إننا ننطلق في تحديد مدوّنة الأخبار التي نعدّها منعتقة من إسار
الواقع من تمييز أوّلي بين الوقائع الملموسة والوقائع غير
الملموسة، وبين الكائنات الفيزيائية التي يمكن التحقّق من وجودها
والكائنات الغيبية التي لا يمكننا أن نثبت وجودها تجريبياً. ومن
هنا فإننا نعدّ الأخبار التي تتحدث عن الجن والشياطين مثلاً،
متحرّرة من الواقع. فهي نتيجة مخيال جماعي يريد أن يفسّر ظواهر
الطبيعة بالاستناد إلى قوى لا تنتمي إلى عالم الحسّ والشهادة. ولكن
الدّارس يلاحظ أن الأخبار التي انحصرت في الواقع الطبيعي، وتلك
التي حلّقت في عالم الخيال متعايشة في كتب الأدب، لأن رواة الأخبار
لم يكونوا يميّزون بين هذين النوعين اللذين ذكرنا، إذ "لمّا كان
عمل الراوي النقل والنقل ليس غيره، كان معبّراً عن رأي غيره في
الحقيقة ومصوّراً لوجهة نظر الآخرين [ ...] ومن هنا نجد [ ...]
تعدّداً في عمل الراوي [ ...] لأنه قد يروي أراء مختلفة ومتعارضة
في أكثر الأحايين". وهذا الوضع المخصوص يجعل من العسير على الباحث
أن يستخلص من هذه الأخبار اتجاهات محدّدة أو مراحل متميّزاً بعضها
من بعض.
على أنه بإمكاننا أن نتبيّن في هذا الضرب من الأخبار درجات متنوعة
في تصوير عالم الغيب تتراوح بين التماثل والجوار ونحن نعني
بالتماثل هيمنة مقوّمات عالم الواقع على عالمَ اللا واقع، أمّا
الجوار فنعني به وجود ضربين من القوانين مختلفين يسيطر أحدهما على
عالم الواقع، ويسيطر الثاني على عالم الغيب.
ومن أمثلة انعتاق الخبر من الواقع. المثل الذي لا يقتصر على الخروج
من عالم الحسّ إلى عالم الغيب، بل يمكن أن يتم بواسطة الانتقال من
عالم حسّ إلى عالم حسّ آخر. ومثاله هذا الخبر: "قال رجل من وجوه
أهل البصرة: حدثت حادثة أيام الفرس فنادى كسرى: الصّلاة جامعة".
فهذا الخبر منعتق من إسار الواقع وإن لم يكن فيه جن ولا شياطين ولا
أموات يقرون الضيف وينشدون الأشعار. وذلك لأن دعوة الحاكم القوم
إلى الصلاة لإخبارهم بما جدّ من أحداث أمر خاصّ بالحضارة العربية
الإسلامية، مستحدث بعد أيام كسرى. فالخبر بهذا المعنى مجاف للواقع
لأنه قام على تصلّب آلي عمل صاحبه على إلغاء الحواجز المكانية
والزمانية، وجعل العالم كلّه صورة ممّا كان سائداً في زمن
المتحدِّث ومحيطه الحضاري.
وأما الجوار فنستشهد عليه بما جاء في أخبار عدّي بن زيد من حديث عن
الحّضْر وهو قصر كان يوجد حيال تكريت بين دجلة والفرات. وكان صاحبه
الضيزن بن معاوية قد أغار فأصاب أختا لسابور ذي الأكتاف وفتك
بأنصاره. فسار إليه سابور في جيشه، وحاصر الحضر أربع سنوات. فلما
حاضت النضيرة بنت الضيزن أخرجت من القصر، فرآها سابور ورأته،
فأعجبته وأعجبها. "فأرسلت إليه: ما تجعل لي إن دللتك على ما تهدم
به هذه المدينة وتقتل أبي؟ قال: أحكّمك وأرفعك على نسائي، وأخصّك
بنفسي دونهنّ؛ قالت: عليك بحمامة مطوّقة ورقاء، فاكتب في رجلها
بحيض جارية بكر تكون زرقاء، ثم أرسلها فإنها تقع على حائط المدينة؛
فتتداعى المدينة، وكان ذلك طلّسمها لا يهدمها إلا هو، ففعل وتأهب
لهم. وقالت له: أنا أسقي الحرس الخمر، فإذا صرعوا فاقتلهم وادخل
المدينة. ففعل فتداعت المدينة، وفتحها سابور عنوة، فقتل الضيزن
يومئذ". والناظر في هذا الخبر يلاحظ أن قوانين العالم الطبيعي قد
توقّفت فاعليّتها وحلّت محلّها قوانين جديدة جعلت الحمامة قادرة في
لحظة على هدم قصر عجزت عنه جيوش جرّارة ظلّت مرابطة حوله أربع
سنوات. فالخبر يفارق الواقع من خلال الخروج عن قوانينه وتصوير عالم
آخر تحكمه الطلّسمات والسحر.
