موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الأدب والفنون

أباطيل
نجيب الكيلاني



وزعم بعض المؤرخين أن الأدب العربي أو الإسلامي كان في مجموعه متخلفاً إذا ما قورن بالآداب الاغريقية والرومانية، وأن كثيراً من الألوان الفنية _غير الشعر _ تنقصه، مثل القصة والمسرحية والملاحم الشعرية، وان مثل هذه الفنون التي تجاهلها أو لم يصل إلى اكتشافها الأدب العربي والإسلامي تقلل من شأنه وتحط من قدره. وبدا أن هذه الاتهامات لا تقبل الرد لأول وهلة، فما أبسط أن يبحث المؤرخ عن فن المسرح فلا يجده، وعن الملحمة بمفهومها الحقيقي فلا يكاد يعثر لها على أثر، فإذا ما تبين له ذلك طأطأ رأسه في خجل، وسلم بالاتهام الملقى في وجهه، والكارثة الكبرى أن بعض المفكرين لا يربط هذا النقص الفني بظروف تاريخية أو عقيدية أو فنية وإنما يعزونه إلى قصور في التفكير العربي والإسلامي، وجفاف في القريحة، وضيق في الأفق.
لم يقل أحد من هؤلاء المؤرخين أنه رغم اختفاء هذه الألوان من الأدب العربي إلا أن الفكر العربي _ككل _ حقق انتصارات كبيرة في حقول التجارب العلمية والفيزياء والكيمياء والرياضيات وأصول التشريع والفقه وغيرها، إن الصور الحضارية في العادة لا تكون مظاهرها على صورة واحدة من التفوق، قد تسمو الانتصارات المادية، في الوقت الذي تنحط فيه القيم الروحية، والعكس صحيح، وقد تتخذ الثورات الفكرية صيغة علمية أو فنية، وما أكثر قصص الهزيمة التي انتابت بعض الشعوب التي ضعفت حربياً ولكنها في الوقت ذاته أمدت الغزاة بألوان من الثقافة والفكر _أي أنها احتلتهم عقلياً وإن احتلوها أرضاً وقهروها رجالاً.
لقد نبغ العرب في الشعر كفن، ولا ضير عليهم إن لم يمارسوا شعر الملاحم، ولا شك في أن الشعر قبل الإسلام كان أجمل ما يكون وصفاً للطبيعة، وتغزلاً بجمالها بل لقد كان أروع تمثيلاً للطبيعة من تمثال "فينوس" ولكن هذه الروعة الشعرية كانت في "عكاظ"، حيث كانت "الهيولي" هي الجنس المتداول، وكانت الصورة هي النقد الرائج، وفي محفل كان سطح ما بعد الطبيعة دون سقف مظلة يجلس فيها الأعشى:
ألا هبّي بصحنك فاصبحينا ولا تبقي خمور الأندرينا
إن هذا الشعر الرائع يشعر بالولع بالخمر وملازمة القدح، ويبالغ في وصف صفاء المدام ورقتها ولكن في غمرة من الغرائز ومهرجان من العواطف. ثم لنستمع الى الشاعر الإسلامي الصوفي الكبير عمر ابن الفارض، وهو يترنم في شعره قائلاً:
رق الزجاج ورقت الخمـر وتشابها فتشاكل الأمرُ
فكأنما خمر ولا قـــدح وكأنما قدحُ ولا خمرُ
نرى انه لم يقتصر في هذا الرباعي على وصف الخمرة الصافية وإعجابه بها، بل وصف الكأس بأروع من وصفه لها، وكذلك جمع في جرعة واحدة من الشعر المادة والمعنى، حتى جمع العالم الطبيعي وعالم ما بعد الطبيعة، كما جمع القانون الطبيعي والناموس الأدبي، والجسم والروح، وكل ذلك في أسلوب موجز سهل ممتنع، تعجز عنه كتب الفلسفة، ودروس الفلاسفة، وبطريقة لا تحط بـ "ما وراء الطبيعة" ولا تنزل بها إلى سطح الطبيعة بل بالعكس ترتفع بها عن سطح الطبيعة، وتجعله مظهراً رائعاً لما وراء الطبيعة كما يعتقد سبينوزا، وفي هذا الرباعي غموض أوضح تفسيراً من كل تعبير، بأن للعالم الطبيعي مظاهر وتجليات من الحقيقة والجمال الحقيقي.
***
ونستطيع أن نقول أن الشعر العربي كان أنضج من أن يحشر في صياغاته آلهة الشر والخير والنار والحرب والشعر والجمال، وكان يأنف من روايات الأساطير الميثولوجية لمنافاتها لاعتقاداته، وخروجها على مألوف تصوراته لله والقوى التي يرمز اليها بما وراء الطبيعة.
