الهلع هو فقدان الثبات في الشخصية وسرعة التغير بالمؤثرات المختلفة
التي تتوارد على النفس.
لا أقصد بذلك: التغير من الرضا إلى الغضب ومن الحزن إلى الفرح ومن
الهدوء إلى الثورة فإن ذلك من لوازم بشرية الانسان وإحساسه بما في
نفسه وحياته.
ولكن أقصد به تناقض الانسان في مواقفه ومشاعره ومع نظرته للحياة.
فالانسان الذي يتأثر بمؤثرات الحياة المختلفة دون أن يخرجه ذلك عن
منهجه في فهم الحياة والإحساس بها.. ليس إنساناً هلوعاً.
أما الانسان الذي يتقلب في مواقفه اليومية كفصول السنة فهو الانسان
الهلوع.. الذي يرى الحياة روضاً جميلاً، ثم إذا نزلت به مشكلة رأى
الحياة جبلاً كالحاً.. هو الانسان الهلوع.
والذي يرى في الوفاء قيمة انسانية ثم يرتكب الخيانة لأن فيها
مكسباً عاجلاً، هو الانسان الهلوع.
والذي يؤمن بأن تقييم الناس يكون بمحتواهم النفسي من الاستقامة ثم
تأخذه المؤثرات المظهرية فيقيمهم بأموالهم ومناصبهم.. هو انسان
هلوع.
والذي تتغير شخصيته ومفاهيمه بسبب من الفقر والغنى والمرض والصحة
والحب والبغض، وهذه البيئة أو تلك.. هو الانسان الهلوع.
وما أكثر الأمثلة وألوان الهلع في الناس وحياتهم..
والهلع سمة أصيلة من سمات أنفسنا، يتصل وجودها بتكوين الأنفس، يقول
الله عزوجل: (إن الانسان خلق هلوعاً. إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا
مسه الخير منوعاً) هكذا هلوعاً.. الضعف فيه قاعدة والثبات منه
استثناء، ولم يكن بد من هذا التكوين لأن جهاز النفس يجب أن يكون
جهازاً حيوياً مرهف الالتقاط.. وفي ظروف تكثر فيه جهات الارسال
وتتنوع الموجات يحدث أن يمتلئ الجهاز بالموجات الطولية والعرضية
السالبة والموجبة المتواردة عليه.
يخرج أحدنا إلى عمله فيسعده التوفيق بصديق حميم طالما اشتاق إلى
رؤيته فيعتنقان بدموع الفرح وذكريات الأخوة، فتمتلئ نفسه حباً
للحياة ومعانيها وأشيائها.. حتى إذا زحمه العمل وأزعجه أحد الأشياء
أو الناس امتلأت نفسه نفرة من الناس وغيضاً.. ثم إذا تسلم مرتبه
الشهري عاد الرضا إلىنفسه.. فإذا رجع إلى منزله ووجد طفلته قد
فجأها المرض عادت الحياة سوداء في عينيه، فإذا غادرتها الحمى في
وقت لاحق من الليل وارتاحت إلى نوم رفيق، عادت نفسه مزيجاً من
الرضا والغضب والألم والراحة!
في يوم واحد تتوارد على نفس أحدنا ألوانا الشر والخير.. فما بالك
بحياتنا الطويلة، وهي مسيرة بين الأشواك والزهور في سهل الدرب
وحَزَنه ونسيمٍ عليل وسَمومٍ لافح.. نعماء وضراء ومسرات وآلام..
فهل لأقدامنا أن لا تدمى بالشوك؟ وهل لقولبنا أن لا تنتعش بشذى
الورود؟ وهل لأنفسنا أن تتحول إلى جهاز جامد فلا تخفق بما يرد
عليها فلا تهلع إلى خير ولا تهلع من شر؟
يبدو أن الهلع في الشخصية أمر لا مفر منه ما دام ينبع من إرهاف
أنفسنا واختلاف المؤثرات في حياتنا.
لكن الاسلام يرى أن باستطاعة الانسان أن يتخلص من الهلع، بل ويرى
في الهلع تناقضاً في الشخصية وتمزقاً ضاراً.
أن تعيش في الحياة وتمارس خيرها وشرها، ذلك ما لا يمنع أن تكون
نفسك ثابتة النظرة موحدة المشاعر متعالية على ما ينتابها من
المؤثرات.
