موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الأدب والفنون

الخطب
د. محمود عبد الرحيم صالح



شهد فنُّ الخطابة رواجاً وازدهاراً في العصر الجاهلي وعصر صدر الإسلام والعصر الأموي، وذلك لأهمية الخطابة وقوة تأثيرها، ولتوافر حرية القول، ومن هنا فقد احتلت الخطابة موقعاً متقدّماً بين فنون القول النثرية، فكانت ذات مكانة مهمة ومستوى فني رفيع في العصور المذكورة.
فلما جاء العصر العباسي حافظت الخطابة على مكانتها ومستواها الفني الرفيع في بداية العصر، لكنها لم تلبث على ذلك طويلاً حتى خفتت، ويرجع هذا الخفوت الى سببين رئيسيين، هما:
1_ أن العباسيين لم يطلقوا لها الحرية التي كانت تؤدّي إلى قوتها وازدهارها من قبل.
2_ أنّ فنوناً نثرية أخرى نافستها على مكانتها.
وهكذا زُحزحت الخطابة في عصر بني العباس عن مكانتها الرفيعة التي كانت تحتلّها قبل عصرهم، وأصبح النثر المكتوب على الورق ينافس النثر الشفاهي ويحتل مكانته.
وإذا نظرنا إلى أنواع الخطب السائدة في عهد بني العباس فإننا نجد أنها مماثلة للأنواع السائدة فيما سبقه من عصور، وهي: الخطب السياسية، والخطب الدينية، والخطب الحربية، وخطب الوفادة والاحتفالات، وخطب النكاح. وسوف نتحدث فيما يأتي عن هذه الأنواع، مبيّنين أسباب قوتها أو ضعفها، مختارين نماذج منها.
الخطب السياسية:
كان العباسيون _ في بداية عهده_ يسعون الى تثبيت حكمهم وتوطيد الدعائم لملكهم، فاستخدموا الخطابة للذبّ عن أنفسهم واجتذاب الناس إليهم. ومن هنا فقد حافظت الخطابة السياسية على مكانتها ومستواها في عهود الخلفاء العباسيين الأوائل، غير أنّ العباسيين _بعد أن استتب لهم الأمر _ عملوا على تكميم الأفواه وإخماد أصوات معارضيهم، فضعفت الخطابة السياسية، لعدم توافر حرية القول، ولضعف الأحزاب السياسية المعارضة تحت وطأة العباسيين وشدّتهم.
ومن الخطب السياسية التي قيلت في أوان ازدهار الخطب السياسية في هذا العصر، خطبة أبي العباس عبد الله بن محمد بن علي المعروف بالسفاح التي ألقاها في الكوفة بعد أن بايعه وجوه القواد، وركب ومن معه حتى أتوا قصر الإمارة، ثمّ دخل المسجد الجامع، وذلك في شهر ربيع الأول _أو ربيع الآخر _ سنة 132ه‍.
افتتح أبو العباس السفاح خطبته بقوله "الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه فكرّمه وشرّفه وعظّمه، واختاره لنا، وأيده بنا، وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقُوام به الذابيّن عنه".
ثم ذكر قرابة العباسيين من النبي _ صلى الله عليه وسلم_ في آيات القرآن الكريم، ومنها قوله تعالى: "إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا".
ثم قال: لمّا قبض الله نبيّه قام بالأمر أصحابه الى أن وثب بنو حرب ومروان فجاروا واستأثروا، فأملى الله لهم حيناً حتى آسفوه، فانتقم منهم بأيدينا، وردّ علينا حقّنا ليمنّ بنا على الذي استضعفوا في الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله. يا أهل الكوفة، أنتم محلّ محبّتنا، ومنزل مودّتنا، لم تفتُروا عن ذلك، ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور، فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا. وقد زدتُ في اُعطياتكم مائة مائة، فاستعدّوا فأنا السفّاح المبيح، والثائر المبير".
وقال أيضاً: "زعمت السبئية الضُّلال أنّ غيرنا أحقُّ بالرياسة والخلافة منّا، فشاهت وجوههم، بِمَ ولِمَ أيُّها الناس؟ وبنا هدى الله الناسَ بعد ضلالتهم، وبصّرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم".
