عامة تفسر الظواهر التي يدرسها الباحثون سواء كانت ظواهر طبيعية وهي التي تشمل علوم الفيزياء والفلك والكيمياء والاحياء وغيرها، او ظواهر اجتماعية وتشمل العلوم الانسانية، علم النفس، علم الاجتماع، الاقتصاد... الخ.
ان الاقتصار على هذا المعنى لكلمة العلم في ثقافتنا العربية والاسلامية يؤدي الى كثير من اللبس والغموض. وينبغي الوقوف على فقه هذا المصطلح في اطار البيئة التي نشأ فيها والثقافة التي رعته واحتضنته. فالاصل في معنى العلم عند المسلمين هو الادراك الصحيح
لحقائق الاشياء، وهو معنى مطلق يفيد الشمول والتعميم ولا يقيد بتخصص معين، ويقصد منه في مفهومه العام انه لفظ يطلق على كل ما هو نشاط انساني عقلي او عملي حين يستخدم بشكل منظم (منهجي) في محاولة تفسير وفهم موضوع ما. فيقال علم التفسير، او علم اللغة، او علم التاريخ او علم الفلك او غير ذلك من مباحث علمية. اما تصنيف هذه المباحث المعرفية الى نقلية وعقلية، او دينية وطبيعية او انسانية وكونية، او غير ذلك فهو تصنيف يعتمد على موضوعات العلم أو مصادره، او الطرائق (المناهج) المتَّبعة في تحصيله بحسب تناسبها وقرب بعضها من بعض.
والعلم في الاسلام يتناول كل موجود وكل ما يوجد. فمن الواجب ان نطلب العلم وطلب العلم من افضل العبادات في الدين الحنيف.
ولكن العلم الذي يحث الاسلام على تحصيله لابد ان يكون نافعا ولا يخلو من فائدة وان لا يؤدي الى تدمير البشرية وهلاك الحرث والنسل، ونشر الفساد في الارض.
ان يكون قرينا للتقوى وملازما للاخلاق. اما العلم الذي يتخلى عن المبادئ والقيم فيؤدي الى الخسران، وفي القرآن الكريم اشارة الى عدم جدوى العلم الذي لا يؤدي الى الربح في مجال الفضيلة ونشر الاسلام: (وفرحوا بما جاءهم من العلم)وجاء في الدعاء المروي عن الرسول صلى الله عليه وآله:
اللّهم انّي اعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ونفس لا تشبع ودعاء لا يُسمع ومن صلاة لا ترفع.
ومقياس النفع ليس هو المقياس المادي او ذلك المعيار الفردي الذرائعي الذي تقول به (الفلسفة البراجماتية) السائدة لدى الغرب، انما هو ما يؤدي الى اصلاح الامة واقامة أمر الدين واصلاح الدنيا.
العلم هو التفكر في المظاهر الكونية للتعرف على عظمة الخالق جل شأنه والتعرف على النواميس التشريعية مما يؤدي الى تعميق الايمان بالله وزيادة الخشية منه، قال تعالى:
(الم تر انّ الله انزل من السماء ماءً فاخرجنا به ثمرات مختلفاً الوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والانعام مختلف الوانه كذلك انما يخشى الله من عباده العلماء انّ الله عزيز غفور) (سورة فاطر / 27 28)
والعلم في لغة العرب نقيض الجهل، فاذا كان العلم غير مطابق للمعلوم في الواقع فهو الجهل. واذا كان العلم غير جازم المطابقة فاما انه يستوي طرفاه وهو الشك، واما ان يُرجح أحدهما على الآخر، فالراجح هو الظن، والمرجوح هو الوهم. وعليه فالمصطلحات في هذا الشأن خمسة اقواها العلم فالظن فالشك فالوهم فالجهل.
والنظام والكمال والجمال مما يترتب عليه بالضرورة العقلية والمنطقية جعل وحدانية خالق الكون يقينا ايمانيا خالصا.
المسلمون آباء العلم
برع المسلمون في العلوم التجريبية، وقدموا للعالم خلاصة تجاربهم وابحاثهم، وقد كتبوا فيها كتبا كثيرة، استفاد منها اهل الغرب، كما استفاد منها المسلمون، ولو اخذنا علم الفيزياء مثلاً فانا نجد ان من مواضيعه موضوع: الضوء. هذا الموضوع الذي تثار حوله اسئلة كثيرة، منها مثلا: ما حقيقة الضوء؟ عندما يشاهد الانسان الاشياء كيف يُبصرها؟ كيف يحدث انعكاس الضوء؟ وانكساره؟ ما هي قوانين الضوء؟
من اشهر علماء الاسلام الذين بحثوا في الضوء: العلامة الحسن بن الهيثم الذي كان فلكياً ورياضياً وعالماً طبيعياً، وله دراسات معمقة عن الضوء وكيفية الابصار، وتشريح العين، وتتسم دراساته وبحوثه بالدقة والاحاطة والشمول وتعتمد على الملاحظة العلمية والتجربة والمنهج العلمي الذي ينسبه الاوروبيون اليهم.
وقد اذعن علماء الغرب انفسهم بعبقرية هذا العالم المسلم، وترجموا كتبه، وكتابه المشهور (علم المناظر) متداول حتى هذا اليوم.
ويعود الفضل في اختراع آلات التصوير والمجهر وظهور العدسات الطبية وآلات رصد الكواكب (المناظر) الى هذا العالم الفذ الذي كان يقوم بتجارب علمية على الضوء، حيث استخدم الغرفة المظلمة، واستعمل آلات وادوات للقيام بالتجارب، كما انه رسم صورة تشريحية ملونة للعين، اشار فيها الى اجزاء العين: الشبكية والقزحية والعدسة وشرح كيفية الابصار، وصحح خطأ علماء اليونان في اعتقادهم ان سبب الرؤية هو انعكاس التصوير من العين الى الجسم وقال: الصحيح هو العكس. اي انعكاس الضوء من الجسم الى العين وقد نقل منهجه العلمي الى جامعات الغرب في بداية افتتاحها ودرسوها.