أن اتصال العرب بآداب الروم والفرس والهند قد جعلهم يتنبّهون إلى
خلوّ أدبهم من هذا اللون من القصص، فأخذوا يصطنعون منه لأنفسهم
وينشئون هذا الضرب من الأخبار. إلا أن هذا لم يمنع المبرّد من أن
ينظر إلى هذه الأخبار نظرة استهجان، إذ سمّاها "تكاذيب"، ونسبها
إلى الأعراب.
والأمر اليقيني أن الإسلام أسهم بقدر كبير في تشكيل ملامح المخيال
العربي من خلال قصص الأنبياء وصور الآخرة والجنة وجهنّم والملائكة
والشياطين. وبقدر ما فتحت هذه الجوانب كوى للخبر استطاع من خلالها
أن ينعتق من الواقع المنظور، فإنها كبّلته فظلّ أسيراً في مدارها
لا يملك منه خلاصاً. وفي هذا الإطار يمكننا أن نتحدّث عن الأخبار
الكثيرة التي اتخذت موضوعاً لها علامات النبوّة، ووسمت بالاستباق
التاريخي الذي يتجلّى في علم الأنبياء والحكماء والملوك الماضين
الذين عاشوا قبل البعثة بقرون بأن عصر النبي العربي آت لا محالة.
فالملائكة مثلاً تظهر في بعض الأخبار في صورة كائنات تسكن السماء
وتنزل من حين إلى آخر لأداء مهمّة محدّدة تنسجم ومقتضيات الإسلام.
وهذه الصورة نجدها في خبر الرجل الكلبي الذي كان يقول بمقالة
المانوية، وكان معلّم الوليد بن يزيد فيها. وقد حدّث أحد الرواة
أنه حضر مجلساً للوليد كان فيه هذا الكلبي، ورأى ما كان يصطنعه من
حيل لإقناع الوليد بزعمه. ولكن الكلبي لم يلبث أن خرج بعد أيام إلى
الصحراء، فجاء به أعراب ميتاً وقد انفسخت عنقه. قال الراوي:
"فبلغني ذلك، فخرجت متعمداً حتى أتيت أولئك الأعراب [ ...] فقلت
لهم: كيف كانت قصة هذا الرجل؟ قالوا: أقبل علينا على برذون، فوالله
لكأنّه دهن يسيل على صفاة من فراهته، فعجبنا لذلك، إذ انقضّ رجل من
السماء عليه ثياب بيض، فأخذ بضبعيه فاحتمله ثم نكسه وضرب برأسه
الأرض فدقّ عنقه ثم غاب عن عيوننا، فاحتملناه فجئنا به". فهذا
الرجل الذي دق عنق الكلبي أتى من السماء ثم غاب فجأة عن العيون.
وقد سقط على هذا الكلبي المانوي الذي أفسد عقيدة الوليد أمير
المؤمنين وخليفة رسول الله. فهو ملاك أرسله الله لإنقاذ المسلمين
من شرّ هذا الرجل وللانتقام العاجل منه. وقد استطاع هذا الخبر أن
يوجد ضمن غيره من الأخبار لأنه ارتكز على التراث الإسلامي وسعى إلى
الإفادة منه في دعم الإسلام وزجر أعدائه.
أما الجنّ فقد الرواة مجالاً للقول فيهم وسيعاً، خاصّة لما جاء في
القرآن من قرن بين الشعر والشياطين. وقد نسج هؤلاء الرواة أخباراً
كثيرة حول شياطين الشعراء حتى جعلوا لكل شاعر شيطاناً. وإذا كان
الملائكة على ما ذكرنا من الطهر والصفاء والبهاء فإن الشياطين
مشوّهون، ذوو خلقة بشعة، ففي خبر رواه جرير بن عبد الله البجلي أنه
قال: "سافرت في الجاهلية فأقبلت على بعيري ليلة أن أريد أن أسقيه،
فجعلت أريده على أن يتقدّم فوالله ما يتقدّم، فتقدّمت فدنوت من
الماء وعقلته، ثم أتيت الماء، فإذا قوم مشوّهون عند الماء فقعدت.
