موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الأدب والفنون

مؤثرات إسلامية في إنتاج إ.بونين
. مكارم الغمري
 


من الواضح أن اهتمام بونين بالإسلام كان كبيراً، فهو يستلهم الإسلام في العديد من قصائده، وأيضاً في استطلاعاته الأدبية. وأعمال بونين التي يجد الإسلام بها صداه تدور حول المحاور الآتية: سيرة الرسول محمد (ص)، وشعائر الحج والصلاة في الإسلام، والمدن العربية التي اختصها القرآن بالتكريم وارتبطت في الأذهان بمقدسات المسلمين وعلى رأسها مكة، وكذا المساجد الإسلامية الشهيرة.
وبداية، لم يستمد بونين معلوماته الإسلامية من زياراته إلى البلاد العربية فحسب، بل درس الإسلام، وقرأ القرآن.
ونستهل الحديث عن الموضوع الإسلامي في إنتاج بونين بقصيدته ((محمد مطارداً)) وهي القصيدة التي يتناول فيها مدى المعاناة التي تحملها الرسول في سبيل الدعوة، فاقرأ معي أبيات قصيدته:
(محمد مطاردا)) (1906)
حلقت الأرواح فوق الصحراء
في الغسق، فوق الوادي الحجري.
ودوت كلماته ... الجزعة،
مثل ينبوع نسيه الله.
وعلي الرمل، حاف، بصدر مكشوف،
كان يجلس، ويتكلم في حزن:
((وُليت وجه الصحراء والقفر.
عزلت عن الجميع، من أحبهم!))
قالت الأرواح: ((لا يجدر
لرسول أن يكون ضعيفاً متعباً)).
والرسول في حزن وسكينه
أجاب: ((كنت أشكو للحجر)).
يرسم بونين لوحة شعرية لقصة خروج الرسول من مكة مهاجراً إلى المدينة تحرسه الملائكة وتشد من أزره. كذلك يصور بونين قلق الرسول في محنته على الدعوة.
والقصيدة إلى جانب تناولها لسيرة الرسول تحاول أن تنقل القارئ إلى جو الصحراء العربية من خلال استخدام بعض المفردات الوثيقة الصلة بوصف الصحراء: الوادي الحجري، الرمل، الينابيع.
ومن السيرة الذاتية للرسول تستهوى بونين أيضاً قصة الإسراء، فيورد وصفاً لها في استطلاعه الأدبي ((الحجر))، ووصف بونين لقصة الإسراء يعكس معرفة الكاتب بها في إطار القرآن الكريم والكتابات الإسلامية، كذلك نجده يستخدم في الاستطلاع الترجمة الروسية ((للبراق)) الذي ورد ذكره في رحلة الرسول.
وفي إطار الاهتمام بسير الأنبياء تستلهم قصيدة ((إبراهيم)) عن القرآن قصة إيمان سيدنا إبراهيم:
((إبراهيم)) (1903)
كان إبراهيم في الصحراء في ليلة مظلمة
فرأى في السماء كوكباً.
((ها هو ربي!)) ـ صاح هو ـ لكن عند منتصف الليل
أفل الكوكب ـ وخمد نوره.
كان إبراهيم في الصحراء قبيل الفجر
فرأى القمر بازغاً.
((ها هو ربي!)) ـ صاح هو. لكن القمر
خمد وأفل مثل الكوكب.
كان إبراهيم في الصحراء في الصباح الباكر
ومد يديه في سعادة نحو الشمس.
((ها هو ربي!)) ـ صاح هو. لكن الشمس
قضت اليوم وغربت في الليل.
وقاد الله إبراهيم إلى الطريق الحق.
والقصيدة السابقة تستلهم الآيات الكريمة من سورة الأنعام الآيات 075 ـ 79): ((وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين، فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين)).
وتحظى أركان الإسلام بعناية بونين، وتجتذبه ـ على نحو خاص ـ فريضة الحج التي يتوقف عندها في أكثر من قصيدة له، فمثلاً نجده يصور قوافل الحجاج المسلمين في مسيرتهم عبر الصحراء، يرتحلون ليلاً فيسخر الله لهم النجوم تضيء لهم الطريق، وتحول قوافل الحجاج الصحراء المقفرة إلى أماكن مأهولة بالحياة والحركة، ففي قصيدة ((علامات الطريق)) نقرأ الأبيات التالية:
((علامات الطريق)) (1905)
((وعلامات وبالنجم هم يهتدون))
(القرآن)
الله لحجاج الليل في المغرب
أضاء الأنوار ـ نجوم شعري المقدسة
سلام عليك يامتلألئأ في السماء
يا ندى الماس السماوي!