البيئة
مصطلح البيئة من المصطلحات التي شاع استخدامها حديثا، ويحتاج تعريفها الى صياغة جديدة يتضح فيها المفهوم الاشمل والاصوب لبيئة الانسان الكبرى متمثلة في عالم الشهادة الذي يضم الكون بأسره.
ومثل هذه الصياغة الجديدة لا يظهر اثرها في تصحيح التفسير المادي للبيئة فحسب، ولكنها تسهم ايضا في تصويب النظر الذي ينبغي ان تتخذه البيئة ومشكلاتها في البحوث الاسلامية المتعلقة بثلاثية الدين والكون والانسان.
فالبيئة ليست مجرد موارد يتجه اليها الانسان ليستمد منها مقومات حياته. وانما تشمل البيئة ايضا علاقة الانسان بالانسان التي ينظمها الدين الاسلامي الحنيف بما يدعو اليه من الاخلاق والمبادئ والقيم في العلاقات الانسانية.
واغفال هذه المعاني عند تعريف البيئة يزيد من تفاقم مشكلاتها، ويعوق الجهود المبذولة لحمايتها.
وهنا يكون الاسلام الحنيف اقدر من غيره على تصحيح النظرة المادية للبيئة ومداواة الخلل الذي احدثه الانسان في منظومة العلاقة بينه وبينها.
ولقد رتب القرآن الكريم العلاقة الصحيحة بين قضايا الطبيعة والانسان وبين الانسان واخيه الإنسان، وبين الانسان والكون، وقد دعا الى النظر والتدبر في الكون وصولا الى الحق المطلق الذي هو في النهاية غاية كل انسان.
هذه العلاقة القرآنية هي العلاقة التي شرحها القرآن الكريم في نصوص عديدة قال سبحانه وتعالى:
(ولو ان اهل القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض. ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)
(سورة الاعراف / 96).
هذه العلاقة مؤداها ان علاقات الانسان مع الطبيعة تتناسب طردياً مع ازدهار العدالة في علاقات الانسان مع اخيه الانسان. فكلما ازدهرت العدالة في العلاقات الاجتماعية، ازدهرت العلاقة مع الطبيعة وسيطر الانسان على البيئة وتفاعل معها بشكل افضل.
وكلما انحسرت العدالة عن الخط الاول انحسر الازدهار عن الخط الثاني.
اي ان مجتمع العدل والسلام هو الذي يفجر طاقات البيئة ويتعامل معها بشكل لا يؤدي الى سوء استغلالها، والبيئة بما فيها من موارد طبيعية وقوى مادية تسخر للانسان بشكل افضل عندما يسير على هدى القرآن الكريم، ويتعامل افراده بالحب والمودة والاحسان.
لكن علاقة الانسان مع البيئة ليست ذات محتوى غيبي فقط، نعم نحن نؤمن بمحتواها الغيبي لكن اضافة الى ذلك هي تشكل سنة من سنن الله تعالى في خلقه وهي ان مجتمع الظلم، مجتمع المادية على مر التاريخ مجتمع ممزق ويعمل على تدمير البيئة وسوء استغلالها وان تفاعل الانسان مع البيئة يجب ان لا يؤدي الى الاضرار بها لان الله تعالى جعل الانسان خليفة في الارض ليعمل على احيائها واعمارها واستخراج كنوزها بكل وسيلة ممكنة.
اما الذي يحصل الآن من جراء التقدم التكنولوجي فهو تدمير البيئة تحقيقاً لمصالح اقتصادية آنية او لتحقيق اغراض عدوانية. فالمفاعلات النووية والاسلحة الجرثومية وطرق استغلال البيئة بشكل عام تؤدي الى اضرار كبيرة على البيئة، وعلى الانسان ذاته، وعلى الاجيال القادمة.
كانت العلاقة بين الانسان والتربة والماء وكذلك الجو متوازنة نسبيا في الماضي، لكن في المائة سنة الاخيرة تلوثت التربة والماء والهواء وارتفعت نسبة الغازات السامة، واختفت الانواع الحية الكثيرة من النباتات والحيوانات، واكدت البحوث اختفاء او انقراض 100 نوع من الحيوانات والنباتات كل يوم.
واعوص مشكلة بيئية تواجه العالم هي تآكل طبقة الاوزون.
ان طبقة الاوزون الطبيعية تحجب او تتقي تركيز الاشعة فوق البنفسجية الضارة للانسان والطقس، وتآكل هذه الطبقة معناه زيادة اختراق هذه الاشعة واضرارها على الانسان مُسببة امراض خطيرة مثالها سرطان الجلد ويتم تسارع تآكل طبقة الاوزون فوق القارة القطبية الجنوبية نتيجة الفعالية الصناعية الشديدة.
التحضر:
استخدم مصطلح التحضر على نطاق واسع في الدراسات الاجتماعية، رغم عدم وضوح تحديد معناه في المراجع العلمية والادبية.
وقد جاء في اللغة ان الحضر خلاف البدو، والحاضر خلاف البادي، ومعنى الحاضر هو المقيم في المدن والقرى. والقرية تطلق على المساكن والابنية والمزارع وقد تطلق على المدن.
والحاضرة ايضا هي المدن والقرى والريف. والريف في معناه اللغوي ما قارب الماء من ارض العرب وغيرها، وحيث يكون النهر والمياه، وحيث الزرع والخصب.
والحضارة هي الاقامة في الحضر. وواضح ان الحضر فيه استقرار وفيه عمران ويصحب الاستقرار وكثرة العمران وضع النظم والاحتكاك والتجربة الطويلة التي تولد ثقافات، ورقيا في المأكل والمشرب وفي الملبس والمسكن وفي التعليم والتعلم، وفي الرقة وعدم الخشونة، لهذا كان لفظ الحضارة دالا على الرقي والتقدم، وهذا هو المعروف في اللغة العربية.