فبينا أنا عندهم إذ أتاهم رجل أشدّ تشويها منهم فقالوا: هذا
شاعرهم. فقالوا له: يا فلان أنشد هذا فإنه ضيف، فأنشد:
وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ
فلا والله ما خرم منها بيتاً واحداً حتى انتهت إلى هذا البيت:
تَسْمَعُ لِلْحَلْيِ وَسْوَاساً إِذَا انْصَرَفَتْ كَمَا
اسْتَعَانَ بِرِيحٍ عِشْرِقَ زَجِلُ
فأعجب به. فقلت: من يقول هذه القصيدة؟ قال: أنا. قلت: لولا ما تقول
لأخبرتك أن أعشى بني ثعلبة أنشدنيها عامٌ أوّل بنجران. قال: فإنك
صادق، أنا الذي ألقيتها على لسانه، وأنا مِسْحَل صاحبه". وممّا
يتصل بتشوّه خلقة الجن أن بعض الأخبار تذكر أنهم ملثّمون، وهو ما
ذكرته عائشة أم المؤمنين من أنها خرجت وأزواج الرسول للحج مع عمر
بن الخطاب. قالت: "فلمّا ارتحل عمر من المحصّب أقبل رجل متلثّم
فقال وأنا أسمع: هذا كان منزله، فأناخ بمنزل عمر ثم رفع عقيرته
يتغنى:
عَلَيْكَ سَلاَمٌ مِنْ أمِيرٍ وَبَارَكتْ يَدُ اللهِ فِي ذَاكَ
الأَديِمِ المُمزَّقِ [ ...] قالت عائشة: فقلت لبعض أهلي: اعلموا
لي علمَ هذا الرجل، فذهبوا فلم يجدوا في مناخه أحداً. قالت عائشة:
فوالله إني لأحسبه من الجن. فلما قتل عمر نَحَل الناسُ هذه الأبيات
للشَمّاخ بن ضرار [ت 22 ه] أو جمّاع بن ضرار". وهذا الجني شاعر
ومغنّ، وهو يظهر فجأة ويغيب فجأة أيضاً. وإذا كان شيطان الشاعر
يلقي في رُوع صاحبه الشعر فيقوله، فإن هذا الشيطان ينشد شعره،
ويتولّى الناس نحله الشاعر بعد ذلك. وهو إلى ذلك يعلم الغيب، إذ
تنبأ بمقتل عمر بن الخطاب قبل وقوعه.
إن هذه الأخبار قد نهلت من رصيد المخيال الجماعي، وفيه أن إبليس
حلّ في صورة حيّة وأغرى حواء بأكل التفاحة المحرّمة. ومع ذلك
فإنّها تقدّم غالباً للقارئ أو السامع بوصفها ناقلة للواقع. لكن
مرجعها ليس الأحداث التي وقعت، وإنما هو أساساً مسالك الخيال التي
تكوّنت شيئاً فشيئاً وسار عليها الرواة. وإذا نحن حصرنا حديثنا في
أخبار الجن وجدنا بعض العناصر الثابتة التي تتوفر في أكثر هذه
الأخبار ومنها الإطار المكاني وهو الصحراء، والإطار الزماني وهو
الليل، والأحداث وهي السفر، وضياع الراحلة والامتحان والنجاح
والمكافأة، وفي هذه الحالات يضطلع الماء بدور أساسي فإما أن يسقي
البطلُ الجنيَّ، وإما أن يرشد الجنيُّ البطلَ إلى الماء. والغالب
أن الجنيّ شاعر وأنه يقول الشعر أو يلقيه في ذهن الشاعر الإنسيّ.
وربّما اختُزل الخطاب في مثل هذه الأخبار اختزالاً شديداً فلم يبق
من الخبر إلا الهيكل العظمي أو يكاد. ولكنا، سواء أكنّا بازاء
أخبار الجميل المردود أم بازاء أخبار شياطين الشعر، نعثر في هذه
النصوص على شعر الحكمة الذي يحدّد قيم السلوك الإيجابي، أو على
عيون القصائد المشهورات التي عُرف بها فحول الشعر.