الطريق بالرمال من غزة إلى العريم
أحياه الله بالعلامات، كما في القديم.
تحية لك ـ يا أحجار ـ مسابح الحجاج
في الصحراء يا مرشدي هاجر!
أسكن الله الطريق كله بالأجساد،
مثل وقع الضباع بين أحراش تي.
سلام عليكم، يا هاجعين إلى الله
يا مَن تمهدون لنا السبيل!
والقصيدة السابقة مستوحاة عن الآية (16) من سورة النحل: ((وعلامات وبالنجم هم يهتدون)). فهي ترسم صورة شعرية للحجاج الذين يهتدون ليلاً بالنجوم، كذلك يتذكر بونين في القصيدة اسم السيدة هاجر زوجة إبراهيم (ع) ووالدة إسماعيل، وذكر اسمها في سياق الصورة الشعرية للحجاج المرتحلين إلى رحلة الحج قاصدين مكة يعكس معرفة بونين بالقصص الديني الإسلامي المرتبط بالكعبة وشعائر الحج، فكما هو معروف، اقترن اسم هاجر بماء زمزم الشهير الذي وجدته حين كانت تتردد بين الصفا والمروة بحثاً عن ماء تروي به عطش ابنها إسماعيل، وقد صار السعي سبع مرات بين الصفاء والمروة أحد شعائر الحج، والإشارة إلى ((مسابح الحجاج)) في القصيدة تعكس معرفة بونين بهذه الشعائر، فالحاج يكثر من التسبيح في الطواف حتى يصعد على المروة.
وفي قصيدة ((المقام)) يرسم بونين صورة شعرية لحجاج مكة المكرمة السعداء برحلة الحج إلى مكة طمعاً في الدعاء المستجاب وسعياً إلى تصفية النفس في رحلة الحج الروحية، كلك تعكس القصيدة فهم بونين الصحيح للمكانة التي خص بها القرآن ((مقام)) إبراهيم الذي أقام فيه إبراهيم عند بناء الكعبة والذي يصلي فيه الحاج ركعتين عقب الطواف (سنة الطواف)، تقول أبيات قصيدة بونين:
((المقام))
المقام: فرحة عظيمة، فريضة مقدسة،
وإدراك للمسعى المرغوب
المقام: شوق، مشقة مغتبطة
ودعاء أصم متعطش للعطاء
إلى الحلم يبسط المفتون يديه
يتعطش إلى رؤية الله في اليقظة.
تقول الوصية: المبصر يموت
لكن الموت اقتراب من الله
مباركة، المشقة العذبة
لجهودي! سأكرس للإبداع
حياتي كلها: على امتداد القوس
ستقودني إلى المقام المنشود
وقصيدة بونين ((المقام)) تبدو مستوحاة من الآية ((125)) من سورة البقرة ((وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع والسجود)).
ويستكمل بونين الحديث عن مكانة الحج ورغبة الحاج في الجزاء في قصيدته ((الحاج)) التي يرسم فيها صورة شعرية براقة لصلوات الحاج، وملابسه، ولحظات الانقطاع إلى العبادة:
((الحاج))
وقف على البساط، عند سلسلة المرساة،
حافياً أشيب، في رداء الإحرام القصير،
في عمامة كبيرة. يزداد الجو نضرة عند الغروب،
الليل أمامه ـ والجسد سعيد به.
وقف وبسط راحتيه في عتمة متموجة:
مثل عبد أدخر قرشاً غالياً في أجر،
تحافظ الروح على حلم واحد ـ الجزاء
لقاء كدح الحياة ـ فكل شيء يزداد شحاً، وشحا
منقار النسر، عيون البومة، لكنها وديعة
هي الآن تتطلع إلى هناك، حيث زرقة
البلد المقدس، حيث دموع النجوم ـ مثل المسابح
على الكف الأسمر لملاك الصحراء.
كل شيء مكشوف: القلب والكفوف...
وتتألق، تتألف الدموع في السماء.