والسبئية التي ورد ذكرها هنا هي فرقة من الغلاة، تنسب نفسها الى الشيعة، وقد ذكرها السفّاح ليوحي للناس أنّه لا يماري في حقّ العباسيين في الرياسة والخلافة الا السبئية الضلاّل، وأن غيرهم يسلّم لبني العباس بهذا الحق، لأنهم من آل البيت _ كما ذكر في أول الخطبة، ولإنهم خلصوا الناس من جور بني أمية، وأنقذ الله الناس بهم بعد الهلكة والجهالة والضلالة" وجمع الفرقة حتى عاد الناس _بعد العداوة _ أهل تعاطف وبرّ" _ كما قال فيما بعد.
وكانت الشيعة جبهة المعارضة القوية، فثار أئمتها ضدّ العباسيين واستخدموا الخطابة في ثوراتهم لاجتذاب الناس اليهم وتأليبهم على العباسيين. فمن ذلك خطبة محمد بن عبد الله بن الحسن، المعروف بالنفس الزكية، الذي كان قد ثار في المدينة المنورة سنة 145ه‍ ضدّ أبي جعفر المنصور. ومنها قوله:
"إنّ أحقّ الناس بالقيام في هذا الدين، أبناء المهاجرين والأنصار المواسين. اللهم إنّهم _يعني العباسيين _ قد أحلّوا حرامك، وحرّموا حلالك، وأمنوا من أخفت، وأخافوا من أمّنت. اللهم فأحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
‍ أيّها الناس، إنّي _والله _ ما خرجتُ من بين أظهركم وأنتم عندي أهل قوّة ولا شدّة، ولكنّي أخترتكم لنفسي. والله ما جئتُ هذه وفي الأرض مصُرُ يُعبَدُ الله فيه إلا وقد أُخذ لي فيه البيعة".
وقد يلفت النظر أن يعترف الامام محمد النفس الزكية لأبناء المهاجرين والأنصار بأنهم "أحقّ الناس بالقيام في هذا الدين" لكنّه _فيما يبدو _ اراد أن يتألفهم بهذا القول _علماً أنّه واحدٌ منهم _ وأراد في الوقت نفسه تأكيد عدم استحقاق بني العباس لهذا الأمر، لأنّ جدّهم العباس لم يكن من المهاجرين الأوّلين ولا من الأنصار المواسين.
لقد كان كلُّ من العباسيين والشيعة يركّزون في خطبهم على أنّهم أحقٌّ بالخلافة من غيرهم لقرابتهم من النبي _صلى الله عليه وسلم _ ويبدو هذا الأمر واضحاً من أقوالهم وممّا رواه المسعودي في حديثه عن ثورة محمد بن عبد الله النفس الزكية، فقد ذكر أنّ أبا جعفر المنصور دعا إسحاق بن مسلم العقيلي، وكان شيخاً ذا رأي وتجربة، فاستشاره في كيفية القضاء على ثورة النفس الزكية، فقال إسحاق: "ترميه بمثله، إذا قال: أنا ابنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال هذا: وأنا ابنُ عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم". فقال المنصور لعيسى بن موسى: إمّا أن تخرج إليه واُقيم أنا امدُّك بالجيوش، وإمّا أن تكفيني ما اُخلّف ورائي، وأخرج أنا إليه". فقال عيسى: "بل أقيك بنفسي يا أمير المؤمنين، وأكون الذي يخرج إليه" فأخرجه إليه في أربعة آلاف فارس وألفي راجل، وتبعه محمد بن قحطبة في جيش كثيف، فقاتلوا محمداً _النفس الزكية _ بالمدينة حتى قُتل".
هذه سياسة العباسيين في مواجهة الخارجين عليهم من آل البيت، وهي تقوم _كما رأينا _ على مواجهة الأقوال بالأقوال، ومقارعة الحجّة بحجّة مثلها، ومواجهة القوّات الثائرة بجيش كثيف لسحقها.
أمّا في مواجهة الخارجين الآخرين فقد كانت الأقوال والخطب تأتي في مرحلةٍ لاحقةٍ بعد استخدام الحيلة والقوّة.
وهذا ما يبدو واضحاً في موقف أبي جعفر المنصور من حركة التمردّ التي تزعمها أبو مسلم الخراساني، فقد أعدّ المنصور القوّة لملاحقة أبي مسلم، واحتال عليه حتى استقدمه، ثم بطش به. وبعد قتله شنّ المنصور حملة إعلامية، وظّف فيها الشعر والخطابة، وألقى هو نفسه خطبة في الناس قال فيها:
"أيّها الناس، لا تخرجوا عن أنس الطاعة إلى وَحشة المعصية، ولا تُسرّوا غش الأئمة، فإنّ من أسرّ غش إمامه أظهر الله سريرته في فَلتَات لسانه وسقطات أفعاله، وأبداها الله لإمامه الذي بادر بإعزاز دينه به، وإعلاء حقه بفَلجه.
