موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الأدب والفنون

الأديب الإسلامي: الانفتاح
* علي المؤمن



الحديث عن الأدب الإسلامي ليس حديثاً عن مدرسة أدبية بحتة، أو مدرسة أدبية وضعية مؤدلجة، في مقابل المدارس الأدبية المعروفة عالمياً، كالكلاسيكية والرومانسية والواقعية والوجودية والاشتراكية وغيرها، فالأدب الاسلامي ليس مجرد مدرسة أدبية، بل هو تعبير عن التصور الاسلامي الكوني للأدب. من هنا خضع الأديب الاسلامي لجملة من الضوابط العقيدية والشرعية التي أفرزها ذلك التصور، ولاسيما إذا أراد الأديب التحرك في مساحات أوسع وتوظيف أدوات وآليات أدبية جديدة، أو بتعبير آخر الانفتاح عليها.
إن ما نعنيه بـ(الانفتاح)، هو عملية انفتاح الأديب الاسلامي على المدارس الأدبية الأخرى، أي استثمارها والاستفادة من أساليبها المضمونية والشكلية وطرقها في التأثير. والمراد بذلك الانفتاح هو النسبي وليس مطلق الانفتاح، أي الانفتاح الخاضع لمعايير وضوابط محددة، فالمطلق يعني ان الأديب لا يلتزم بأية محددات وخصوصيات لنتاجه الأدبي، يمليها التصور الاسلامي. هذه النسبية تفرض بالطبع وجود مساحة أو بينية معينة تصل انتماء الأديب بانفتاحه، وتقرن الانفتاح بالانتماء.
فيكون الأديب منتمياً ومنفتحاً في الوقت نفسه، بهدف تأصيل النتاج الأدبي من جانب، وتحسين نوعه من جانب آخر.
وحين يتجه الأديب نحو الانفتاح، فإن ول مقدمة تواجهه تتمثل في فهم التيارات والمدارس الأدبية الأخرى.. فهماً دقيقاً وواعياً ومعيارياً، ليعي ما يأخذ وما يريد.
فالمدرسة الكلاسيكية ـ مثلاً ـ فيها مجالات مضمونية واسعة يستثمرها الأديب الاسلامي، وكذلك حيز محدود من المدرسة الرومانسية، التي تجنح في خيالها وتبالغ في العواطف إلى حد تسويغ كل الصور العاطفية المثيرة.
وهناك المدرسة الواقعية، التي لا ترى أي شيء آخر غير الواقع والحدث، كالمبادئ والقوانين، وفي الوقت نفسه ترى أن ذلك الواقع هو واقع شرير في حقيقته. وأيضاً المدرسة الرمزية، التي تميز بغموض المعاني والدلالات وغموض الصور التي ترسمها، إذ انها تتعامل مع اللاوعي والوجود الذهني فقط. وربما تقترب منها المدرسة السريالية، التي تتعامل مع الوعي الباطن وتداعياته.
ويرى أحد أساتذة الأدب الاسلامي ـ الدكتور محمود البستاني ـ انه بالامكان الاستفادة من بعض هذه المدارس، من مناهجها وصورها، ولكن في الحدود التي يحافظ فيها الأديب على انتمائه، ولا سيما أنها اتجاهات تحتوي على آليات وأدوات يغلب عليها الطابع الفني، على العكس من المدارس الأدبية المؤدلجة والفلسفية، كالوجودية والواقعية الاشتراكية التي تتقاطع أساساً مع المدرسة الاسلامية.
وإذا توغلنا أكثر في واقع المدارس الأدبية، فسنرى نمطاً جديداً من المدارس، تحدد اتجاهها من خلال رؤيتها للأديب وعلاقاته وهدفيته، فهناك مدرسة الأدب للانسان التي تؤكد فردانية الانسان وانسانيته الأرضية، وكذلك مدرسة الأدب للأدب، التي تعتقد بعدم وجود أية علاقة بين المعتقد والأخلاق والخير والشر من جهة، والأدب من جهة أخرى، إذ أن الأدب هنا غاية وهدف بذاته وليس وسيلة للتعبير عن ذات الأديب، بوصفه انساناً، وحساساً ومنفعلاً، ولا عن انسانية الانسان ومشاعره.
من هنا كان لزاماً على الأديب الاسلامي وعي عقيدته وضوابطها وأحكامها ـ أولاً ـ ثم دراسة المدارس الأدبية على مختلف أشكالها وأنماطها دراسة تفصيلية متأنية، وإخضاع ما يمكن أخذه من هذه المدارس إلى معيار العقيدة وضوابطها.
