موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الأدب والفنون

الفن الإسلامي
جاك ريسلر



في بداية الهجرة، لم يكن العرب يمارسون أي نشاط فكري أو فنّي. هذا الكلام قيل مراراً وتكراراً، ولكن أحداً لم يتحقق بشكل كاف من مدى صعوبة تصور البشر المكرهين على حياة بدائية/ قاسية وخطرة، لما كان يمكن أن يكون عليه الفن.
لدى وصوله إلى المدينة، كان محمّد قد رسم على الأرض مربعاً طوله مئة باع، ثم ختمه بجدار صغير مصنوع من مداميك طينيّة، وكان قد بنى فوق إحدى الجهات بعض الأكواخ الصغيرة التي غطّاها بسطحٍ من سعف النخيل المتشابكة. في زواية من صحن الدار، وكان النبي الجالس على حصيرة يستقبل تلاميذه وأتباعه في وقت الصلاة.
ذلك كان أول مسجد.
فيا للتناقض بين جذوع النخيل الثلاثة أو الأربعة التي كانت تحمل السقف الطيني المتواضع في المدينة، وآلاف الأعمدة الرخامية الموسومة بسمة الحضارات القديمة، التي ستدعم بعد مئة سنة القبب الأثيرية والذهبية للمساجد والجوامع الإسلاميّة!
ويا لصعوبة الطريق التي يجب قطعها لكي يتعلّم المسلمون من تلك الحضارات أفضل ما فيها، وينشروه عبر العالم مع كلام الله في آنٍ واحد!
فعندما انطلق الخليفة عُمر سنة 16 هجرية سائراً إلى القدس للاحتفال باستسلامها، كان كل ما يملكه من حطام الدنيا قصعة خشبية ومطرة ماء صافٍ، وقفّة تمر، وقميصاً ومعطفاً عتيقاً كان يرقعه بنفسه، وقد ثارت ثائرته من فخامة الملابس التي كان يرتديها القادة القادمون لملاقاته، فما كان منه إلاّ أن قذف حفنة من الحصى في وجوههم.
ومع ذلك، لفتح العالم كان لا بد من الارتفاع إلى مستواه أولاً.
كان قرنٌ كافياً للحضارة العربية لكي تسترجع الزمن الضائع، فلا ريب أن أولئك البدو، الرحَل، المعتادين على الحياة القاسية، كانوا يجهلون الفن والثقافة العقلية بقدر ما كانوا يجهلون أناقة الملابس، لكنهم كانوا يملكون درجةً عالية جداً وخارقة من الغرائز المعرفية والقدرات الاستيعابية. وكانت الأمور تجري كما لو أن مواهب نائمة وذكريات غائبة كانت تستيقظ فيهم. فهم في الواقع ورثة أقوام مجاورين، اغتنوا بحضارات الفرس والهنود والصينيين واليونان والرومان ومنجزاتهم، فلم يكن تطورهم الفكري ينتظر سوى الظروف المناسبة لظهوره.
صحيح أن التوثيق الفني الذي جرى جمعه في سياق الفتح كان كبيراً جداً، ولكنّه لا يعادل أبداً الاحتكاك المباشر باليد العاملة الفنيّة الأجنبية، المتمكنة تماماً من مهارتها المهنية والتقنيات الموروثة عن الماضي، فضلاً عن عبقريتها الخاصة. وما كان يمكن للنتيجة إلاّ أن تكون تقليداً أعمى للتصوّرات الفنية المتداولة بين شعوب مغلوبة. وفي أقل من قرن، أبدع العرب في المقابل فناً طريفاً ودقيقاً، تجسّد في الحجر الذي ترجم الاتجاهات الجمالية الصادرة عن حالتهم النفسية الجديدة. لقد كان فنُ العرب توليفاً بين كلّ ما كان معروضاً أمام ناظرهم وما كان يثير إعجابهم وذوقهم ويتماشى مع معتقدهم.
يمكن للمرء أن يرى في القاهرة جامعاً يعود تاريخه إلى العام 878، هو جامع إبن طولون، الأقدم بعد جامع عمرو الذي شُيد سنة 642، ولقد احتفظ بأقواسه البيضوية كما كانت في بنائه القديم. ولا تقوم هذه الأقواس على أعمدة كما هو الحال في معظم الجوامع، بل ترتكز على قواعد ضخمة. ولا ريب أن هذين العنصرين المميزين للأسلوب الغوطي تمكنا من إلهام أولئك الذين شيّدوا كاتدرائيّات العصر الوسيط، دون التمكّن مع ذلك من إعادة رسم المسار المقطوع؟ ربما تكون هذه النماذج قد وصلت إلى أوروبا من طريق صقلية والنورمانديين؟ وربما أيضاً جاءت قوائم النوافذ الغوطيّة مع فصوص برج جيرالدا في اشبيلية؟
هناك في طليطلة جامع قديم تحول إلى كنيسة "يسوع النّور" يضارع رغم أبعاده الصغيرة، وينافس بجماله جامع قرطبة الكبير. ولا يزال في إمكان المرء أن يتابع فوق أحد الأهداب الجدارية مسار ابتكارات الفن المدجّن الذي أدى إلى النموذج المحرابي المنتشر في كل قشتالة. ويمكن أن نلاحظ في مجرى بحثنا عن أثر الفن الإسلامي في الغرب، أنّ أبراج الأجراس وأبراج الكنائس غالباً ما تمثّل التصور الأولي للمنارة أو المئذنة الشرقية.
كذلك لا بد من التذكير بأن القصور والجوامع في المشرق جرى تصميمها على شكل حصون وقلاع وأنّ الصليبيين قد ورثوا بعض مفاهيم العمارة العسكرية التي كانوا يجهلونها. ومما لا ريب فيه أن الغرب يدين للعرب بالجدار ذي شرفات الرمي، مع أسواره العالية جداً والمتوّجة بأبراج صغيرة، كانت تجعل المدافع عنها خارج مرمى النبال والسهام. تشكّل هذه الطريقة مبدأ جرى تطبيقه منهجياً في بناء القلاع الحصينة التي لا تزال قائمة في سورية فوق الطريق التي سارت عليها جيوش البلدان المسيحية. لقد بنى فيليب لوهاردي حصون ايغ _ مورت على غرار تحصينات دمياط وقلاعها.
بالاضافة إلى الفن المعماريّ، يُعزى فن الخزف في إيطاليا وفرنسا إلى وصول الخزّافين المسلمين في القرن الثالث عشر، وإلى مبادراتهم وابتكاراتهم، كما يُعزى إلى رحلات الخزّافين الأوروبيين في اسبانيا الإسلاميّة. ومن خلال الاحتكاك بالحرفيّين المسلمين تعلّمت البندقية صناعة الزجاج، وصناعة المعادن الدقيقة، كما تعلم المجلّدون الإيطاليّون وصانعو الأسلحة الاسبانيون فنّهم منهم. زد على ذلك أن الحائكين من كل أطراف اوروبا كانوا يبحثون في بلاد الإسلام عن نماذجهم ورسومهم.
--------------------------
المصدر : الحضارة العربية


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الأدب والفنون