إنّا لم نبخسكم حقوقكم، ولم نبخس الدين حقّه عليكم. إنّ مَن نازعنا عروة هذا القميص أوطأناه ما في هذا الغمد. وإنّ أبا مسلم بايَعَنا وبايع لنا على أنّه من نكث بيعتنا فقد أباح لنا دمه، ثم نكث بيعته هو، فحكمنا عليه لأنفسنا حُكمَهُ على غيره لنا، ولم تمنعنا رعايةُ الحق له إقامة الحقّ عليه".
وتكشف خطب العباسيين أيضاً عن سياستهم تجاه الرعيّة، فإنّ مَن أراد العيش في أمان فعليه أن يلتزم بالطاعة وإيثار السلامة وعدم التعرّض لسياسة الدولة بالنقد أو بالتجريح، وهذا معنى ما ذكرناه في موضعٍ قريب من أن العباسيين عملوا على تكميم الأفواه، وهو يبدو في قول المنصور "الملوك تحتمل كل شيءٍ إلا ثلاثةَ خِلالٍ: إفشاء السر، والتعرُّض للحرم، والقدح في الملك".
ويبدو هذا أيضاً في الخطبة التي ألقاها أبو عبد الله المهدي في بغداد عندما تولى الخلافة، والتي قال فيها:
"أيّها الناس، أسرُّوا مثل ما تُعلنون من طاعتنا نَهَبكُم العافية، وتحمدوا العاقبة. واخفضوا جناح الطاعة لمن نشر مَعدَلَتَهُ فيكم، وطوى الإصر عنكم، وأهال عليكم السلامة من حيث رآه الله مقدماً ذلك. واللهِ لاُفنينَّ عمري بين عقوبتكم والإحسان إليكم".
الخطب الدينية:
كانت الخطابة الدينية _وما زالت _ حَرّيةً بالتقدُّم والرقيّ والازدهار، لأنّ الاسلام قد وفّر لها الفرص ومهّد لها السبل لتحقيق ذلك، إذ جعلها تُواكب الدعوة الإسلامية وتعالج القضايا التي تتصل بمصالح المسلمين، وجعلها واجبةً في بعض الصلوات كصلاة الجمعة والعيدين. ومن هنا فقد ازدهرت الخطابة في عصر صدر الاسلام والعصر الأموي أيّما ازدهار.
وفي العصر العباسي توفّرت الأسباب التي أدّت إلى ازدهار هذا النوع من أنواع الخطابة، فالفرص التي أُتيحت لتقدّم الخطابة الدينية في عصر صدر الاسلام والعصر الأموي ظلّت متاحةً لها في عصر بني العباس. ولكن وُجدت أسباب أُخرى جعلت هذه الخطابة تضعف قليلاً قليلاً، ثم تدخل في طور الجمود. وأهمُّ ما يُشار إليه في هذا الصدد الأسباب الآتية:
1_ أنّ بعض الخطباء أخذوا يخطبون بكلام غيرهم، فعلى سبيل المثال "نجد هارون الرشيد يستنُّ سنّةً كانت سبباً في أن تضعف هذه الخطابة على ألسنة الخلفاء، إذ طلب إلى الأصمعي أن يُعدّ لابنه الأمين خطبةً يخطب، بها يوم الجمعة، كما طلب الى إسماعيل اليزيدي وابن أخيه أحمد أن يُعدّا خطبة مماثلة يخطب بها المأمون، وبذلك سنّ للخلفاء أن يخطبوا بكلام غيرهم... ومعروف أنّ الولاة كانوا يجمعون بين الولاية والصلاة، ويظهر أنهم أخذوا مع مرّ الزمن يخطبون بكلام غيرهم، وقد يندبون من يقوم مقامهم في الصلاة والخطابة، ويذكر الجاحظ: عن محمد بن سليمان العباسي _والي البصرة والكوفة لعهد المنصور والمهدي _ أنه كانت له خطبة يوم الجمعة لا يغيرها، وهي خطبة قصيرة".