ويقودنا اختلاف تلك المدارس الأدبية التي تعبر عن نفسها بالمدارس الأدبية العالمية، للتساؤل عن وجود ما سمى بـ(الأدب العالمي). الواقع ان معرفة حقل الأدب وقضيته وموضوعه ومجالاته، ثم الاجابة في ضوء ذلك على وجود (أدب عالمي)، سيفرض في الوقت نفسه وجود (ثقافة عالمية). نعم.. هناك أدب عالمي، لكنه ليس أدب المدارس التي تحدثنا عنها، فالأدب تصنعه الثقافة والوجدان معاً، ولكل مجتمع خصوصياته الثقافية (الدينية والقومية والمحلية). فالواقع ـ إذن ـ يؤكد وجد أدب الشعوب وأدب الديانات. أما الأدب الانساني العام فهو يخضع لمقولة العام المشترك الذي يهم كل البشر، ويدخل في اطار تأثيرات بيئة الأديب. فهل يمكن تسمية الانتاج الأدبي للمتنبي وحافظ والخيام وشكسبير وموليير وطاغور وهمنغواي وسيغور ومحمد اقبال وتولستوي والجواهري، أدباً عالمياً؟ انه أدب انساني لا شك، ولكنه ليس نتاجاً أدبياً عالمياً، لأنه ـ بصرف النظر عن المدرسة التي ينتمي إليها ـ يمثل نتاج بيئة الأديب وصوره المحلية، رغم كون اهتماماته انسانية. فهو ـ إذن ـ أدب الشعوب. ثم إن صح ان أدب هؤلاء أو غيرهم أدب عالمي، فلماذا هم دون سواهم؟!
* * *
ولفهم حجم ومضمون المساحة التي يتحرك فيها الأديب الاسلامي بين انتمائه وانفتاحه، لابد من معرفة طبيعة الخطوط الفاصلة بين الاتجاهات الأدبية بعد إخضاعها لمقياس نظرية الأدب الاسلامي.
وعلى وفق هذا المقياس، فان التقسيم الأقرب للواقع، الذي تحدده تلك الخطوط، هو التقسيم الثلاثي ـ الذي يتبناه الدكتور أحمد ساعي ـ التالي:
1 ـ الأدب الاسلامي المحض، الذي يكون منتجه اسلامياً، والنتاج اسلامياً، أي يحتوي على خصائص النظرية الأدبية الاسلامية شكلاً ومضموناً.
2 ـ الأدب الانساني، الذي يلتقي ـ شكلاً ومضموناً ـ الأدب الاسلامي، رغم أن منتجيه غير مسلمين أو غير اسلاميين.
3 ـ الأدب الذي يتعارض مع نظرية الأدب الاسلامي، شكلاً ومضموناً.
ومن ثنايا هذا التقسيم يمكن استخراج تقسيم آخر يخضع ـ هذه المرة ـ لمقياس الثواب والعقاب، آخذاً بنظر الاعتبار ان الأدب في الاسلام وسيلة من وسائل التبليغ والدعوة والارشاد، وليس هدفاً بذاته، كما انه ليس وسيلة دنيوية صرفة. والتقسيم هو كالآتي:
1 ـ الأدب الذي يدخل في اطار (المستحب)، والذي يخضع لضوابط الاسلام شكلاً ومضموناً وهدفاً وتأثيراً، ويستوجب الثواب.
2 ـ الأدب الذي يدخل في اطار (المباح)، والذي تستوعبه الضوابط الاسلامية شكلاً، ولكنه لا يحمل هماً وهدفاً اسلامياً أو انسانياً، ولا يستوجب ثواباً ولا عقاباً. وهنا يخشى بعض المنظرين للأدب الاسلامي من تحول هذا اللون من الأدب إلى نوع من اللغو واللهو والعبث، على اعتبار انه أدب غير هادف. فينتقل حينها من حوزة المباحات إلى حوزة المكروهات، أي ان التصوير الأدبي يكون حينها مباحاً، ولكنه يدخل في مجال اللهو والعبث، وذلك منهي عنه.
3 ـ الأدب (الحرام)، وهو أدب الضلال، الذي يستوجب العقاب، إذ يقع خارج دائرة الضوابط الاسلامية، شكلاً ومضموناً وهدفاً وتأثيراً.