وفي اللغة الانجليزية ترى ان اسم المدينة هو City ومنها اشتقوا لفظ Civilومعناها متمدن، ومنها كلمة: Civilisation وهو اللفظ الاوروبي لمصطلح الحضارة.
والمجتمع الحضري هو مجتمع المدنية عند علماء الاجتماع الحضري، ويتميز هذا المجتمع بعدة سمات مثل: التعقد (مقابل البساطة في المجتمع البدوي) والتباين، وتقسيم العمل، وارتفاع مستوى التكنولوجيا، وتباين السلوك، وتقدم التنظيم الاجتماعي، وشدة الحراك الاجتماعي (اي امكانية انتقال الفرد من طبقة الى طبقة اعلى في درجات السلم الاجتماعي) وكثافة السكان وكبر الحجم و... الخ.
والمجتمع الحضري هو العامل الاساسي الذي تفسر في ضوئه كافة الاشكال الاجتماعية التي تظهر في المدينة.
ويشير علم الاجتماع الحضري بصفة عامة الى الدراسة السيسيولوجية للمدن او الحياة في المدنية او الحضرية، او موضوعات مختارة من هذا الميدان. وعلم الاجتماع الحضري Urban Sociology هو علم اجتماع حياة المدينة. ينظر الى المدينة ويحللها كظاهرة اجتماعية في ذاتها الى جانب دراسة المشكلات الخاصة بها. ولقد تطور تراث واضح ومتميز لهذا العلم في اوروبا وامريكا في أواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين. وفسرت المدنية بطرق مختلفة بدءاً من المنهج التاريخي، ووصولاً الى مدرسة شيكاغو التي فسرت المدينة داخل اطار ايكولوجي بحت.
ويرى سابا جورج: ان المدنية تعني الفن بتشعباته الكثيرة من هندسة ونحت وادب، وتعني التاريخ والسياسة والتجارة، كما تعني الشوارع والعمارات والانشاءات المدنية والدينية والارض بترابها ومائها. وتعني أيضا ماضي الانسان المتطور نحو الاكمل. اذ هي صورة لكفاحه المزمن، وباختصار ان المدنية سجل لقضية الانسان وحضارته.
في المدينة تنمو المؤسسات الصناعية والتجارية، تتجمع فيها رؤوس الاموال ومنها تدار، وفيها تدور البنية الاجتماعية متلاحمة متفاعلة وفي المدينة تتمحور السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية مما يعطيها اهمية كأهمية الدفاع للجسم البشري.
ونخلص الى القول ان المدينة سجل حافل لحضارة الانسان وصورة لتفاعله مع الطبيعة ومع اخيه الانسان، بنيت في موقع حصين من الارض، قريب من السهل والنهر، يسكنها شعب يمتاز بنوع عمله التجاري او الصناعي او المصرفي. والمدينة لم تخلق فجأة، بل كان لها بذور اجتماعية ودينية واقتصادية فضلاً عن عملية التحول من القرية الى المدينة، كلما تيسر لها ذلك.
ومن الخطأ الفصل بين المدينة والتحضر، فلفظة المدينة مرادفة لمفردتي التحضر والحضرية معا، بحيث يعد كل منهما وجهين لعملة واحدة.
المجتمع المدني
المجتمع المدني يمثل اسلوب حياة ونمطاً معيشياً معيناً ونسقاً اقتصادياً، وبناءً اجتماعياً، وبنية ثقافية محددة، وهو في مقابل المجتمع البدوي او الزراعي، اي انه حالة اجتماعية متطورة، وحالة حضرية تمثل تفاعل الانسان مع الطبيعة وسيطرته عليها، وشيوع نمط من العلاقات الاجتماعية يختلف عن الحياة في البادية او القرية. واهم مظاهر المجتمع المدني التطور التكنولوجي، والتقدم في مجال الصناعة وشيوع العلاقات الاجتماعية الثانوية، واهم ما يميز المجتمع المدني تطور التجارة والخدمات، والانتماء الى المدينة، في مقابل الانتماء الى القبيلة والعشيرة في المجتمع البدوي.
المجتمع المدني الاسلامي هو الذي يتكون ويُصاغ من نظرة الاسلام الى الحياة المدنية بكل ابعادها: التاريخية، الجغرافية، العمرانية، السياسية، الاقتصادية، وكذلك نظرة الاسلام الى الابعاد الاجتماعية والفردية. وتشمل أيضاً الحياة في المدينة الاسلامية العادات، والاعراف، والتقاليد وقواعد السلوك وآداب المعاشرة، وطريقة التعامل مع افراد المجتمع، واسلوب المعيشة، واسلوب التنمية لتنمية الفرد والمجتمع. وكذلك الثقافة الاسلامية بشكل عام. وهنا سؤال:
هل تختلف العمارة في المجتمع المدني الاسلامي عن طراز العمارة في غيره من المجتمعات؟
ان العمارة هي الفن المسكون، والعمارة فن يشمل تخطيط المدينة، ميادينها، شوارعها، اسواقها، بناء البيت، نمط السكن، الظروف المناخية، الظروف الاقتصادية واثرها في عمارة البيوت. في المدينة الاسلامية يتأثر فن العمارة بالعرف الاجتماعي، ونظرة الاسلام الى اعمار الارض، واثر الروابط الاجتماعية في نمط البناء والسكن. ويتأثر فن العمارة بالخصائص العامة للفن الاسلامي. والبيت الاسلامي له مزايا خاصة، فباحة الدار تمثل مكان لقاء افراد الاسرة واجتماعهم، فتكون ساحة البيت مثل مركز المدينة اي وسطها ومنها تتفرع الشوارع والميادين والاسواق. وعادة يكون المسجد وسط المدينة الاسلامية. والمسجد يجتمع فيه الناس ليس للعبادة فقط بل للمسائل الاجتماعية والاقتصادية التي تهم المجتمع، ومآذن المسجد العالية تعتبر دليلا للسائح او المسافر القادم للعمل والتجارة.