وإلى جانب تصوير سعى الحاج نحو الجزاء ترسم الصورة الشعرية لقصيدة بونين ((الحاج)) أبعاد لحظة روحانية من الخشوع والابتهال الذي يسود كل شيء، بما في ذلك النجوم في السماء، فالنجوم ((تبكي)) أمام لحظة ابتهال الحاج الذي تكتسب لحظة ابتهاله هذه قيمة كبيرة تعادل قيمة القرش المدخر في أجر العبد الزهيد، وأمام صفاء النفس المتجهة نحو البلد المقدس يسيطر على الطبيعة جو من الوداعة والصفاء، حتى الطيور الجارحة هي الأخرى تتجه بأنظارها إلى هناك وتصبح آمنة.
ويستهوى الحجر الأسود الذي في الكعبة المشرفة الخيال الإبداعي لبونين فيرسم له لوحة فنية في قصيدته التالية:
((حجر الكعبة الأسود))
كان فيما مضى حجراً كريماً،
كانت نصاعته لا مثيل لها ـ
كلون حدائق جنات النعيم،
كثلج جبلي في أيام الشمس والربيع.
روح جبريل من أجل العجوز إبراهيم
وجده بين الرمال والصخور،
وحرست الأرواح أبواب المعبد،
حيث كان هو يتألق بصدره الماسي.
ومرت القرون ـ ومن كل أطراف الدنيا
تدفقت إليه الصلوات، وبتيار غزير
انسابت في المعبد، البعيد والمقدس،
القلوب، المحملة بالشوق...
الله! الله! لقد خفتت هبتك التي لا تقدر ـ
خفتت من دموع الناس وأحزانها!
يستهل بونين القصيدة السابقة بالتأكيد على مكانة الحجر الأسود الذي يكتسب خصوصية وتميزاً عن بقية الأحجار حتى قبل أن يصبح حجراً للكعبة المشرفة، فهو فيما مضى كان ((حجراً كريماً)) نصاعته غير عادية، لونه يشبه لون حدائق ((جنات النعيم)) وهو صامد صمود جبل الثلج في أيام الشمس والربيع. والصورة الشعرية للحجر الأسود في تفرده تتقاطع مع الروايات الإسلامية التي تبرز مكانة الحجر الأسود، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: ((يأتي هذا الحجر يوم القيامة، وله عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد لمن استلمه حق)). رواه أحمد وابن ماجه والترمذي.
وتصور قصيدة بونين حركة ((تدفق)) الحجاج وتزاحمهم على الحجر الأسود، حيث تنساب قلوبهم المثقلة ((بالشوق))، لكن الحجر الأسود ((هبة الله)) التي ((لا تقدر)) والصامدة كثلج جبلي في أيام الشمس لا تتأثر إلا بدموع الناس الخاشعين المبتهلين.
ويستخدم بونين في قصيدته ((الحجر الأسود)) كلمة ((جنات)) بلفظها العربي وقد اجتذب وصف الجنة في القرآن اهتمام بونين وأثار خياله الإبداعي، فكتب قصيدته ((الكوثر)) التي يصدرها بالآية الكريمة ((إنا أعطيناك الكوثر)).
(الكوثر)) (1903)
((إنا أعطيناك الكوثر))
((القرآن))
هنا مملكة الأحلام. عند آلاف الأميال غير مأهولة
مالحة شطئانها العارية.
لكن المياه بها: زمردية سماوية،
أما حرير الرمال فأنصع بياضاً من الثلج.
وفي حرير الرمال فقط شيح رمادي الزرقة
ينميه الله للقطعان الرحل.
لكن السماوات هنا زرقاء فوق العادة،
والشمس بها: كلهيب جهنم، سقر
وفي ساعة الوهج، وحين السراب البللورى
سيمزج العالم كله في حلم واحد عظيم،
في بهاء لا نهائي، وراء حد الأرض الحزينة،
إلى حدائق الجنة ت يحمل هو الروح.
وهنا ينساب، هناك ينهمر خلف الضباب
نهر الأنهار كلها، الكوثر السماوي اللون،
والأرض كلها، والعشائر كلها، والبلدان
سيغمرها السكون. اصبر، صل ـ وآمن.
في القصيدة السابقة يحاول بونين أن يعطى وصفاً لنهر الأنهار: الكوثر السماوي مستلهماً صورته الشعرية من القرآن والكتابات الإسلامية التي تناولت وصف نهر الكوثر، وكما ثبت في الصحيح الكوثر (نهر في الجنة، حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل، وأبيض من الثلج، مَن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً)).
وتبدو مفردات وصف نهر ((الكوث)) في قصيدة بونين مستوحاة من الكتابات الإسلامية، فنهر الأنهار في قصيدة بونين رماله ((كالحرير)) لونها أنصع بياضاً من ((الثلج))، كما أنه يرمز إلى الخير الوفير.
