موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الأدب والفنون

الصدق والكذب في الشعر
د. محمد سعد فشوان



لا مندوحة لنا ونحن نتناول قضية الأخلاق في الشعر من مناقشة هذه القضية من جميع جوانبها، اذا لا يمكن الوقوف بالصدق عند الحد المعروف له، وهو مطابقة الواقع، أو الكذب الذي هو مخالفة الواقع خاصة حين نتحدث عن فن له شأن خطير في الحياة، وهو الشعر، لأن "الواقع" في دنيا الناس لا يجب بالضرورة أن يكون كذلك في دنيا الشعراء، اذ لا مجال الى الطعن في أن "الواقع" في الفنون، والشعر واحد من بينها ان لم يكن أرقاها ليس هو "الواقع" الذي يعرفه الناس، ولو اعتقدنا غير ذلك لوقعنا في خطأ جسيم.
وهناك مسألة أخرى تتصل بهذه القضية، ولكنها تخص الشاعر نفسه، وتنحصر هذه المسألة في سؤال فحواه: هل الشاعر مقيد بأن يسلك في شعره طريقا واحدة فلا يتحدث في معنى من المعاني ثم يتحدث بعد ذلك فيما ينقضه؟ أو بعبارة أخرى: هل الشاعر مطالب اذا هو أخذ في معنى من المعاني بأن لا ينسخ ما قاله في وقت آخر؟ وهل يعد "كاذبا" اذا قال الشعر في المعنى ونقيضه؟
ثم هل يكون أشعر بيت كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وان أشعر بيت أنت قائلــه بيت يقال اذا أنشدته: صدقا
أو بعبارة أخرى: هل يكون (أعذب) أو (أحسن الشعر أصدقه) أم (اكذبه)؟
هذا هو أساس القضية، وعليه نبني، منه نبتدىء..
وأول كتاب نبدأ به من كتب التراث هو كتاب "عيار الشعر" لابن طباطبا العلوي (322ه‍) الذي تحدث عن علة حسن الشعر، ورجعها الى الفهم، وما دام الفهم هو منبع الشعر ومصبه فلا غرابة أن يجعل "الصدق" أهم عناصر الشعر، وأكبر مزاياه.
وهذا الصدق الذي يريده ابن طباطبا يتفق وفكرة الاعتدال الجمالي في حمى الفهم، فالجمال والحق أو (الصدق) مترادفان هنا في الدلالة، فهذا الصدق يعني السلامة التامة من الخطا في اللفظ و "الجور" في التركيب، و "البطلان" في المعنى أي أن يتمتع الشعر بالاعتدال بين هذه العناصر جميعا، فاذا هو بسبب هذا الصدق شيء جميل، لأنه ميزان الصواب قبل ما يشتمل عليه من لفظ ومعنى وتركيب.
فهناك الصدق عن ذات النفس "بكشف المعاني المختلجة فيها، والتصريح بما يكتم منها، والاعتراف بالحق في جميعها"، وهذا قريب مما نطلق عليه "الصدق الفني" أو اخلاص المتفنن في التعبير عن تجربته الذاتية.
وهناك صدق التجربة الانسانية العامة، وهذا يتمثل في قبول الفهم للحكمة، لارتياحه "لصدق القول فيها، وما أتت به التجارب منها".
وهناك الصدق التاريخي الذي يتمثل عند "اقتصاص خبر أو حكاية كلام" وهنا يجيز ابن طباطبا للشاعر اذا اضطر أن يزيد، أو ينقص على شرط أن تكون "الزيادة والنقصان يسيرين غير مخدجين لما يستمعان بهما، وتكون الألفاظ المزيدة غير خارجة من جنس ما يقتضيه بل تكون مؤيدة له، وزائدة في رونقه وحسنه".
وهناك نوع رابع من الصدق هو الصدق بمعناه الأخلاقي من غيره، وهو مالا سبيل للكذب فيه بنسبة الكرم الى البخيل، أو نسبة الجبن الى الشجاع وانما هو نقل للحقيقة الأخلاقية على حالها، وهذا يتضح في المدح والهجاء، وفي غيرهما من الفنون، وهو شبيه بموقف عمر رضي الله عنه من زهير، وقد كان يمدح الرجل بما فيه، كما عرف عنه.
وأما النوع الخامس فهو الصدق التصويري أو ما يسميه ابن طباطبا "صدق التشبيه"، وقد نص عليه في غير موضع من كتابه من مثل قوله: "فشبهت (العرب) الشيء بمثله تشبيها صادقا على ما ذهبت اليه في معانيها التي أرادتها".