ونستخلص من ذلك، ان مدرسة الأدب الاسلامي هي مدرسة الأدب للمعتقد، مع عدم اغفال شأن الانسان وشأن الحياة، بل وعدم إغفال شأن الأدب نفسه وصوره الجمالية، ولكن يبقى مصب المضمون هو المعتقد، مع عدم الخروج عن هذا المصب في الشكل أيضاً.
أما منبع الأدب الاسلامي، فهو التصور الاسلامي التوحيدي للكون، أي انه ـ كما يعرِّفه سيد قطب ـ التعبير الفني الخاضع للتصور الاسلامي للكون والانسان والطبيعة.
* * *
صحيح ان الأدب مرتبط بمشاعر الانسان ووجدانه وكوامنه النفسية، ومن الصعب إخضاعه للعلم والمنطق ولمناهجهما وتفاسيرهما وضوابطهما، ولكن الأدب يخضع للعقيدة وموقفها وضوابطها العملية (الشريعة) دون أن يتقاطع ذلك مع كون الأدب مرتبطاً بمشاعر الانسان ولحظاته الابداعية، فعقائدية الأدب الاسلامي لا تلغي اهتمامه بالعناصر الفنية، فهي مهمة جداً في الأدب عموماً، ولكن الأهم منها المضمون والهدف. فالتخيل والتغزل والتشبيب والخمريات، كعناصر فنية مستخدمة في المدارس الأدبية، لا يمكن للأديب الاسلامي أن يطبق ـ من خلال انفتاحه عليها ـ العنان لقريحته، بل انه يوظفها لخدمة أدبه، في الحدود والضرورات التي تمليها نظرية الأدب الاسلامي. ومن ذلك، التوقف عند تصوير مشاهد الحب مع الجنس الآخر ـ مثلاً ـ وتصوير المرأة ومفاتنها والعلاقة بها، أو تصوير النشوة وحالة السكر وغيرها.
وقد يعتقد بعضهم ان من غير الممكن صنع الصورة الأدبية العذبة دون المبالغة في استخدام عناصر فنية كالخيال والعاطفة وغيرهما. وقد تصل المبالغة إلى أنواع من الكذب والتهمة والقذف والنفاق والمجون، وكل ما يؤدي إلى الإثارة العاطفية المحرمة.
إذن.. نظرية الأدب الاسلامي لا تسمح بكل ما يؤدي إلى الاصطدام بالشرع المقدس فيما هو غير مشروع من الصور، لأن الأدب ـ كما تقدم ـ غير مستقل عن العقيدة والشريعة وضوابطهما. وعلى العكس من تلك المضامين والصور غير المشروعة التي تسمح المدارس الأدبية الأخرى بصنعها، والتي تفسد الذهن والنفس والروح، فان الأدب الاسلامي يهدف إلى اصلاحها وتهذيبها، وإلى المساهمة في توجيه الحياة الوجهة الصحيحة، وبنائها على الأسس التي يريدها الله سبحانه وتعالى، في حين ان الحياة ـ كما هي ـ هي التي توجه المدارس الأدبية الأخرى وتبنيها، لأن منبعها الأرض وليس السماء.
والأدب ـ كغيره من ألوان الابداع ـ يوظفه الاسلام في سبيل تحقيق هدف وجود الانسان على الأرض. وهذه هي الغاية النهائية للأدب الاسلامي، وفيها تكمن قيمته، فهو ابداع لهدف ولي ابداعاً للابداع، لأنه يحمل رسالة الانسان الإلهي إلى كل بني الانسان. وقيمة الأدب في الاسلام في هدفه وتأثيره، وليس في مقدار الابداع الذي يحتويه. وتقاس قيمته ـ كما يقول الإمام الخامنئي ـ بمعيار التأثير، وليس بمعيار الابداع المجرد. فبهذا التجريد يفقد الأدب قيمته الحقيقية، ولا يبقى ـ حسب سيد قطب ـ سوى عبارات خاوية أو خطوط صماء. وكما يعطي الاسلام قيمة لحياة الانسان، فانه يعطي الأدب قيمة أيضاً.
ويمكن بسهولة استنباط الموقف الاسلامي الأصيل حيال الأدب، من خلال تعامل أهل البيت(ع) معه، ومنه ـ مثلاً ـ الشعر المنسوب للإمام علي ولأهل البيت (ع) وعموم خطبهم وكلماتهم المجموعة في نهج البلاغة والصحيفة السجادية وغيرهما. إذ نرى انهم تعاملوا مع الأدب وسيلة تبليغية، لخدمة الأهداف العقائدية، فشكّل أدبهم أسمى وأرفع أدب اسلامي.