وزعموا ان اغلب الشعر العربي يضم مدائح كاذبة، ترفع البشر من الحكام والقواد وزعماء القبائل والعشائر الى مصاف المثالية المغرقة، فجودهم كالبحر أو الريح المرسلة، وشجاعتهم فوق التصور، وأخلاقهم لا مأخذ فيها، ولا ضعف في بنائها، وبيانهم معجز لا ركاكة ولا إسفاف، ووجوههم مشرقة كالشموس أو البدور ومن هنا يرمون الشعر والشعراء بالنفاق والكذب الصراح، والتزلف وإغفال جانب الجماهير في المطالبة بحياة أسعد وأرغد..
والحقيقة أننا نستطيع ألا نسمي هذا نفاقاً وتزييفاً للواقع، وفي الإمكان القول بأن الشاعر في مدائحه يحاول ان يرسم صورة مثالية رائعة لما يجب أن يكون عليه الممدوح، إن فضيلة الكرم اذا وضحت في الأذهان، واتخذت أغنية أو قصيدة تترنم بها المحافل، وارتبطت بشخصية من الشخصيات، فإن إشاعة مثل هذه الفضيلة يؤدي الى ترسمها والنسج على منوالها، فتسود فضيلة الكرم فعلاً.. والتغني بالعدالة والحرية والنبل، وربط الممدوح بها، يلفت النظر إليها ويجعلها بالممارسة والحديث الطويل عنها حقيقة كائنة. هذه واحدة. والثانية أن هذه المدائح قد يقابلها في ناحية أخرى ألوان من الهجاء المقذع، ولا ننكر أن الهجاء في بعض الأحيان كان نقداً حراً بناء، يضج بالثورة والتحريض، وفي بعض الأحايين الأخرى كان مجرد سب علني غير مستساغ، لكن هذا لا ينفي إيجابيته وفاعليته..
وخاض الشعر العربي معارك النضال الإسلامي منذ غزوة بدر حتى يومنا هذا، وتغني بأيام النضال الرائعة ضد الفرس والرومان. وضد غزوات الافرنج الصليبيين والتتار الغزاة، ولم يقف مكتوف الأيدي أمام المعارك الداخلية في العالم الاسلامي. كان هناك أدب رائع للمعتزلة وللخوارج، وأدب باك حزين وصف ما تعرض له العلويون، وما قاسوه من طغيان طائفي ومذهبي، كتبوا عن الحجاج وطغيانه، وعن مقتل الحسين البشع، ومأساته الخالدة، وتغنى بفضائل الرجال الأطهار.. واتخذ من النفس الانسانية القلقة المتألمة مجالات له..
وقصص الحب العذري العفيف، وما يخالط هذه العاطفة السامية من مآزق ومآس وآلام ودموع وقيود اجتماعية ودينية، تخصص في هذه الألوان طائفة من الشعراء الملهمين: اولئك الذي خلدوا هذه العاطفة الإنسانية العميقة الجذور في النفس الإنسانية.
ومن أجمل الشعر العربي شعر التصوف الذي يسيل رقة وعذوبة وشفافية، ذلك الشعر الذي صور عالم الروح، وعالم ما وراء الطبيعة بانفعالاته الغامضة في جمال الهائمة في روعة، وناقش هذا الشعر قضايا الوجدان والحب الإلهي، ومشاكل الحياة والوجود وأكثر من الابتهالات والتسبيحات المشرقة المنيرة.
تقول رابعة العدوية مخاطبة المولى عز وجل:
أحبك حبين: حب الهـــوى
وحباً لأنك أهل لذاكــــا
فأما الذي هو حب الهـــوى
فشغلي بذكرك عمن سواكـا
وأما الذي أنت أهـل لـــه
فكشفك لي الحجب حتى أراكا
وآخر يقول مناجياً ربه:
ليلي بوجهــك مشـــرق
وظلامه فـي الناس سـاري
والناس في سـدف الظــلا
م، ونحن في ضـوء النهار
ثم انظر هذه النفس العاشقة التي تعشق كل ما في الوجود الطاهر، وتتفانى في المنظور واللامنظور، يدفعها حبها الى الاندماج التام.
ومـن عجب أنــي أحن إليهــمُ
وأسأل شوقاً عنهمو وهم معــي
وتبكيهم عيني وهم في سوادهـــا
وتشتاقهم نفسي وهم بين أضلعـي
عشرات بل آلاف من القصائد والأشعار الرقيقة اليانعة، التي تصور تلك الأحاسيس الطاهرة الجياشة، في الشعر الصوفي الجميل، كلها تقف في مكانها في الأدب الاسلامي شاهدة على رسوخ الشعر وتنوعه..