فالبيت الاسلامي يجمع ولا يفرق اي انه يوثق الروابط العائلية عندما يدعو الى البر بالوالدين والعطف على الصغار وحسن المعاشرة مع النساء، وبذلك يكون البيت مكانا آمناً لافراد الاسرة. وقد جاء في الاثر ان جنة المؤمن بيته. ففيه يتمتع بالحلال من لذات الدنيا، والرجل هو سيد البيت وله القوامة على المرأة، والمرأة لها كرامتها وشخصيتها واستقلالها وحقها في التعلّم والعمل والملكية. وعلى الزوج معاونتها في اعمال البيت وتوفير السكن الملائم لها والانفاق عليها حتى لو كانت ثرية فمن واجب الزوج رعاية مشاعر المرأة وان ينفق عليها لاشباع حاجتها من الطعام واللباس والسكن بما يناسب مركزها ومقامها الاجتماعي.
ولكن ما هي أوجه الخلاف بين المجتمع المدني الاسلامي والمجتمعات المدنية الاخرى؟
كل مجتمع مدني يقوم على منظومة من الافكار والاطروحات والنظريات التي يقدمها العلماء او المذهب الاجتماعي السائد ويخضع لعوامل تاريخية وجغرافية واجتماعية تجعله يختلف جذريا عن غيره من المجتمعات، وكل مجتمع له سماتُه ومميزاته المناسبة لظروفه وبيئته.
المدينة الاسلامية
مفهوم المدينة العربية الاسلامية تعرض للكثير من التشويه وسوء الفهم كما لم يتعرض له اي مفهوم آخر، لأن الدراسات الحديثة التي عالجت موضوع المدينة العربية الاسلامية لم تكن دراسات عربية ولا اسلامية. فقد كان المستشرقون من اوائل من درس المدن الاسلامية في بداية هذا القرن.
ولم تكن تلك الدراسات علمية وموضوعية، بل كانت متحيزة ومتعالية تحاول بكل الوسائل اثبات ان المسلمين لم يساهموا في بناء المدن ولم يعرفوا الحياة الحضرية عموما، فهم مجرد قبائل رُحّل تعودوا على الانتقال وعدم الاستقرار، وان المدن التي شيدت في العصور الاسلامية كانت مدنا حربية بالدرجة الأولى، وكانت امتدادا للمدن البيزنطية والرومانية.
ولم يتوقف الاستعلاء الاوروبي عند هذا الحد، بل راح بالطريقة نفسها يبرهن ان المجتمع الاسلامي كان بعيداً عن العقلانية وبعيداً عن العلم والمعرفة، وان الحضارة الاسلامية لم تشهد تطورا في العلوم ولم تعرف نمط الحياة الحضرية وهكذا ظهر التراث الاسلامي في التحضر على ايديهم فقيرا ليس فيه حياة مدنية ولا يشير إلى ما انجزه المسلمون في مجال انشاء المدن وتخطيطها.
لقد دخل الباحث الاوروبي في ميدان دراسة التراث الاسلامي وفي فكره فروض وهمية يحاول اثباتها على حساب العلم والمنهج العلمي.
وحيث ان الاسلام له نظرة خاصة في الحياة والمجتمع والنظام والسياسة والاقتصاد فان المجتمع المدني الاسلامي له خصوصية وسمات تجعله يختلف جذرياً عن غيره من المجتمعات.
ان مجتمعنا فيه ثوابت وخصوصيات لا يمكن التنازل عنها، وهذه الثوابت تجعل مدننا ومجتمعنا المدني ذات طابع اجتماعي اخلاقي معين. ولنا مفاهيم وافكار لا تتفق مع المنظومة الحضارية الغربية.
نحن لا ننساق مع المجتمع المدني الغربي، لان للمجتمع الغربي قيما ومبادئ وسلوكيات تتناقض تماما مع اعرافنا وتقاليدنا ومبادئنا الاجتماعية.
ان مجتمعنا ليس صورة طبق الاصل لهذا المجتمع او ذاك، نحن امة اسلامية لنا ثوابتنا التي لا تقبل المساومة والتنازل والتفاوض حولها.
ان الحديث عن المدينة الاسلامية يعني اشياءً كثيرة ومتنوعة ومتباينة الى حد كبير، وعبارة المدينة الاسلامية لا تقتصر على المدن التي ظهرت بعد مجيء الاسلام. ففي القرن السابع الميلادي بدأت تتوارى الفوارق بين الملامح المميزة للتجمعات الحضرية في مختلف انحاء العالم وتكتسب كل المدن طابعا عاما موحدا هو طابع الحياة الحضرية الحديثة التي تحمل الخصائص الاسلامية.
ولم تكن المدينة الاسلامية تعكس نفس الملامح والمظاهر خلال كل عصور تأريخها وتطورها، وانما كانت تعكس مظاهر حضارية وثقافية واجتماعية تختلف باختلاف العصور، لان المدينة هي انعكاس لثقافة العصر الذي وجدت فيه مع وجود اساس ثابت مستمر بطبيعة الحال. كان المسجد الجامع يبنى في وسط المدينة او في مركزها، بينما كان يُبنى قربه القصر (دار الامارة) وبالقرب منه تبنى المدارس ثم سلسلة الاسواق، ومن المراكز تتفرع الشوارع الرئيسية ثم الحارات ثم الدروب، وان توزع الاسواق كان يتحدد بالنسبة للمسجد ثم تأتي بعد ذلك الاحياء السكنية التي كانت تعكس الروابط العائلية والدينية.