ومفتاح ذلك في رأي الاسلام أن تعرف المفهوم الواقعي للخير والشر:
إن ما تراه يملأ حياة الناس من (خير وشر) ليس هو بالحقيقة خيراً
ولا شراً. فلا الفقر ولا المرض ولا الآلام والنكبات والموت بشر ولا
خير.. ولا الغنى والرفاه ولا الجاه العريض والقوة الواسعة بخير ولا
شر.. إنها جميعاً عناصر أولية وعجائن بيديك تجعلها خيراً أو شراً..
قد ترى أنك إذا كنت في وفرة المال ورغادة من العيش أنك في خير.. أو
ترى إذا كنت في ضنك أنك في شر.. يقول لك الله تعالى، كلا: (فأما
الانسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول: ربي أكرمن. وأما
إذا ما ابتلاه ربه فقدر عليه رزقه فيقول: ربي أهانني. كلا) الفجر/
15-17.
فلا هو التكريم والخير في النعماء، ولا هي الإهانة والشر في
الضراء.. إنما هما صحيفتان مقدمتان لك تملأ كلا منهما بما شئت..
فقد تكسب بثروتك شراً وقد تكسب خيراً، وقد تكسب بفقرك خيراً وقد
تكسب شراً.. والحاكم والمحكوم والقوي والضعيف والجميل والدميم
والذكي والغبي والمشهور والمغمور كل منهم قد يكسب بما هو فيه خيراً
وقد يكسب شراً، لأنهم جميعاً يملكون عجائن قابلة للتحويل إلى الخير
وإلى الشر وبدرجات واحدة من القابلية.
هذا هو التقييم الاسلامي لأشياء الحياة وللمؤثرات الناتجة عنها:
مواد خام من نوع واحد لا بالخير ولا بالشر وإن تراءت لأعيننا خيراً
وشراً.. ومن ثم وجب في نظر الاسلام أن تمس هذه المؤثرات سطح النفس
مساساً دون أن تنفذ إلى عمقها. وأن يكون المنبع لمواقف النفس
وأحاسيسها الخير الحقيقي لا المظهري: رضا الله تعالى ورضاه وحده..
رضا الله الذي هو تحويل المادة الخام إلى خير، تحويل الابتلاء إلى
نجاح.. فبهذا تطمئن النفس إلى الخير الحقيقي وتتخلص من الهلوع
صعوداً وهبوطاً مع ما يتراءى لها من خير وشر:
عن الإمام الصادق (ع) قال: "عجبت للمرء المسلم لا يقضي الله عزوجل
له قضاء إلا كان خيراً له، إن قُرّض بالمقاريض كان خيراً له، وإن
ملك مشارق الأرض ومغاربها كان خيراً له!" الكافي/ ج2/ ص62.
إنه الخير المطلق المضمون من مصدره الموصول في منبعه تتنعم فيه
النفس المؤمنة وهي تمشي بين الأشواك والورود وتقطع الحياة بنعمائها
وضرائها دون أن تجزع من ضراء أو تطغى في نعماء دون أن تخضع في
مواقفها وأحاسيسها لمؤثرات الخير والشر الظاهريين..
وكذلك الإيمان يتعالى بالنفس عن الهلع بمؤثرات الحياة ويهبها
الطمأنينة في كل حال:
يروى انه عندما أوثق البابليون نبي الله إبراهيم (ع) ووضعوه في
المنجنيق ليلقوا به في نارهم المضطرمة، أتاه جبريل (ع)، فقال له:
ألك حاجة؟ فأجابه (ع) باطمئنان: أما إليك يا أخي فلا!
ويخرج الرسول (ص) من بلده مكة مهاجراً برسالته بعد أن أجمع المكيون
على عدائه وقتله فلا تنفذ إلى نفسه الشريفة ذرة من الحزن أو الجزع،
ثم يدخل مكة فاتحاً في جيش من جند الله فلا تنفذ إلى نفسه الشريفة
ذرة من زهو الانتصار الشخصي بل يدخل خاشعاً ساجداً على قربوس جواده!
ويقول علي (ع) عن نفسه وهو الصادق: والله لا تزيدني كثرة الناس
حولي أنسا ولا تفرقهم عني وحشة!