وقوله: "فأحسن التشبيهات ما اذا عكس لم ينتقض، بل يكون كل شبه بصاحبه مثل صاحبه، ويكون صاحبه مثله متشبها به صورة ومعنى".
وللتشابه انحاء منها: الصورة، والهيئة، والمعنى، والحركة، واللون، والصوت، فكلما زاد عدد هذه الأنحاء في التشبيه قوى: "وتأكد الصدق فيه وحسن الشعر به للشواهد الكثيرة المؤيدة له".
فاذا خرج الشاعر عن الصدق انتقل الى الغلو والافراط، وذلك عيب، ومتى تضمن الشعر "صفات صادقة، وتشبيهات موافقة وأمثالا مطابقة، تصاب حقائقها، ويلطف في تقريب البعيد منها.. أصغى اليه ووعاه، واستحسنه السامع واجتباه".
فاذا توفرت للشعر أنواع الصدق، وتوفر للشاعر صدق التجربة جاء شعرا جميلا معتدلا مؤثرا.
والذي لا شك فيه أن هذه المقاييس التي وضعها ابن طباطبا، وجعلها عيارا للتشبيه والمجاز في الشعر قد جار بها على قوة الخيال، وعنصر التشخيص في الشعر، فهو يعيب قول المثقب العبدي على لسان ناقته:
تقول وقد درأت لها وضينــي:
أهذا دينه أبــداً ودينــي؟
أكل الدهر حــل وارتحـــال
أما يبقى على ولا يقينــي؟
ويرى أن هذه "الحكاية كلها عن ناقته من المجاز المباعد للحقيقة" غير أنه خفف من مغالاته في الحكم على هذين البيتين بقوله "وانما أراد الشاعر أن الناقة لو تكلمت لأعربت عن شكواها بمثل هذا القول".
ويجعل "من الايماء المشكل الذي لا يفهم، وقد أفرط في حكايته قول الآخر:
أومت بكفيها من الهودج
لولاك هذا العـام لم أحجج
أنت الى مكـة أخرجتني
خبيا ولولا أنت لم أخـرج
الذي علق عليه بقوله: "فهذا الكلام ليس مما يدل عليه ايماء، ولا تعبر عنه اشارة".
أما الحاتمي (388 ه‍) فلم يكن له موقف حاسم من قضية "أعذب الشعر أكذبه"، وهي قضية لها صلة ملحوظة بالفكر الفلسفي، فحين تحدث عن الاغراق أو (الغلو) قرر أن العلماء في هذا مختلفون، فبعضهم يرى أن أبيات الغلو من أبدع الشعر الذي يوجب الفضيلة اعتماداً على ما قيل: "أحسن الشعر أكذبه"، ويرى هذا الفريق أنه اذا أتى الشاعر من الغلو بما يخرج عن الموجود، ويدخل في باب المعدوم فانما يراد به المثل وبلوغ الغاية، وفريق آخر يعيب هذا المذهب لمنافاته الحقيقة.
ولم يكن الحاتمي يرى بأسا من ايراد نماذج من الغلو في كتابه "حلية المحاضرة" يسمى كل بيت منها "أبدع بيت قيل في الاغراق" دون أن يكون منتميا الى أحد الفريقين في جرأة، وعلى نحو واضح.
وحين زاد المرزوقي (أبو علي أحمد بن محمد) (421ه‍) من اتساع نظرية "عمود الشعر" فانه جعلها ذات وسط وطرفين، فأما أن يعمد الشاعر الى تحقيق العناصر التي يقوم عليها عمود الشعر عن طريق "الصدق"، وأما أن يذهب مذهب الغلو، وأما أن يكون مقتصدا بين بين، ولكل جانب انصاره الذين يؤثرونه.
واذا كنا قد رأينا أن النقاد قبله فئتان: فئة تقول: "أحسن الشعر أكذبه" وأخرى تقول: "أحسن الشعر أصدقه" فانه قد زاد _بذلك _ فئة ثالثة تقول: أحسن الشعر أقصده.
وابن حزم (أبو محمد بن حزم الأندلسي) (463ه‍) يأخذ برأي من يقول: "أحسن الشعر أكذبه"، ولذلك رأى أن الشعر مبنى على (الاغراق) فاذا أخذ الشاعر في الصدق فقال: "الليل ليل، والنهار نهار" أصبح محطا للهزء والسخرية، وهذا الاغراق تصدقه الأدلة القرآنية في الشعراء، ولهذا نهى النبي عن الاكثار منه إلا ما خرج عن حد الشعر فكان مواعظ وحكما ومدحا للنبي (ص).