هذا فيما يتعلّق بالخلفاء والولاة، أما فيما يتعلق بخطباء المساجد فقد وضع عبد الرحيم بن محمد المعروف بابن نباته الفارقي، في القرن الرابع الهجري، مجموعة من الخطب التي تقال على مدار السنة، فظلّ كثير من أئمة المساجد يتداولونها في عصره وفي العصور اللاحقة، وامتدّ تداولها بينهم حتى العصر الحاضر.
2_ أنّ الخطب الدينية قد أصبحت زاخرةً بالقوالب الجاهزة والعبارات المحفوظة التي تفرض نفسها على كلّ خطبة. ومن أمثلة ذلك أنّ المهدي خطب ذات مرة خطبة على منبر البصرة قال فيها: "إنّ الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثَنّى بملائكته، فقال: "إن الله وملائكته يصلّون على النبي" الآية آثره بها من بين الرسل إذ خصّكم بها من بين الاُمم".
وعقّب جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911ه‍ على هذه العبارة بقوله: "وهو أول من قال ذلك في الخطبة، وقد استنّها الخطباء الى اليوم".
3_ أن الخطب الدينية قد خرجت في كثير من الأحيان عن الغرض الذي شُرعت له، فهذه الخطب شُرعت في الاسلام لمعالجة الأحداث المتجدّدة والوقائع الجارية، ولكنها خرجت عن ذلك في فترات متعددة من العصر العباسي؛ نظراً لضيق صدر السلطة الحاكمة وعدم تقبُّلها للنقد. وقد مرّ بنا قول أبي العباس السفّاح: "استعدوا فأنا السفّاح المبيح، والثائر المبير". وقول أبي جعفر المنصور إنّ مَن نازعنا عروة هذا القميص أوطأناه ما في هذا الغمد. وقول المهدي: "والله لأفنينّ عُمري بين عقوبتكم والإحسان اليكم". ومن هنا فقد آثر كثيرٌ من الخطباء السلامة، فأصبحت خطبهم وعظاً خالصاً لا يتصل بالاحداث المتجدّدة، وكلاماً مستعاراً أو مُعاداً مكروراً.
وقد اقتبس الخطباء الذين جعلوا خطبهم وعظاً لا يتصل بالأحداث المتجددة منهجهم هذا من الخطب الدينية التي القاها الخلفاء العباسيون أنفسهم، فقد دأبوا على وعظ الناس ومطالبتهم بالتوبة والانابة قبل ان يلبوا نداء الموت. وهذا المعنى يكاد يكون هو القاسم المشترك بين الخطب الدينية للخلفاء العباسيين، فمن ذلك خطبة هارون الرشيد التي يقول فيها: "عباد الله، أنكم لم تُخلقوا عبثاً، ولن تتركوا سُدى. حصنوا ايمانكم بالامانة، ودينكم بالورع، وصلاتكم بالزكاة، فقد جاء في الخبر ان النبي _صلى الله عليه وسلم _ قال: "لا ايمان لم لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له، ولا صلاة لمن لا زكاة له". انكم سَفرٌ مُجتازون، وأنتم عن قريبٍ تُنقلون من دار فناء الى دار بقاء. فإن الله _تعالى ذكره _ أوجب رحمته للمتّقين، ومغفرته للتائبين، وهداه للمنيبين".
ومثل ذلك خطبة المأمون التي يقول فيها: "اتقوا الله _عباد الله _ وأنتم في مهل، بادروا الأجل، ولا يغرنكم الأمل، فكأنى بالموت قد نزل، فشغلت المرء شواغله وتولت عنه فواضله، وهُيئت أكفانه، وبكاه جيرانه، وسار إلى التراب الخالي، بجسده البالي، فهو في التراب عفير، وإلى ما قدَّم فقير".
الخطب الحربية:
إنّ العصر الذهبي للخطب الحربية هو العصر الذي شهد معارك الفتح الاسلامي في أيام الخلفاء الراشدين وبني أمية، وشهد أيضاً الحروب الناشئة عن الفتنة التي مني بها المسلمون منذ أواخر عهد عثمان بن عفان.
غير أن الخطب الحربية خَفَت صوتُها مع ركود حركة الفتح وضعف شوكة الاحزاب المعارضة في العصر العباسي، وإن كانت الحروب التي شهدها هذا العصر بين العباسيين والروم أو بين العباسيين والخارجين عليهم، قد ظلّت حافزاً لإلقاء الخطب الحربية بين حينٍ وآخر.