وكان شعر أبي العلاء المعري بقلقه وآلامه النفسية وآرائه الفلسفية، معلماً آخر من معالم الفكر الإسلامي، وقمة من قممه، هذا على الرغم من موجات اليأس وشطحات الفلسفة التي كانت تنتابه من آن لآخر. وإني لاعتبر أبا العلاء المعري وأمثاله شاهداً من شواهد التجديد الفكري والحرية الفنية في الأدب العربي، ووثيقة مشرفة من وثائق التطور وصدق التعبير الأدبي سواء في شعره أو نثره..
ومن قال أن الشعر العربي مالاً الخلفاء والحكام ولم يسمح لنفسه بنقدهم وإدانتهم؟؟ ألم يسمعوا عن شعراء قتلوا من أجل قصيدة قالوها، أو نقد جارح وجهوه إلى طاغية؟؟
وشاعر آخر يرى أن الفتنة على الأبواب، وأن الدماء توشك أن تفسك، فيقتل الرجال، وتُسبى النساء فيهتف محذراً:
أرى خلل التراب وميض نـــار
ويوشك أن يكون لـه ضـــرامُ
لئن لم يطفها عقـلاء قــــوم
يكون وقودها جثث وهـــــامُ
لم ينفصل الشعر العربي عن الحياة، ولم يقف عند وصف الناقة والبكاء على الاطلال، ومعاقرة الخمر، ولم يتغزل فحسب بمحبوب، أو يربط نفسه بجزئيات صغيرة، أو ينطوي على نفسه، بل إن الشعر العربي عاش الحياة بكل ألوانها وصراعاتها وساهم في قضايا الحرية الفكرية، وخاصة معارك النضال ضد الطغاة في الداخل والخارج، وعبر عن آلام الشعب وآماله، وانطلق في رحبات العالم الخارجي الكبير، وجاس خلال النفس الإنسانية العالم الداخلي الغامض، وراد مجالات مختلفة..
ولا يعيب الشعر العربي خلوه من الملاحم بأشكالها المحددة فقد كانت ملاحمه معنوية أكثر منها شكلية ذات قواعد خاصة، وحتى شعر الخلاعة والمجون، رغم انحراف مضامينه لم يفقد أصالته الفنية، ولا دلالاته العميقة، لقد كان هذا الانحراف وهذه الخلاعة انعكاساً لبعض المجتمعات المتحللة المتعفنة، وصورة صادقة لانهيار الأخلاقيات تحت وطأة ظروف معينة، ومن ثم فقد كانت لها دلالاتها وإن لم تسمُ مضامينها.
لم يكن الشعر العربي اذن انعزالياً..
ولم يكن ضيق الأفق، قصير النظر..
بل كان يتميز بالمعايشة الاجتماعية، وأغلب شعرائنا الكبار _نبتوا من طبقة الشعب الكادح، كانوا فقراء قاسوا الكثير في طلب العلم، وكافحوا طويلاً حتى اكتملت أدواتهم الفنية، وتلقوا الثقافات الوافدة من فارسية وهندية ويونانية قبولاً حسناً، وتأثروا بها، وأثروا فيها، ولا يضير الشاعر مولده في بيئة فقيرة أو غير فقيرة وانما يهمنا الثقافة التي شرب منها، ومدى تأثره بالعقيدة وانفعالاته بها، وصدوره عنها، فالتصور الطبقي وتصارع القوى الطبقية، ومشاعر الحقد والكراهية التي تنبت في صدور الفقراء ضد الاغنياء أوضاع لا مكان لها في المجتمع الإسلامي الصحيح..
وحينما نعود لفن القصة والرواية في الادب العربي، نصطدم بخلافات كثيرة في الرأي حول هذا الموضوع، وتبرز الصعوبة واضحة جلية، حينما ندرك أن فن القصة بصورته الراهنة الناضجة من حديث، ومع ذلك، فإن فن القصة لم يخل منه الأدب العربي، عشرات القصص بعقدها الدرامية، وعناصرها الصراعية _بين الأبطال أنفسهم، وبين الإنسان والقدر _ وجدت في الكتب القديمة، وبعد إشراق الدعوة الإسلامية وجدت القصص أيضاً، في القرآن مثلاً. ثم بعد القرآن حفلت كتب الأدب والتاريخ بقصص كثير، والمشكلة في هذا اللون من القصص أنها قد تقترب كثيراً من السرد الخبري، وقد تقترب أحياناً من الفن القصصي، ومع ذلك فنحن أمة لها أساطيرها وقصصها، وكثير من الوعاظ القدماء كانوا يؤدون عملهم عن طريق ما يسمى "بالوعظ القصصي" حكايات كثيرة عن بني اسرائيل وشعبهم.. وقصص عن الخطاة والمذنبين، والاتقياء الصالحين، وكيف ينقلب هؤلاء وهؤلاء الى النقيض في فترة من فترات الصفاء الروحي، أو الضعف الإنساني، وقصص الحب والحروب، وقصص ألف ليلة وليلة والقصص الشعبي عن عنترة وأبي زيد والمهلهل وغيرهم..