وأما ابن بسام الشنتريني (542ه‍) فقد كان ناقدا محافظا _ان صح التعبير_ ولهذه الروح رفض أن يضمن مؤلفه "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" أي موشح خضوعا لما جرت به العادة في المؤلفات المخلدات، وان كانت الموشحات مطربة الى حد "أن تشق على سماعها مصونات الجيوب، بل القلوب"، وتمشيا مع هذه الروح، ومع حقيقة أندلسية واقعية فانه يمقت الشعر حين يبتعد عن الصدق الواقعي.
ونقطة ثانية تتصل بموقف حازم القرطاجني _684ه‍ _ 1285م) من هذه القضية، (قضية الصدق والكذب في الشعر)، وكان قد خضع في مقاييسه النقدية للأثر الفلسفي الذي استوحاه من الفارابي وابن سينا، غير أنه _فيما يبدو _ لم يحاول أن يجري في مضمار من سبقوه وانما انفرد باستنتاجات جديدة، حيث فرق بين الشعر والخطابة، وقرر أن الشعر قائم على "التخييل" والخطابة قائمة على "الاقناع" وكان الفارابي قد قال: ان الأقاويل الشعرية كاذبة بالكل لا محالة، لأنها قائمة على "التخييل". ورغم ذلك ترجع الى نوع من أنواع القياس، وأن لهذا التخييل قيمة البرهان في العلم، وسمى هذا التخييل باسم المحاكاة، ورآها لذلك أهم عنصر في الشعر، ولكنها ليست في الخطابة، اذ تقوم على الاقناع، فهي "صادقة" بالمساواة (أي أن الصدق والكذب فيها متساويان)، ولكن حازما ذهب من الأسس التي صاغها الفارابي في منحى آخر.. فالتخييل في الشعر كما قال الفارابي قد ينقل الشيء على ما هو عليه، أو يخيله على غير ما هو عليه، فهو أحق بأن يقال فيه: ان مقدماته تكون (اذا نقل الشيء على ما هو عليه) صادقة، وتكون "اذا خيل الشيء على غير ما هو عليه" كاذبة.
ويعلل لذلك بقوله: "اذ ما تتقوم به الصناعة الشعرية، وهو التخييل غير مناقض لواحد من الطرفين، فلذلك كان الرأي الصحيح في الشعر أن مقدماته تكون صادقة، وتكون كاذبة، وليس يعد شعرا من حيث هو صدق، ولا من حيث هو كذب، بل من حيث هو كلام مخيل".
ويدخل الصدق والكذب عند حازم في الحكم على أفضل الشعر وأردئه، فأفضل الشعر "ما قويت شهرته أو صدقه، أو خفى كذبه". وأردؤه "ما كان قبيح المحاكاة والهيئة، واضح الكذب".
وبعد أن ساق قول الجاحظ: "ليس شيء إلا له وجهان وطريقان فاذا مدحوا ذكروا أحسن الوجهين، واذا ذموا ذكروا أقبحهما" قال: "وأنا أذكر الاتجاه التي يترامى اليها صدق الشعر، وكذبه بما يقتضيه أصل الصناعة ويوجبه، وهو الذي يعتمده المطبوعون من الشعراء، وهي ثمانية أنحاء".
وخلاصة القول هنا أن الشعر انما ينظر اليه من ناحية تأثيره، وقدرته على أحداث الانفعال النفسي، فقد يكون صادقا، والصدق فيه قادر على احداث الانفعال، وقد يكون صادقا والصدق فيه عاجز عن احداث الانفعال، وحينئذ يكون الكاذب القادر على احداث الانفعال خيرا منه، وقد استشهد حازم في هذا الصدد بقول الفارابي: "الغرض المقصود بالأقاويل المخيلة أن ينهض السامع نحو فعل الشيء الذي خيل له فيه أمر ما من طلب له، أو هرب عنه" وكأنه لم يطلع على قول الفارابي: ان الأقاويل الشعرية كلها كاذب، ولهذا ساوى بين موقفه وموقف ابن سينا فقال: "فأنت ترى هذين الرجلين كيف جعلا التخييل قد يكون بما هو حقيقة في الشيء، وقد يكون بما لا حقيقة له".
وقد وقف حازم من المتكلمين الذين أشاعوا نسبة الكذب الى الشعر موقفا عنيفا، حيث اتهمهم بأنهم لا علم لهم بالشعر، لا من جهة مزاولته ولا من جهة الطرق الموصلة الى معرفته، كما اتهمهم بضعف بضاعتهم في النقد، لأن المقدمات اليسيرة في الفصاحة والبلاغة لا تكفي، لأن صناعة البلاغة لابد فيها من انفاق العمر "فهي البحر الذي لم يصل أحد الى نهايته مع استنفاد الأعمار فيها".
----------------------------
المصدر : الدين والاخلاق في الشعر


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الأدب والفنون