وهذا لا يعني أن الأدب الاسلامي هو أدب الخطاب المباشر، والوعظ والارشاد فقط، أو الأدب الذي تتخلله ـ دائماً ـ الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، أو الذي يستخدم الأساليب والألفاظ والتعبيرات العقائدية والفكرية، إلى المستوى الذي يدفع بعضهم للادعاء بأنه يستمع لخطبة وعظية أو درس عقائدي أو أنه في جلسة ذكر.
كلاّ بالطبع، لا يتطلب الأدب الاسلامي ذلك ـ دائماً ـ رغم ان هذه الألوان من أدب الخطاب المباشر ضرورية أحياناً، بل انه يعمد أيضاً إلى الخطاب غير المباشر، والتوجيه الذي يستبطن مفهوماً قرآنياً أو حديثياً. وعموماً فان تحديد الأسلوب الفني (المباشرة وغير المباشرة) يخضع لطبيعة مخاطب الأديب أو الحالة التي يريد الأديب التعبير عنها و الواقع الاجتماعي الذي يعيشه.
الاسلام لا يريد من الأديب أن يكون مفكراً أو فيلسوفاً أو صوفياً، ولا يريد إخراجه من عفويته، وحرمانه متعة اللحظة الإبداعية، وقولبة إبداعه، وتعقيد فكره ولفظه وأدائه، واضطهاد أحاسيسه، وتحنيط ذوقه الفني، كما قد يقول بعضهم، بل على العكس، ففي الوقت الذي تؤمِّن نظرية الأدب الاسلامي للأديب استخدام جميع العناصر الفنية المباحة، فانه يعطي لأدبه قيمة معنوية، ويضعه أمام مسؤوليته الربانية ورسالته الانسانية، ويجعل لفنه رسالة وهدفاً، كما يتركه لفطرته السليمة وعفويته ولحظاته الإبداعية ووجدانه الواعي وضميره الحي وفكره المنفتح وأدائه الرفيع ولفظه الجميل وأحاسيسه الجياشة وذوقه الفني.
وهذه الفطرة السليمة هي التي يؤكدها الاسلام، ويطلب من الأديب ـ من خلالها ـ أن يتعفف في لفظه وفي دلالات نتاجه الأدبي، أن لا يكذب، لا يقذف، لا يتهم، لا يعبث، أن يتوازن في عواطفه.
وإذا أصرّ الأديب على التيه والضياع والعبث، فسيكون ـ حينها ـ أمام مفترق طريق: إما أن يحتفظ بأدبه لنفسه، وحينها يفقد دوره الحقيقي، أو يصرّ على العبث وإضلال الآخرين، وحينها سيقف أمام مسؤوليته الاجتماعية والانسانية، وفي النهاية أمام مسؤوليته الشرعية، لأن المسؤولية بكل أنواعها لا تعرف (الحرية المطلقة!).
ومما سبق يمكن استخلاص الخصائص النظرية للأدب الاسلامي، فهو إلهي المنبع والمنطلق، عقائدي المصب والهدف والمسؤولية، منتم في مضامينه وأساليبه المنسجمة بعضها مع بعض، انساني وعالمي في نوعية الخطاب ومساحته. وفي الوقت نفسه يولي الأدب الاسلامي العناصر الفنية ـ في حدودها الشرعية ـ اهتماماً بالغاً. وهذه الأخيرة من خصائصه التطبيقية. إلا أن الأدب الاسلامي لا يضحي بخصائصه النظرية من أجل العناصر الفنية مطلقاً.
* * *
هذه مجرد اشارات سريعة إلى واقع الإشكالية الأساسية في نظرية الأدب الاسلامي، إشكالية الانتماء والانفتاح، وليس عرضاً لنظرية الأدب الاسلامي نفسها، إذ يبقى تأسيس هذه النظرية وبلورتها بصيغة متكاملة، اضافة إلى صياغة اتجاهاتها وأساليبها الفنية، يبقى همّاً اسلامياً يتحسسه جميع المعنيين، ولاسيما الأدباء الاسلاميون. وقد يصعب على فرد أو جماعة أخذ هذه المهمة على عاتقهما، لأنها مهمة كبيرة وشاقة يفترض أن يشترك فيها الفقهاء والمفكرون والأدباء والمثقفون معاً.


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الأدب والفنون