هذا التوزيع ظهر في حقيقة الامر نتيجة لان المدن كانت مدنا اسلامية في المحل الاول(3).
والذي لا شك فيه ان المدن الاسلامية كانت تستمد طابعها الخاص المميز من الاسلام نفسه الذي تعدى (حدود الدين) بالمعنى الضيق للكلمة وصبغ الحياة بصبغة معينة امتدت الى جميع نواحي النشاط اليومي وهذا هو ما نقصده حين نقول عن الاسلام انه اسلوب حياة.
ولقد كان الدور الذي تلعبه المدارس الدينية والمساجد والطرق والزوايا والمستشفيات واماكن الترفيه والحدائق العامة والحمامات من اهم ما يميز المدينة الاسلامية، ولقد كانت كلها تتمتع بمكانة عالية بحيث لم يكن في امكان الحكام ولا الاعيان تجاهلها او الاغضاء عنها. وكل ما كان يتخذه الحكام والولاة من قرارات كانت تكتسب شرعيتها عن طريق المسجد والمدرسة.
ومن سمات المدينة انها مركز الاحتكاك والتلاقح والتطور والاشعاع الحضاري في الدولة، يجذب نحو المدينة طلاب العلم وممثلي الدول والتجار وغيرهم من ذوي الخبرة في شؤون المال والتجارة والصناعة ما يزيد من فرص التطور.
ومما يساعد المدينة على ذلك انها مركز السلطة والقوة التي باستطاعتها اتخاذ القرار. كما وانها الحيز الذي تتركز فيه القوة الاقتصادية اذ توجد فيها بيوت المال والادارات الاقتصادية ومراكز الصيرفة والوكالات واسواق الجملة والمفرد والصناعات الحرفية اي انها مركز الاستثمارات الرئيسية.
وهكذا فالمدينة الاسلامية كانت الحيز الذي تتطور فيه الافكار الجديدة العلمية والاجتماعية، والتي تنتشر على المستويات المحلية والقومية والعالمية، خاصة وانها المأوى الذي يلتجئ اليه المهاجرون ذلك انها تستقطب الامكانات الفردية من انحاء الاقليم التابع لها. وبذلك كانت المدينة العربية الاسلامية مركزاً للتغيير الاجتماعي. وانها مثلت الاطار المكاني لشبكة العلاقات الاجتماعية الاقتصادية الادارية والتخطيطية.
وان قيام المدن الاسلامية في القرن السابع الميلادي لم يكن بسبب التغير والتطور في وسائل الانتاج، ولم يكن بسبب التطور الاقتصادي والنشاط التجاري القائم في مكة اهم مدن الجزيرة العربية، بل كانت هناك حضارات ومدن اكثر اهمية من الناحية التجارية والاقتصادية، ومع ذلك تعرضت للذبول والانهيار وانتظرت الدور القيادي للمدينة الاسلامية.
وانبثقت الثورة الحضرية من الجزيرة العربية لتمتد وتنتشر في كل مدن العالم القديم حتى شمل الامبراطورية الرومانية والمدن اليونانية والبيزنطية، واغلب المدن الآسيوية ومدن شمال افريقيا ومنطقة آسيا الوسطى وغيرها.
كان الاسلام ذا نظرة ثورية شاملة للحياة حضاريا واجتماعيا، ولم يكن دينا للوعظ والارشاد، ولم يكن دينا للزهد والرهبنة، وانما كان دين عمل وجهاد.
وكان الاسلام يهتم اولا وقبل كل شيء ببناء انسان جديد يتفاعل مع مقومات الحياة الحضرية الجديدة. قبل ان يهتم ببناء مدينة جديدة. ليكون الانسان منسجما مع الحياة الحضرية.
ففي المدينة المنورة التي اتخذها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قاعدة للعمل، اقام الرسول اسس دولة حديثة تنظم شؤون المجتمع لتحقق العدالة، وتحاول اذابة النظام القبلي ونبذ العصبية وكل ما يتعلق بها من مفاهيم وقيم، وارساء نظام مدني قائم على تحقيق المساواة والعدالة.
ولم يكن الاسلام مجرد دين، بل حقبة حضارية جديدة تأتي وفق نمط أرسي تاريخيا يحمل معه نظرته الى الاشياء وفلسفته في الابتكار، بدأت بايقاظ الانسان عن طريق اعادة تركيب وترتيب الظروف الموضوعية المحيطة بالانسان.
وضع الاسلام الانسان امام موقف فكري جديد يدعو الى استخدام العقل ونبذ الاساطير، وعدم الاتكال على الصدفة في تنظيم الحياة اليومية، وما يترتب على ذلك من تطوير البيئة الاجتماعية، والتفاعل مع البيئة الطبيعية لتطوير وسائل العيش من اجل خلق حياة مدنية جديدة، وتأتي هذه الدعوة ضمن اطار عام هو الايمان بالله الواحد، وجاءت آيات القرآن تدعو الى العلم والتعليم وتؤكد دور العقل والفكر واقترنت بسمة حركية هي العمل الجاد للاستفادة من المواهب الفكرية والطاقات البشرية المادية والمعنوية.
ومن مظاهر دعم الحياة الحضرية في الاسلام التركيز على الهجرة من اطراف البادية الى المدينة والاستقرار فيها، مما اتاح للمسلمين التمدن والاستقرار في ظل عقيدة جديدة، فهو ليس عملية توطن تقليدية انما توطن على اسس حضرية جديدة في ظل توجيهات من الرسول القائد الذي شجع الهجرة الى المدينة المنورة واعتبرها شرطا من شروط الايمان.