وتخترق قصيدة ((الكوثر)9 فكرة ((البعث)) التي يقترن الحديث عنها بالتذكرة بيوم ((القيامة))، وتأكيد أن ((الجنة)) التي تنتظر المؤمنين في الحياة الأخرى تفضل الحياة الدنيا على الأرض ((الحزينة)).
وتعكس قصيدة ((الكوثر)) قراءة بونين المتعمقة للقرآن فهو يستخدم كلمتا ((الجنة))، و ((الكوثر)) بلفظيهما العربيين، كذلك يأخذ عن القرآن وصف لهيب جهنم ((بسقر)) الذي يكتب بنطقه العربي، وقد قال المفسرون النار سبع دركات أولها جهنم ثم لظي، ثم الحطمة ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم ثم الهاوية)).
ويمتد اهتمام بونين بيوم ((القيامة)) و (البعث)) في قصيدة ((التراب المقدس)) التي تدعو إلى الدفاع عن الحق والفداء بالنفس في سياق الحديث عن ((البعث)).
((التراب المقدس))
التراب الذي كان عليه جبريل
يسير بطريقه غير المرئي
في ساعة منتصف الليل بين القبور،
يصوب ويبعث الموتى.
التراب، الذي سقطت عليه دماء
الموتى في معركة الحرية،
يلهم الشعب الحكيم.
الإجلال والحب
اقترب منه، بارك
لحظة تأمل المقدسات
وفي معركة الثأر والحب
انهض، مثل عاصفة الصحراء
ويبدو مشهد وصف يوم القيامة مستلهماً من سورة الزمر الآية (68): ((ونفخ في الصور فصعق مَن في السموات ومَن في الأرض إلا مَن شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون)) وجبريل في الصورة الشعرية عند بونين هو إسرافيل الذي ينفخ نفخة القيام من القبور.
ويستوقف اهتمام بونين فريضة الصلاة في الإسلام، فيرسم لها صورة شعرية في القصيدة التالية:
تنغمس الشمس، تفتر بجمرها المعقود
خلف الصحراء الرمادية الزرقة. تغفو، وتنحني
رؤوس الفدية. اقتربت الساعة:
نحن نشيع الشمس، نخلع الأحذية
ونقوم بالصلاة تحت السماء
الرحيمة، كثيرة النجوم، المعتمة الزرقة.
رعاة الصحراء، ماذا ندري!
نحن، كأساطير الطفولة، نتذكر
مآذن أوطاننا الأم.
إفتح إذن، ذلك الخالد، فوق الصحراء
فوق الأرض في المساء المعتم الزرقة
كتاب النجوم السماوية: قرآننا!
وبعد ثنى الركبتين، سنغلق
عيوننا في خشوع عذب، ونغسل
وجوهنا، بالرمال الباردة،
ونرفع الصوت، وبدعاء
نفيض في التراب أمامك،
مثل موجة على شاطئ البحر
والصلاة التي يصفها بونين في صورته الشعرية على ما يبدو صلاة المغرب، ليلة عيد الأضحى، فتوقيت الصلاة هو وقت الغروب.
ويحاول بونين في صورته الشعرية أن يرسم لوحة لصلاة المسلم في حركتها (خلع الحذاء، رفع اليدين للتكبير، قراءة القرآن، الركوع، السجود)، ولأن الصلاة التي تصفها القصيدة تجري في الصحراء تحت قبة السماء، فالمسلم في صلاته يغسل وجهه بالرمال الباردة، ويدعو، والدعاء المقصود هنا دعاء الفاتحة: ((اهدنا الصراط المستقيم)).
أما الفدية في القصيدة فهي ـ على ما يبدو ـ ذبيحة عيد الأضحى التي ((اقتربت ساعتها)).
ولا يتوقف وصف بونين للصلاة عند قصيدته السابقة، بل نجده يتذكرها في استطلاعه الأدبي ((ظل الطائر)) حيث يبدي إعجابه ببساطة المسلمين الذين يصلون حفاة والتي تذكره ((ببداية الإسلام، الذي ولد في الصحراء حيث البساطة الفطرية)).
ولا يتوقف اهتمام بونين بوصف الأماكن المقدسة الإسلامية في مكة المكرمة وحدها، بل يتطرق كذلك إلى وصف المسجد الأقصى في القدس في استطلاعه الأدبي ((الحجر))، وللقدس مكانتها الكبيرة، فقد كانت قرار الأنبياء، وقد خصها القرآن الكريم بالتقدير في آيات سورة التين: ((والتين والزيتون وطور سنين،..)).