ولعل أول ما يتبادر إلى الذاكرة من هذه الخطب، خطبة أبي العباس السفّاح التي ألقاها في أهل الشام بعد انتصار العباسيين على الامويين في معركة (الزاب) وقَتل مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، وقال فيها:
"ألم تَرَ الى الذين بدّلوا نعمة الله كفراً، وأحلُّوا قومهم دار البوار جهنّمَ يصلونها وبئس القرار" نكص بكم _يا أهل الشام _ آل حربٍ وآلُ مروان، يتسكّعون بكم الظُّلم، ويتهوَّرون بكم مداحضَ الزّلق، يطؤون بكم حُرَمَ الله وحُرم رسوله، ماذا يقول زعماؤكم غداً؟ يقولون: ربّنا، هؤلاء أضلّونا، فأتهم عذاباً ضعفاً من النار. إذ يقول الله _عزوّ وجلّ: لكّلٍ ضعفٌ، ولكن لا تعلمون. أمّا أمير المؤمنين فقد ائتنف بكم التوبة، واغتفر لكم الزلّة، وبسط لكم الإقالة، وعاد بفضله على نقصكم، وبحلمه على جهلكم. فليفرخ روعكم، ولتطمئنّ داركم، ولتعظكم مصارعُ أوائلكم، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا".
وفي القرن الرابع الهجري ظهر بطل من أبطال الاسلام الذين خاضوا حروباً عديدة لحماية البلاد والعباد من الهجمات الخارجية، وهو سيف الدولة الحمداني الذي خاض المعارك البطولية ضدّ الروم. وقد وضع ابن نباته الفارقي خطباً كثيرة في الحثّ على قتال الروم، وكان لهذه الخطب أثر في إلهاب حماس الناس للجهاد، ممّا جعل بعض الباحثين يشبّه ابن نباته في مجال الخطابة بأبي الطيّب المتنبي في مجال الشعر، ويقول "كان له على أعواد المنابر في حلب والموصل من الخطب الجياد ما للشاعر المتنبي على دوحة الشعر من أروع القصيد وأقوى النشيد".
وقد نهضت الخطابة الحربية بشكلٍ مميزّ عندما هبّت القوى الضاربة الإسلامية لمواجهة الهجمة الشرسة التي شنّها أدعياء الصليب على ديار الإسلام. فقد اُتيح لهذه الأمة عدد من الزعماء والقادة العظماء _مثل عماد الدين زكي، ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي _الذين جدّدوا للأمة عهد الصحابة والفتوح، فخاضوا معارك الشرف والبطولة، ووقف الخطباء الى جانبهم، يحضُّون الناس على الجهاد، ويواسونهم في الهزائم، ويشيدون ببطولاتهم ويهنّئونهم بالانتصارات.
ومن يقرأ كتاب الروضتين لأبي شامة المقدسي، وغيره من الكتب المتعلقة بهذه الفترة، يجد خطباً مرموقة، تدلّ على أنّ الخطابة بوجهٍ عامّ وخطب الحرب بوجهٍ خاصّ عادت إلى مكانتها السامية التي كانت لها من قبل.
وفيما يأتي جانب من الخطبة التي ألقيت بعد تحرير مدينة القدس من الصليبيين في شهر رجب سنة 583ه‍، وقد ألقاها القاضي محيى الدين محمد بن علي، فافتتحها بتلاوة كلّ آيات الحمد التي وردت في القرآن الكريم، ثم قال: "الحمد لله معزّ الإسلام بنصره، ومذلّ الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومديم النعم بشكره، ومستدرج الكفّار بمكره. الذي قدّر الأيام دُولاً بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاء على عباده من ظلّه، وأظهر دينه على الدين كلّه...