وكانت العبادات وبشكل خاص الصلاة والحج جزءاً من المتغير الحضري الذي مثله الاسلام ليس فقط فيما تفرضه من تنظيم الوقت، وسبل السيطرة على النفس وقدرة على التحمل، وانما ايضا من حيث ضرورة العمران. فالصلاة أوجدت المسجد الذي هو ظاهرة عمرانية حضرية بحكم دوره الاجتماعي تمحورت حولها الحياة المدنية الجديدة فاصبح مركزا للحياة الاجتماعية والفكرية وعامل وحدة، ومدرسة ثورية يتلقى فيها الناس التربية الجديدة، وتمحورت حوله المدينة فكان هذا حافزا لاعادة تخطيط المدينة بشكل ينسجم مع دور المسجد في الحياة اليومية والعامة.
في القرن السادس الميلادي وقبل ظهور الاسلام شهد العالم انحسارا في المدن القديمة، وتراجعا في الحياة الحضرية، وبدأت المدن تعاني من الدمار الشامل وتشكو من الحروب المستمرة وسقطت مدن كثيرة كانت عامرة مزدهرة بالتجارة حتى ظهر الدين الاسلامي.
وجاء الاسلام فظهرت مدن جديدة وانتعشت المدن التي كانت قائمة في آسيا وافريقيا فكانت ثورة حضرية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً.
والاسلام انبثق كمدنيّة حضرية، وظهرت بوادر التحضر في المدن القديمة في العراق ومصر، وتزامنت أروع الانجازات في الامبراطورية الاسلامية مع النمو المدهش للقاهرة وبغداد ودمشق كمراكز حضرية رفيعة جدا.
وقد كشفت الدراسات الاثرية الحديثة عن مدى الابداع والتقدم الذي بلغته المدن الاسلامية ويكفي ان عاصمة الخلافة العباسية (بغداد) كانت شوارعها مرصوفة بالآجر، مضاءة بقناديل الزيت، تصل المياه الى دورها بقنوات من الآجر تحت الارض، في وقت كانت شوارع باريس موحلة مظلمة.
خصائص المدينة الاسلامية
كانت المدينة الاسلامية ذات تنظيم هندسي خاص يحمل دلالة معينة بحيث يوجد في وسط المدينة او القرية على السواء (المسجد) الذي يقوم مقام المركز بالاضافة الى مساحات كبيرة. كما ان اغلب الطرقات والشوارع تؤدي بالضرورة الى هذا المركز. اذ يكفي الغريب او السائح ان يسير على النحو التقليدي الى مركز المدينة ليجد المسجد والساحة، حيث يجتمع الناس، وهناك يجد ضالته. ويجد المساعدة التي يحتاجها.
فالمدينة اذن منظمة هندسية وفق نموذج ديني واجتماعي يتمركز حول المسجد وكأنما هو (الدليل) الشامل والمألوف وهو مركز الثقل الذي يجمع كل ابعاد المدينة الاسلامية القديمة.
ومن هنا كان التنظيم الهندسي للمدينة الاسلامية ذا دلالة واضحة وممتلئة، تتعلق مباشرة وبعمق بالتنظيم الاجتماعي والحضاري الاسلامي، ويمكن ان نلاحظ هذه الدلالة في هندسة المنازل، حيث تقع في وسط المنزل ساحة صغيرة بمثابة المركز الذي يجمع كل عناصر الاسرة بمفهومها الواسع الذي يحتوي على مجموعة افراد (الجد، الابن، الحفيد).
اذن، دلالة المنزل هنا مركزية واحدة، واضحة، ليس فيها تعقيد ولا غموض، كما هو ظاهر في هندسة المباني الجديدة او العمارات وناطحات السحاب، فهي تفرق اكثر مما تجمع، وتدعو الى التعدد لا الى الوحدة، وبالتالي الى الغموض لا الى الوضوح. وكذلك الامر بالنسبة لدلالة المدن الحديثة التي يشعر فيها الانسان بالاغتراب. وبالرغم من كل التنظيم المحكم الذي يراعي الجانب الدبلوماسي والمؤسساتي من جهة، والنواحي الثقافية والرياضية من جهة اخرى، والتجمعات السكانية والتجارية من جهة ثالثة، وبالرغم من مراعاته الاستراتيجية المدنية من كل جانب فانه لا يؤدي الاّ الى التعقيد والتنوع والغموض.
في نشوء المدينة العربية الاسلامية وتطورها كانت حركة الانسان وأبعاده الروحية والنفسية هي الموجه الاساسي في تخطيط المدينة وتنظيمها، سواء كان ذلك على مستوى المدينة بالحجم الذي تصله، او على مستوى المحلات ومقاسات شبكة الطرق في بعديها الطولي والعرضي، مع استيعاب تام لمواصفات الموضع.
لقد أعطي للبعد الانساني اهميته البالغة، فالشوارع والساحات والاسواق والوحدات المعمارية المختلفة توفر كل العناصر التي تساعد على ممارسة الحياة بانتظام وانسانية وذلك من قبل الفرد والجماعة.
وقد كان من اهم نتائج الفتوحات الاسلامية بناء مجموعة من المدن الاسلامية الجديدة كالبصرة والكوفة في العراق، والفسطاط في مصر، والقيروان في تونس، والرباط ومراكش في المغرب، وقد ساعدت هذه المدن الجديدة وغيرها من المدن على انتشار الحضارة الاسلامية واصبح الاسلام دين الغالبية العظمى منهم، وكانت تلك المدن مع غيرها، مثل سمرقند وبخارى وطاشقند وشيراز ونيسابور والموصل واسطنبول والجزائر واشبيلية وقرطبة وغرناطة من أهم مراكز الحضارة الاسلامية التي شعت بنورها على العالم كله. وتجاوز عدد سكان بغداد في القرن الثامن على مليون نسمة، وتراوح عدد سكان دمشق وقرطبة بين 000/300 و 000/400 نسمة وبلغ سكان القاهرة في القرن العاشر اكثر من نصف مليون نسمة.