ويتذكر بونين في وصفه للأماكن المقدسة في ((القدس)) قصة تحويل قبلة المسلمين من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، والتي يذكرها بمعرفة وفهم دقيق في إطار تناول القرآن لها كما في الآيتين الكريمتين (142 و 144) من سورة البقرة: ((سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب، يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم، وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً وما جعلنا القبلة التي كنت عليها، إلا لنعلم مَن يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم، إن الله بالناس لرؤوف رحيم، قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون)).
وفي إطار من الفهم للمكانة الكبيرة التي خص بها القرآن ((ليلة القدر)) يرسم بونين صورته الشعرية التالية:
((ليلة القدر))
((تنزل الملائكة والروح فيها ... )).
((القرآن))
ليلة القدر. تآلفت القمم وتمازجت
ونصبت عمائمها أعلى نحو السماء
أذن المؤذن، وما تزال قطع الجليد تدخل في الأرجواني
ويتنسم برد الظلام من المضايق، والوديان
ليلة القدر. بالمنحدرات الجبلية المظلمة
ما تزال تهبط السحب في طبقات
أذن المؤذن. وأمام العرش العظيم
ينساب النهر الماسي، مدخنا
وجبريل ـ غير مسموع وغير مرئي
يطوف العالم النائم. ربي. بارك
الطريق غير المرئي للحاج الطاهر
وامنح أرضك ليلة السلام والحب.
والقصيدة السابقة تبدو مستلهمة من معاني سورة القدر (الآيات 1 ـ 5).
((إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر)).
وتعكس الصورة الشعرية عن ((ليلة القدر)) حرصاً من جانب بونين على توضيح فل هذه الليلة ((ليلة السلام والحب)) التي ينزل فيها جبريل إلى الأرض، وذلك في إطار من الرؤية الذاتية للطبيعة المتأهبة لاستقبال هذه الليلة العظيمة: إنها ساعة الغروب التي يضفي فيها الغروب لوناً أرجوانياً على كل شيء حتى على قطع الجليد الناصعة البياض، وتنحدر السحب في طبقات، وفي هذه الليلة الروحانية الجليلة تتآلف قمم المساجد ترقباً لمشهد نزول الملائكة إلى الأرض، وأمام العرش السماوي ينساب النهر الماسي (على ما يبدو يقصد نهر الكوثر)، إنها ليلة رائعة من الصفاء والانسياب في حركة الطبيعة والملائكة في عالم الأرض والسماء ...
ويبدو تأثر بونين في صورته الشعرية عن ((ليلة القدر)) ليس فقط بمعاني سورة ((القدر)) الكريمة، بل وأيضاً ببلاغتها، إذ نجد في القصيدة تكراراً لذكر ((ليلة القدر)) وذلك لتأكيد أهمية الليلة ومكانتها.
وتعكس المؤثرات الإسلامية في إنتاج بونين، بشكل عام، اهتماماً من جانبه بفريضتي الصلاة والحج في الإسلام، وتُظهر إعجابه بالأماكن الإسلامية المقدسة. أما عن معاني القرآن الكريم، فقد استوقفه وبخاصة ـ أفكار البعث والحديث عن الحياة الأخرى والدعوة إلى الإيمان. وقد انعكست المؤثرات الإسلامية في إنتاج بونين من خلال قصائده واستطلاعاته الأدبية، واتسمت القصائد التي تستوحي الإسلام بالخصائص المميزة لمؤلفاته الشعرية، فالقصائد تعكس ولع بونين باستلهام المنظر الطبيعي، وهو هنا في قصائده يتوقف عند المنظر الطبيعي المميز للصحراء العربية التي خرج منها الإسلام، فيعطي بعض تفاصيل وصف الطبيعة الصحراوية. كذلك تكشف قصائد بونين التي تستوحي الإسلام عن محاولة تطعيم القصيدة بمفردات لغة البيئة ((العربية)) المستلهمة والتي تكتب في نطقها العربي، كما يكثر في القصائد استخدام بعض المفردات المميزة للمعجم الشعري عند بونين (الحزن، الزرقة الرمادية، السماء المعتمة).
-----------------------------
المصدر :موثرات عربية واسلامية في الادب الروسي


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الأدب والفنون