أحمده على إظفاره، وإعزازه لأوليائه ونصره لأنصاره، وتطهير بيته المقدّس من أدناس الشك وأوضاره.. أيها الناس: أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى والدرجة العليا، لما يسرّه الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة من الأمّة الضالة، وردّها إلى مكانها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريباً من مائة عام ... والمسجد الأقصى ... فهو موطن أبيكم إبراهيم، ومعراج نبيكم محمد (عليه السلام)، وقبلتكم التي كنتم تصلّون إليها في ابتداء الإسلام، وهو مقرُّ الأنبياء ومقصد الأولياء ومدفن الرسل ... فلولا أنكم ممّن اختاره الله من عباده، واصطفاه من سكّان بلاده، لما خصّكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها جارٍ، ولا يباريكم فيها مُبارٍ. فطُوبى لكم من جيشٍ ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية والواقعات البدرية والعزمات الصدّيقية والفتوحات العمُرية والجيوش العثمانية والفتكات العلوية. جدّتم للإسلام أيام القادسية والملاحم اليرموكية والمنازلات الخيبرية والهجمات الخالدية. فجزاكم الله عن نبيه محمدٍ _صلى الله عليه وسلم _ أفضل الجزاء، وشكر لكم ما بذلتموه من مُهجكم في مقارعة الأعداء، وتقبل منكم ما تقرّبتم به إليه من إهراق الدماء، وأثابكم الجنة دار السعداء..."
‍ خطب النكاح:
تسمى خطب النكاح أيضاً باسم خطب الزواج أو خطب الإملاك. وقد استثقلها المسلمون منذ عهدٍ مبكر، فهذه الخطب _كما يقول الاستاذ محمد عبد الغني حسن "من أشد أنواع الخطب إجهاداً للخاطر وكداً للنفس، ولذلك قال عمر بن الخطاب _رضى الله عنه: ما يتصعّدني كلامٌ كما تتصعّدني خطبة النكاح". "ولعل ذلك راجع لضيق مجال القول فيها، ولما تتطلّبه من مدحٍ قد لا يجري على سجيّة الخطيب، ولأن مذاهب القول فيها محصورة بين الرغبة والقبول".
وقد أكثر الناس من النسج على منوال خطبتي نكاح، هما:
1_ الخطبة التي ألقاها أبو طالب عند تزويج النبي _صلى الله عليه وسلم _ من خديجة بنت خويلد. وهذه الخطبة هي أشهر خطبة نكاح في تاريخ الأدب العربي.
2_ الخطبة المأثورة عن الإمام علي الرضا، التي قال فيها. بعد حمد الله والصلاة على النبي وآله، وتلاوة قوله تعالى: "وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً". وقوله: "وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسعٌ عليم".
"لو لم يكن في المناكحة والمصاهرة آية مُحكمة مُنزلة، ولا سُنّةٌ متّبعة، لكان فيما جعل الله فيها من برّ القريب وتألف البعيد ما رغب فيه العاقل اللبيب، وسارع اليه الموفق المصيب. فأولى الناس بالله من اتبع أمره وأنفذ حكمه، وأمضى قضاءه ورضي جزاءه، ونحن نسأل الله تعالى أن ينجز لنا ولكم على أوفق الأمور.
ثم ان فلان بن فلان من قد عرفتم مروّته وعقله وصلاحه ونيتّه وفضله، وقد أحب شركتكم وخطب كريمتكم فلانة، وبذل لها من الصداق كذا، فشفعوا شافعكم، وأنكحوا خاطبكم في يسر غير عُسر. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم".
وتبدو الخطبة التي ألقاها المأمون في تزويج بعض أهل بيته كأنها نسخة مبيضة من الخطبة السالفة، إذ إنه بعد حمد الله والصلاة على النبي وتلاوة الآية الكريمة "وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين.." قال: "لو لم يكن في المناكحة آية محكمة ولا سنّة متّبعة، إلاّ ما جعل الله في ذلك من تأليف البعيد والقريب، لسارع إليه الموفّق المصيب، وبادر إليه العاقل النجيب. وفُلان مَن قد عرفتموه، في نسبٍ لم تجهلوه، خَطَب إليكم فتاتكم فلانة، وبذل لها من الصداق كذا وكذا. فشفّعوا شافعنا، وأنكحوا خاطبنا، وقولوا خيراً تُحمدوا عليه وتُؤجروا. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم".
وبهذا نرى أن هذا النوع من الخطب دخل في طور الجمود في وقتٍ مبكر، فأصبح يُعاد ويكررّ كعبارات الأماني الطّيبة بالبركة وتعظيم الأجر والسلامة التي تقال في الأفراح والأعياد والأحزان والأسفار.