وتزداد دهشتنا لهذه الارقام اذا علمنا ان عدد سكان المدن المزدهرة في اوروبا في نهاية القرون الوسطى لم يكن يزيد على 000/30 او 000/40 نسمة وان باريس مثلا لم يصل عدد سكانها الى 000/300 نسمة الا في القرن 14 م. اي بعد ستة قرون من انشاء بغداد.
وقد عزّز هذا النمو السريع للمدينة العربية السيطرة على القرى المجاورة التي اصبحت مصدرا للطعام والقوى البشرية.
البعد الانساني في المدينة الاسلامية
مما يميز المدينة الاسلامية انها لم تنشأ لاسباب موضوعية بحتة وباسلوب هندسي يراعي الوضع الاقتصادي والجوانب المادية فقط، بل كانت المدينة الاسلامية تنشأ وتخطط منذ انشائها لتلبية مطالب الانسان، واشباع حاجاته النفسية والروحية والمادية، ولم تكن المدينة العربية منظومة من المباني والمنشآت والمرافق فحسب، بل كانت منسجمة مع حاجات الناس في كل مراحل عمره وبمختلف فئاته فهي (اي المدينة) تشيد وتنمو وتتطور وفق خطة هندسية تراعي مشاعر الانسان وتضمن له الشعور بالدفء والامان وتوفر له فرص التعليم والعلاج والتكافل الاجتماعي كما تضمن له مستوىً معيشيا لائقاً بكرامته وانسانيته.
وكل شيء في المدينة في خدمة الانسان سواء كان ماديا او معنويا.
فالعمارة: عمارة المنازل والبيوت ومنظومة الميادين والطرق والدروب والاسواق والشوراع كلها تراعي الابعاد السيكولوجية وتغطي رغبات الفرد وطموحه. وكذلك المرافق المعنوية كالمدارس والمستشفيات ودور الرعاية الاجتماعية (بيوت اليتامى والارامل) واماكن التسلية واللهو كلها تقاس بالمقياس الانساني.
والاسلام حينما أرسى دعائم الحياة الحضرية لم يرهق الانسان في حسابه التشريعي، وانما اقام خطط المدينة على اساس النظرة الواقعية للانسان.
والاسلام لم يستمد غاياته التي سعى الى بلوغها في تنظيم المدن وتنسيقها، من ظروف مادية وشروط موضوعية مستقلة عن الانسان ذاته، وانما نظر الى تلك الغايات بوصفها معبرة عن مبادئ وقيم عملية ضرورية التحقيق من الناحية الخلقية. وتعني الصفة الخلقية، ان الاسلام يهتم بالعامل النفسي خلال الطريقة التي يضعها في تخطيط المدن وبناء العمارة; وينطبق ذلك ايضا على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وشكل وتنظيم الاسواق وبناء المرافق العامة وفتح القنوات لري الاراضي واحيائها، واقامة الجسور.
فهو في الاسلوب الذي يتبعه لتحقيق غاياته في تنظيم المدن، وتنظيم المجتمع لا يهتم بالجانب الموضوعي فحسب وانما يعنى بشكل خاص بمزج العامل النفسي والذاتي بالطريقة التي تحقق تلك الغايات. وللعامل الذاتي اثره الكبير في الحياة الاجتماعية ومشاكلها وحلولها.
والاسلام اذن لا يقتصر في تنظيمه للمدن على تنظيم الوجه الخارجي للمدينة فقط او يهتم بالمدن الكبيرة ومظهرها المادي فقط، ويهمل الاحياء الفقيرة، او المناطق الهامشية، او التجمعات التي تنتعش فيها روابط الجوار والحارات والاسواق والخانات كما يحدث في التخطيط الحضري للمدن الجديدة التي تركز على العاصمة وتبنى فيها افخم الفنادق والمطارات وارقى المستشفيات وتهمل المراكز الحضرية الاقل شأنا، فتنعدم فيها الخدمات الطبية او التعليمية.
كانت الدولة الاسلامية مع ترامي أطرافها تهتم بالقرى والأرياف كما تهتم بالمدن الكبيرة، وتبني فيها المساجد والمدارس ومصانع النسيج وتبعث اليها الاطباء والصيادلة وترسل الحراس ورجال الامن والشرطة لضبط الامن والنظام واقرار العدل، وارساء الاستقرار. وكانت تشجع على الزراعة وتفتح القنوات اي تحفر الانهار لسقي الاراضي ومساعدة الفلاحين في اعمار الارض واستصلاحها، وعدم المطالبة بالخراج الا بعد غزارة الانتاج ووفرته حتى انتعش الريف وازدهرت القرى في العالم الاسلامي. وكان الناس يخرجون الى القرى والأرياف ايام العيد والجمعة للتمتع بالهواء النقي ورؤية جمال الطبيعة والتنزه في البساتين والمزارع والضياع التي تمتد مع امتداد الانهار في العراق ومصر وسوريا وغيرها من البلاد الاسلامية.
السوق في المدينة الاسلامية
حركة السوق في المدينة الاسلامية مرتبطة بالمناخ الاسلامي وبقواعد السلوك الاقتصادي وبالرصيد الحضري للنظام الاسلامي.
الاقتصاد في الاسلام جزءٌ من كل، ولا يمكن تطبيق جزء منه دون بقية الاجزاء، والاسلام بوصفه كيانا حضريا لا يقبل التجزئة، لانه صيغة حياة اجتماعية واقتصادية ونفسية فردية وجماعية، وعالمية، دنيوية واخروية، خلقية ومادية، وترتبط كل هذه الكيانات العضوية في كائن عام بتفاعلات متبادلة غير قابلة للنقص او القطع او التجزئة، تعمل في تناسق واتساق بغير غنىً للجزء عن الكل، او للكل عن الجزء.
