موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الأدب والفنون

أخطار تهدد الأدب الإسلامي
د. نجيب الگيلاني



من البديهي أن تعرف عدوك، كي تحكم له أو عليه، ولكي تستطيع تجنب ما يسدده إليك من سهام قاتلة، وتنتخب الأسلوب الأمثل لردعه أو رده على عقبيه، وسوف نحاول في الصفحات التالية أن نشير إلى أهم التيارات التي يجب التنبه إليها والحرص منها.
لقد حاول المحللون دراسة هذه الظاهرة في الأدب والفكر، فعزوها إلى طبيعة الحياة الآلية الجافة في الغرب، واضطرار الإنسان لأن يركع أمام الحاجة، ويستسلم لسلطان الآلة وحركتها المنضبطة بلا عواطف أو شعور، بل استطاعت الآلة أن تتبوأ مكانة أسمى وأهم من مكانة الإنسان في عالم الصناعة الرهيب، مما دفع بالإنسان لأن يتساءل عن قيمة وجوده، في هذا العالم الآلي المادي الذي لا يحفل إلاّ بالأرقام والإنتاج والوفرة وتحقيق الربح، والنمو السريع، والانتصار في معركة المنافسة الضاربة... لم يعد الإنسان مخلوقا مكرماً مشرفاً روحياً، بل أصبح جسداً وعملاً وطعاماً ومخلفات، وأصبحت الساعة (الزمن) تحدد حركاته وسكناته، حتى أصبح يعتبر الزمن قوة تدمير هائلة لكيانه وأحلامه وأشواقه، وكان طبيعيّاً لهذا الكائن الذي انقطعت روابطه بخالقه، وفقد التواصل مع الآخرين، أن يرتمي في أحضان العزلة والتغريب، ويلوك الأسى والشقاء، ويفسر أحد الدارسين أراء ألبير كامي بقوله: "إن كان في الحياة خطيئة، فهي ليست في اليأس من الحياة، قدر ما هي في الأمل في حياة أخرى..." أي أن الخطيئة الكبرى في رأيه هي الإيمان بالعالم الآخر، وهي محاولة منه لقتل الأمل نهائيّاً في نفوس التعساء والمعذبين والمقهورين في عالم المدنية الأوروبية الحديثة.
ومع ذلك فإن الأدب المسرحي في اللامعقول لا يجادل بل يعرض فقط تلك التصورات المريضة، والكوابيس المخيفة، والهرطقات المحزنة، ولم لا وقد أصبح الإنسان بلا هدف، أصبح "شيئاً" بعد أن كان "كائناً" _حسب قولهم _ وأصبحت اللغة أيضاً شيئاً ميتاً، يحد من التواصل، ويؤكد العزلة.
لقد أحدث العلم والفلسفة في أوروبا فراغاً هائلاً، وانعكس ذلك على فكر الإنسان وسلوكه على الآداب التي يفرزها، تلك الآداب التي لا تحمل رسالة واضحة يمكن الاتفاق أو الاختلاف معها، ولا تقدم شخصيات تُحب أو تكره، فضلاً عما يلتصق بأدب اللامعقول من فقر في الأفكار، وملل في التكرار، ولهذا نرى أن المنصفين من مفكري الغرب يقولون: إنّ فكرة العبثية لا يمكن الدفاع عنها، في عالم تثبت الأرقام أن غالبية سكانه يعتقدون بديانة تجعل الحياة ذات نظام وهدف، ومع الكفر بالله عند العبثيين غالباً إلا أن عبثية "بيكيت" و "كافكا" تدرك أن الحياة البشرية بدون الإيمان بالله تواجه الخيبة، ومع ذلك فإنهما _عدا هذه النقطة _ يدمرون الكثير من القيم الخلاقة المتألقة التي جاء بها رسل الله وأنبياؤه، ولهذا يقول "ماروفتز": "اللامعقول مرادف للتافه والمضطرب" ويقول آخر: "إنها مرادف لكلمة الفوضى".