خطب الوفادة:
ضعفت خطب الوفادة في العصر العباسي، فأصبحت قليلة العدد قليلة الشأن؛ وذلك لأن خلفاء بني العباس لم يكونوا يرحّبون بوفود العرب ووفود البلدان التي كانت تفد على النبي _صلى الله عليه وسلم _ وعلى الخلفاء الراشدين، وتقصد قصور بني أمية فتقابل بالترحيب والتكريم. ولعلّ أوضح الامثلة على ذلك موقف المأمون من وفد أهل الكوفة، فقد "قدم وفد الكوفة الى بغداد، فوقفوا للمأمون، فأعرض عنهم، فقال شيخ منهم: "يا أمير المؤمنين، يدك أحقٌّ يدٍ بتقبيل، لعلوّها في المكارم، وبُعدها من المآثم. وأنت يوسفيُّ العفو في قلّة التثريب. من أدراك بسوءٍ جعله الله حصيدَ سيفك وطريدً خوفك، وذليل دولتك".
وفي مرة أخرى اجتمع أهل الكوفة لدى المأمون، يشكون اليه عامله على الكوفة، فقال لهم: "انا عازم على القعود لكم في غداة غد، فاختاروا رجلاً يتولّى المناظرة عنكم، فأنا أعلم بكثرة كلامكم". فحضروا من الغد، وقد انتدبوا رجلاً أطروشاً لكي يتحدّث بالنيابة عنهم، فقال له المأمون: "ما تشكو من عاملكم"؟ فقال: "يا أمير المؤمنين، هو شر عامل في الأرض؛ أما في أول سنة ولينا فإنا بعنا اثاثنا وعقارنا، وفي السنة الثانية بعنا ضياعنا وذخائرنا، وفي السنة الثالثة خرجنا عن بلدنا، فاستغثنا بأمير المؤمنين ليرحم شكوانا ويتطوّل علينا بصرفه عنّا ". قال المأمون: كذبت، لا أمان لك، بل هو رجلٌ أحمدتُ سيرته ومذهبه، وارتضيتُ دينه وطريقته، واخترتُه لكم لمعرفتي بكثرة سخطكم على عمالكم. فقال الكوفي: "صدقت، وكذبتُ أنا، ولكن هذا العامل الذي ارتضيت دينه وأمانته وعفّته وعدله وإنصافه، كيف خصصتنا به هذه السنين دون البلاد التي قد الزمك الله عز وجل من العناية بامورها مثل ما الزمك من العناية بأمرنا؟ فاستعمله على هذه البلاد حتى يشملهم من إنصافه وعدله مثل الذي شملنا. فقال المأمون قُم في غير حفظ الله، فقد عزلته عنكم".
ولا يخفى ما لمثل هذا الموقف من تأثير سلبى على خطب الوفادة، فقد أصبحت ضعيفة الشأن، وانحصرت في المناسبات التي تحدث في القصر، وصار الخطباء يُلقون خطبهم بصفتهم الشخصية أي بالاصالة عن أنفسهم، لا بالنيابة عن وفدٍ يمثّلونه ويتكلّمون باسمه. فمن ذلك خطبة عبد الله بن عمرو بن عتبة عندما دخل على المهدي لتهنئته بالخلافة وتعزيته في أبيه المنصور، إذ قال: "آجر الله أمير المؤمنين على أمير المؤمنين قبله، وبارك لأمير المؤمنين فيما خلّفه له أمير المؤمنين بعده.
فلا مصيبة أعظم من فقد أمير المؤمنين، ولا عقبى أفضل من وراثة مقام أمير المؤمنين فأقبل _يا أمير المؤمنين _ من الله أفضل العطية، واحتسب عنده أعظم الرزية.
ومن ذلك أيضاً الخطبة التي ألقاها عبد الملك بن صالح بين يدي هارون الرشيد، يهنئه بمولودٍ رزقه، ويعزيه عن ولد مات له في يوم واحد. قال عبد الملك: "يا أمير المؤمنين، سرّك الله فيما ساءك، وجعل هذه لهذه ثواباً للصابر وجزاء للشاكر".
وفي ختام حديثنا عن الخطب في عهد بني العباس، ينبغي أن نقف على أهم خصائصها الموضوعية والبنائية والاسلوبية.