السوق في المدينة الاسلامية ليس نسقاً ثقافيا في ذاته بقدر ما هو جزء من نظام ثقافي اكبر، او باعتباره جزءاً متكاملا ومتلاحماً ومتفاعلا مع انظمة فرعية اخرى منبثقة من نظام اكبر هو النظام الاسلامي، وما فيه من مذهب اقتصادي يعالج المسائل الاقتصادية، ويحدد انواع الملكية ويفرض نظاماً وقواعد للانتاج والتوزيع، ويوفر الضمانات للتكافل الاجتماعي والتوازن الاجتماعي، ويفرض ضريبة الزكاة ليعطيها الى مستحقيها ولاقامة المشاريع العامة والمنشآت الثقافية، كاقامة الجسور، وبناء المدارس، وتشييد الجامعات، واقامة المستشفيات ودور الرعاية الاجتماعية.
والسوق كوسط اجتماعي تلتقي فيه جماعات وفئات متغايرة تتأثر بالفكر الاسلامي في النواحي الاقتصادية والاجتماعية والدينية، ويتمثل ذلك في نظام الحسبة الذي عرف لاول مرة في العصر العباسي، ووظيفة المحتسب الاشراف على الاسواق والطرق وتنظيمها، وازالة المعوقات عن الاعمال التجارية، والحفاظ على أمن وسلامة طرق المدينة واسواقها ونظافتها، ومراقبة الاسعار والمكاييل والموازين والاشراف الصحي على المطاعم، وباعة السمك والدجاج، ومنع الغش والتدليس، وعدم السماح لكل أمر يؤدي الى الاضرار بمصلحة الفرد والجماعة حسب القاعدة الاسلامية: (لا ضرر و لا ضرار) فالسوق يتأثر بالخلقيّة الدينية والاطار الثقافي للمجتمع.
ونظام الوقف يعد من الخصائص المميزة للسوق في المدينة الاسلامية وكانت اموال الوقف ضخمة جدا وأحياناً توقف مزارع كبيرة بل قرى باكملها توقف لمدرسة او مستشفى.
فالمدرسة المستنصرية في بغداد اوقفت لها الكثير من الدور والعمارات والمزارع والقرى لتأمين نفقاتها وأحيانا تزيد ايرادات الوقف عن نفقات المدرسة مع انها كانت نفقات طائلة تشمل فضلا عن رواتب الاساتذة والمدرسين رواتب للطلبة والاطباء والمشرفين وشراء الكتب والورق وادوات الكتابة وغيرها. والطريف انه كانت تعطى للطلبة جرايات شهرية للاستحمام في الحمامات العامة. لقد اهتمت الدولة في العصور الاسلامية بحركة الاوقاف، واتخذت هذه الاوقاف أبعاداً اجتماعية مختلفة.
واموال الوقف لم تكن لمساعدة الفقراء فقط، وانما كانت تشمل أغراضا اجتماعية متعددة كإنشاء الترع وفتح القنوات وبناء السدود، واختص جانب من الاوقاف بتعليم السجناء الحرف والمهن ومنحهم رواتب لقاء عملهم، ثم اعطائهم منحة مالية عند خروجهم من السجن ليبدأوا حياتهم من جديد بالعمل الشريف، كما ان حركة الاوقاف اهتمت بالايتام والارامل، اذ اهتمت بتعليمهم وكسوتهم.
وكان الناس يتسابقون لاعمال الوقف، ونجد في الآثار والكتابات على أبواب المساجد والبنايات الاثرية ما يدل على شدة تعلق الناس بالوقف، ليكون لهم ذخرا بعد وفاتهم، وذخرا يوم لا ينفع مال ولا بنون الاّ من اتى الله بقلب سليم.
واللافت للنظر ان مفهوم البر تحول من مفهوم ضيق الى دلالات واسعة تشمل الحياة العامة كلها.
وهناك وقف لاطعام الغرباء والمسافرين واقامتهم في منازل خاصة لهم. وفي هذا الصدد يقول الرحالة ابن بطوطة الذي دار حول العالم انه خرج من مدينة طنجة سائحا وليس معه الاّ دراهم معدودة، وعاد محملا بالاموال والهدايا وذلك انه لم ينزل مدينة الاّ وجد الطعام والمأوى والضيافة من اموال الوقف، ووجد الترحيب والاحترام من قِبَل سكّان المدن، لانّه يقصد بيت الله الحرام وزيارة قبر النبي الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهناك وقف لابناء السبيل ممن فقد ماله أو سرق متاعه، ووقف لاطلاق سراح السجناء المديونين، وذلك بدفع ما عليهم من ديون والتزامات.
ووقف لتحرير العبيد.
والطريف أن هناك وقفاً لتعويض الخدم أو العبيد عن المال الذي يتلف بايديهم، او المتاع الذي يتعرض للتلف، او القوارير والاواني الزجاجية التي تنكسر ولئلا يتعرضوا للضرب والاهانة والسب، تعطى لهم الاموال ليعوضوا اسيادهم عما ضاع منهم.
وبعد:
فان المدينة الاسلامية كانت تشيَّد وتبنى من أجل خدمة الانسان ومن يسير في شوارعها وازقتها يشعر بالالفة والراحة النفسية ولا يشعر بالانسحاق كما هو حاصل في المدن الحالية. والمدينة الاسلامية خالية من التلوث، ولم تعرف الجريمة وحوادث الاغتصاب والسرقة والقتل والقمار واللهو والمجون كما في المدن العصرية.
* هوامش
----------------------------------------------------------
1- محمد عبد الجبار، المصطلح الاسلامي في عالم متغير، صحيفة الحياة العدد (13600) الجمعة 26ربيع الثاني 1418 هـ، 29 آب / اغسطس 1998 م.
2- د. محمد عزت حجازي، الازمة الراهنة لعلم الاجتماع في الوطن العربي.
3- وليم مارسيه، النزعة الدينية والحياة الحضارية ص 562.
---------------------------------
* المصدر: مجلة الفكر الجديد/العدد18/2000 م


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الأدب والفنون