إنّ استقرار هذه الصورة في المخيال الجماعي وتحقّقها في عدد من
الأخبار والأشعار قد جعلها بمثابة السّنّة الأدبية التي مدّت
نفوذها على ميادين شتّى لعلّ من أهمّها ميدان الغناء. ذلك أن تعاظم
قيمة المغنّين في المجتمع العربي الإسلامي قد جعل الرواة يوسّعون
صورة شيطان الشعر، فينسجون على منوالها صورة شيطان المغنيّ. ولنا
في أخبار الغريض نموذج عن المراحل التي تقطعها القصّة حتى تصل إلى
غايتها. فقد جاء فيها أنه تعلّم النوح من مولياته فكان "يدخل
المآتم وتُضرب دونه الحجب، ثم ينوح فيفتن كلّ من سمعه". وهذا
السّحر الذي يفعله النواح في السامعين، يصرَّف ليصبح سحراً يمارسه
المغنّي مع الحجيج على غرار السّحر الذي يُعزَى إلى الشاعر فيصرف
الحاجّ عن مناسكهم. فقد حدّث أحَدُ الرواة أنه كان حاجّا فسمع
ومرافقيه صوتاً لا أَحسَن ولا أشجى. فسألوا عن صاحبه فقيل لهم إنه
الغريض فقصدوه وسألوه أن يغنيهم "فأجابهم. وخرج فوقف حيث لا يُرى
ويُسمع صوته، فترنّم ورجّع صوته وغنّى في شعر عمر بن أبي ربيعة:
أيُّها الرَّائِحُ المُجِدُّ ابْتِكَارَا قَدْ قَضَى مِنْ
تِهَامَةَ الأوْطَارَا
فما سمع السامعون شيئاً كان أحسن من ذلك الصوت، وتكلّم الناس
فقالوا: طائفة من الجنَ حجّاج". ونلاحظ هنا أن ضرب الحجب على
الغريض في المآتم ووقوفه حيث لا يُرى ويُسمع صوته في الموسم، إنما
جيء بهما لإيجاد نوع من التماثل بين المغنّي والجنّي، وهو تماثل
يبرّر أخذ المغنّي، لاستتاره وإجادته الصنعة، مأخذ الجنّيّ.
وليس من شك في أنّ القسم الأكبر من هذه الأخبار لا يصوّر الواقع
ولا يُعنى حتى بمشاكلته، وإنما هو كلام صنعه الرواة للإغراب
أوّلاً، وللتنفّق بعد ذلك. فهو في أغلب الأحيان تلفيق لألفاظ
وعبارات وصور لم تجر على الألسنة، وإنما اتخذها الأخباريون ومؤلفو
الكتب وسيلة من وسائل التعليم. وقد ذكر طه حسين ذلك في معرض حديثه
عن الانتحال فقال: "وهذا النحو من التكلّف والنحل للأغراض
التعليمية الصرفة كان شائعاً في العصر العباسي، ولا سيما في القرن
الثالث والرابع.
على أننا نجانب الصواب إن نحن اقتصرنا على الغاية التعليمية مرقاة
لوضع الأخبار. فالنصوص التي بين أيدينا تثبت أن الرواة كانوا ـ في
القرنين الثالث والرابع ـ يواجهون جمهوراً جديداً له حاجات جديدة،
يسعون إلى الاستجابة لها. ويربط شكري محمّد عياد بين هذا الضرب
الجديد من الأخبار وبين ظهور طبقة "بورجوازية" في الأمصار الكبرى
فيقول إنّ "الطبقة البورجوازية التي نشأت في الأقطار العربية
والمتعرّبة عندما تمركز النشاط الاقتصادي حول الأمصار الجديدة
أرادت أخباراً من نوع آخر، أخباراً تصوّر حياتها وأنماط سلوكها،
وتمتع سامعها أو قارئها في هذا التصوير، وإن لم تراع الدقة في
النقل. وهكذا تميّزت هذه الأخبار بأن أخبارها [كذا!] مستمَدَّة
غالباً من الحياة المعاصرة، وأنّها تمزج الواقع بالخيال".
----------------------------------------
المصدر : الخبر في الأدب العربي