إن العقيدة الإسلامية، وما يصاحبها من قيم وتشريعات وآداب، ومنهجها الإلهي القويم قد استجابت للفطرة السليمة، وأعطت تصوراً واضحاً للإنسان وماهيته وطبيعة تكوينه وسلوكه، ثم بيّنت مختلف نوازعه وأهوائه، ورسمت الخطوط العامة لعلاقاته المتعددة الجوانب والنواحي، فالحرية مكفولة تماماً لهذا الإنسان الذي كرّمه الله، وبين له سبحانه وتعالى طريق الخير وطريق الشر (وهَدَيناهُ النَّجدين) (البلد: 10)، وعلّمه أن الحياة جهد دائب، وصراع مع الشيطان مع الشر، وزوّده بالأسلحة التي يمكنه أن ينتصر بها في هذه المعركة الحاسمة، وأكّد لعبده أن النصر له ما استمسك بكتابه وسنة نبيه:
* (... وكانَ حقّاً علينا نَصر المؤمنين). (الروم: 47)
*(إنَّ عبادي ليسَ لكَ عليهم سُلطان...). (الإسراء:65)
وانفصال اللغة عن العالم منحى خطير، بل هو مقولة ساذجة، ولو أن هذا الانفصال كان دون رجعة كما يزعم "سارتر"، لما أفصحت كلماته عن فكره، ولما تلقى الجمهور مسرحياته وقصصه وانفعل بها أو أنكرها، ولما أثارت ذلك الجو العاصف من اللغط والجدل، ولما استطاعت اللغة أن تترجم قوانين العصر العلمية، وتعبر عن منجزاته التكنولوجية.
إن المشكلة عند هؤلاء المفكرين تكمن في ذلك الخلل الداخلي الذي ابتلوا به، وفي الخلط الأهوج بين الوسائل والغايات، وفي سوء النيّة والعداء العجيب الذي ولدوا وعاشوا في ظله، تحت وطأة الحياة الألية الحديثة، وترجع أولاً وأخيراً إلى الخواء الروحي الذي دفعهم للتهكم من القيم. وإنكار العقيدة الدينية.
في وقت الاحتضار تلفت سارتر حوله في قلق وحيرة:
قالوا له:
_ "أتريد شيئاً؟".
وفغروا أفواههم دهشة عندما سمعوه يقول:
"أريد قسّيساً..".
انزعجت رفيقته الشهيرة "سيمون دي بوفوار" وقالت:
_ "معنى ذلك أنك تدمر فلسفتك".
لم يلتفت إلى قولها، ولكنه استطرد:
_ "لا أريده من باريس.. بل من القرية .. أتفهمون".
وأصرَّ على طلبه في الالتقاء برجل الدين برغم احتجاجهم واعتراضهم..
ونحن كمسلمين لنا باللغة العربية _لغة القرآن _ رباط وثيق، لا تنفصم عراه أبد الدهر، وقد كتب الله لهذه اللغة الخلود لخلود القرآن، ذلك المنبع الإلهي لعقيدتنا وتشريعاتنا وأحكامنا وقيمنا السامية، واللغة العربية بما فيها من إعجاز وحيوية وثراء لم تتقاعس في عصر من العصور، أو تتخلف عن مواكبة التطور وأداء دورها الخالد في أي وقت من الأوقات.
***
إن الأدب الإسلامي لا يؤرث ضياع اليقين كما تفعل العبثية، بل يجعل اليقين مناط العقيدة والحياة والعمل، والأدب الإسلامي يعلي من شأن الحياة ويمجدها، ويجعلها دار عمل وصلاح وتقوى وجهاد، وهي قنطرة إلى عالم آخر أبقى وأخلد وأروع، وليست الحياة _في منظور الأدب الإسلامي _ وهماً وحلماً مزعجاً وخيبة أمل وتغريباً وعزلة، ولكنها مليئة بالحقائق الحية النابضة، مشرقة بالأمل والرجاء، دافئة بالأخوة والصلات الاجتماعية السامية، ومهمة المسلم أن ينير جنباتها المظلمة، وأن يبعث فيها رسالة العدل والخير والحرية والحب، وأن يبذر فيها العطاء والنماء، حتى تتألق بالنعمة والجمال والسعادة... وعلى المؤمن أن يطرب للقاء الله في نهاية الرحلة، واثقاً أنه ذاهب إلى أعظم جناب..
الأدب الإسلامي ليس أدب يأس وانتحار.
لكنه أدب أمل وحياة.
فرض علينا أن نواجه ذلك "المرض الذي يستشري نحو الشرق".
-----------------------
عن مدخل الى الأدب الاسلامي


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الأدب والفنون