القصة بمعناها العام أصيلة إذن في أدبنا العربي وإن تفاوتت أركانها الفنية، ولا غرابة في ذلك، فإن مفهوم القصة الحديثة في عصرنا الحديث قد تغير من مدرسة إلى مدرسة، ومن كاتب الى آخر. إن قصة "دروب الحرية" لجان بول سارتر، تختلف في طريقة ادائها وتركيبها عن قصة "الحرب والسلام" لتولستوي، وعن قصة "رباعية الاسكندرية" للكاتب "لونس داريل"، وهناك القصة التحليلية النفسية، والقصة الرمزية، والقصة الكلاسيكية.. الخ وهناك القصة التي تعتمد على "عقدة" محددة واضحة، وهناك القصة التي لا تقر بذلك، وترى أن العقدة ليست موقفاً محدداً بذاته، وإنما قد تكون فكرة خاصة تسيطر على جو القصة من أوله إلى آخره. وليس لها تحديد زماني أو مكاني في صفحات القصة. وهكذا..
أما من المقامة العربية، فقد كان في الإمكان أن تكون خطوة هامة نحو خلق اللون القصصي الروائي لولا غلبة الصنعة، وألوان البديع والتأنق اللفظي، الذي أوشك أن يغرق في خضمه ملامح الحدث القصصي ورسوم شخصياته المتباينة..
***
ومع ذلك فإن فن القصة بصورته الناضجة لم تعرفه البشرية إلا في العصور الحديثة، ولم يقف الأدب العربي منه موقف المتفرج إذ سرعان ما ترجم بعضها إلى العربية، وأخذ يقدم محاولاته الأولى في وقت مبكر حتى أصبح _في الوقت الحاضر _ للقصة العربية مكانة مرموقة..
بقي أن نقر أن أدب المسرح بإطاره الفني المتكامل لم يكن له وجود في أدبنا القديم، ونقر كذلك أنه إلى الآن لم نبلغ فيه مرحلة جديرة بالثناء المستطاب، إذ لا شك أن العمل المسرحي عمل تكنيكي بالدرجة الاولى وعلى مستوى أدق وأعقد من الرواية أو الصور الشعرية، ويحتاج لنضوج ومران اكبر..
وأخيراً نقول، إن أدبنا العربي _مثله مثل الكائن الحي _ تتعاوره تقلبات التاريخ، وتعمل فيه عوامل الضعف والقوة، والتقدم والتخلف، ويخضع لمؤثرات الحكم والثقافة والعقائد، ومن ثم فقد كان كالخط البياني، قد يسمو حيناً ويوشك أن يصل قمته، وقد ينحني ويقترب من القاع فيؤول الى التخلف والجمود، وتلك سنة الله.
***
بقي سؤال، الى أي مدى اتفقت مضامين الأدب العربي القديم مع المفاهيم الإسلامية؟؟
والإجابة على مثل هذا السؤال ليست سهلة، إذ أن مجالات الادب الاسلامي قد ناصرت عديداً من الاتجاهات الفكرية، في فترات معينة، وركدت في فترات أخرى، وانعكس عليها هوى الحكام احياناً، والتيارات الفلسفية (علم الكلام) أحياناً أخرى، كانت المسافة بين القيم الاسلامية والتعبير الأدبي تتسع ثم تضيق وهكذا، ولهذا فليس في الاستطاعة إصدار حكم كلي قاطع، وإنما يضطر الباحث اضطراراً إلى إصدار أحكام جزئية..
لكن القرآن كان دائماً النموذج الفريد الذي يستلهمه البلاغيون والنقاد والفنانون، وكانت أحداث التاريخ الإسلامي وأيامه المشرقة معيناً لا ينضب للفن العربي، وكانت فضائل الشجاعة والصبر والعدالة والصدق والكرم كلها _وهي نابعة من العقيدة السمحاء _نغماً حلواً شيقاً من أشعارهم وأثرهم الفني.
-------------------------
المصدر : الاسلامية والمذاهب الأدبية

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الأدب والفنون