وفي يوم عاشوراء يخاطب الحسين (ع) ربه عزوجل فيقول: هوِّن ما نزل
بي أنه بعينك!
وتتقدم شقيقته زينب بعد مصرعه فلا تلطم خداً ولا تشق جيباً وإنما
تقول: اللهم تقبل منا هذا القربان!
وتحل النكبات بالمؤمنين عبر التاريخ فلا يرون فيها إلا رضوان الله،
ويقطعون الحياة بحلوها ومرارتها فيرونها حلوة كلها برضوان الله.
إن الشخصية المؤمنة هي الاستثناء الوحيد من الهلع المرير الذي يعصف
بالناس من حولك.. فمن أين تملك يا ترى هذه الوحدة الجميلة في
الموقف والإحساس، وتنتصر بها على سمة الهلع العميقة؟
يحدد القرآن الكريم ثماني صفات لهذه الشخصية، ولا تعجب حينما تجد
الصفة الأولى والأخيرة منها تتصل بالصلاة ودورها في معالجة الهلع:
(إن الانسان خلق هلوعاً، وإذا مسّه الشر جزوعاً، وإذا مسّه الخير
منوعاً).
إلا المصلين، الذين هم على صلاتهم دائمون:
والذي في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم
والذين يصدقون بيوم الدين
والذين هم من عذاب ربهم مشفقون
... والذين هم لفروجهم حافظون
... والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون
والذين هم بشهاداتهم قائمون
(والذين هم على صلواتهم يحافظون.. أولئك في جنات مكرمون) المعارج/
19-35. والمقصود بالدوام على الصلاة في الفقرة الأولى الدوام على
النوافل، وبالمحافظة على الصلوات في الفقرة الأولى الدوام على
النوافل، وبالمحافظة على الصلوات في الفقرة الثامنة المحافظة عهلى
الفرائض ـ كما عن الإمام الباقر (ع) ـ الوسائل/ ج3/ ص51، وبهذا
يكون المعنى، أن مداومة الانسان على صلاة النافلة ومحافظته على
صلاة الفريضة هما عاملان على رأس وفي ختام ثمانية عوامل للتخلص من
الهلع وكسب الاطمئنان والوحدة في الشخصية.
إن الإيمان بالمفهوم الواقعي للخير والشر إنما يمثل الجانب النظري
من تماسك الشخصية ولذا قلنا أنه مفتاح الانتصار على الهلع في نظر
الاسلام. أما الجانب التطبيقي فهو تحويل هذا المفهوم إلى قرارة في
النفس ورؤية يومية فيها.. وأي شيء ينهض بذلك غير الصلاة؟
في أيامك الطويلة التي تقطعها بين مؤثرات الحياة وضغوطها على نفسك
وعصفها برؤيتك ومشاعرك فلن تجد في الحياة دوحة تعيد إليك اطمئنانك
وتثبت في قلبك بصيرته وهداه إلا دوحة المثول بين يدي الله
والاغتراف من معينه والاعتصام به.
الدوحة الظليلة التي تدخلها متعباً من الأثقال مشوشاً من لبس الهوى
واعوجاج الناس، وما أن تستظل بركعتين منها حتى تنزاح عنك الأتعاب
وينكشف عن قلبك الهوى. وتستقيم لك البصيرة، فتعود جديداً لحياتك
مليئاً بالحياة.
انظر إلى نفسك عندما تريد أن تأوي إلى فراشك كم هي محملة من عناء
النهار ومثقلة بالمشاكل والمشاغل والأهواء، ثم توضأ لله وأحضر قلبك
أمامه في ركعتين لترى نفسك نفساً جديدة انزاحت عنها الأثقال حتى
اطمأنت وأنجاب عنها الهوى حتى شفت.
وانظر إلى سرائك وضرائك، إلى كل ما يملأ نفسك ويعترض أيامك من
ثمرات الحياة من تعب وارتياح وفقدان ووجدان ودموع وبسمات، كيف إذا
مزجتها بالصلاة وهبتك الصلاة فيها البصيرة، وأنارت لك الجادة،
وأسغت لك مرارة الحنظل، وعطّرت لك هناءة النعيم..
المصدر : فلسفة الصلاة