أما من الناحية الموضوعية، فقد لاحظنا _فيما سبق _ أن أنواع الخطب التي شاعت في هذا العهد، كانت مماثلة للأنواع السائدة فيما سبقه من عهود، ومن ثمّ فقد ضاقت على الخطباء مسالك التجديد في موضوعات الخطب، فاتخذوا من الموضوعات التقليدية مجالات للقول. وضاقت مسالك التجديد في المعاني ايضاً، وان كان ممّا يُحمد للخطباء أنهم كانوا يميلون الى المعاني الواضحة التي لا تكدّ الذهن للكشف عن المقصود. غير أنّ الأفكار التي عبّروا عنها، لم تكن بالعمق الذي ينتظره الباحث من خطباء عاشوا في العصر الذهبي للفكر الاسلامي، فاشتملت الخطب على أفكار مسطحة؛ نظراً لضيق صدر السلطة، وميل معظم الخطباء الى إيثار السلامة.
وأما من حيث البناء فقد كان للخطب هيكل عام، يقوم على أربعة أركان، هي: التحميد، والصلاة على النبي، وعرض الموضوع، والخاتمة. فقد كان الخطباء يحرصون على افتتاح خطبهم بحمد الله، وكانوا "يسُّمون كل خطبة لا يذكر الله في أولها: البتراء". وقد يطيل بعضهم التحميد أحياناً، وقد يختصره بعضهم في أحيان أخرى، ولكنهم كانوا يعمدون إلى ايجازه في أغلب الأحيان. وكذلك كانوا يفعلون في الصلاة على النبي، يعمدون فيها الى الايجاز، وقليلاً مانجد خطيباً يعمد فيها الى الأطالة كما فعل هارون الرشيد في احدى خطبه، حيث قال بعد التحميد: "واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله على فترة من الرسل، ودُروس من العلم، وادبار من الدنيا، واقبال من الآخرة، بشيراً بالنعيم المقيم، ونذيراً بين يدي عذاب أليم، فبلغ الرسالة، ونصح الامة، وجاهد في الله، فأدّى عن الله وعده ووعيده، حتى أتاه اليقين، فعلى النبي من الله صلاةٌ ورحمةٌ وسلام".
وفي عرض الموضوع كان الذوق العام يميل الى الايجاز، وكان بعضهم يحضُّ على توخّي الايجاز، فمن ذلك قول عمرو بن عبيد (المتوفى سنة 144ه‍): "إذا طال الكلام، عرضت للمتكلّم أسباب التكلّف، ولا خير في شيء يأتيك به التكلّف.
على ان الخطباء والنقاد بوجه عام كانوا يحبذون مراعاة مقتضى الحال، وفي ذلك يقول صاحب البرهان: "ليس يكون الخطيب موصوفاً بالبلاغة ولا منعوتاً بالخطابة إلا بوضع الاشياء مواضعها، وأن يكون على الايجاز إذا شرع فيه قادراً، وبالاطالة إذا احتاج اليها ماهراً.
وغالباً ما تُختتم الخطب بالدعاء، حيث يدعو الخطيب لنفسه ولغيره بما فيه الخير والصلاح.
وأما من الناحية الاسلوبية، فقد غلب على الخطباء الميل الى السلاسة في الاساليب، والسهولة في العبارات والتراكيب، واستخدام الجُمل المستوية الخالية من التعقيد _باستثناء بعض المواضع التي استخدمت فيها جمل معترضة طويلة. وقد تحاشى الخطباء استخدام الألفاظ السوقية والألفاظ الموغلة في الغموض، فجاءت الفاظهم مأنوسة مألوفة، لا تُحوجُ الى استشارة المعاجم.
وقد كثر في الخطب اللجوء الى الاقتباس والتضمين، وكان بعض الخطباء يُفردُ ما يقتبسه من آياتٍ وأحاديث بحيث يكون ظاهراً مميزاً، فيقول: قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يدُخل ما يقتبسه في سياق الكلام بحيث لا يتنبّه للآية أو للحديث إلا عالم أو حافظ، او يتنبه لهما من هو دون ذلك إذا كانا من الآيات أو الاحاديث المشهورة. وفيما يتعلّق بالتضمين، كان الذوق العام يميل الى تضمين الامثال في الخطب، ولا يميل الى تضمين الشعر إلاّ في الخطب القصار والمواعظ. وكان الجمهور _من الناس والخطباء _ يرغبون في توشيح الخطب بالقرآن وبالامثال السائرة، ولذلك فقد كانوا يسمُّون "كل خطبة لا توشّح بالقرآن والامثال: الشوهاء".
--------------------------------
المصدر : فنون النثر في الأدب العباسي


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الأدب والفنون