موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الأدب والفنون

آراء شلتوت في الموسيقى



أولها أنه يرى أن الاستماع إلى الموسيقى أو عزفها يشبه تذوق الطعام الشهيّ أو تحسس الأقمشة الناعمة أو استنشاق الروائح العطرة أو رؤية المناظر الجميلة أو تحقيق معرفة المجهول وكلها من أشكال السعادة الفطرية التي حبا الله بها الإنسان. وهي تبعث السكينة في النفس المضطربة والاسترخاء للفرد المنهك والترويح العقلي والبدني بعد الإرهاق وتجديد طاقة الفرد الممارس لها.
وبيَّن شلتوت كيف أن الله قد خلق هذه الغرائز في البشر من أجل غرض سامي ولذا فإنه من المستحيل عليهم أن يؤدوا عملهم في هذه الدنيا دون مساعدة هذه الغرائز والمتع التي تعينهم على الوصول إلى أهدافهم.
ويستنتج من ذلك أنه من غير الممكن أن تقف الشريعة ضد هذه الغرائز والمتع وإنما لجـأت إلى تنظيم تلك الغرائز وتحديد مجالات استخدامها حتى تعمل سوياً بطريقة بناءَة من أجل تحقيق المقاصد الأخلاقية العليا.
وثانيهما: أن الشريعة ـ مثلها مثل القرآن الذي قامت عليه ـ تحقق الوسطية المذهبية ومن ثم فهي تعارض التطرف فتقف ضد عدم استخدام الموسيقى كما تقف ضد المغالاة في استخدامها.
وقد عاد في الثالثة إلى آراء من سبقوه من الفقهاء الذين أدلوا بآرائهم حول "السماع" فأورد باختصار أنهم أجازوا الموسيقى طالما كان مقام عزفها جائزاً كتلازمها مع الحرب والحج واحتفالات الزفاف والعيدين وعقّب بالرجوع إلى مؤلف للشيخ عبد الغني النابلسي. (1641-1731) فقيه المذهب الحنفي في القرن السابع عشر حيث أورد المؤلف رأياً يقول فيه أن أي تحريم للموسيقى ورد في تراث الحديث قد ورد معه الخمر والقينات والفسوق والفجور. ومن هنا يرى كلاهما ـ شلتوت والنابلسي ـ أن التحريم قد بُني على مقام الأداء ومتعلقاته وليس موجهاً للموسيقى ذاتها. فقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم وكثيراً من السلف ذوي المكانة في التاريخ الإسلامي قد استمعوا إلى الموسيقى وحضروا لقاءات من العزف البريء. ويخلص شلتوت من هذا إلى ما خلص إليه سابقوه من أن التحريم لم يبن على إنكار الموسيقى ذاتها وإنما على استخدامها في ظروف آثمة أو مرتبطة بالمفاسد.
أما النقطة الرابعة والأخيرة التي أوردها شلتوت في فتواه حول الموسيقى فقد أورد فيها حكماً قرآنياً عاماً استخدمه من سبقوه ممن أجازوا الموسيقى (الغزالي بدون تاريخ جزء 2، 272،1901: 214-215). فحذر من الوقوع في تحريم ما لم يحرم الله. لأن التقول على الله يعتبر افتراءً وكذباً تكفلت ببيانه الآيات 32،33 من سورة الأعراف.
وخَلُص شلتوت إلى أن القاعدة العامة هي أن الموسيقى حلال وأن تحريمها استثناء مبني على سوء الاستخدام (شلتوت 1960-359).
خاتمة:
ما هي الآثار العامة المترتبة على الترتيب الهرمي للأنماط الموسيقية والناشئة عن هذه المحاورة حول الموسيقى ـ والتي يمكن أن تؤثر في الفن الإسلامي والمجتمع الإسلامي؟ إنني على قناعة تامة بأن هذه المداولات والحركات الثقافية لم تكن لتقضي على الفن الصوتي في العالم الإسلامي أو أن ذلك كان هدفها. وإذا كانت أولى اهتمامات آية الله خميني أو أمثاله في القرون الأولى ترتبط بالآثار الأخلاقية والخلقية لتوجيهاتهم فيما يخص الموسيقى فإن الآثار التي نتجت كانت أكثر شمولاً وأكثر عمقاً، ويتضح ذلك فيما يلي:
1)إن وضع أنماط التعبير الموسيقي في تقسيم هرمي ضمني ـ يأتي على قمته الترتيل القرآني باعتباره المعيار والنموذج القياسي ـ قد أدى إلى وحدة ملحوظة في خصائص المحتوى والشكل التي يمكن أن نجدها في أنماط الأداء الموسيقي السائدة في البلاد التي تشكل قلب العالم الإسلامي. كما ظهرت آثار مماثلة لا يمكن تجاهلها في المناطق التي تبعد عن هذه البلاد.
2) إن هذا التقسيم الهرمي وتلك الأهمية الدينية للأنماط المفترضة من الاهتمامات الموسيقية قد أدى دوراً أساسياً في تصنيف كل مظاهر الحياة الموسيقية طبقاً لمحددات تقررها الأهداف الخلقية والدينية. وهكذا أصبح التعبير الموسيقي لبنة أخرى في ما يعتبره المسلم نمطاً إسلامياً شاملاً للحياة لا يقتصر على الأمور الدينية التوقيفية من صلاة وحج وإنما يمتد ليشمل كذلك كل مظهر من مظاهر الوجود لكل مسلم.
3) كما يضمن هذا التقسيم الهرمي أن هذا الجانب من جوانب الثقافة ـ وهو فن النغم الصوتي ـ قد شملته عملية أسلمة الثقافة، ومما عزز وحدة الأسلوب داخل الثقافة تلك الوحدة التي تعتبر السمة المميزة لأي حضارة تستحق هذه التسمية.
4)إن مثل هذا التحكم في التعبير الموسيقي وتوجيه الاهتمام به وإسهاماته إلى الترتيل القرآني له مآثر توحيدية هائلة لثقافة تغطي منطقة جغرافية شاسعة تجمع بين جنباتها تشكيلة عِرْقية قد لا تباريها في التنوع أي ثقافة معروفة كما أن تلك "الخطة"ـ التي يبدو وأنها تحققت عن تخطيط تتضاءل فيه القصدية إلى درجة تثير العجب ـ قد أفرزت خطوة فعالة للوحدة الكاملة دون اللجوء إلى العنف لتدمير التراث الموسيقي القومي للداخلين في الإسلام. فهذا التراث يمكن أن يستمر على المستويات الدنيا من التقسيم الهرمي لهندسة الصوت إن لم يكن قد حقق المداومة على توجيه الانتباه نحو الترتيل القرآني وأنماط التعبير الموسيقي التي يمكن أن تساهم في دفع عملية الأسلمة.
ولا ريب أن هذه الآثار لها ثمنها، ولكن دعونا نتساءل عما إذا كانت النتائج تعادل الثمن. إننا جميعاً نتفق أن المسلمين فقط هم ذوو الاختصاص في الإجابة على هذا التساؤل.
----------------------------
عن (مجلة المسلم المعاصر) سنة11 عدد43 1405ه‍.


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الأدب والفنون